أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم سبتي - عين الذاكرة















المزيد.....

عين الذاكرة


ابراهيم سبتي

الحوار المتمدن-العدد: 1559 - 2006 / 5 / 23 - 10:13
المحور: الادب والفن
    


التاريخ : 30/10/2003 الموافق 4/ رمضان / 1424 هـ
الوقت : السابعة وعشر دقائق مساء
اليوم : الخميس
المكان : شارع المتنبي / بغداد
الهدوء ، تطيح به بعض الاصوات القريبة والبعيدة . سلكت طريقا فرعيا من شارع الرشيد ، هو شارع المتنبي قادما من ساحة الميدان بعد ان ودعت صديقي الذي اخرني حتى هذا الوقت ، كان يسألني على الاخوة والاهل في الناصرية وكان يعرب لي عن امنيته بزيارة مدينته قريبا .
كنت واثقا بأني ساكون وحدي في هذا الوقت ، بغداد هاجعة ، والناس تلتحف البيوت في هذا المساء التشريني . بعد ان مضى على مدفع الافطار اكثر من ساعة . الظلمة بدأت تزحف والخوف من الدقائق القادمة امر اعتيادي .
بغداد كبيرة ، اكبر من مدينتي عشر مرات او يزيد ، لكنه امرغريب في هذه اللحظة ، لم اتعود رؤية الشوارع خالية . لكني لم ارها كذلك.
فثمة اشياء غريبة تحركها هذه الشوارع داخلي . ربما لاني احتفظ بذكريات مر عليها عقد او اكثر ، كنت انزل من وحدتي في منطقة البلديات الى مقهى حسن عجمي يوم الجمعة فقط ، لانهم لا يسمحون لي بالنزول لانني / محافظات / ، التقي بأخي كمال والاصدقاء .
عند حلول المساء اغادرهم مسرورا لانني نسيت الجيش بضع ساعات .
هذا عالم بغداد بالنسبة لي ، وكأني اتذكر قول ريلكه :
العالم كبير ، ولكنه في داخلنا اعمق من البحر .
شارع المتنبي مهجور تماما ، الكهرباء مقطوعة . لم ار أي مصباح مضاء .
احد المطاعم علق لافتة بيضاء كتب عليها :
بأمر من الجهات المختصة ، المطعم مفتوح طيلة ايام شهر رمضان المبارك .
كان علي ان اقطع شارع المتنبي مرورا بسوق السراي واعبر لادخل شارع النهر خشية المرور بالرشيد في هذا الوقت، بعدها اقطع شارع حافظ القاضي مسرعا حتى ساحة النصر عبر ساحة التحرير للوصول الى مكان اقامتي في فندق برج الحياة .
ثمة رجال ثلاث يجلسون عند احد الابواب المفتوحة ..
نظرت اليهم فزادني شجاعة المضي في طريقي ، انا الان لست وحدي . يتوسط الرجال الثلاثة ، بدين يلبس عوينات ، كان الباب المفتوح لمبنى يضم دورا للطباعة، عرفت ذلك من اللوحات المعلقة على الجدران .
وفي وسط شارع المتنبي علقت لافتة كبيرة عبرت جانبي الشارع مشدودة بحبال على شرفات البنايتين المتقابلتين مكتوب فيها :
ندعوكم للمشاركة باكبر مسيرة شعبية مناهضة للارهاب والتي سيشارك فيها جميع الاحزاب والقوى السياسية والمنظمات والاتحادات المهنية والنقابية التي تدعو الى نبذ العنف والتصدي له ومحاربته . لكنني لم اجد هامشا للجهة المسؤولة عن اللافتة .
الشارع مليء بمحال بيع الكتب والقرطاسية .
فالمتنبي في بغداد مشهور بكتبه النادرة والقيمة والقديمة والحديثة وكل ما يحتاج له الدارس والباحث والمفكر والمثقف . نظرت الى البدين وحسدته على جلسته وهو يرتشف الشاي متلذذا . نظرت الى البنايات المتوزعة على جانبي المتنبي ، ورحت اقتنص بعض اسماء المحال من اللوحات الكبيرة المعلقة . وخلت نفسي انني امر بصعوبة وسط زحام الجمعة / غدا / في هذا الشارع . انهم يعرضون الكتب كحبات الرز ، ليس لها عدد ، ليس لها نظام . كل بائع يفترش ما تيسر له من الشارع وتتعالى الاصوات كتابين بألف .. ثلاثة بألف .. الواحد بربع ..
الجمعة غدا ، ربما لم يحالفني القدر ان احضر الى هنا .. اسير متلفتا واحسب ان الظلمة ستطاردني وسط شحوب الشارع . التفت ، الرجال الثلاثة اختفوا .
بغداد تتقاذفها السن المذيعين .
الفضائيات صارت لهم بغداد مادة العمر ، لم اسمع في الاخبار منذ سبعة اشهر غير الانفجارات والمفخخات والعبوات والقتل والترويع .
رباه ماتبقى الان من بغداد ! الساعة السابعة وعشر دقائق ، خفت التأخير وانقطاع السبل ، بعد اقل من ساعتين سيفرض حظر التجول اليومي عندها اكون قد ادركت نهايتي ، فهم يطلقون النار بعد التاسعة على أي جسم متحرك ! دلفت الى سوق السراي الموحش لا تتناهى الى سمعي سوى صفارات سيارات الشرطة التي تجوب شارع الرشيد مسرعة كل ربع ساعة تقريبا .
فجأة احسست ان المحال المغلقة تريد ان تتقيأ خزينها من هول الدوي المرعب .. كان دويا قد طرحني ارضا ..
ركضت باتجاه المتنبي اريد الرشيد ، لكني رأيت نارا تتصاعد من البناية التي كان الرجال الثلاثة يجلسون على بابها .
هرعت لاهرب ، سمعت صرخات الناس وولولة النسوة الباكيات . الساعة الان السابعة والثلث ، سيارات الاطفاء حضرت بصفيرها المدوي . الحريق التهم كل البناية . هرول الناس الذين خرجوا من جحورهم ، سألت واحدا : قال : هذه كتب احترقت . انهم يطبعون الكتب ويبيعونها . تجمهر الناس المفزوعين . سمعت بأن لاخسائر بالارواح .
لمحت دبابة تسد الشارع المؤدي الى مكان الحادث . بعد عشر دقائق على حضور سيارات الاطفاء دوى انفجار اخر في المكان نفسه . لكنه هذه المرة لم يرفع النار بل كان صوتا مدويا مخيفا . كان الحائط الذي اتكأت عليه متفرجا ، ينثال علي بذكريات الكتب المحترقة .
بغداد ليس غريبا ان تحترق الكتب فيها . الكتب مادة سريعة الاشتعال ، ويبدو انها اكثر المواد خطورة . يا لهذا الكتاب من مفعول قوي وسريع على العقول ، كل يحسب ان المفكرين والمثقفين اخطر من المعارضيين السياسيين والعسكريين . في عام 656 / وحسب ما يخبرنا ماضينا التليد / نزل هولاكو الى بغداد وحاصرها .. وبين كر وفر ، استبيحت بغداد والكتب وصارت وقودا للنار وسدودا في دجلة لعبور الجيوش التترية التي لم تترك جسدا بغداديا الا وطعنته بسيوفها. وقبلها عرفت بغداد احداثا اكثر ايلاما . فقد احترق جزء كبير منها في عام 251 هـ على يد اجناد المستعين وخصمه المعتز بن المتوكل .
وفي سنة 284 هـ اصاب المدينة القحط فلم ينزل المطر وغارت المياه في الانهار والعيون والابار .
وفي رجب من سنة 289 هـ زلزلت بغداد.
و في عام 300 للهجرة كثرث الامراض والعلل ببغداد في الناس . وذكر ان الكلاب والذئاب كلبت فيها بالبادية ، فكانت تطلب الناس والدواب والبهائم ، فما عضت انسانا اهلكته . . وفي سنة 718 حدث غلاء فظيع في بغداد اضطر معه الناس الى اكل الجيف وباع الفقراء اولادهم .
الجمعة 31/ 10/ 2003 .
المكان صالة الفندق .
شاهدت احدى الفضائيات الشقيقة وهي تنقل الخبر :
قالت مصادر الشرطة ان شخصا قتل وجرح ثمانية اخرون في حريق نشب في مبنيين مساء امس الخميس في وسط بغداد اثر انفجار قوي .
وفيما كان رجال الاطفاء يعملون على اخماد الحريق ، هز انفجار آخر المنطقة .
وقال احد ضباط الشرطة من موقع الحادث حيث ما زال الحريق مشتعلا : ان شخصا قتل بينما اصيب ثمانية بجروح .
واغلقت دبابة عسكرية اميركية المدخل الى موقع الحادث حيث ما زال رجال الاطفاء يكافحون الحريق في المبنيين في منطقة الرشيد ـ شارع المتنبي
وسط بغداد .
واضاف احد سكنة المنطقة ان انفجارا هائلا وقع اهتزت من جرائه البناية كما لو انها كانت ستنهار .
واوضح رجل من اهالي المنطقة بان البنايتين فيهما دور طباعة . وكانت النيران تتصاعد الى عنان السماء بفعل الكتب المحترقة .
اطرقت رأسي وتناهى الي من بعيد صوت السياب :
نرى العراق .. يسأل الصغار فيه
" ما القمح ؟ ما الثمر؟"
ما الماء ؟ ما المهود ؟ ما الإله ؟ ما البشر؟
فكلُّ ما نراه
دمٌ ينزُّ أو حبالٌ فيه أو حفر ...!
تصفحت / بصرياثا / غائرا في عالم محمد خضير
وتفحصت كتابي الذي لم يحترق .





* قاص وروائي عراقي



#ابراهيم_سبتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشاعر شهيدا : وهل كان الشاعر سوى موت على وشك الانبعاث ؟
- قريبا .. كمال سبتي .. المراثي
- كمال شاعر المدن


المزيد.....




- مصر.. ما حقيقة إصابة الفنان القدير لطفي لبيب بشلل نصفي؟
- دور السينما بمصر والخليج تُعيد عرض فيلم -زهايمر- احتفالا بمي ...
- بعد فوزه بالأوسكار عن -الكتاب الأخضر-.. فاريلي يعود للكوميدي ...
- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...
- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم سبتي - عين الذاكرة