انتقل إلى دار الخلود بعد عودته من الحج الدكتور علي كريم سعيد بدمشق فجر يوم 26/شباط/2003 ودفن في مقبرة الغرباء قرب السيدة زينب. وكان لرحيله وقع صاعق على قرائه وأصدقائه ومحبيه ويعتبر خسارة كبيرة لنا جميعاً وللثقافة العراقية والعربية بشكل عام. لا أريد في هذا النعي التطرق إلى سيرة حياة فقيدنا، حيث تناولها غيري من الكتاب الأفاضل أصدقاء الراحل، وإنما أود التطرق فقط إلى موقف الفقيد الفكري وحياديته العلمية كباحث متميِّز.
نعم، كان الراحل باحثاً نادراً من نوعه وربما خارجاً عن المألوف. إذ هناك شبه إجماع لدى الباحثين أنه من الصعوبة بمكان الحياد التام في بحوث العلوم الإجتماعية والسياسية، لأن الباحث يقع تحت تأثير آيديولوجيا معينة تؤثر سلباً على نتائج بحوثه بشكل وآخر بدافع العاطفة حتى ولو حرص على الحيادية العلمية.
ولكن لو راجعنا بحوث الدكتور علي كريم سعيد وعرفنا انتماءه السياسي وآيديولوجيته السياسية لعرفنا أننا أمام باحث مختلف خارج عن هذه القاعدة. فهو نادر من ناحية التزامه بالحيادية التامة في بحوثه ومن ناحية إخلاقه الشخصية الرفيعة وعلاقاته العامة، وسلوكه المسالم إلى حد يمكن الجزم معه أنه لم يكن له أعداء, وإذا كان له عدو فهو عدونا جميعاً، عدو الشعب العراقي والإنسانية جمعاء، النظام الجاثم على الصدر الشعب العراقي كالكابوس والذي كان الراحل يتمنى أن يكتحل نظره بسقوطه وخلاص الشعب منه، ولكن شاءت الأقدار أن يرحل عنا قبل تحقيق هذه الأمنية ولو بأسابيع. لا نقول ذلك من باب المبالغة في صفات الراحل أو عملاَ بالحديث الشريف (اذكروا محاسن موتاكم)، بل لأننا لم نعرف عنه سوى المحاسن.
لقد بدأت علاقتي بالراحل كقارئ تطورت خلال فترة قصيرة إلى تعارف ثم صداقة مبنية على تقارب الأفكار والرؤى. كان ذلك عام 1999 وأنا أزور المكتبات العراقية في لندن كلما سافرت إلى هذه المدينة العريقة. وفي مكتبة دار الحكمة أشار عليَّ صاحبها الصديق حازم السامرائي، وهو يعرف إهتماماتي الثقافية، إلى كتاب حديث وصلهم تواً (عراق 8 شباط 1963.. من حوار المفاهيم إلى حوار الدم.. مراجعة في ذاكرة طالب شبيب) وفي قطار العودة بدأت بقراءة الكتاب بنهم ومنها بدأت رحلة إدماني على كل ما يكتبه الدكتور علي كريم سعيد.
بعد أشهر كنا، أنا وأصدقائي، نهيئ لعقد ندوة في لندن بناسبة الذكرى الثانية والأربعين لثورة 14 تموز. فاتصلت به تلفونياً دون سابق لقاء شخصي بيننا، وبعد عبارات التعارف والمجاملة أكد لي أنه يعرفني من خلال كتاباتي التي يتابعها ..الخ فشكرته على ذلك يملأني شعور بالفرح والنشوة أن كاتباً كبيراً مثله يتابع كتاباتي.. أنا الذي اعتبر نفسي من الهواة في الكتابة ليس غير..! دعوته للمشاركة في الندوة مقترحاً عليه المادة وهي: (ثورة 14 تموز والوحدة العربية) لكونه من التيار القومي العربي. ولم يحتاج إلى وقت للتفكير، بل وخلال ثوان رحب بالدعوة وهكذا كان. تحمل عناء السفر من بلد إقامته، هولندا إلى لندن وكان لمشاركته دور واضح في نجاح الندوة.
وفي مساء اليوم التالي للندوة كان لنا لقاء جمع نخبة من المثقفين الذين شاركوا وهيئوا لها ومعنا صديقنا الراحل في بيت أحد الأصدقاء حيث توفرت لنا فرصة للتعارف على الآخر عن قرب. فعرفنا فيه ذلك الإنسان الوديع الطيب الهادئ الخلوق الغزير بالمعرفة الموسوعية سواء بالفلسلفة أو بتاريخ العراق وغيره. كان أغلب الحضور من ذوي خلفية يسارية ولم يخطر ببالي أنه كان منتم إلى حزب البعث. لأنني كعراقي، فصورة البعثي مرتبطة في ذهني بالسلبيات، سواءً ما حصل بعد ثورة 14 تموز 1958 حيث عمليات الإغتيالات وفرض الإضرابات على الطلبة بالمسدسات أو بعد إنقلاب 8 شباط 1963 والحرس القومي إلى مرحلة صدام حسين وما جلب عليه من كوارث. هذه هي صورة البعثي في مخيلة العراقيين. فكيف يمكن فصل إسم البعث عن كل هذه الكوارث؟ وهل يصح أن يكون هذا الإنسان المليء بالإنسانية بكل معنى الكلمة أن يكون بعثياً.. خاصة وإنه قد انصف الزعيم عبدالكريم قاسم ورفعه، سواءً في حديثه في تلك الندوة أو في كتابه المشار إليه أعلاه، إلى مستوى القديسين.. فهل هذا حقاً ينتمي إلى حزب ساهم بقتل هذا الزعيم بكل شراسة؟ لذلك لم نصدق أن يكون علي كريم سعيد منتمياً إلى هذا الحزب.
ورداً على أحد المعلقين في الندوة، رفض علي كريم سعيد وصف عبدالكريم قاسم بالدكتاتور، قائلاً أن الدكتاتورية نظام حكم له خواصه ومؤسساته القمعية والإستخبارتية تراها تلاحق الناس في حياتهم اليومية في جميع أركان ودوائر السلطة وفي الشارع والمدرسة والعائلة. هذه الصفات لم تكن موجودة في عهد قاسم ولا في شخصه. وقال أنه منهمك في بحث حول شخصية قاسم ولحد تلك اللحظة ظهر له أن قاسماً كان أبعد ما يكون عن الديكتاتورية وأن قوة قاسم الحقيقية ظهرت بعد مصرعه. وذكر في كتابه المشار إليه عن تسامح قاسم قائلاً: "واعتقد أن تسامح قاسم وعدم إستخدامه التعذيب الوحشي والقسوة ومعاقبة الزوجة والأطفال والإخوان… الخ مما مارسته الحكومات التالية، ساعد البعثيين في تنفيذ خطتهم ضده...) وفي مكان آخر ذكر عن وحشية قتل الزعيم ومحاولة إهانة جثته على شاشة التلفزيون قائلاً: (.. كان ذلك المشهد التلفزيوني أسوأ اللقطات المسجلة في تاريخ العراق المعاصر، فلم يكن العراقيون حتى يُمَيَّزوا بهذه المعاملة عن غيره. بل ربما كان صراعاَ لعب فيه قاسم دوراً أكثر المتصارعين وداعة وتسامحاً وأقلهم همجية وأدلجة وتشريعاَ للقتل، فقد سن عملياً قاعدة: {عفا الله عما سلف} وكان فيها أقرب إلى عقلية العراقيين البسطاء قبل عصبية الأيديولوجيا الواردة.". فهل يعقل أن يصدر هذا الكلام من بعثي؟ هذا هو علي كريم سعيد.
كان الكتاب بحد ذاته إبداع دون سابقة. فقد قام بتحقيق مذكرات طالب شبيب، أحد رجال إنقلاب 8 شباط الأسود، ولم يتدخل في سياق النص وحتى في حالة وجود مغالطات تاريخية. بل كان يعمل كمحقق يعلق عليها في الهوامش التي كانت تشكل القسم الأكبر من الكتاب، معتمداً على مصادر تاريخية ومعلومات استقاها بنفسه من مقابلات العديد من الشخصيات التي لعبت دوراً في صنع الأحداث في تلك الفترة التي تطرق إليها طالب شبيب. وبذلك كان ينقي المعلومة ويتأكد من صحتها حتى ولو كلفه ذلك شد الرحال والسفر إلى أماكن بعيدة من أجل اللقاء بالمصدر ويقدمها للقارئ بعد أن يخلصها من الشوائب. وهكذا قابل محمد حديد في لندن وعبدالكريم فرحان في السويد ويونس الطائي في دمشق وغيرهم كثيرون. فكتّاب المذكرات غالباً ما يحاولون تبرئة أنفسهم من الخطأ يظهرون أنفسهم كأنهم أئمة معصومين ويلقون اللوم على الآخرين فيما حصل من كوارث. ومن هنا تبرز الحاجة الماسة إلى تحقيق هذه المذكرات على الطريقة التي أبدعها الدكتور علي وأهمية دور الباحث النزيه في تنقية هذه المذكرات من الشوائب التي تعمل على تزييف حقائق التاريخ.
وبذلك فقد أثبت فقيدنا أهمية الإبداع والنزاهة في البحث. وما أحوجنا اليوم لأمثاله خاصة وقد أسس النظام الصدامي جيشاً من شرطة الثقافة أناط بهم مهمة تزييف التاريخ في عملية سميت بإعادة كتابة التاريخ. ومن هنا تظهر لنا مدى الخسارة الكبيرة التي أصيبت بها الثقافة العراقية في موت علي كريم المبكر وهو في أوج مرحلة الإبداع وعطائه الفكري.
عمل آخر قام به الراحل في الفترة الأخيرة وهو صدور كتابه الجديد عن حركة الشهيد حسن سريع (البيرية المسلحة: إنتفاضة حسن سريع وقطار الموت) كدليل على إلتصاقه ببسطاء الناس من أعماق الشعب، وأبرز حياديته في البحث دون أن تؤثر عليه آيديولوجية الحزب الذي انتمى إليه. فنتائج بحوثه كانت على الضد تماماً من سياسات وآيديولوجية الحزب الذي عد من أعضائه. كذلك كان أغلب أصدقاء الراحل من اليساريين وخاصة الذين تعرضوا لإضطهاد السلطة التي تحمل إسم حزب ينتمي إليه الراحل. وبذلك يمكن القول أن الدكتور علي كريم سعيد كان مثقفاً أكثر منه سياسياً وربما لم يكن سياسياً بالمرة إلا بالإنتماء الشكلي وإن كان حزبياً فبالإسم فقط.
لا شك أن الراحل قد ترك أعمالاً كثيرة لم تنشر بعد، منها المنجزة وغير المنجزة. لذلك فأفضل خدمة يمكن تقديمها لتخليد ذكرى الراحل وخدمة للثقافة العراقية، هو أن يقوم أصدقائه المقربون أن بنشر بحوثه المنجزة ومحاولة تكملة غير المنجزة بغية نشرها فيما بعد.
رحم الله فقيدنا الغالي الدكتور علي كريم سعيد وله الذكر الطيب والجنة والرضوان ولذويه الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون.