مناقشة هادئة لشعار: "لا للحرب.. لا للديكتاتورية"
منذ أن عزمت إدارة جورج دبليو بوش على توجيه ضربة قاضية لنظام التخلف والهمجية والإطاحة به وخلاص العراق والعالم من شروره، رفع عدد من القوى السياسية والشخصيات الوطنية المعروفة بتاريخها النضالي المجيد، شعار (لا للحرب.. لا للديكتاتورية). وهذا يعني أن أصحاب هذا الشعار رغم كونهم ضد النظام الديكتاتوري البغيض، حيث ناضلوا ضده ودفعوا الكثير من التضحيات في سبيل إسقاطه، إلا إنهم في نفس الوقت، يرفضون توجيه ضربة له وإزالته بالقوة من قبل جهة خارجية. علماً بأنه صار من المؤكد لدى جميع العراقيين، أنه لا يمكن تغيير النظام القائم بالطرق السلمية ولا إسقاطه عن طريق إنتفاضة شعبية أو إنقلاب عسكري. أما الإدعاء بأن شعبنا قادر على إسقاطه إذا ما شاء، فهذا يعني أن بقاء النظام طوال 35 عاماً الماضية كان برضا الشعب وهذا ما لم يقبل به أي عقل سليم !
بطبيعة الحال، تلعب البلاغة في إختيار الألفاظ المناسبة دوراً كبيراً في إيهام المواطن وتسويق هذه الشعارات، فبدلاً من إستخدام التعابير الصحيحة بأن الضربة موجهة للنظام وأعوانه وآلته القمعية وعناصر وجوده وخلاص الشعب العراقي من ظلمه، نراهم يستخدمون عبارات تبعث الهلع في نفس المواطن البسيط كقولهم: ضرب الشعب العراقي وقتل الأبرياء وتدمير العراق وركائزه الإقتصادية وبناه التحتية بالقنابل النووية..الخ. وليختموها بمقولات مثل أن أمريكا تعمل كل ذلك من أجل مصالحها النفطية وأمن إسرائيل ولا تريد الخير للعراق... إلى آخره من الكلام المعاد إلى حد الملل والذي أجبنا عليه إلى حد الملل أيضاً ولا نريد العودة إليه، ويكفي أن نقول: نعم لا ضير من تطابق المصالح.
لقد اعتادت الجماهير العربية، أن تتلقف مثل هذه الشعارات البراقة بقلوبها لا بعقولها وبعواطف جياشة، دون قراءة نقدية لها ومناقشتها بموضوعية، لأن النقد محرَّم في بلداننا، فتتعامل مع هذه الشعارات وكأنها آيات بينات منزلة من السماء غير قابلة للنقد ومعاملتها كنصوص مقدسة. والخوف من نقد الشعارات السياسية لعب دوراً كبيراً في تخلفنا وما آل إليه مصيرنا، فكما يقول كارل ماركس (النقد أساس التقدم). لذلك، وعملاً بروح الديمقراطية واحترام الرأي الآخر، أرجو من الأخوة أصحاب هذا الشعار، الذين أكن لهم كل الاحترام، أن تسع صدورهم لمناقشة شعارهم وقبول ملاحظاتي النقدية والدعوة إلى عدم التعامل مع السياسة كتعاملهم مع الدين المقدس، وإلا خلطنا السياسة بالثيولوجيا واعتبرنا المقولات السياسية نصوص مقدسة لا يجوز نقدها أو حتى مناقشتها، ونبقى ننتقل من كارثة إلى أخرى مع الإصرار على الخطأ والمكابرة.
لا نريد أن نقول أن هذا الشعار هو قول حق أريد به باطل، لأننا نعرف النوايا الحسنة لأصحابه فأغلبهم من الحريصين على المصلحة الوطنية كما أسلفنا، ولكن صحيح أيضاً إذا قلنا أن في نهاية المطاف وكتحصيل حاصل، فإن الشعار هذا يصب في خدمة النظام الجائر وحده، لأنه يفضي إلى بقائه وإلحاق المزيد من الأذى بشعبنا لفترة أطول، يعني الزيد من موت الأطفال وقتل الأبرياء وإستمرار حرب النظام ضد الشعب وتشريد المزيد من أبنائه في المنافي. فهناك شعارات جذابة وجميلة في التعبير والبلاغة ولكن ليس بالضرورة تقود إلى الخير. وهذا يذكرنا بما حصل للإمام علي (ع) في حرب صفين حيث كان النصر على قاب قوسين أو أدنى لمعسكر الإمام. ولكن في اللحظات الأخيرة من إلحاق الهزيمة المنكرة بجيش بني أمية، لمعت فكرة ذكية في ذهن عمرو بن العاص تدعو إلى رفع المصاحف والقول ب (لا حكم إلا لله). وهذا الشعار شق معسكر الإمام وولدت فرقة الخوارج وأجهض النصر وكان ما كان من أمر التحكيم واتنصار معاوية في نهاية المطاف.
ولحسن الحظ أو لسوئه، إن إختلافنا حول توجيه الضربة للنظام لا يغيِّر من الأمر شيئاَ لأن قرار الضربة ليس بأيدينا، وإنما بيد الدولة العظمى والأمم المتحدة، وما جدالنا هذا إلا لبيان موقفنا، نحن أصحاب المصلحة الأساسية في تحرير العراق من هذا النظام الجائر، وهل لدينا القدرة على تمييز المواقف الصحيحة من الخاطئة وكيف يجب أن تتصرف المعارضة لتجيير العامل الدولي والضربة المرتقبة لصالح شعبنا.
إن شعار (لا للحرب..لا للديكتاتورية) يصلح كإجراء وقائي قبل ظهور نظام ديكتاتوري في بلد ما، وهو يشبه الحكمة القائلة: (الوقاية خير من العلاج)، وذلك لمنع تسلط هكذا نظام وبالتالي منع سياساته العدوانية التي تقود إلى إضطهاد الشعب وإشعال الحروب. أما وإن هذا النظام الجائر هو أمر واقع في العراق منذ 35 عاماً يسوم الشعب سوء العذاب وأشعل الحروب العبثية المدمرة في المنطقة، فالشعار جاء متأخراً.
ولتوضيح ذلك أضرب مثلاً: لنتصور أن مريضا جيء به إلى المستشفى مصاب بإنسداد الأمعاء نتيجة لورم سرطاني أو إلتواء، وتوصل الجراح بعد التحري وفحصه للمريض إلى قرار أن الحالة تتطلب إلى عملية جراحية مستعجلة وبدونها يموت المريض. ولكن هنا اختلف أهل المريض وانقسموا إلى قسمين، منهم من يقول: (لا للجراحة.. لا للسرطان!) وآخرون قبلوا بالأمر الواقع ووافقوا على العملية لإنقاذ حياة مريضهم. هذا بالضبط ما يجري الآن على ساحة المعارضة العراقية من خلاف في كيفية معالجة السرطان الفاشي الذي ابتلى به الشعب العراقي المهدد بالإبادة.
وعليه، فأتمنى على أصحاب شعار (لا للحرب.. لا للديكتاتورية) أن يعيدوا النظر في موقفهم لمعالجة الوضع. فالعلاج بالأدوية لم يعد ناجعاً وفات أوانه ومريضنا بحاجة إلى عملية جراحية عاجلة. فالنظام لا يمكن إزالته بالوسائل السلمية، وصدام حسين ليس دانيال أورتيكا ولا حتى بينوشية ليتخلى عن الحكم بموافقته ليجنب الشعب من إحتمالات ويلات الحرب، ويسمح لإجراء إنتخابات ديمقراطية عادلة وتبادل السلطة بالطرق السلمية، فهذه ليست من صفات صدام حسين، والذي ينكر هذه الحقيقة فهو لا يعرف أي شيء عن هذا الرجل المصاب بهوس الحكم وجنون العظمة والتنكيل بالشعب.
وكل الدلائل تشير إلى أن القرار الجديد الذي قدمت الإدارة الأمريكية مسودته إلى مجلس الأمن الدولي، يشمل الشروط الخمسة التي ذكرها جور بوش في خطابه أمام إجتماع الأمم المتحدة يوم 12 أيلول/سبتمبر من هذا العام ومن ضمنها جوهر القرار 688 للمجلس والقاضي بحماية الشعب العراقي واحترام حقوق الإنسان وإلغاء كافة الإجراءات التعسفية والقوانين والمؤسسات القمعية والتحضير بإجراء إنتخابات ديمقراطية عادلة تحت إشراف الأمم المتحدة وقيام حكومة ديمقراطية. وقد أعلن النظام العراقي مسبقاً عن رفضه للقرار الجديد وحتى قبل صدوره. وبذلك فليس هناك من علاج سوى العملية الجراحية وإستئصال صدام حسين ونظامه السرطاني الخبيث من العراق وإلى الأبد، وإقامة نظام ديمقراطي قائم على حكم القانون واحترام حقوق الإنسان، ليستعيد العراق عافيته ومكانته الطبيعية بين الأمم والعيش بسلام وليبدأ التطور الإقتصادي والتنمية البشرية من جديد ليعوض عما فاته خلال الزمن الضائع من حكم النظام الفاشي.
*-كاتب عراقي مقيم في بريطانيا
خاص بأصداء ، السبت 05 أكتوبر 2002