أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد أغ أبو اليسر - سرد الصحراء بين وحشة الفضاء، وأُلفة الرمز















المزيد.....

سرد الصحراء بين وحشة الفضاء، وأُلفة الرمز


أحمد أغ أبو اليسر
(Ahmed Ag Aboulyousri)


الحوار المتمدن-العدد: 6351 - 2019 / 9 / 14 - 10:24
المحور: الادب والفن
    


في كتاب: "جماليات المكان" يحاول الفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار إيصال مدى الأهمية الشديدة للمكان في جميع الأجناس الأدبية عن طريق "بيت النشأة" الذي يقوم بتحليله في الكتاب كاملا فيقول: "إنه من المنطقي "أن نقرأ بيتا" أو "أن نقرأ حجرة"؛ لأن الاثنين رسمان بيانيان سايكولوجيان يقودان الكُتاب والشعراء في تحليلهم إلى الألفة1" ص 61،
رغم أن باشلار في هذه العبارة قد يبدو شاعريا أكثر منه محللا إلا أنه عن طريق شاعريته الحالمة هذه يشير إلى حلقة مهمة في تهيئة القارئ للتفاعل الكامل مع النص، ألا وهي استدعاء العلاقة الخفية المتلاشية في العقل اللاواعي للقارئ عن طريق استحضار الصورة؛ سواء صورة بيت الطفولة أو بيت النشأة الذي فارقناه جميعا بعد أن سكناه، بل وسكننا، أو حتى عن طريق صورة الحجرة، التي دفنّا فيها زمننا القديم، إلى أن نجد أنفسنا فيها فجأة عن طريق النص ونحن نلجها بكل مباهجها ومآسيها القديمة المتلاشية في عقلنا اللاواعي، فيكون هذا رسما بيانيا سايكولوجيا يدعونا إلى الألفة مع النص، وإلى التفاعل معه بأكثر من حاسة، وبأكثر من إحساس، وقد أفاض الرجل كثيرا في شرح هذه الفكرة داخل الكتاب، لكن الإشكال الآن هو: ما العلاقة بين فضاء الصحراء وبين استحضار بيت النشأة؟
العلاقة بينهما أن صورة بيت النشأة لديها القدرة على جعلنا نستحضر كينونتنا الطفولية، أما فضاء الصحراء فلديه القدرة على جعلنا نستحضر كينونتنا الوجودية الأولى؛ باعتباره مهد الإنسان الأول، ومدفن أسراره، النفسية، والعلمية، والدينية، والتاريخية، وحتى الحضارية، والفنية، و.. و...الخ.. وبالتالي استحضار صورته في سرد تأمليِّ هو استحضار لألف صورة فلسفية متلاشية في الوجدان البشري ككل، وليس استعراضا لصورة فضاء أقفر، لا يألفه الخيال ولا يألف الخيالَ كما هو شائع عنه في أدبياتنا الحديثة..
إن الكتابة عن الصحراء في شكلها الظاهر المرئي المجرد تشبه لحد بعيد محاولة الكتابة عن ورقة بيضاء أو صفراء، أو أي لون، ولا يوجد بها سوى خطوط عريضة لا تعبر عن شيء سوى الخواء، لكن المفارقة أن الصحراء ليست خاوية بتاتا عندما نوظف مظاهرها البيولوجية توظيفا فلسفيا، أو دينيا صوفيا ـ بالمعنى الفلسفي للتصوف ـ، أو حتى تاريخيا واجتماعيا، وسياسيا، وميثولوجيا، وغيرها، فجميع هذه التوظيفات، أو فلنقل هذه الإشكالات المعرفية المحضة، منطلقها الوجودي الأول ربما قد يكون الصحراءَ قبل المدن القديمة التي يرد ذكرها في متون العالم القديم، وبالتالي استنطاق هذه الإشكالات من أصلها المكاني الأول، أو اكتشاف مزيد منها داخل حبكة أدبية شيقة، هو حتما إضافة جديرة بالاحترام إلى الأدب العربي، كما يفعله إبراهيم الكوني في رواية المجوس على سبيل الحصر.
يستهل الكوني بداية الجزء الأول من رواية المجوس بالجبل وهو يعتليه أوداد، الذي يمكن اعتباره نموذج "الإنسان الأعلى"، في فلسفة الكوني، أو "السوبرمان" الذي ينشده فريدريك نيتشه في كتابه: "هكذا تلكم زراديشت" لكنه سوبرمان معكوس نوعا ما لمفهومه لدى نيتشه، فهو حكيم وغير عنيف، بل هو أقرب إلى "الإنسان الكامل" في الفلسفة الإسلامية الصوفية التي يتزعمها محي الدين بن عربي في القرون الوسطى، أي: أن الكمال الذي يصله "إنسان ابن عربي" عن طريق التجلي والتماهي مع الذات العليا حتى يحقق الوحدة مع العالم فلا يعود يعِير اهتماما للذين عجزوا عن تحقيق تلك المرتبة، هو نفسه الكمال الذي لا يصله عند الكوني إلا من يعتلي قمة الجبل، التي "تحوِّل كل شيء في حضيض السهل إلى دمى مثيرة للضحك2". "قمة الجبل تحوِّل حتى كبار الطوارق المنفوخون خلف حطامهم الدنيوي إلى قطيع من النمل3" "السهل مملكة الأبالسة، بينما الجبل حرم الآلهة4"
هكذا يحوِّل الكوني رمزين من رموز الفضاء الصحراوي هما: "الجبل"، الذي يمكن تفسيره بالحكمة، و "السهل" الذي يمكن تفسيره بعكس الأول إلى ثنائية فلسفية عميقة، يناقش من خلالها داخل روايته كل رؤاه عن الوجود البشري، ويبني عليه تصوراته واستنتاجاته، ليخرج بالفضاء الصحراوي من وحشته المكانية إلى أُلفة فلسفية متخيلة، لا يملك معها القارئ سوى الاندماج الكامل مع كل المظاهر الصحراوية التي يمكن أن تفاجئه داخل النص، بل ويترصد مزيدا منها بنهَمِ، علّه يَلقى تصورات فلسفية جديدة مبثوثة كرمز أدبي في بعض المظاهر الطبيعية المتخيلة، ليكتشف من خلالها ذاته الثانية المفعمة بالحكمة، أو بالبلادة، فيبني الكوني بذلك من أول أسطر في الرواية علاقة وجدانية فلسفية شديدة بين القارئ، وبين الفضاء المتخيل الذي يقرؤه، وتمتد هذه العلاقة من بداية النص إلى نهايته دون انقطاع، وقد عمل نجيب محفوظ الأمر ذاته في روايته المثيرة للجدل: "أولاد حارتنا" عندما يستخدم فيها مفهوم "الخلاء" كمفهوم مضاد ل"البيت الكبير"، الذي ما إن يُطرد منه أحد من أحفاد "الجبلاوي" بداية من "إدريس5" ونهية ب"أدهم" مع "أميمة" حتى يلتحق بالخلاء عقابا له، ليتطهر من خطاياه بالألم في وحشة العراء، بعيدا عن البيت الكبير، الذي لا يدخله إلا المطهرون، بل ولم يدخله بعد أدهم سوى "عرفة" في الفصل الأخير من الرواية، وهو متسلل وسط الظلام ليسرق كتاب السحر الذي توجد به كل الأسرار المحظورة، فتحدثُ بسببه جريمة موت الجبلاوي دون قصد منه، فتعود حارتنا إلى آلامها القديمة، ويسودُّ البيت الكبير حزنا على جريمة ارتكبها أحد المتسللين من الخلاء إلى داخله، وكأن كل مصائب العالم إنما تصدر من الخلاء، وليس من البيت الكبير، أي: من العالم السفلي، وليس العلوي، فالخلاء الذي طُرِد إليه إدريس وأدهم مع أميمة، تفسيره الحتمي الوحيد هو الأرض؛ لأن أدهم عندما هبط من السماء هبط مباشرة إلى الخلاء؛ إلى الدنيا، وليس إلى شيء آخر، "وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر6" وهكذا يعطي نجيب محفوظ أيضا فضاء الصحراء بكل وحشته، وقساوته تصالحا فلسفيا، دينيا، بدئيا، مع القارئ الذي يجد نفسه يرجع للوراء الأبعد مجبَرا على ذلك حتى يكوِّن تساؤلات جديدة عن مفهوم الخلاء الأولي، وعن علاقة هذا المطهر المسيحي (الخلاء أو الدنيا) الذي يعيش فيه، بالطهارة الأولى (البيت الكبير) التي سبقت هبوطه إليه، وهو مفعم بالآلام، والخطايا الممتدة معه في ازدياد، منذ ذلك الحين لحد اليوم، دون أن يجد طريقا للتخلص منها، سوى اجترار مزيد من خيباته وهو حالم بالبيت الكبير، الذي لا يستطيع العودة إليه، ولا يطيق البقاء إن لم تكن نهايته هي العودة إليه، فيدخل المستهلِك مع نفسه في صراع فلسفي، ديني شديد، يُنسيه به نجيب محفوظ وسط عبقرية، شديدة كل الوحشة الصحراوية التي يحكي عنها، وكأن القارئ يقرؤ عالَما فلسفيا لا تربطه أية صلة بفضاء الصحراء الأقفر، الخالي من كل ما سوى الألم، أو كأن محفوظ لا يحكي عنه أصلا، - علما أنني لا أتحدث عن الجانب المديني في الرواية إطلاقا -، وهكذا يقاوِم الكبارُ فضاء الصحراء بفضاء المعنى، فيتلاشى داخلها، ليتولّد عالم من الإبداع اللانهائي، لكن من يقرؤ سردا أدبيا صحراويا خالٍ من الإبداع، ومن المعاني الوجودية العميقة، أو من اكتشاف العالم عن طريق الرمز، أو لا يعالج قضايا اجتماعية وإنسانية كبرى، فإنه بلا شك سيعاني من أسوء سرد أدبي، ومن أقسى فضاء، وأعتقد أن الذي يقرؤ رواية "حرز تالا" لعمر الأنصاري، سيعاني من هذا، ولن يستطيع الصمود ربما أمام الجفاف الذي تعاني منه، وأول ما سيهرب منه هو كل هذه الرمال البيضاء الفارغة أدبيا من الرمز، والفارغة مكانيا، إضافة إلى كم هائل من الجبال، والأشجار، والفضاء القاسي اللانهائي، الذي يمتد أمام القارئ إلى ما لا نهاية، دون أن يجد فيه عبقرية تجذبه، أو أية معان مدسوسة؛ لأن موضوع الرواية أساسا هو مجرد "فكرة أسطورية طارقية عن الملح" نعم فكرة أسطورية عن الملح، بإمكان الكاتب أن يعالجها في قصة قصيرة، لا تتجاوز صفحتين على الأكثر، لكنه عالجها في رواية تتجاوز الثلاث مائة صفحة، ومن الواضح جدا أن فكرة كهذه -علما أن فيها أفكارا اجتماعية أخرى، لكنها جانبية، وضئيلة- ليست كافية بتاتا لجعل المتلقي يتصالح مع كل هذا الخواء، الذي تمثله الصحراء، بمناظرها القاسية، وعرائها القاتل، ووعورتها المملة، فلكي تكتب عن العراء بشكل جذاب تحتاج إلى تكتيكات، وتقنيات تأملية كثيرة، بل وتحتاج إلى استحداث مقاصد عميقة داخل كل ظاهرة مكانية من ظواهر الصحراء الكثيرة، وليس الاكتفاء بحكي مظاهرها الخاوية فقط كما هي، دورن أية رؤى، ودون أية تصورات..!


المصادر:
القرآن الكريم/ سورة البقرة، آية 36
1- جماليات المكان / جاستون باشلار. ت: غالب هلسا. ط: 2. دارا النشر: المؤسس الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ببيروت لبنان. ص 61
2 – رواية المجوس / إبراهيم الكوني. ط: 2 دار النشر: دار التنوير للنشر والطباعة تاسيلي للنشر والإعلام. ج 1. ص 9
3 –رواية المجوس نفس الصفحة
4 – رواية المجوس، ونفس الصفحة.
5 – أولاد حارتنا / نجيب محفوظ، ط: 13. دار النشر: دار الشروق، ص 25



#أحمد_أغ_أبو_اليسر (هاشتاغ)       Ahmed_Ag_Aboulyousri#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثقافة الإسفيرية وتشتيت وعي الطوارق:
- الثاقة الإسفيرية وتشتيت وعي الطوارق
- أهازيج في رثاء توماست / قصة قصيرة
- إلى أين يتجه الموت البشري؟
- فردوس الكبار / قصة سخيفة
- لماذا فشل الطوارق في إقامة دولة؟


المزيد.....




- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد أغ أبو اليسر - سرد الصحراء بين وحشة الفضاء، وأُلفة الرمز