أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد برازي - ما هي الصابئة أو المندائية















المزيد.....



ما هي الصابئة أو المندائية


محمد برازي
(Mohamed Brazi)


الحوار المتمدن-العدد: 6279 - 2019 / 7 / 3 - 09:13
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الصابئة ديانة »تغيَّرت« على كرِّ الأعصار. و»تبدَّلت« متنقِّلة من أطوار إلى أطوار. بموجب ما حلَّ بها من الأغيار. أو بموجب ما طرأ في عصرها من الطوارئ الكبار، أو الأديان السائدة في تلك الأقطار. »فتفرَّع« منها فروع عديدة. واتَّسع معنى لفظة الصائبة فشملت شِيَعًا غير زهيدة. كما شملت لفظة اليهوديَّة والنصرانيَّة والمحمَّديَّة فرقًا مختلفة. يرجع إليها أصحابها في أمورٍ مهمَّة آراؤهم فيها مؤتلفة. وعليه فأوَّل نشأة الصابئة كانت عبادة النجوم والكواكب وذلك منذ عهدٍ عهيد. ثمَّ انتقلت إلى إكرامها بهيئة الأصنام والرموز والاحتفاء بها عيدًا بعد عيد. وبعد ذلك انتشرت آراء فلسفة اليونان، ثمَّ لمّا ظهر الدين القويم وانبثَّ نور الإيمان، وأضاء على السهول والحزون والوديان، اقتبس الصابئة آراء من النصرانيَّة قبسة العجلان. وفي القرون الأولى للمسيح كُتبت بعض كتبهم بدون ذكر أسماء المدوِّنين. فنُزِّلت منزلة التنزيل دونها الإنجيل المبين. »فوقف عند ذلك« تغيير الدين. إذا نضب عنه ماء المعين. وبقي مذهبهم منذ ذلك الحين، على ما نسمعه عنهم أو نشاهده فيهم من أُخريات هذه السنين.

هذه هي الأطوار الكبرى، ما عدا ما تجاذبها من الأغيار الصغرى، التي اختلفت باختلاف الأماكن والبلدان، أو باختلاف الشعوب والألسنة والأزمان، غير إنَّنا لا نلتفت إليها في هذه المقالة لكي لا يهجم على القارئ الإشكال أو الإبهام، فيساوره مساورةً دونها مساورة الضِرغام.

وعليه فانتقال ديانة الصابئة على أربعة أطوارٍ كبرى وهي:

1 طور عبادة النجوم

2 طور عبادتها برموزِ وأصنام

3 طور إدخال آراء فلسفيَّة فيها

4 طور إدخال آراء نصرانيَّة فيها أو الطور الأخير

ويجب علينا الآن، أن نتكلَّم عن كلِّ طور بما يحتمله المكان، إيقافًا للقارئ على رأينا هذا الجديد، المستند على سديد الأسانيد، وهو على ما خُيِّل لنا ليس عن الحقيقة ببعيد، ونبيِّن له أنَّ كلَّ من هذه الأطوار، قد أبقى وراءه شيئًا من بعض تلك الآثار، التي جعلته من هذا القبيل شبيهًا بطبقات الأرض، التي يُرى فيها بالطول والعرض، مستودعات العصور الغابرة، ودلائل السيول الجارفة العابرة.
عبادة النجوم برموزها وأصنامها


1- طور عبادة النجوم

أوَّل نشأة الصابئة كانت عبادة النجوم والأجرام العلويَّة وهي أوَّل ديانة وُجدت بعد فساد الدين الحقيقيّ وهذا الفساد قديم العهد يرتقي إلى قبل حدوث الطوفان. وهو ما يدَّعيه أيضًا إلى يومنا هذا الصابئة إذ يقولون إنَّ آدم كان صابئًا وكذلك حوّاء، وسائر الآباء الأقدمين. فهذا الكلام وإن كان لا يخلو من غلوٍّ ظاهر ظهور الصبح لذي عينين، فإنَّه يدلُّنا على أنَّ الصابئة قديمة الوجود. والكتاب الكريم يقول: »وفسدت الأرض أمام الله ومُلئت جورًا« (تك 6: 11). فلا شكَّ أنَّ هذا الفساد لم يكن من جهة الآداب فقط بل من جهة الديانة أيضًا لأنَّ القلب لا يَفسد إلاَّ بعد فساد العقل.

أمّا أنَّ الصابئة بمعنى عبادة النجوم هي قديمة، فالأدلَّة كثيرة. وأوَّل ذلك قدم وجود الوثنيَّة التي يشهد بها آثار الغابرين التي وجدت في هذا القرن من أشوريَّة وبابليَّة وكلدانيَّة وفينيقيَّة ومصريَّة. وكما أنَّ الوثنيَّة هي بنت الصابئة كما سيأتي إيضاح هذه القضيَّة نتج أنَّها أقدم منها.

ثانيًا عند الصابئة الحاليّين أسماء نجوم وأصنام وروحانيّين لم تكن معروفة ألاَّ في عهد القدماء. من بابليّين وأشوريّين وغيرهم ولم يذكرها أصحاب التواريخ المعروفة لكن عثر عليها العلماء في هذه الأزمان في المندرجات والكتابات العاديّات. فنتج من ذلك أنَّ الصابئة الحاليّين حفظوا خلفًا عن سلف تلك الأسماء كما أخذوا عنهم عبادة النجوم من ذلك مثلاً: »بيليت ونيدغل وأنبو وبيلو وشمَش« وهلمَّ جرّا.

ثالثًا المؤرِّخين لسان واحد على أنَّ معنى الصابئة عبادة النجوم أو تعظيم الأجرام السماويَّة.

رابعًا نشأة الصابئة في مهد مجتمع الإنسان قبل تفرُّقه على وجه الأرض وذلك حينما لم يكن يتكلَّم إلاَّ لسانًا واحدًا أو ألسنة قليلة ويُستدلُّ على ذلك من وحدانيَّة اسم الجلالة عند اختلاف الشعوب وتصحيفِه وتحريفه ومن أسماء جميع الأصنام القديمة التي تُردُّ إلى أصل واحد يقرب من الأصل السامي ويُراد به النور أو العلوّ أو مثل هذا المعنى ممّا تتَّصف به الأجرام العلويَّة ممّا يدلُّ على أنَّهم لمّا جهلوا الله الذي لا يُرى سمَّوها بها. ولله اسمان شهيران: »إيل« الساميَّة و»دَيْف« Dev الموهومة عند العلماء سنسكريتيَّة.

ويُحسن(*) بنا أن نورد هنا الألفاظ المشتقَّة من كلٍّ من هذين الحرفين (إيل وديف) وكيفيَّة انتقال معنى هذه المشتقّات إلى أسماء تدلُّ على النور أو السماء أو نحوهما ثمَّ إلى أسماء الأصنام كلُّ أمَّة بحسب معتقدها أو تدرُّجها فيه مسمّيةً بتلك الأسماء أوَّل إله عظيم اتَّخذته بعد إله الحقّ ثمَّ نقلته شيئًا فشيئًا إلى صفاته تعالى ثمَّ حُصرت تلك الصفات في آلهة مختلفة.

وفي ذكرها هذا الاشتقاق فائدة أخرى وهي ادِّعام رأي قدم التوحيد عند جميع أمم المعمور ثمَّ انتقاله إلى الصابئة أو عبادة الأجرام العلويَّة. ثمَّ إلى عبادة تماثيلها تزلُّفًا منها. وهو رأي علماء عصرنا فضلاً عن أنَّه رأي العلماء الأقدمين المستند على كتاب الله العظيم.

أمّا معنى »إيل« و»إل« فقد اختلفت آراء العلماء في أصل اشتقاقه وإن اتَّفقوا في مؤدَّى معناه أي الإله. فمنهم من قال إنَّه غير مشتقّ بل إنَّه أصل ومعناه: القوَّة والقدرة والشجاعة والبسالة. ومنه »الإلّ« بالعربيَّة بمعنى الربوبيَّة أو الإله. ومنهم من قال إنَّه مشتقّ من أصل معناه العُلوّ لأنَّ الكلدان والأشوريّين الأقدمين يقولون »إيلو« بمعنى إيل. وإبدال الهمزة بالعين والعكس بالعكس أمرٌ مثبتٌ مشهور. وعليه فيكون معنى إيل أو إيلو: العليّ أو العالي الربيَّتين. ومنهم من قال إنَّها مشتقَّة من »ألَهَ« المائت اليوم في الأصول الساميَّة ما خلا العربيَّة ومعناه: »عبدَ« ومحصَّله: »المعبود« وذهبت جماعة من المحدثين من علماء الأشوريَّة وغيرها أنَّ أصل اللفظة بادئ بدء هي »أن« باللغة السومريَّة وهي أقدم اللغات عندهم على ما استنتجوه إلى هذا اليوم من قراءة المندرجات المسماريَّة. ثمَّ ضُوعفت وصارت »أنّا« ومن بعد أن كان معناها في الأوَّل الإله صارت في العرف بمعنى السماء ثمَّ نُقلت إلى أسماء آلهة أو أرواح أو أصنام(2).

أمّا الساميّون فإنِّهم أبدلوا نون »أن« بلام وقالوا: »أل وإل وأيْل وإيل وإيلو« والخلاصة إنَّ الآراء كثيرة متشعِّبة لا يسعنا ذكرها. ولإيل اسم آخر عند العبرانيّين

وهو (عليون elion) وهي مشتقَّة من ؟؟؟ العبرانيَّة التي يقابلها في العربيَّة »علا« وهي بمعناها. ومن مشتقّ إيل العبرانيَّة أي ؟؟؟؟ أُلاهة بتثليث الهمزة وإليهة. قال في التاج في ترجمة هذه المادَّة: (هي) »الشمس. غير مصروف بلا ألف ولام. وربَّما صرفوا وأدخلوا فيه الألف واللام وقالوا الإلاهة فكأنَّهم سمَّوها إلاهة لتعظيمهم لها وعبادتهم إيّاها...« ومن هنا ترى أنَّ العرب نقلوا اسم الإله إلى الشمس (وكما أنَّ هذا النيِّر مؤنَّث اللفظ عندهم زادوا التاء في الآخر). ثمَّ بعد ذلك عبدوا الشمس بصورة أصنام مختلفة الهيئات والأشكال فصار من معنى الآلاهة أيضًا: »الحيَّة والأصنام« (القاموس).

وقد سمَّى الفينيقيّون أعظم آلهتهم أو أصنامهم »إل أو إله أو عليون« قال سنكين يتن: »إنَّ إيل الذي يسمِّيهِ الفينيقيّون إسرائيل وهو الذي مات متقمِّصًا للكوكب زُحل...« (راجع تاريخ لبنان للأب مرتين، ص 218، وفي مواطن شتّى). وكان يُسمّي اليونان مينرفة »إيلوتي« أي إلاهتي (فيه ص 250 و218). ثمَّ إنَّ الفينيقيّين عبدوا هذين الجرمَين العلويَّين بهيئة أصنام مختلفة. وقد أخذ اليونان عن هؤلاء أغلب معبوداتهم وممّا يُناسب اشتقاق إيل عندهم iloV وHl وهو زحل عندهم HlioV ويُراد بها الشمس ثمَّ عبدوهما ونحتوا لهما أصنامًا كما فعلت العرب. وحبٌّا بالاختصار نقول: قابل هذه الألفاظ ومشتقّاتها مع جميع ألفاظ الساميَّة ترَ العجب من ذلك. اللهمَّ إلاَّ في اللغات الحبشيَّة فإنَّ هذا الأصل (ا ي ل) لا وجود له بهذا المعنى ولعلَّه قد فُقد. وإذا تتبَّعت كلَّ ما أشرنا إليه تتحقَّق أنَّ الأديان قبل فسادها كانت توحيديَّة ثمَّ صابئيَّة ثمَّ وثنيَّة.

أمّا لفظة دَيف أو دَيْو Dev ou Dew المشهورة في فروع اللغة السنسكريتيَّة بمعنى النور أو السماء فلا شكَّ أنَّه كان يُراد بها بادئ بدء معنى »الإله« ثمَّ نُقل إلى معنى »النور أو السماء« على الطريقة التي ذكرناها. وقول العلماء إنَّ هذه اللفظة لا وجود لها في اللغات الساميَّة فليس عندي بثبتٍ ولهذا قلنا في صدر هذه النبذة: »ولله اسمان شهيران إيل الساميَّة وديف »الموهومة« عند العلماء سنسكريتيَّة. وهذا الحرف موجود في اللغة العربيَّة بلفظة: »ضوء« وبالسنسكريتيَّة دِيف أو دَيف Div ou Dev وفي اليونانيَّة qeoV ثمَّ اشتقُّوا منها ZeuV بمعنى المشتري وفي اللاتينيَّة(3) Deus وفي الزنديَّة والبهلويَّة والفارسيَّة »دَيو« وفي المصريَّة طوط أو ثوث Thout وبالصينيَّة »تي« أو »تيان«. وإذا أردنا أن نستقري هذه اللفظة ومصحَّفاتها في جميع اللغات المتفرِّعة من هذه الأُمَّهات، لتغلغل بنا الكلام إلى ما يضيق به نطاق هذه المحلَّة ويخرجنا عن الموضوع. ولذا اكتفينا بالإشارة عن الاستفاضة في العبارة. لكن ممّا يجب أن ينتبه إليه القارئ هو أنَّ هذه الأسماء المذكورة كلَّها من بعد وضعها للدلالة على ذات الجلالة عينها، نُقلت بعد ذلك إلى معنى النور والسماء ثمَّ إلى الشمس أو إلى إحدى الكواكب ثمَّ إلى تمثيلهنَّ بهيئة الأصنام فلم يَعد معناها عندهم مشهورًا في أغلب الأحيان إلاَّ بمعنى تلك الأصنام.

هذا وإنَّ ما أوردناه هنا هو عن اسمَي الجلالة لا غير. لكنَّنا تتبَّعنا على حدة أسماء الأصنام عند سائر الأقوام فرأينا أغلبها ترجع إلى هذا الأصل أي إلى أنَّها كانت قبلاً أسماء كواكب أو نحوها. وقبل هذا الأصل كانت من صفات الله عزَّ وجلّ أو من أسمائه. أمّا البعض الآخر وهو النزر القليل فقد خفي عنّا وجه ردِّه إلى أصلِه وهو بدون مراء لا يخفى على غيرنا من المتبحِّرين في هذه الموادّ. ثمَّ وإن كانت لا تُردُّ إلى هذا الأصل فبكونها قليلة العدد فلا يُعتدُّ بها.

أمّا الصابئة الحاليّون فقد بقي لهم من هذا الطور أسماء كثيرٍ من روحانيِّيهم أو روحانيّاتهم (هكذا سمَّى العرب المتوسِّطين الذين بين ذي الجلالة والإنسان على ما تخيَّله هؤلاء الصابئة والأدريّون(4) (gnostiques) ويُسمّي الإفرنج هذه الروحانيّات »éons« وهي كلُّها راجعة إلى معنى النور أو شبهه، ولا مريَّة في أنَّ هذه الحقيقة من الشواهد الدامغة الدالَّة على معتقدهم الأوَّل. وإلاّ لو كانوا فرقة نصرانيَّة نشأت في القرون الأولى للمسيح كما يظنُّه البعض فأنّى لهم تلك الأسماء والمسمَّيات. والنصارى على اختلاف مللهم ونحلهم لا يعتقدون بشيء من ذلك. ومن تلك الأسماء مثلاً: أنبوط زيوا. وزُهَير وزَهَرون وشيشلام زيوا وهِيول زِيوا وغيرهم.

ومن بقايا هذا الطور أيضًا تكريم الصابئة الحاليّين للكواكب والنجوم وفي مقدِّمتها السيّارات السبع وبالأخصّ النجم القطبيّ. فإنَّهم لا يتمِّمون سنَّة من سننهم ولا شعيرة من شعائرهم ولا عملاً دينيٌّا من أعمالهم إلاَّ وقُبْلتُهم هذا النجم وإذا أرادوا أن يبنوا بيعتهم جعلوا بابها مفتوحًا بحيث إنَّ وجه الداخل يكون مستقبلاً نجم القطب تبرُّكًا بطلعته. ولهم سُنن أخرى لتكريم الشمس والقمر والزهرة إلخ. وكلُّ ذلك لا يوجد في فرقةٍ من فرق النصارى. ومن آثار هذا الطور أيضًا أعمال كثيرة لا تتمُّ إلاَّ بعد استخارة الكواكب كما كان يفعله قدماء الأشوريّين والكلدانيّين من ولادةٍ وزواج وتطبيب وتقليد الكهنوت ودفن وغير ذلك.

أمّا شواهد المؤلِّفين على أنَّ الصابئة عبدوا النجوم أوَّلاً ثمَّ الأصنام بعد ذلك فهي أشهر من أن تُذكر ولا بدَّ من أن نستشهد في كلِّ طور من الأطوار الأربعة بأقوال الأئمَّة وبالأخصّ بأئمَّة الشرق لقربهم من الصابئة ونشوئهم معهم. قال الشيخ شمس الدين محمَّد بن أبي بكر بن قيم الجوزيَّة في كتابه »إغاثة اللهفان، في مصايد الشيطان«، ما نصُّه:

»أصل هذا المذهب (أي عبادة الأصنام عند الهنود) من مشركي الصابئة وهم قوم إبراهيم عليه السلام الذين ناظرهم في بطلان الشرك وكسر حجَّتهم بعلمِه وإلهتهم بيده فطلبوا تحريقه. وهو »مذهب قديم في العالم«. وأهله طوائف شتّى. فمنهم عبّاد الشمس. زعموا أنَّها ملَكٌ (ملاك) من الملائكة لها نفسٌ وعقل. وهي أصل نور القمر والكواكب وتكوُّن الموجودات السفليَّة كلِّها عندهم منها. وهي عندهم ملك الفلك فتستحقّ التعظيم والسجود والدعاء. ومن شريعتهم في عباداتها أنَّهم اتَّخذوا لها صنمًا بيده جوهرٌ على لون النار وله بيت خاصّ قد بنوه باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع وله سدنةٌ وحجَبةٌ يأتون البيت ويُصلُّون فيه ثلاث كرّات في اليوم ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلُّون ويدعونه ويستشفون به. وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلُّهم لها وإذا غربت وإذا توسَّطت الفلك. ولهذا يقارنها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة لتقع عبادتهم وسجودهم له. ولهذا نهى النبيّ صلعم عن تحرّي الصلاة في هذه الأوقات قطعًا لمشابهة الكفّار ظاهرًا. وسدٌّا لذريعة الشرك وعبادة الأصنام. وطائفة أخرى اتَّخذت القمر صنمًا وزعموا أنَّه يستحقُّ التعظيم والعبادة وإليه تدبير هذا العالم السفليّ. ومن شريعة عبادته أنَّهم اتَّخذوا له صنمًا على شكل عجل أو نحوهِ من ذوات الأربع وبيد الصنم جوهرة يعبدونه ويسجدون له ويصومون له أيّامًا معلومة من كلِّ شهر ثمَّ يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور. فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصواب المعازف بين يديه. ومنهم من يعبد أصنامًا اتَّخذوها على صورة الكواكب وروحانيَّتها بزعمهم. وبنوا لها هياكل ومتعبِّدات لكلِّ كوكب منها هيكلٌ يخصُّه وصنم يخصُّه وعبادة تخصُّه...

»وكلُّ هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام. فإنَّهم لا تستمرُّ لهم طريقة إلاَّ بشخص خاصّ على شكل خاصّ ينظرون إليه ويعكفون عليه. ومن ههنا اتَّخذ أصحاب الروحانيّات والكواكب أصنامًا زعموا أنَّها على صورتها فوضعُ الصنم إنَّما كان في الأصل على شكل معبود غائب فجعل الصنم على شكله وهيئته وصورته ليكون نائبًا منابه وقائمًا مقامه وإلاَّ فمن المعلوم أنَّ عاقلاً لا ينحت خشبة أو حجرًا بيده ثمَّ يعتقد أنَّه إلهه ومعبوده«. انتهى كلام فخر الدين وقد أوردناه بالتفصيل لما فيه من الفوائد الجليلة ولعزَّة وجود الكتاب وجهل الناس هذا الكلام.


2- رموز وأصنام

ممّا مرَّ بك(*) تتحقَّق أنَّ المدَّة التي انقضت بين الانتقال من عبادة الكواكب مباشرةً إلى عبادتها بهيئة الرموز والأصنام لم تكن محدَّدة بل ربَّما كانت متَّصلة بالمدَّة الأولى عند طائفة ومنفصلة عنها ببرهةٍ من الزمان عند طائفة أخرى. وما ذلك إلاَّ للسبب الذي يجده كلُّ عاقل من نفسه وهو السبب الذي صرَّح به المسعوديّ في كتابه مروج الذهب إذ قال: »فأقاموا على ذلك (أي أقاموا على عبادة الله والملائكة) برهةً من الزمان وجملةً من الأعصار حتّى نبَّههم بعض حكمائهم على أنَّ الأفلاك والكواكب أقرب الأجسام المرئيَّة إلى الله تعالى، وأنّها حيَّة ناطقة، وأنَّ الملائكة تختلف فيما بينها وبين الله وأنَّ كلَّ ما يحدث في هذا العالم فإنَّما هو على قدر ما تجري به الكواكب على أمر الله فعظَّموها وقرَّبوا لها القرابين لتنفعهم. فمكثوا على ذلك دهرًا. فلمّا »رأوا الكواكب تختفي بالنهار وفي بعض أوقات الليل لما يعرض في الجوّ من السواتر أمرهم بعضُ من كان فيهم من حكمائهم أن يجعلوا لها أصنامًا وتماثيل على صورها وأشكالها فجعلوا لها أصنامًا وتماثيل بعدد الكواكب المشهورة. وكلُّ صنف منهم يُعظِّم كوكبًا منها ويُقرِّب لها نوعًا من القربان خلاف ما للآخر على أنَّهم إذا عظَّموا ما صوَّروا من الأصنام تحرَّكت لهم الأجسام العلويَّة من السبعة بكلِّ ما يريدون وبنوا لكلِّ صنم بيتًا وهيكلاً مفردًا وسمَّوا تلك الهياكل بأسماء تلك الكواكب«.

ومن عبادة الأجرام بالرموز تعظيمها بهيئة النار وهذا الفرع من الصابئيَّة استقلَّ عن الأصل بعد انفصاله عنه فدُعي بالمجوسيَّة وهذه العبادة متوغِّلة في القدم أي بقدم عبادة النجوم كما يشهد بذلك المؤرِّخون والإخباريّون الأقدمون والمحدثون وهو ما أيَّدته اكتشافات العاديّات في البلاد القديمة. وقد أشار إلى قِدَم عبادة النار بشّار بن بُرْد إذ قال:

الأرضُ سافلةٌ سوداءُ مظلمةٌ والنار معبودةٌ مذ كانت النارُ

وقد قال المسعودي في هذا الصدد ما حرفه: »إنَّه (أي أفرودون الملك) وجد نارًا يعظِّمها أهلها وهم معتكفون على عبادتها فسألهم عن خبرها ووجه الحكمة منهم في عبادتهم فأخبروه أنَّها واسطة بين الله وبين خلقِه. وأنَّها من جنس »الإلهيَّة النوريَّة« وأشياء ذكروها أعرضنا عن ذكرها لاعتياصها. وذلك أنَّهم جعلوا للنور مراتب وفرَّقوا بين طبع النار والنور. وأنَّ بالنور صلاح هذا العالم وشرف النار على الظلمة ومضادّتها لها ومرتبة الماء وزيادته على النار بإطفائه ومضادَّته لها وأنَّه أصل لكلِّ شيء ومبدأ لكلِّ تمام«.

قلتُ: ومن القول بالظلمة والنور وانتشاره في بلاد الفرس وبقائه فيها على كرور العصور تولَّدت بعد رَدْح من الدهر الثنويَّة الذاهبة إلى أنَّ فاعل الخير هو نور وفاعل الشرِّ هو ظلمة وهما قديمان قديران قويَّان متضادّان. وقد بقي من المجوسيَّة والثنويَّة عند الصابئة الحاليّين تعظيمهم للنار وللرعد والبرق والشُهب والنيازك وسائر الظواهر الجويَّة وكذلك يعظِّمون الماء تعظيمًا يكاد يكون عبادةً إذ ليس من سنَّة من سننهم إلاَّ ومن اللازم اللازب أن يكون فيها الماء والنار. وإلاَّ تمتنع إقامة تلك السنن والشعائر الدينيَّة. ولهذا تراهم لا يقيمون إلاَّ في بلادٍ مبنيَّة على النُهُر ليتيسَّر الحصول على الماء.

ومن بقايا عبادة الأوثان عند الصابئة الحاليّين استعمال عباراتٍ في السحر ومعالجة المرضى وطرد الشياطين على الطريقة المعهودة عند قدماء الكلدان وهي التي عثر عليها علماء الآثار في هذه الأزمان. راجع كتاب لنورمان: تاريخ الشرق القديم، , V, p. 151, 154, 224Hist. anc. de l’Orient LENORMANT, ولولا ضيق المقام لأوردنا كلامه معرَّبًا. وعند هذا العاجز قدَحٌ قديم وُجد في جوار شطرة المنتفق بهِ عبارات وعزائم تشبه العزائم السحريَّة الكلدانيَّة القديمة على ما ذكرها العلاّمة لنورمان في كتابه الآخر المترجم بالسحر عند الكلدان.

وممّا حفظوا من عقائد قدماء الكلدان كيفيَّة تولُّد الآلهة وكيفيَّة خلق الإنسان الأوَّل. فإنَّ كتاب الصابئة الموسوم باسم »سِدرا ربّا« (أي الكتاب العظيم) يقول عيْنَ مقال أولئك الكلدان الأقدمين. راجع كتاب الشرق القديم للعلامة المذكور ص 239-240.

ومن تلك البقايا الوثنيَّة الكلدانيَّة عبادة الصابئة من الفرقة الحرّانيَّة للقمر. فإنَّهم بقوا عاكفين على تلك العبادة إلى نحو غرَّة القرن التاسع عشر. وكانت الصابئة الحرّانيَّة تسمّي هيكل القمر هناك: »هيكل سين« كما هو اسمه عند قدماء اليونان. وقد جاء في التاريخ: إنَّ ماقرينس الإمبراطور الرومانيّ قُتل في ذهابه إلى هيكل سين في حرّان ليقرِّب قربانًا مشهودًا«. وقد جاء عن يوليانوس المارق: إنَّه لمّا وصل إلى حرّان وأراد الخروج منها نكس رأسه ساجدًا لآلهة الحرّانيّين فسقط تاجه عن رأسه وصُرع فرسه الذي كان تحته (ابن العبريّ: تاريخ مختصر الدول. طبعة الأب صالحاني اليسوعيّ ص 139). وقد ذكر العرب هيكل سين في كلامهم عن الصابئة الحرّانيَّة ونجتزئ بذكر كلام واحد منهم. قال المسعوديّ في مروج الذهب: »وقد حكى رجلٌ من ملكيَّة النصارى من أهل حرّان يُعرف بالحارث بن سنبساط للصابئة الحرّانيّين أشياء ذكرها من قرابين يُقرِّبونها من الحيوان ودُخن للكواكب يبخرون بها«. وغير ذلك ممّا امتنعنا عن ذكره مخافة التطويل. »والذي بقي من هياكلهم المعظَّمة في هذا الوقت وهو سنة 332 هـ (934م) بيتٌ لهم بمدينة حرّان في باب الرقَّة يعرف بمصلينا (كذا في النسخة المطبوعة في مصر، وفي مخطوطٍ بمينسينا وهو الأصحّ عندي. لأنَّ ذلك الهيكل كان يسمّيه اليونان: هيكل مين Mhn وهو الإله القمر عند يونان حرّان وفريجية في ذلك العهد. و سين هو اسمه باللغة الكلدانيَّة القديمة (فكأنَّ المسعوديّ سمع باسم ذلك الهيكل باليونانيَّة فظنَّه اسمًا مركَّبًا ثمَّ صحَّفه الكتّاب لعجمة الكلمة) وهو هيكل آزر أبي إبرهيم الخليل عم«.

ومن الآثار الوثنيَّة الكلدانيَّة أو الأشوريَّة عند الصابئة الحاليّين أسماء مركَّبة من كلمتين أُولاهما اسم أو فعل وثانيهما اسم الجلالة: »إيل«. وأوَّل من أحدث هذا البناء الكلدانيّون الصابئون وعنهم أخذها الإسرائيليّون. وقد بيَّنتْ صحَّة هذا الرأي مكتشفات هذه الأيّام. ومن تلك الأسماء الكلدانيَّة القديمة: »سين إيلو« (أي بعل إلهي) وأربَع إيلو (وهو اسم أربيل الحاليَّة. وأربيل منحوتة من تلك ومعناها: مدينة أربعة الآلهة(5) وشُمولا إيلو (أي ألا أُحبُّ إيلو هنا) وأبل إيلو (أي أنت ابن إيلو) وأبو إيلو (أي أبوك هو إيلو) ومَنُّو إيلو (المنحوتة من: »منُّو كِمْ إيلو« أي مَن مثل إيلو. فنقل العبرانيّون هذا اللفظ والمعنى فقالوا »ميكائيل« المركَّبة من »مي كَ إيلو« أي: »مَن مثل الله« وبِظُلْ إيلو (أي أنا بظلِّ إيلو) ويوسف إيلو (وأصلها: أبل يوسف إيلو أي: ابن زادهُ إيلو) والصابئة الحاليّون نقلوا هذا التركيب إلى أسماء روحانيّيهم الذين في السماء. لما في اسم إيل أو إيلو من العظمة والجلالة والربوبيَّة فقالوا مثلاً: هيويل (وهو قلب وتصحيف ؟؟؟؟ أي قوَّة ومعناه: الروحانيّ القويّ أو قوَّة الله أو إيل القويّ) وتَقفيل (أي الروحانيّ القدير) ويُوئيل (أي الروحانيّ المُريد) إلى غير ذلك ممّا يطول ذكره ويصعب حصره.

وختامًا لهذا الطور نقول: لله درّ ابن العبريّ ما أحسن قوله في هذا الصدد وقد ذكر وما ذكر وكأنَّه رأى الأمور البارحة ورواها اليوم إذ قال في الصفحة 266: »والذي تحقَّقنا من مذهب الصابئة أنَّ دعوتهم هي دعوة الكلدانيّين القدماء »بعينها« وقبلتُهم القطب الشماليّ (إلى يومنا هذا) ولزموا فضائل النفس الأربع (حتّى هذا اليوم) و»المفترض« عليهم »ثلاث« صلوات أوَّلها قبل طلوع الشمس بنصف ساعة أو أقلَّ لتنقضي مع الطلوع ثماني ركعات في كلِّ ركعة ثلاث سجدات. والثانية انقضاؤها مع نصف النهار والزوال خمس ركعات في كلِّ ركعة ثلاث سجدات. والثالثة مثل الثانية تنقضي مع الغروب (وهذا كلُّه جارٍ إلى هذا اليوم بحرفِه). والصيام المفروض عليهم: ثلاثون يومًا أوَّلها الثامن من اجتماع أذار وتسعة أيام أوّلها التاسع من اجتماع كانون الأول. وسبعة أيام أولها ثامن إشباط ( لم يغيِّروا من ذلك شيئًا إلى هذا اليوم). يدعون الكواكب (هذا أمر لا يشوبُه ريبٌ) وقرابينهم كثيرة لا يأكلون منها بل يحرقونها. (كلُّ ذلك صحيح). ولا يأكلون الباقلّى والثوم وبعضهم اللوبياء والقُنَّبيط والكرنب والعدس (هذا قد أبطله المُحدثون لإقامة الصابئة الحاليّين في بلاد ليس فيها طعام آخر سوى هذه القطّانيّ). وأقواله قريبة من أقوال الحكماء ومقالاتهم في التوحيد على غاية من التقانة. ويزعمون أنَّ نفس الفاسق تُعذَّب تسعة آلاف دور ثمَّ تصير إلى رحمة الله تعالى«. (وهذا هو نفس معتقدهم إلى هذا اليوم).
الصابئة وعلاقتها بالفلسفة وبالمسيحية

1- طور إدخال آراء فلسفيَّة في الصابئيّة

لمّا فسدت الأديان، وبلغت هذا المبلغ من الضلال والطغيان، عمَّت الصابئيَّة، بفرعيها الوثنيَّة والمجوسيَّة، جميع البلدان، وعموم سلائل الإنسان. وبقيت محافظة على ذاك المعتقد أو الإيمان، برهةً مديدةً من الزمان. لا بل وبقي منها من حافظ عليه حتّى الآن. أمّا الصابئة التي بقيت منحصرة في ما نسمِّيه اليوم ببلاد العرب وجنوبي تركيَّة آسيَّة ووسطها، فإنَّها لا زالت متوغِّلةً في عقائدها، مجدِّدة آراءها على الدوام. على أثر ما ينبغ على طول الأيّام، من المذاهب الدينيَّة، والتعاليم الفلسفيَّة. وكما أنَّه ليس بيدها كتاب مُنزل تعتمد عليه، أو سند تستند إليه، وأنَّ لا مناص لها من مخالطة الأقوام التي تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، اندفعت وراء تلك الآراء كأنَّ وراءها السيل الجحاف. وهكذا »فرارة تسفَّهت قرارة« حتّى آل بها الأمر إلى ما آل. أمّا الأجيال الصابئيَّة التي شطَّ مزارها، واعتزلت الأمم الغريبة الجنس فإنَّها بقيت متحذِّرة حذَر القرلّى من البدع والمبتدعات، ناظرة إليها نظرها إلى شرٍّ عظيم وضرٍّ جسيم حتّى ثبتت في وثنيَّتها أو مجوسيَّتها إلى يومنا هذا.

ولمّا رأى الله عزَّ شأنه ما وصل إليه ابن آدم من التيه والضلال، ولم يسلم من الغواية جيل من الأجيال، أراد أن يصطفي من بين الأمم، أمَّة يقيها من التُهم. لتبقى محافظةً على عبادة الله الصمد، الواحد الأحد، وهو من عنده يمدُها بعونه، ويرعاها بعينه، وندبَ لأن يكون رئيسها الهمّام، وإمامها المقدام، ذاك الرجل العظيم المعروف يومئذٍ باسم أبرام. فقال له: »اخرج من أرضك (أي أور الكلدانيّين) وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريكها. وأنا أجعلك أمَّةً كبيرةً وأباركك وأعظِّم اسم... فخرج (ومن معه) من أور الكلدانيّين ليذهبوا إلى أرض كنعان فجاءوا (حرّان وأقاموا هناك... وكان أبرام ابن خمس وسبعين سنة حين خرج من حرّان (سفر الخلق ]1التكوين[ 12: 1-5 و11: 31) ومنذ اصطفى الله أبرام أخذت الصابئة بالتزعزع.

والمأثور عن الخليل أنَّه وقعت له مجادلات كثيرة بينه وبين أبناء جلدته من الصابئة الكلدان، حتّى إنَّ هؤلاء زجُّوه مرَّة في النار فجعلها الله عليه بَردًا وسلامًا. (وهذا الرأي هو رأي العرب بأسرهم من نصارى ومسلمين. وهو رأي اليهود أيضًا ورأي القدّيس هيرونيموس في تفسيره لسفر الخلق (Trad. Heb. In Gen.) لا وبل نسخة التوراة اللاتينيَّة المعروفة بالفلكاتا أي العاميَّة تُشير إلى ذلك من طرفٍ خفيّ فإنَّها تقول ما نصُّه: Tu… Domine… qui… eduxisti eum (ٍAbra) de igne Chaldaeorum. Neh. IX, 7، ومعناه: أنت الربُّ الإله الذي أخرجته (أي أبرام) من نار الكلدانيّين. أمّا ترجمة الآباء اليسوعيّين فعرَّبت الآية عن أصلها العبرانيّ فقالت: »من أور الكلدانيّين«. وسبب هذا الفرق في الاستخراج أنَّ اسم النار واسم مدينة الكلدانيَّة أي أور هما واحد بالعبريَّة.

والظاهر من التنزيل الجليل أنَّ إبراهيم الخليل هدى إلى الله قومًا من الصابئة إلى الدين القويم. وممّا يثبت كلامنا هذا آية التوراة القائلة: فأخذ أبرام... النفوس التي امتلكها في حرّان وخرجوا ليمضوا إلى أرض كنعان (سفر الخلق 12: 5)(6).

وممّا يؤيِّد قولنا هذا أوَّلاً: الرواية التاريخيَّة نفسها. ثانيًا: اللغات الساميَّة جميعهنَّ، ثالثًا: شرح لغويِّي العرب للفعل الذي اشتقوه من الحنفيَّة أي تحنَّف فإنَّهم قالوا في تفسيره على ما نقله صاحب التاج. عمِل عمَل الحنيفيَّة. نقله الجوهريّ: يعني شريعة إبرهيم... لأنَّه تحنَّف عن الأديان (الوثنيَّة والمجوسيَّة والصابئيَّة) ومال إلى الحقّ... أو تحنَّف اختتن (كما فعل ذلك إبرهيم فكان أوَّل من اختتن وختن) أو اعتزل عبادة الأصنام (كما اعتزلها الخليل) وتعبَّد (كما تعبد أبو المؤمنين). رابعًا: قول عرب الجاهليَّة هذا المقال. أورد صاحب التاج في مادَّة الحنيف ما نصُّه: قال أبو عبيدة: وكان عبدة الأوثان في الجاهليَّة يقولون نحن حُنفاء على دين إبراهيم. فلمّا جاء الإسلام سمَّوا المسلم حنيفًا. وقال الأخفش: وكان في الجاهليَّة يُقال: من اختتن وحجَّ البيت قيل له حنيف لأنَّ العرب لم تتمسَّك في الجاهليَّة بشيء من دين إبرهيم غير الختان وحجِّ البيت. وقال الزجاجيّ: الحنيف في الجاهليَّة من كان يحجُّ البيت ويغتسل من الجنابة ويختتن. فلمّا جاء الإسلام كان الحنيف المسلم لعدولِه عن الشرك«.

وقد أوردنا كلَّ ذلك من إبرهيم الخليل ليتبيَّن للعاقل أنَّ الصابئة لم يدخلوا شئًا في دينهم على عهده بل اهتدت طائفة منهم على أيديه. وأخذت وطائد معتقدهم بالاعتزاز وقد أورد العرب تفصيل ما دار بينه وبين مناظريه في كلام طويل لا محلَّ لذكره هنا. وإن شئت أن تقف على شيء منه فاطلبه في كتاب المِلل والنحَل للشهرستانيّ.

ولمّا جاء موسى الكليم، وسنَّ السُّنن على سَنن قويم. ورسم رسوم الذبائح والقرابين وعيَّن المحلَّل والمحرَّم أكلُه من الحيوانات والطيور والأسماك بكلامٍ مُبين، وانتشر دين اليهود في المعمور. وأُصلحت ذاتُ البين بين الآمر والمأمور. فقويت شوكتهم، وامتدَّت سطوتهم، أَدخل الصابئة شيئًا كثيرًا من الشعائر الدينيَّة، والرسوم الموسويَّة، إمّا ليعمُّوا على الأغرار بقاءهم على عبادة الكواكب والأوثان، وإمّا تظاهرًا باليهوديَّة ليُترَكوا وشأنهم على ما هم عليه من الطغيان. وسوف ترى في محلِّه السنن التي اقتبسوها من الموسويَّة، ما لا يبقي ريبًا في الحقيقة الراهنة التاريخيَّة، إلاَّ أنَّهم لم يقبلوا قيدًا من تلك القيود، وهو الختان المعتبر علامةً مميَّزة لليهود. وعندهم من يُختن، يتهوَّد فيُلعن. فلهذا لا يكرهون الختان، بل يكرهون أعظم الكراهية كلَّ دين من الأديان، أُدخِلت فيه هذه السنَّة ولا يخالطون المعذور إلاَّ بكلِّ انتباه وفطنة. وإذا كلَّموه يغتسلون بعد ذلك، لأنَّهم يعتبرون مخاطبته جنابةً بل من أعظم المهالك.

وإنَّما لم نعيِّن لأطوار الصابئة طور اقتباسهم السنن الموسويَّة لأنَّ هذه القُرُبات داخلة في إقامة الشعائر ولا تمسَّ المعتقد بشيء. وإنَّنا قد قسمنا تلك الأقسام الكبرى من جهة المعتقد لا من جهة المناسك إذ لو أردنا أن نلتفت إلى إدخال الشعائر لاتَّسع علينا الخرق وامتنع الرَتْق.

وبقيت الأمم منقسمة إلى تلك الأقسام العظمى في الدين حتّى جاء عصر فلاسفة اليونان فامتدَّت مذاهبتهم بامتداد سطوة ملوكهم فأدخل الصابئة أيضًا شيئًا كثيرًا منها. ومن أخصِّ الأسباب التي حملتهم على التهافت عليها تهافُتَ الفراش على السراج أنَّ تلك المذاهب هي من نتائج الوثنيَّة أو الصابئيَّة الأولى موسَّعة ومَزيد عليها فيها. فلهذا كان دخولها إليها أسرع من النار في يبيس العرفج. فأخذ شيوخ الصابئة آراء مختلفة من مذاهب أولئك الفلاسفة من أفلاطونيّين وأرسطوطاليّين ورواقيّين وإبّيقوريّين وحلوليّين على اختلاف أصلهم من يونانيّين ومصريّين وسوريّين، فنشأت حينئذٍ فرق عظيمة في الصابئيَّة امتازت كلُّ فرقةٍ عن أختها بكمِّيَّة مقتبَسها من تلك الآراء أو بما قبلته منها أو رذلته.



إلاَّ أنَّ هذه الفرق(*) وإن تعدَّدت شُعَبها وشِعابها واختلفت أسماؤها وألقابها فإنَّها ترجع إلى أربع فرَق كبرى. وقد رأيتُ أفضل متكلِّمي الأشعريّين سيف الدين أبا الحسن علي بن أبي علي الآمديّ قد أحسن تمييز هذه الفرق الأربع وفاق سائر كتبة العرب ومؤرِّخيهم في وصفها وإنعام النظر في تدقيق البحث عنها وذلك في كتابه الجليل المترجم بكتاب أبكار الأفكار وهو غير مطبوع إلى يومنا هذا وعزيز الوجود. ولهذا أورد كلامه هنا بتمامه أوَّلاً إثباتًا لدرر كلامه ومعرفة مقاله وثانيًا إقرارًا بفضله وعلوِّ مكان كماله. قال ولله درُّه من قائل:

»الفرقة الأولى: »أصحاب الروحانيّات« وقد يقال ذلك بالرفع(1) أخْذًا من الروح وهو جوهر. وقد يُقال بالنصب(2) وهو حالة خاصَّة به. وقد زعم هؤلاء أنَّ أصل وجود العالم يتقدَّس عن سمات الحدَث(3) وهو أجلّ وأعلى من أن يتوصَّل إلى جلاله بالعبوديَّة له والخدمة من السفليّات وذوات الأنفس المنغمسة في عالم الرذائل والشهوات. وإنَّما يُتقرَّب إليه بالمتوسِّطات بينه وبين السفليّات وهي أمور روحانيَّة مقدَّسة عن الموادّ الجِرمانيَّة(4) والقوى الجسمانيَّة. والحركات المكانيَّة والتغيُّرات الزمانيَّة. في جوار ربِّ العالمين، مجبولون على تقديسه وتمجيده وتعظيمه دائمًا وسرمدًا. قالوا: وهم إلهتنا وأربابنا ورسائلنا(5) إلى حاجاتنا. وبهم يتقرَّب إلى الله تعالى. وهي المُديرة للكواكب الفلكيَّة. والمدبِّرة لها على التناسب المخصوص بحيث يتبعها انفعالات في العناصر السفليَّة وحركات بعضها إلى بعض وانفعال بعضها عن بعض عند الاختلاط والامتزاج المُفضيّ إلى التركُّب الموجب لتنوُّع المركَّبات إلى أنواع المعادن والنبات والحيوانات وتصريف موجودات الأعيان من حالٍ إلى حال ومن شأنٍ إلى شأن إلى غير ذلك من الآثار العلويَّة والسفليَّة. وزعموا أنَّ الكواكب الفلكيَّة هي هياكل هذه الروحانيَّات (les éons) وإنَّ نسبة الروحانيّات إليها في التقدير(6) لها والتدوير نسبة الأنفس الإنسانيَّة إلى أبدانها. وإنَّ لكلِّ روحانيّ هيكلاً يخصُّه، ولكلِّ هيكل فلكًا يكون فيه. وزعموا أنَّ المعرِّف لهم غارَميون(7) وهَرمس اللذان هما أصل علم الهيئة وصناعة النجامة. وهَرمس(8) هو أوَّل من قسَّم البروج ووضع أسماءها وأسماء الكواكب السيّارة ورتَّبها في بيوتها وبيَّن الشرف والوبال والأوج والحضيض والمناظر والتثليث والتسديس والتربيع والمقابلة والمقارنة والرجوع والاستقامة والميل والتعديل واستقلَّ باستخراج أكثر الكواكب وأحوالها. وقيل إنَّ غارميون هو شيت وهرمس هو إدريس. عم(9).

»الفرقة الثانية: »أصحاب الهيكل«. فإنَّهم قالوا إذا كان لا بدَّ للإنسان من متوسِّط فلا بدَّ من أن يكون ذلك المتوسِّط ممّا نشاهده ونراه حتّى نتقرَّب إليه. والروحانيّات ليست كذلك فلا بدَّ من متوسِّط بينها وبين الإنسان. وأقرب ما إليها هياكلها فهي الآلهة والأرباب المعبودة والله تعالى ربّ الأرباب وإليها التوسُّل والتقرُّب. فإنَّ التقرُّب إليها تقرُّبٌ إلى الروحانيّات التي هي كالأرواح بالنسبة إليها. ولا جرم أنَّهم دعوا إلى عبادة الكواكب السبعة السيّارة ثمَّ أخذوا في تعريفها وتعريف أحوالها بالنسبة إلى طبائعها وبيوتها ومنازلها ومطالعها ومغاربها واتِّصالاتها ونسبتها إلى الأماكن والأزمان والليالي والساعات وما دونها إلى غير ذلك. ثمَّ تقرّبوا إلى كلِّ هيكل وسألوه بما يناسبه من الدعوات فيما ينسابه من الأماكن والأزمان واللباس الخاصّ به والتختُّم بالخاتم المطبوع على صورته. والهياكل عندهم أحياء ناطقة بحياة الروحانيّات التي هي أرواحها ومتصرِّفة فيها. ومنهم من جعل هيكل الشمس ربّ الهياكل والأرباب. وهذه الهياكل هي المدبِّرة لكلِّ ما في عالم الكون والفساد على ما سلف ذكره في تعريف مذهب الفريق الأوَّل. وربَّما احتجُّوا على وجود هذه المدبِّرات وأنَّها أحياء ناطقة بأنَّ حدوث الحوادث إمّا أن يكون مستندًا إلى حادث أو قديم، ولا جائز أن يكون مستندًا إلى حادث إذ الكلام فيه كالكلام في الأوَّل والتسلسل والدَّور مُحالان فلم يبقَ إلاَّ أن يكون مستندًا إلى ما هو في نفسه قديم. وذلك القديم. إمّا أن يكون موجبًا بذاته أو بالاختيار. فإن كان الأوَّل فإمّا أن يكون كلُّ ما لا بدَّ منه في إيجاد الحوادث متحقِّقًا معه أو إنَّه متوقِّف على تجدُّد. فإن كان الأوَّل فيلزم قِدَم المعلول والقدم علَّته وشرطه وهو محال. وإن كان الثاني فالكلام في تجدُّد ذلك الأمر كالكلام في الأوَّل وهو تسلسلٌ. فلم يبقَ إلاَّ أن يكون فاعلاً مختارًا وليس في عالم الكون والفساد فاعل قديم مختار إلاَّ الأفلاك والكواكب ولذلك حكموا بكونها أحياء ناطقة.

»الفرقة الثالثة: »أصحاب الأشخاص«. وهؤلاء زعموا أنَّه إذا كان لا بدَّ من متوسِّط مرئيّ فالكواكب وإن كانت مرئيَّة إلاَّ أنَّها قد تُرى في وقتٍ دون وقت لطلوعها وأفولها وظهورها وصفائها نهارًا. فدعت الحاجة إلى وجود أشخاص مشاهدة نُصْب أعيننا تكون لنا وسيلة إلى الهياكل التي هي وسيلة إلى الروحانيّات التي هي وسيلة إلى الله تعالى. فاتَّخذوا لذلك أصنامًا مصوَّرة على صور الهياكل السبعة كلّ صنم من جسم مشارك في طبيعته لطبيعة ذلك الكوكب ودعوهُ وسألوه بما يناسب ذلك الكوكب في الوقت والمكان واللبس والتختُّم بما يناسبه والتخيُّر المناسب له على حسب ما يفعله أرباب الهياكل إلاَّ أنَّها هي المعبودة على الحقيقة. وهذا هو الأشبه بسبب اتِّخاذ الأصنام. ويُحتمل أن يكون اتِّخاذ الأصنام بالنسبة إلى غير هذه الفرقة وتعظيمها لاتِّخاذها قِبْلة لعباداتهم. أو لأنَّها على صورة بعض من كان يُعتقَد فيه النبوَّة والولاية تعظيمًا له. أو لأنَّ قدماء أرباب الهياكل والأصنام وعلماءهم ركَّبوا طلاسم ووضعوها فيها وأمروهم بتعظيمها لتبقى محفوظةً بها. وإلاَّ فاعتقاد الإلهيَّة فيما اتَّخذوا صورًا من الأخشاب والأحجار وكونه خالقًا لمن صوَّره ومبدعًا لما وجودُه قبل وجودِه من العالم العلويّ والسفليّ ممّا لا يستجيره عقل عاقل. بل البداهة شاهدة بردِّه وإبطاله وإن وقع ذلك معتقد البعض الرقاع (كذا) ومن لا خلاّق له من العوامَ منهم فلا يُلتفت إليه ولا معوَّل عليه.

»الفرقة الرابعة«: »الحلوليَّة«(10). وهؤلاء زعموا أنَّ الإله المعبود واحد في ذاته وأنَّه أبدع أجرام الأفلاك وما فيها من الكواكب. وجعل الكواكب مدبِّرًا لما في العالم السفليّ. فالكواكب آباءٌ أحياء ناطقة والعناصر أُمَّهات. وما تؤدِّيه الآباء من الآثار إلى الأمَّهات تقبلها بأرحامها فتحصل من ذلك المواليد وهي المركَّبات. والإله تعالى يظهر في الكواكب السبعة ويتشخَّص بأشخاصها من غير تعدُّد في ذاته وقد يظهر أيضًا في الأشخاص الأرضيَّة الخيَّرة الفاضلة. وهي ما كان من المواليد وقد يتركَّب من صفو العناصر دون كدرها. واختصَّ بالمزاج القابل الظهور الربّ تعالى فيه إمّا ذاته وإمّا صفة من صفات ذاته على قدر استعداد مزاج ذلك الشخص. وزعموا أنَّ الله يتعالى عن خلق الشرور والقبائح والأشياء الخسيسة الدنيئة كالحشرات الأرضيَّة ونحوها بل هي واقعة ضرورة اتِّصالات الكواكب سعادةً ونحوسة واجتماعات العناصر صفوةً وكدورة. وزعموا أيضًا أنَّه على رأس ستَّة وثلاثين ألف سنة وأربعمائة وخمس وعشرين سنة يحدث روحانيّ على رأس الدور الآخر وكذا إلى ما لا يتناهى. وإنَّ الثواب والعقاب على أفعال الخير والشرّ كلّ دور واقع لكن في الدور الذي بعده في هذه الدار لا في غيرها.

والصابئة على اختلافهم في المبادئ متَّفقون على وجوب ثلاث صلوات لهم والاغتسال من الجنابة ومسِّ الميت وعلى تحريم لحم الخنزير والكلب والجزور وما له مخلبٌ من الطير والسكر. وأمروا بالنكاح بوليّ وشهود ونهوا عن الجمع بين امرأتين(11) وعن الطلاق إلاَّ بحكم حاكم شرعيّ. إلى كثير من الأحكام المشروعة في شرعنا هذا«. كلام سيف الدين الآمديّ.

وقد ذكر ابن خلدون هذه الفِرق بعبارة أخرى قال:

»إنَّ الصابئة هم القائلون بالهياكل والأرباب السماويَّة والأصنام الأرضيَّة وإنكار النبوءات وهم أصناف وبينهم وبين الحنفاء مناظرات وحروب مهلكة. وتولَّدت من مذاهبهم الحكمة الملطيَّة. ومنهم أصحاب الروحانيّات وهم عبّاد الكواكب وأصنامهم التي عُملت على تمثالها. أمّا الحُنفاء فهم القائلون بأنَّ الروحانيّات منها ما وجودها بالقوَّة ومنها ما وجودها بالفعل. فما هو بالقوَّة يحتاج إلى ما يوجده بالفعل ويقرُّون بنبوّة إبرهيم وأنَّه منهم وهم طوائف منها: الكاظمة أصحاب كاظم بن تارح. ومن قوله إنَّ الحقَّ بين شريعة إدريس وشريعة نوح وشريعة إبرهيم. ومنها: البيدانيَّة أصحاب بيدان الأصغر. ومن قولِه اعتقاد نبوَّة من يفهم عالم الروح وإنّ النبوَّة من أسرار الإلهيَّة. ومنها: القنطاريَّة أصحاب قنطار (والأصحّ قينانيَّة أصحاب قينان) بن أرفكشاد ويقرُّ بنبوَّة نوح. ومنها: أصحاب الهياكل ويرون الشمس إله كلِّ إله. والحرّانيَّة. ومن قولهم: المعبود واحدٌ بالذات وكثير بالأشخاص في رأي العيان وهي المدبِّرات السبع من الكواكب والأشخاص الأرضيَّة الخيِّرة العالمة الفاضلة«.

وبين أسماء هذه الفرق وأسماء الفرق التي ذكرها سيف الدين الآمديّ بونٌ بعيد بيِّن. غير أنَّ الفِرق التي ذكرها هذا العلاّمة الأخير هي أصحّ لأنَّها تنطبق على حقائق راهنة ومذاهب ذكرها أغلب المؤرّخين والعلماء.


2 - آراء نصرانيَّة

بقي الصابئة دهرًا طويلاً ذاهبين مذاهب الفلاسفة العظام، خابطين فيها ولا خبط عشواء في حالك الظلام، حتّى انتُضي نصل الصباح الإنجيليّ وبرز جبين المصباح الجليليّ. بعد أن سبقته تباشيره بقليل من الزمان، بشخص الوليّ الأعظم يوحنّا المعمدان، الذي نفذت كلمته في القوم. إذ لم يُرَ مثله إلى ذلك اليوم، لا بل وإنَّ السيِّد المسيح، طلب منه العماد بكلام جليّ فصيح. فرأى البعض في ذلك علوَّ منزلة الحصور، فوق منزلة المسيح الطاهر الطهور. وقد حاول الصابغ مرّات كثيرة، صدَّ تلامذته عن هذه الأوهام الكبيرة، فكأنَّه كان يضرب في حديد بارد، أو يوردهم شرَّ الموارد. فلجأ إلى وسيلة ظنَّ أنَّها تكون الضربة القاضية، وأنَّها تفعل فيهم فعل السيوف الماضية. وذلك أنَّه »أرسل اثنين من تلامذته يقولون له: أأنت الآتي أم ننتظر آخر« (مت 11: 3) وكما أنَّنا نعلم العلم اليقين أنَّ يوحنّا لم يشكَّ ساعة بألوهيَّة المسيح وببعثته لفداء العالم، لم تكن إذن الغاية من هذا الاستفسار والاستخبار إلاَّ تهذيب عقول تلامذته الذين لم تنجع فيهم أساليب الكلام فأراد بهذه الواسطة أن يُري لبعض من تلامذته الشاكّين المرتابين أنَّ أعمال المسيح التي يراها الشاهدان رأي العيان إنَّما هي آي لا يأتيها إلاَّ من كان نبيٌّا عظيم الشأن أو إلهًا حقيقيٌّا له ملء السلطان، على عناصر الأرض والأكوان. وإنَّنا لا نشكُّ في أنَّ كثيرين من هؤلاء التلامذة المُتتلمذين ليوحنّا المعمدان بقوا على عماهم وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وانضمُّوا بعد ذلك إلى بعض المتشدِّقين المتفلسفين الذين أرادوا أن يجمعوا بين مخترعات ومبتدعات مخيَّلتهم وبين التعاليم الصحيحة وانتحلوا لهم اسم »منداني دْيَهي« أي تبعة يحيي.

وذلك إنَّه لمّا صعد المسيح إلى السماء وأخذ رسله يبشِّرون بالإنجيل قام وقتئذٍ واحد ممَّن آمن بابن الله واعتمد على أيدي الرسل واسمه سيمون ينشر وباء تعاليم فاسدة لأنَّ الحواريّين لم يعطوه ذلك الذي ينال به الإنسان حلول الروح القدس على من توضع عليه أيدي المزوَّد بتلك القوَّة (راجع أعمال الرسل في الفصل الثامن) وكان من أمره أنَّه فيما بعد ذلك غدا رأسًا للشيعة الممقوتة التي سُمِّيت بعد زمان باسم »الأدريَّة« (gnostique). ثمَّ جاء بعده من حذا حذوه واقتفى أثره من مثل كربُكراس وباسيليد وفالنتين وساتُرنين الأنطاكيّ ومَيندر السامريّ. فطبَّقت مذاهبهم الشرق كلَّه واندفع وراءهم تلامذة يوحنّا الضالّون وأدخلوا في معتقدهم شيئًا كثيرًا من آراء الأدريّين وأقوالهم الدينيَّة وسُننهم وأحكامهم حتّى أصبحوا أدريّين حقيقيّين لا غير كما تشهد بذلك كتبهم الدينيَّة الحاليَّة. وكما ينطق بهذه الحقيقة الراهنة معنى اسمهم الحقيقيّ بلسانهم وهو »مندايا« الذي معناه: »أدريّون« كما سنثبته في موضعه فيما يلي. وهو أمر لم ينتبه إليه حتّى الساعة علماء الإفرنج وحكماء الشرق والكتبة عن الملل والنحل.

وإنَّما هؤلاء التلامذة وقعوا في مهواة هذه المغواة لأنَّ ذلك من نتيجة أصحاب الضلال فإنَّهم يتشبَّثون بكلِّ بدعةٍ جديدة طلبًا للحقِّ الذي يشعرون بخلوِّهم منه فتتعدَّد بينهم الأقاويل وتكثر فيهم الأضاليل ولا يمكنهم التثبُّت في صراط واحد لأنَّ مثل هذا هو من خواصِّ الحقيقة التي لا تكون إلاَّ واحدة ثابتة غير متزعزعة. ولهذا قام بينهم مُصلحون كثيرون وأئمَّة عديدون حتّى ازدادت بعد ذلك تلك الفرق ولم يكن من الممكن حصرها إذ كلُّ واحدة تدَّعي بالحقِّ والحقُّ بريءٌ منها.

هذا وكما أنَّ ديانة الأدريّين شيئًا كثيرًا من ديانة النصارى ظنَّ بعضهم أنَّهم فرقة منهم حتّى إنَّهم سمَّوهم بنصارى يوحنّا المعمدان (Chrétiens de St Jean-Baptiste) لكنَّ هذا خطأ وزلل لا بل خطل جلَل ركب متنَه الإفرنج ولم يقل به أحدٌ من أبناء الشرق إلاَّ باستنادهم على أقوال أبناء الغرب أو نقلاً عنهم. وهذه التسمية لا تليق بهم ولا تحسن ولا هم ينتحلونها لنفسهم لأنَّ »المسيحيّ« من آمن »بألوهيَّة المسيح لا بنبوَّته« والحال أنَّ المندائيّين لا يؤمنون لا بلاهوته ولا بنبوَّته أن استقرينا ديانتهم في كتبهم الدينيَّة. فكيف تجوَّز للبعض تسميتهم بالنصارى، اللهمَّ إلاَّ أن يُقال إنَّما سمّاهم البعض بالنصارى لأنَّ أصل الأدريّين من النصارى فيكون ذلك حينئذٍ من باب تسمية الشيء باسم ما كان عليه في أصله. قلنا: إنَّ هذا التأويل وإن كان جائزًا وجاريًا في الكلم اللغويَّة إلاَّ أنَّه لا يجوز في المصطلحات الدينيَّة إذ في مثل هذه الأمور يجب التدقيق التامّ والتحقيق الكامل. وإلاَّ اختلط الحابل بالنابل، ولم يُعرف العاقل من الجاهل، والمتديِّن بدين الحقِّ الصادع، من المتديِّن الكاذب المموَّه بالظواهر الخوادع.
هذا ونقف عند هذا الحدّ من الأطوار العظام، وهو الطور الأخير الذي انتهت إليه الصابئة في أُخريات الأيّام. وفي ما نوردُه بعد ذلك من الكلام، أمور تثبت ما أسلفناه من تعريف هذه الفرق أو هذه الأقسام، ومن الله توفيق إلى سواء سبيل المرام.
للموضوع تتمه في المقال الاخر...........



#محمد_برازي (هاشتاغ)       Mohamed_Brazi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخطيئة المُتعمَّدة
- الصراع الروحي في الانسان
- الشيعه المندائيَّة أو المندعيَّة
- الرهبان و المصليانيّة أو جماعة المصلّين
- ظهور التعفُّفيَّة أو حركة المتعفِّفين في المسيحيه
- العالم الغنوصي و الفكر الديني وتطوّراته
- سبب الخلاف في الطبيعتين بين الارذوكس و باقي المسيحيين
- من دون إكراه او ضغط سلم نفسك الى الله
- لا تقلق لعدم سماع أولادك لكلامك ولكن أقلق عندما يراقبك أولاد ...
- مسيحيه المسيح و اليوم طوائف مسيحيه تغير فظيع
- البحث عن الكنسيه الحقيقيه
- الحقد و الكره و ما الحل للخروج من فخ الانتقام؟
- لماذا تغيرت الكنسيه الاولى الى تلك الكنائس اليوم
- مقابله مع انسان ضحى بكل شئ حياته في سبيل ايمانه
- انما الامم الاخلاق
- اراده الانسان و اختيار التعليم المناسب للاولاد
- التخلف و الجهل الاسلامي
- تعاليم المسيحيون الأوائل في المسيحيه
- متى يتعلم رؤوساء الطوائف المسيحيه من البابا فرنسيس
- البابا شنوده السياسي و بيعه الاقباط للسطله


المزيد.....




- تونس: إلغاء الاحتفالات اليهودية بجزيرة جربة بسبب الحرب على غ ...
- المسلمون.. الغائب الأكبر في الانتخابات الهندية
- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...
- “محتوى إسلامي هادف لأطفالك” إليكم تردد قنوات الأطفال الإسلام ...
- سلي طفلك مع قناة طيور الجنة إليك تردد القناة الجديد على الأق ...
- “ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على النايل ...
- مسجد وكنيسة ومعبد يهودي بمنطقة واحدة..رحلة روحية محملة بعبق ...
- الاحتلال يقتحم المغير شرق رام الله ويعتقل شابا شمال سلفيت
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد برازي - ما هي الصابئة أو المندائية