أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فوزى سدره - الحنين للوطن















المزيد.....


الحنين للوطن


فوزى سدره

الحوار المتمدن-العدد: 6176 - 2019 / 3 / 18 - 01:22
المحور: الادب والفن
    


استقل نبيل القطار القادم من بروكلين إلى كوينز .. لم يكن القطار مزدحمًا بالركاب .. فكان من السهل أن يجد له مكانًا ليجلس.. جلس في مكانه .. لا يُبدي رغبة في الحركة ولا يريد للقطار أن يقف ولا يرغب أن يخرج منه .. يتوهج فكره وخياله كونه في قطار أو طائرة أو سيارة .. فيحلق في الفضاء بخياله الذي تارة يشده للماضى وأحداثه .. وتارة يرسم له مسرحًا بشخصيات ليس لها علاقة بالواقع.
لقد ذهب إلى أمريكا هربًا من الواقع الذي تَمَرر فيه .. سلك كل الطرق وكل المحاولات للخروج من هذا الواقع .. ولكن كان قدره أقوى من إمكاناته.. ولم يكن له بابٌ إلا الفرار إلى عالم آخر .. كل ما فيه جديد ..بشر وأماكن ولغة وعادات وسلوكيات.
وقف فكره عند نقطة معينة .. أخذ يتخيل ما حدث ويسترجع المشاهد وكأن الحدث والمشهد ماثل أمامه . إنها الأنوثة تتبختر من أخمص قدميها حتى تموج شعرها الفاحم .. عيناها تتكلم فلا يحتاج لسانها للكلام .. لقد شدته جذبًا قبل أن يعرف من هي وماذا تريد . جاءت إلى عيادته فهو الطبيب الناجح ..الذي لا يكتفي بخبرته .. بل دائمًا ما يتطلع إلى كل جديد في عالم الطب .. أعلن يومًا أنه بحاجة إلى ممرضة .. ولكن مع الأيام تخلى عن هذا الطلب واكتفى بـبيومي أفندي الذي ينظم له العيادة .. يستقبل المرضى .. ويحصل على أتعاب الزيارة .. وينظم دخولهم حسب الترتيب أو حسب ما يضعونه من نقود في درج مكتبه.
سألها بيومي:- خير يا مودمازيل ..تدفعي كشف ولا عاوزة تأخذى ميعاد مقابلة .. ردت عليه فاتن بدلال:
- لا ده .. ولا ده ..أنا عاوزة الدكتور في كلمة خاصة.
اندهش بيومي ورفع عينيه بابتسامة خبيثة:
- انتي تعرفي الدكتور؟
قالت:- طبعًا أعرفه من الإعلان
بيومي:- إعلان إيه؟
قالت:- هو طالب ممرضة وأنا ممرضة .. ما تدخل تقول له.
دخل بيومي أفندي هامسًا للدكتور:
- فيه واحدة ممرضة عاوزة تقابل حضرتك.
اندهش الدكتور نبيل:
- بخصوص إيه؟
قال بيومي :
- ممرضة
- إحنا خلاص مش عاوزين.
ولكن بيومي أفندي تسمر على الباب .. وبنفس الهمس:
- ولكن يا دكتور هي مصممة تشوفك .. وعيناه تقول ولما تشوفها حضرتك حتغير رأيك إن شاء الله.
هز الدكتور رأسه وبصوت منخفض:
- طيب .. بعد ما نخلص المرضى ..خليني أشوفها.
دخلت فاتن بخطوات ثابتة وثقة تامة ..فهي تعرف كيف تكسب المواقف وتفرض الطلبات وتحقق الرغبات .. عيناها مستقرة على عينيه وشفتاها تنفرج عن ابتسامة أنثوية:
- أنا قرأت الإعلان يا دكتور .. خبرة خمسة أعوام تمريض .. ولا أحب العمل في مستشفيات الحكومة .. أفُضل العيادات الراقية .. زي عيادتك المحترمة .. زي حضرتك.
لم ينطق الدكتور نبيل ولم ينبس ببنت شفه.. كان جمالها طاغيًا ساحرًا..ولاسيما أنها تعرف كيف تكحل عينيها وكيف تضع رحيق العسل الذي يناسب شفتيها .. وتحرص على ترك ثغرة في صدرها لتدغدغ بها تخيلات الرجال ..فهي تعرف كيف تلعب بفكر ضعاف الرجال .. ذاك يعطيها زهوًا وكبرياءً.
جلس الدكتور على الكرسي.. وأحس أنه يريد أن يستريح .. وأن يأخذ نفسًاعميقًا حتى يستطيع الكلام.
أمسك بورقة وقلم ووضعهما في يدها:- اكتبي اسمك وتليفونك وشهاداتك وخبراتك وسوف أرد عليكي.
بابتسامة معينة ونظرة بلون الابتسامة قالت:- انت متأكد يا دكتور؟ أنا حانتظر مكالمتك.
قال همسًا : - طبعًا.. طبعًا.. أكيد
خرجت فاتن من الباب .. وعينا الدكتور تلاحقها وتحتويها بكل تقاطيعها .. لم ينم في تلك الليلة .. صورتها ظلت تداعب خياله وفكره وحسه .. ولأول مرة لا يعرف كيف يضبط نفسه .. ولا صورتها الملحة التي تراود ذهنه .. وهو الذي تعامل مع كم من النساء على أنواعهن . لم تلصق صورة من إحداهن .. كما لصقت تلك الممرضة في أعماقه.
وقف خيال الدكتور لحظة وهو جالس صامت في القطار .. تارة يتهم نفسه .. وتارة يلومها .. كيف سقط ومن أين؟ هل هي التي جذبته أم أن في أعماقه جينات تحمل أشعة جاذبة لنوع معين من النساء؟
أخذ يطيب خاطره ويُهدئ نفسه .. ويُقنعها .. لست وحدي.. كم من أباطرة سقطوا في بئر النساء .. الحمد لله .. لقد تخلصت من هذا العنكبوت.
قلبي يعتصر ألمًا ويتمزق حبًا . ابنتي الصغيرة فلذة كبدي.. كيف ظلمتها ؟ هنا تحركت عواطفه كموجة عاتية لا ترحم .. تترك أثرًا في الضمير .. خاطب نفسه :- ما الذي فعلته؟
لو كانت مشكلتك وعذابك مع امرأة.. فما ذنب الطفلة أن تحرم من حنان الأبوة ؟ لا .. لا .. سوف أرجع ..وهنا انحدرت دمعة استقرت على خده.
كانت بجواره امرأة تناهز الحلقة الرابعة من عمرها .. ملامحها خمرية .. تراها من أول وهلة فتحس أنها من بلاد البحر المتوسط .. كانت تنظر في الاتجاه الآخر من خلال نوافذ القطار .. ويسير نظرها عكس اتجاه القطار .. وفجأة استقرت عيناها على نبيل ولمحت الدمعة المستقرة على وجنتيه.. وحلت شفرتها لخبرتها في مصدر الدموع وخاصة دموع الرجال .
سألته:- Are you okay ?
ابتسم نبيل وبإيماءة قصيرة قالI m Fine - :
ثم استطردت : - Are you American ?
هز نبيل رأسه بالنفي .
ثم حدثته بالانجليزية : - يبدو لي انك تتكلم العربية ؟
خفض رأسه وأجاب بصوت خافت : - نعم
وكأنه لا يريد لأحد أن يسمعه أو يعرف أنه يتكلم العربية ..إنه يريد أن يتخلص من كل شيء يربطه بذلك الوطن الذي جاء منه.
الحنين هو أن تحن للمكان الذي ملأك بدفئه واحتضنك باحترام فتحس بانتمائك إليه .. والمقت كل المقت للمكان الذي يجعلك تفقد الثقة فيه وفي نفسك .. ويجلدك بخبرات مؤلمة .. ما إن تهدأ واحدة حتى تقوم الأخرى . لقد هرب من ذلك المكان إلى آخر .. كل ما فيه غريب .. لغة وبشر .. أراد أن يولد كطفل يبدو له كل شيء جديد
دُهش نبيل عندما قالت له السيدة .. ممكن نتكلم العربية
قال : - اتفضلي
- حضرتك نازل فين ؟
- مش عارف يمكن ارجع تاني من حيث أتيت.
ضحكت "حكمة" وهذا اسمها:
- يبدو أنك لسه طازة هنا.
- طبعا وانت ؟
- أنا مولودة هنا .. تعلمت العربية من أبي الذي تزوج أمريكية . أعمل مستشارة في الفكر الإنساني .
- ياه . شيء يستحق الإهتمام .
- وما الغرض من وجودك في أمريكا ؟
- أبحث عن نفسي .
ضحكت ضحكة ذكية :
- وأين تاهت ؟
- ضيعتها في بلدي .. قلت ربما أستعيدها هنا.
- يا صديقى أنت مخطئ . ربما تأتي على البقية . هنا بلد التوهان .. ولا أحد يفيق منها إلا في العالم الآخر.
أحس نبيل بالدماء تستعيد دفأها في عروقه .. فقد ظل أسبوعًا لا يُكلم أحدًا.. لا بالانجليزية ولا بالعربية .. فالكل في طاحونة والكل يديرها . الاحتياج فظيع والرغبات أفظع .
- يبدو أن الحديث لم ينته . أنت تستحق الإهتمام . كيف أتكلم معك ثانية ؟
مد إليها نبيل بكارت الفندق الذي يقيم فيه .. ثم مدت إليه يدها. أرجو أن نجد فرصة أخرى .
- طبعا . طبعا . يحلو لي أن أتحدث مع إنسان ذكي وأنت ذكية .
هز نبيل رأسه .. هكذا حياة الناس .. نتكلم ثم نفترق .. نتكلم عند الحاجة كأي رغبة يُراد إشباعها ثم يذهب كلٌ إلى طريقه .
الكل فقد الإحساس والملامسة والاتصال . آه لو يُعطي كل أحد ولو من فائضه محبة وإخلاص.. لكان العالم قد تغير لشكل آخر .. ولكن المصالح أصبحت قانون العلاقات الإنسانية .
توقف القطار في آخر محطة له ولفظ كل من كان فيه .. تلفت نبيل يمينا ويسارا . لم يجد أحدا غير نفسه .. وعليه أن يرجع لنقطة البدء أو يترك القطار . ترك القطار ولم يعرف أين يضع قدمه . قال في نفسه ليكن يمينا . لعلنا نكون من أهل اليمين ووجد نفسه أمام كافتيريا " ستارباكس "
بدون تفكير طلب فنجان قهوة .. أخذ يرشف القهوة وثبت ذهنه عند الوجيعة .. كيف تزوج هذه المرأة ؟ وكيف كان ضعيفا لدرجة أنها سلبت عقله وجذبته لحيلها الأنثوية ؟
أيمكن أن تكون قد استخدمت معه سحرًا أو تعويذة .. جعلته ينساق إليها كحمل وديع ؟
عندما رآها لأول مرة في عيادته لم يداعب النوم له جفنا . اتصل بها في اليوم التالي وعَينَهَا في عيادته ..ويومًا بعد يوم أصبحت الشخص المسئول عن تنظيم كل أعماله .. ثم سلكت بطريقة ثعلبية حتى تدخلت في حياته الشخصية .. وهو ترك لها الحبل على متسعه كي تلعب بعواطفه؛ تختار له ملابسه .. وتطلب الغذاء والعشاء .. اليوم ينبغى أن تأخذ راحة و غدا هنا أو هناك .. حتى أنه لم يعرف كيف يضع حدودًا أو يرفض أي احتلال منها داخل نفسه . لقد تربعت بالكامل في نفسه وامتلكتها .
وكانت القبلة الأولى لها طعم السحر في أنفاسه حتى استطعمها وأدمنها .. وأصبح يطلبها وهي تتمنع وهو يلح حتى ورطته .. ثم أجبرته أن يحل هذه الورطة بالزواج .
تزوجها مضطرا تحت إلحاح رغباته ورغباتها .. ثم بدأت تتغير يوما بعد يوم .
أريد سيارة وفيلا خاصة .. وتحكمت أيضا في مرضى العيادة . هذه سيدة دلوعة لا أرغب في وجودها بعيادتنا .. إلى أن ضيقت الخناق على ذهابه ومجيئه وتصرفاته .. ولما جاءت ابنته زادت الطلبات وانقلبت شيطانًا .
تَعرف كيف تلعب بعواطفه . ساعة ترضى عنه وساعة تصيبه بالجنون.. ولم يبق أمامه إلا الجنون .. أو ينقذ نفسه بالطلاق .. ولكن ضميره يقف له بالمرصاد والتعنيف . لماذا تريد أن تحرم ابنتك من حنان الأبوة.. أو بالأصح تحرم نفسك من لهفة البنوة ؟
تفتق ذهنه عن حيلة . أفهمها أنه قد عُرض عليه منحة دراسية وعمل بمرتب مغرٍ .. ويمكن أن يقبلوه طبيبا في أمريكا بعد ذلك.. وبمجرد حصوله على ذلك سوف تلحق به . لم يكن يهمها من قراره شيئا غير أن يترك مبلغا من المال مُبالغ فيه .. وكان عليه أن يتصرف ويعطيها ما تريد في سبيل أن يفك الحبل الملفوف حولعنقه .
أمسك ورقة وقلم وأخذ يكتب .. فالكتابة أحيانا ما تكون متنفسا شافيا لمكنونات النفس المتألمة:
سيرني قدري إلى امرأة عرفتها
بعد درك ليلة كشفت عن قناعها
وإذا بها البحر المجنون فغَرَقت في أمواجها
قَذَفَت بى إلى أرض الواقع وبخت سموم رياحها
إلى أين المهرب وكل وادٍ هناك وجهها
امرأة ليس لها مثيل في الدنيا كلها
للحكماء التجأت قالوا ليس هناك حل لها
نصفها الشيطان والنصف الآخر وحش في عقلها
هوايتها قتل الرجال تمضغهم في طعامها
امرأة تحتاج إلى ملاك يعرف أن يطفئ نيرانها
أو إبليس يعرف كيف يُروض ألاعيبها
أما إن كنت إنسانا فعلى الدنيا السلام
والتمس ودها
أو مت أرحم من شرورها

طوت الأيام أسبوع بعد الحديث الذي دار بين نبيل وحكمة .. وتلاطم الهواجس والأفكار ..جعله ينسى كل شيء.. وذات ليلة في نهاية الأسبوع دق جرس التليفون في غرفته . سمع عامل الفندق يخطره أن هناك مكالمة من سيدة .. سأله :
- من تكون ؟
- لم تذكر اسمها .
سمع الدكتور الصوت وتذكرها من أول وهلة .. فصوتها مميز بين آلاف الأصوات
- فاكرني يا دكتور ؟
- طبعا . طبعا . كيف الحال ؟
- أنا تمام وأنت ما الجديد ؟
- لا جديد .. الأيام لا تأتي بما تشتهي الأنفس
- أوكيه. نحب نشوفك.عندك مانع لو عزمتك على الغذا ؟
- لا . كفاية فنجان قهوة .
- ما رأيك غدًا ؟
- وهو كذلك
- أعطني العنوان وسوف أمر عليك غدا .
وفي الغد جاءت بسيارتها الفاخرة وجلس بجانبها . رائحة عطرها ملأت أنفاسه .. استرخى على الكرسى بجوارها وأطلق لنفسه الخيال .
يظن البعض أن حكمة التي عاشت في أمريكا .. ونشأت وتربت بين أب مصري وأم أمريكية .. تعيش الحياة الأمريكية بكل حرياتها ومذاهبها .. وأن لها أفكارا تحررية وتعيش حياتها كما تريد
ولكن . نعم إن كان لها فكر خاص ولكنه فكر منضبط ومبدع . لقد حباها الله بجمال الجسد والروح معا .. بحيث لو وضعت بين ملايين النساء لاختاروها ملكة الجمال .. تختزن في أعماقها إحساسًا حزينًا شفافًا يعطيها قدرة فائقة أن تشعر بأعماق الآخرين .. فتندفع بهذا الإحساس لتضمد جراح الغير وتنسى جراحها . تحمل هموم العالم في داخلها ..وتود وتحلم لو تستطيع بحركة معجزة أن تخفف هموم البؤساء والفقراء والمهانين والمذلين .. ولكنها تقف وتنظر للسماء وتتمنى أن يتحنن الله . لها نظرات مؤثرة تجذب إليها القلوب بحنان ..في سيمفونية موسيقية روحية رائعة ؛ فترفع النفوس والقلوب وتضعها أمام حضرة الله .
نبيل : - فيه ناس تشوفهم من أول نظرة يدخلوا نفسك وتحب تشوفهم على طول .. وفيه ناس من أول نظرة يقلبوا حياتك وتسأل الله أن لايريك إياهم مرة أخرى .. وفيه نساء بيعجلوا برجالهم إلى القبور .
حكمة : - أرى أنك تظلم المرأة كثيرا . أرجو أن أكون محقة في ذلك . أم أن البنت الشرقية بكل موروثاتها قد شكلت حقيقة المرأة في أفكار الرجال ؟
- لكن أنا عندي تجربة خاصة .
- ربما عندك تجربة خاصة .. ولكن كما أسمع وأرى حكايات أبي .. أقول أن الشرق قد عجن المرأة بطريقته الخاصة وجعلها درجة ثانية .. فالمرأة تدخل معركة بكل أظافرها لتنتقل إلى الدرجة الأولى .. وفي أغلب الأحيان لا يُمكنها الرجل من ذلك .. فتصبح كل تصرفاتها عشوائية لأنها تفتقد الثقة في نفسها .
- أراكِ مختلفة .. وقلما نجد هذا الفكر بين النساء .
ابتسمت حكمة ثم حاولت أن تختبره :
- نفترض أن امرأة في بلدكم ابتسمت لرجل عابر في الطريق .. ماذا يحدث ؟
- سيظل يحلم طوال الليل أنه قد تزوجها وربما أنجب منها أطفالا .
- هل هذه أول زيارة لك لأمريكا ؟
- نعم .
- المرأة هنا تبتسم .. بل ومن الممكن أن تعطي قبلة وحضن .. ثم يذهب كل واحد لحاله
ثم استطردت :
- طبعا قبلة على الخد لأكون دقيقة معك ... هل تؤمن أن معرفة الناس تحل مشاكل كثيرة ؟
- لا . أنا أؤمن أن معرفة الناس تجلب متاعب كثيرة .
- ياه . دا انت عندك كمية ضباب في داخلك .
تنهد نبيل وقال: - ممكن . ما باليد حيلة . فيه حاجات تدخل رغما عن الإنسان.
قالت والابتسامة ترتسم على شفتيها :
- طَلَعْ . طَلَعْ .. العمر مرة واحدة والحكمة تقول تعيشه إزاي .
- نعيشه إزاي؟ لما فيه ناس بتختار لنا نعيشه إزاي
- هي دي مشكلة الإنسان . يترك غيره يختار له قراراته وحياته . دي عبودية .
- أول مرة أسمع كلام زي ده من واحدة ست .
- مش قلت لك إنك شرقي.. حاول تفكر غربي ولاسيما أنك في أمريكا .
- وما هو الفكر الغربي ؟
- المرأة هنا درجة أولى .. وأنتم تعتبرونها درجة ثانية . علشان كده بيوت كتيرة متحطمة
- وماذا عن الرجل ؟
نظرت اليه " حكمة " بشعاع من المداعبة والمزاح :
- أعتقد أنه درجة رابعة
- عرفنا المرأة درجة أولى .. والرجل درجة رابعة .. فمن يكون درجة ثانية وثالثة؟
- الأطفال ثم الكلاب .
- طبعا . كلهم براءة ووفاء وإخلاص .
- احنا بنضحك طبعا . يا عم انت وأنا درجة أولى . المهم تحب تيجي البيت ؟
- ابعدينا عن البيوت وما أكثر المقاهي .
جلسا في إحدى الكافتريات . كانت حكمة تريد أن تعرف ما بداخله وكأن رسالتها أن تعرف وتحلل وتجد حلولًا.. أما هو فلا يريد أن يعرف عنها شيئا .. بل وجد إنسانا يتكلم معه ويشعر معه بالارتياح و يساعده أن يضع قدمه في حياة جديدة .
حكمة : - هل تؤمن بالصداقة بين المرأة والرجل ؟
- غالبا ما تنقلب لعلاقة عاطفية .
- بمعنى لو أننا أصبحنا أصدقاء سوف يتطور الأمر إلى علاقة .. كما تسميها عاطفية
- بالتأكيد . إذا أراد طرف من الأطراف .. والطرف الآخر مع الوقت يستجيب
أرادت حكمة أن تعرف درجة ثقافته و درايته لجوانب الحياة .
سألته : - ما رأيك في الدين ؟
- الدين إذا اختلط بأمورالأرضيات تلوث .
- وما هي أمور الأرضيات ؟
- السياسة والمال والمرأة .
- أرى أن نظرتي لك أول مرة في المترو .. لا تخيب .
- ولماذا . هل أنا مجنون ؟
قالت وهي تضحك فتظهر أسنانها البيضاء اللامعة :
- شيء ما في داخلك يجعلك متألما متأملا
قال : - بل أشياء .
- احكِ لي عن واحد منها .
- لقد عجنت كل الأشياء وجعلتهم رؤية ودرسا.
- تسمح لي بسؤال . أنا لا أريد أن أتدخل في أمورك ولكنه مجرد استفسار .
- تفضلي .
- رأيت عندما كنا في المترو دمعة رابضة على خدك . هل هذه الدمعة حركها شيء من أمورك ؟
الدكتور " بتنهد " :
- نعم إنها شيء من أشيائي . انها ابنتي
- إذا . أنت متزوج .
- متزوج وغير متزوج .
- أحب فلسفتك للأمور
- إنها ليست فلسفة . بل واقع .. فبماذا تفسرين بقاء الكثير من الأزواج مرتبطين بعقد ومنفصلين في الواقع بين الجدران وتحت السقف الواحد ؟ وفي الخارج يقومون بمشهد تمثيلي لزوجين سعيدين .. الزواج حياة عملية عميقة تحيا ليس على ورق بل بإحساس ومشاركة . فإذا انت في الإحساس والمشاركة فلا يوجد زواج حتى لو كان مكتوبا في ورقة .
- كلام موجع لكنه في محله .. لكن أنت أمامي متزوج أم غير متزوج ؟
- لقد فسخته بيني وبين نفسي .
- لكنك تقول أن هناك شيئا في داخلك غير متصالح معه.
- نعم هذه مشكلة .
- وكيف تحلها ؟
- انها ابنتي .
- ابنتك جزء من كل .. والقضية أنك لا يمكن أن تحصل على الجزء بدون الكل .
- مش فاهم .
- المثل بيقول من أجل الورد ينسقي العليق ..يعني لازم يكون فيه ثمن .
- وما هو الثمن ؟
- تضحية .
- وما نوع التضحية ؟
- تشيل البيعة كلها . مفيش متعة بدون عذاب ومفيش حب بدون تضحية . ليه عاوز تحرم البنت من أمها ؟ وليه تبني سعادتك على تعاسة غيرك ؟
- ومن هم غيرى ؟
- البنت وأمها .
- يأأاه .. أنا جيت من آخر العالم وتعبت كل التعب ده .. وقفلت شغلي.. وتخليت عن كل شيء وتغربت . كان كل ده ليه ؟
- أنت ترفض الذي اخترته بنفسك .. وبتحاول تهدم المعبد على كل الأطراف .. والهروب هو أشد ضراوة من المتاعب التي تريد التخلص منها .
- أنا لم أختر . أنا خُدعت .
- نحن الذين نخدع أنفسنا .. ثم نُحمل الآخرين المسئولية.
- إن أردت أن تكون درجة أولى . عليك أن تفهم أن المرأة ليست عقلًا كاملًا.. وعلى هذا الأساس تكون المشاركة .. لأن هناك جزء كبير وراءه العاطفة .. وإن لم تكن هناك عاطفة فلا وجود للمرأة .. بل تصبح رجلا .. فمع العقل والعاطفة تسير الحياة .. والرجل مسئول بحكم عقله في إدارة العاطفة وترويضها والسمو بها ..فإذا فشل في ذلك سيكون هو المشكلة في حد ذاتها .
- كنت أنتظر منكِ خلاف ذلك .
- ليس شيئا جديدا .. القضية واحدة والنتيجة واحدة ولكن كل جيل يناقشها بطريقته .. والمرأة هي المرأة .. والمأساة في سوء التفاهم .
- ومن أين يأتي سوء التفاهم ؟
- من الكراهية والبغضة.
- ومن أين تأتي الكراهية والبغضة ؟
- أعتقد من الأنانية والتمييز .
- أنا محتاج أن أبحث عن ذاتي..إذا وجدتها أعرف ماذا أريد .
- ذاتك ونفسك . تخطيء إذا بحثت عنهما في الخارج .. فهما في داخلك وفي بيتك . في زوجتك وابنتك .
- زوجتي ؟!
- نعم زوجتك . مهما كانت فهي التي جاءت بابنتك التي تحبها . أليس كذلك ؟ لماذا تريد أن تفصل الشجرة عن الأرض التي أخرجتها وروتها وأعطتها الحياة ؟
- أنا جئت هنا للتغيير .. فهذا ما أحتاجه
- أتريد تغيير أم تجديد ؟
- وكيف أعثر على التجديد ؟
- أن تبدأ بالحب فعلا . صافيًا شافيًا.
- لقد أحببتها أولا .
- اسمح لي أن أقول وجهة نظري وأنا أشكرك لحسن استماعك .. وهذه ميزة قد لا نجدها في الآخرين .. فكثيرون يسمعون ولا يهضمون ما يسمعونه لأنهم لايريدون أن يسمعوه . فهم ثرثارون.. لم يكن ذلك حبًا. أنت أحببت جمالها ولم تحب ذاتها وهذا الذي استخلصته منك. أحببتها بتعالٍ وكبرياء وأنانية .. فما هو رد الفعل الذي تنتظره؟ عاملتك بالمثل دفاعًا عن كبريائها واعتدادها بنفسها.. فلم تقبل أنت ذلك وكان النشاز والتحطيم.
- كيف عرفتِ ذلك ؟ وأنت لا تعرفين عني شيئًا بالتفصيل.
- إن لم تتكلم .. فعيناك وملامح وجهك هي خير تعبير عما بداخلك .. وأرى أنك خسرت المعركة وتحتاج إلى خوضها مرة أخرى بأسلحة جديدة.
- مَنْ أنتِ ؟ وعن أية معركة تتكلمين؟
- معركة الحب .. الانتصار للحب .. الحب يشفي من أمراض كثيرة ويغفر أخطاء جسيمة ويسمو بالنفس ليجعلها صافية واعية طاهرة .. لأن الحب أساس الوجود .. وهو كل شيء ويخضع له كل شيء وعلى أساسه يكون الوجود .. أراك على خير وأتمنى أن تجد نفسك قريبا.
ظل ساعات الليل يعيد صوتها على مسامعه .. الحب يشفي.. يسمو بالنفس ويطهرها ويزيل كل الفوارق والاختلافات .. أتمنى أن تجد نفسك .. وسوف تجدها في بيتك .. وفجأة سمع صوت ابنته في داخله .. هز في نفسه بركانًا من الاشتياق واللهفة .. وبدون إرادة وبطريقة عفوية أدار قرص التليفون سمع صوت ابنته يناديه:- بابا بابا وحشتني كتير ..نفسي أشوفك بسرعة .. أنا بحبك كتير.. خد ماما .. جنبي عايزة تكلمك .. لم يستطع ترك السماعة .. ترك أذنه لكل ما يقال:
- حبيبي إحنا مشتاقين لتراب رجليك .. وأنا ضعيفة من غيرك.. أنت حياتي . أحبك من كل قلبي.
قال لنفسه :- هذه هي المرأة..دائمًا متغيرة .. لا تستقر على حال .. إنها العاطفة.. والعاطفة إمرأة.
سقطت دمعة أخرى لها معنى جديد .. استقرت على خده الآخر .
استيقظ طفل بريء في داخله .. نسي كل شيء.. وسامح كل شيء.. وغفر لكل شيء.. مرة واحدة ملأ الحب كل كيانه فتخيل أن بإمكانه أن يحضن كل الناس بدون تمييز.. بل ويضحي بحياته من أجل إسعاد نفس شقية.
هل كان هذا تأثير حكمة التي قابلها .. ربما كان نبيل تربة خصبة مفتوحة لكل حنطة تُدفن بداخلها حتى تخرج ثمرًا.
انتظر شروق الشمس بفارغ الصبر .. واتصل بشركة الطيران ليحجزتذكرة في نفس اليوم وفي المطار اتصل بحكمة أكثر من مرة.. لم يسمع غير رسالة تقول " الرقم خطأ .. لا يوجد أحد بهذا الاسم".



#فوزى_سدره (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قاتل بالصدفة
- حكاية زواج
- مهاجر على باب ناشفيل
- الواقعية السحرية في سردية أنا وكتبي وكلبي للمبدع فوزي سدره
- (12) عام جديد
- (11) أنا والأدباء
- (10) حكايتى مع الكتب
- (9) محكمة الضمير
- (8) أنا وكتبى
- (7) ميتشو صديق ميكو
- (6) لماذا الإيذاء
- (5) عودة ميكو وفضائحه
- (4) الإحساس الضائع
- (3) هل للإنسان أن يختار طريقه
- بالقراءة تُقاس حضارة الشعوب
- البحث عن الوفاء


المزيد.....




- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فوزى سدره - الحنين للوطن