أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فوزى سدره - حكاية زواج















المزيد.....


حكاية زواج


فوزى سدره

الحوار المتمدن-العدد: 6161 - 2019 / 3 / 2 - 18:42
المحور: الادب والفن
    


يسألونني كيف عرفت زوجتك وأين قابلتها؟ سؤال فضولي يتطرق أحيانا لفكر الناس لمجرد المزاح أو الفضول أو المسامرة.
قد يقول لك قائل: قابلت زوجتي وتعرفت عليها في السوبر ماركت ..وآخر يقول تعرفت عليها في العمل أو كانت جارتي.. أو صديقة لأختي.. أو رأيتها في النادي.. أو في مؤتمر .. أو في بيت من بيوت الله .. أو في المصيف .. أو هي ابنة العم أو الخال كما يحدث في المجتمعات النائمة في الجهل.
ولكن أن تتعرف على فتاة في القطار مصادفة وتريدها زوجة وتحبها حبًا جمًا.. وتعطيها وعدًا وارتباطًا .. ثم تقابل أخرى في الطائرة فتُنسيك الأولى .. وتتخلى عن وعودك لها . فما بين قطار وطائرة يتحدد المصير.
حكى لي والدي كيف تزوج أمي أيام الزمن الجميل .. كانت المعرفة محدودة .. وكانت هناك وسيطة يطلقون عليها الخاطبة .. امرأة تمارس هذا العمل .. تزور بيت جدي وتحمل معها العشرات من صور الفتيات .. كل صورة أجمل من الأخرى .. وتحرص الفتيات قبل تصويرهن أن تصنع في وجهها البِدَعْ لتغطى المطبات والحفر وحَب الشباب الذي يملؤه وذلك بالأصباغ والمساحيق .. ترسم الحواجب وتفرد الشعر وتلمعه .. وترسم الشفاه بالقلم بما يناسب الوجه .. حتى تكون الصورة .. سبحان من صور .. ينجذب العريس ويذهب إلى بيتها فتنتظره بالاستعداد التام المُقَنَعْ .. وبعد الزواج تظهر الطبيعة على حقيقتها .. فتقول لم أكن أكذب ولكني أتجمل .. ولكن بعد فوات الأوان وبعد وضع القيود والأغلال والأولاد.

ولكن كان لوالدي من الذكاء والفطنة ما جعله يطلب من الخاطبة أن تريه صورة فتاة بدون (ماكياج) .. إلى أن عثر على صورة الفتاة التي صارت أمي.. كان الوسيط رجلًا أو إمرأة يعرف خبايا الأسر وأحوالهم .. فكان يحكي بعضًا من قصص أسرة صاحبة الصورة ولا مانع من نشر بعض غسيلها عن أحوال الأب أو الأم ..فقروديون أو كثرة عيال .. لكي يُقنع العريس أن الأمر سهل في القبول دون شروط .. وأن البنت جميلة ومؤدبة وماهرة في الطهي وشئون المنزل.
وعرف أبي فيما بعد كيف وصلت صورة أمي للخاطبة .. كانت الخاطبة تتقصى أحوال الأسر اللاتي لديهن فتيات في سن الزواج .. ويتفتق ذهنها في كيفية الوصول لهذه الأسر.
وكان جدي والد أمي يمتلك مطاحن للغلال .. وسمعت الخاطبة .. من بعض المحيطين شيئًا عنه وعن طباعه .. وهل له فتيات فيسن الزواج .. ثم بدأت الخطوة التالية فذهبت إليه لطحن بعض القمح.. وفتحت بابًا للكلام .. مارست كل ذلك حتى أصبحت على معرفة بجدي وحصلت على زيارة لبيته .. وكانت أمي في ذلك الوقت تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا.. جميلة بكل ما تحمله من براءة العقل والقلب .. انبهرت الخاطبة بها عندما رأتها تقدم فنجان القهوة .. وقالت لجدي:- ما أجمل ابنتك .. ما شاء الله .. آية في الجمال .. ما اسمها وسنها وغير ذلك من الأسئلة التي تفيدها في عملها.
في أول زيارة كانت تحرص أن تكون الأسئلة عادية .. ثم عادت لتقول لجدي أن عندها شابًا مستقبله رائع .. ترشحه لابنته .. ورد جدي بأنها محجوزة لابن عمها .. فسألته:- وماذا يعمل ابن عمها؟ .. هذا الشاب يعمل بالحكومة .. وله مرتب ثابت .. ومستقبل مضمون .. وبعد إقناع جدي.. طلبت منه صورة ليريها للشاب ولكنه رفض .. فحاولت بكل الطرق حتى حصلت عليها.
هذا ما رواه لي أبي عن كيفية وصول صورة أمي للخاطبة.
نعود لحكايتي .. فعندما تخرجت في كلية الطب .. كان لزامًا عليّ أن أقضي عامين تكليفًا في وزارة الصحة في إحدى قرى مصر النائية .. فكنت أستقل القطار يوميًا من مدينة كفر الدوار إلى إحدى مراكز دمنهور .. وفي ديوان الدرجة الأولى تعرفت على فتاة كانت دائمة الجلوس في نفس الديوان .. بادرتها أولًا بتحية الصباح.. ثم تجرأت وسألتها عن عملها .. فعرفت أنها طبيبة في إحدى الوحدات الصحية في نفس القرية التي انتدبت إليها .
لازالت صورتها ماثلة في ذاكرتي رغم مرور الأعوام .. ولازال صوتها الناعم يرن في أذنيّ رغم بعد الزمان والمكان .. وإن كان لي أن أصفها في كلمات .. وجهها حلو التقاطيع .. تناسق وترتيب دقيق بين الأنف والعينين والفم .. تجد في عينيها الحزن مع البراءة .. ودفء وحنان الطفولة .. ميالة للمداعبة المنعشة للنفس.
لم أعرف ولم أدرك كيف ومتى تعلقت بها .. فقد أحببت القطار ومقاعد القطار وموعد القطار .. بل وعملي الذي كنت أبغضه وأمقته .. صباحًا أشتاق لرؤيتها وأنتظر المساء لأراها ثانية .. حتى نشأت بيننا ألفة ومودة .. كنا نتكلم فيما يحيط بعملنا ثم امتد الكلام إلى جوانب أخرى اجتماعية .. ولمحت خبراتها الثقافية في النواحي الإنسانية .. سألتها مرة في حب استطلاع وفضول واختبار.. ومن كلام الناس تعرفهم وتعرف طباعهم .. ومن أية طبقة ينتمون ..قلت لها:
- ما رأيك في الحب ؟
- صعب.
- ما هو الصعب ؟
- الصعب في أنه معادلة ينبغى أن تكون متكافئة .
- أتخضعين الحب للمعادلات ؟
- الحب كيمياء من نوع خاص .
- لنفترض أنها كيمياء فكيف تضعينها في أنبوبة اختبار ؟
- أن تحب وأن تجد من يحبك فعلا .. فان سقط جانب من الآخر .. فليس هناك حب.. بل مصالح وغايات وإنتاج أطفال مشوهين.
أحببت فلسفتها وبرغم كونها فلسفة .. إلا أنه عند التمعن فيها تجد شيئًا من الحقيقة .. ومع كل يوم يشرق يزداد تعلقى بها.
كيف يتزوج الناس؟ اكتشفت أنها كيمياء تتوهج في شرايين المخ .. ثم يضخها القلب .. ثم نسمعها نبضات تترجم إلى نداء مفعم بالمعاني وهكذا .. أحببتها .. ولكن هل أحبتني هي لكي تتم المعادلة الصعبة؟
تجرأت يومًا ففاتحتها دون مواربة .. ولكنها كانت تنحى بالحديث إلى جانب آخر بكل لباقة وكياسة .. فلم تهدني إلى جواب .. حتى جاء يومٌ وكنا في القطار
قالت:- أتؤمن بالأعراف والتقاليد؟
قلت:- نعم وإلا أكون شاذًا
قالت :- إذًا ! هناك طرف آخر
فهمت أنه ينبغي عليّ أن أزور بيتهم ..حسنًا فقد وصلت لنقطة البداية.
في البداية يتكلم الرجل كثيرًا والمرأة تستمع مستخدمة عيونها .. ثم بعد ذلك يصمت الرجل وتتكلم المرأة كثيرًا.. وعليه أن يكون مستمعًا جيدًا.. كنت ألمح في عينيها سرًا دفينًا لا يعرفه إلا قلبها.. كانت تحاول أن تُخرجه فيتعثر.
ماذا لو أحببت فتاة حتى الثمالة وقررت أن تصبح زوجتك .. وقد أعطتك القبول ومنحتك يدها حتى ملأت الفرحة أنفاسك وكيانك.. ثم فوجئت أن الفتاة التي أحببتها ليست عذراء بل سبق لها الزواج ..وأنها إمرأة مطلقة .
لو كنا في بلاد الغرب لأصبح الأمر لا غرابة فيه ولا يمثل أية مشكلة .. فقد حكى لي صديق عاش فترة في إيطاليا .. وكان له أصدقاء من الشباب والشابات الإيطاليين .. أراد ذات مرة أن يتوسط في زواج صديق له من إيطاليا.. فجلس يصف له العروس الحسناء وأخلاقها ..وقال له أنها عذراء لم يمسها أحدٌ.. فتعجب صديقه وقال:- أهي قبيحة لهذا الحد حتى لا يمسها أحد؟
ولكن في الشرق يُفترض في العروس أن تكون عذراء.. أما غير ذلك فتكثر فيها الأقاويل والاتهامات والاستياءات .. فهي مسألة شرف .. بل و ينوه عن ذلك في عقد الزواج بأن العروس بكر عذراء لم يسبق لها الزواج .. وفي بعض القرى يحضرون داية مخصصة لإثبات أن العروس عذراء .. بدليلٍ يراه الناس ثم يقابلونه بالزغاريد.
فالمطلقة لها مرتبة ثانية .. وفي بعض المجتمعات الشرقية تُعد كلمة "مطلقة" عارًاوخجلًا وتُقابل بنظرات غير بريئة.
فاجأتني فتاتي بأنها ليست عذراء وبأنها مطلقة .. قالت والدموع محتجزة في مقلتيها وقلبها ينبض خوفًا.. ومصيرها مُعلق على جواب مني.. وفي همس وكأنها لا تريد لأحد أن يسمعها إلا أنا:
- أريد أن أقول لك شيئًا مهمًا جدًا.. كنت حريصة ألا أبوح به .. حتى وجدت أنه لزامٌ عليك أن تعرفه .. وقد وصلنا لهذه المرحلة .. وقبل أن تقرر رأيًا..وصدقني ما كنت أنوي أن أضعك أمام الأمر الواقع .. فلك مطلق الحرية .. ولكن من الحكمة أن لا يعرفه من لا يهمه الأمر .. وأنت الآن يهمك الأمر .. أنا امرأة مطلقة .. إن أحببت أن تتعرف على أبي وأمي سوف أحكي لك القصة .. وإن أردت أن تتراجع فنحن أصدقاء وقد استمتعنا بالحديث في القطار.
كانت مفاجأة لي مثل مفاجآت القدر .. فالقدر أحيانا يفاجئنا بالفرح أو بالحزن .. أما أنا فقد قابلتها لا بالحزن ولا بالفرح .. كانت كرياح عاتية مرت ولكن لم يصبني منها شيء.
كان حبي لها وتمسكي بها أقوى من أي خبر .. ولا يهزه أي حدث. لقد أحببت ذاتها في حاضرها ولا يهمني ماضيها بكل ما فيه وصممت أن أشاركها المستقبل .. قلت لها:
- إن أردت أن تحكي احكِ .. وإن لم تريدي.. فكل ما يهمني أن لا تكون هناك حبال مُعلقة تخنق أحدنا.
قالت:
- لقد زوجوني ولم أتجاوز من العمر الرابعة عشر لرجل يكبرني بثلاثين عامًا.. وكل مؤهلاته أنه مليونير .. رآني مع والدي الذي كان يعمل سائقًا لديــه .. وفـاجـــأ والدي بعد لــف ودوران أنه يريدني زوجة .. وسوف تكون كل ممتلكاته وحياته ملكًا لي.. وقد كان .. فلم يستطع والدي أن يرفض هذا الطلب لاسيما أننا كنا في مأزق مالي.. فربما يستغني عن خدماته في سن يتعثر معه التوفيق في عمل آخر.
كنت أرى ندمًا وحزنًا في عيني أبي على اتخاذه هذا القرار..
وكان من حين آخر يتأسف لي قائلًا :
- سامحيني يا بنتي . كان ذلك فوق طاقتي .
أغرقني الرجل بكل ماله وبعطفه .. ولم يرفض لي طلبًا مهما كلفه ورغم ذلك لم أشعر يوما بأية عاطفة أو لمسة حب تجاهه.. ولم أشعر بسعادة ولا بفرحة .. لأن كل أحساسي تجاهه أنه اشتراني..وأننا في نظره سلعة يتمتع بها بثمن .. كان أكثر إحساس يجعلني أمقته هو أنانيته ..وكثيرًا ما كان هو يشعر بذلك فيسألني :- أرى أنك لا تحبينني.
تجرأت ذات مساء - بعد خلاف دب بيننا - أن أواجهه بما أشعر .. قلت له:
- لا أحبك ولا أكرهك .. ولكني لا أشعر براحة واستقرار معك ولا أحس بكياني.. فإن تفضلت عليّ اتركني وشأني.. أرغب أن أعيش حياتي كما أريدها .. أريد أن أختار مصيري بإرادتي.. فلم يكن لي إرادة ولا رضا حين تزوجتني.. وفي عرف القانون .. في هذه الحالة تكون إجراءات الزواج باطلة.
قال بهدوء :
- أنت منفعلة الآن . أتركك لتهدأي فلا يصح أن ننفذ قراراتنا بهذا الانفعال .
كان رجلًا دبلوماسيًا بمعنى الكلمة .. له حنكة في ترويض النفوس.. اكتسبها من ترويض الكلاب . فقد اشترى يومًا كلبًا شرسًا من كلاب الصيد .. وعندما سُئل لماذا تعرض نفسك لخطره قال : إني أعرف كيف أروضه وأجعله هادئًا هدوء المياه الصافية .
مع مرور الأيام ازداد نفوري وعصبيتي.. وكان هو صبورًا جدًا معي.. وجاءت اللحظة التي قسمت ظهر البعير .. قال:
- أنا لا أريد أن أعيش مع أحد لا يحبني وغير سعيد معى . لك ما تشائين .
اتخذنا إجراءات الطلاق .. وبَدَأت حياتي من أول الطريق .. بداية جديدة كلها كفاح وعناء وصمود وثقة .. وهذه قصة أخرى .. لا أحب أن أحكيها فهي تخصني وحدي.. حتى وصلت إلى ما أنا فيه.
كانت هناك قوة تجذبني إليها .. قوة مفعمة بالنشوة .. أو قل: كنت مخدرًا بالسعادة حتى أنني لا أرغب في الخروج من هذه الحالة.. أنا أمام امرأة تحدت وصارعت حتى غيرت مسار حياتها.
حددنا ميعادًا لمقابلة الأهل .. وهو ما يعني موافقتي على ما حدث في ماضيها..واقتناعي بحاضرها ..وحبًا في أن أشاركها المستقبل.
استقبلني أبواها كابن لهما بكل حب واحترام .. وأحسست أن أمها تستقبلني وتضعني على صدرها كطفل تدلله .. ولكن كانت هناك مشكلة كيف أواجهها .. وهناك طرف آخر هو أمي .
قبل أن تعرفوا قرار أمي فيما يخص مصيري.. اسمحوا لي أن أقدم لكم أمي.. واصفًا إياها من أي نوع هي من النساء ..فهي أم تتمني لابنها أفضل زوجة مثل كل الأمهات.. ومن الطبيعي أن تكون الزوجة عذراء لم يمسها أحد .. ماضيها لا تشوبه عورة.. بيضاء .. عينان واسعتان .. غير مجادلة .. تسمع أكثر مما تتكلم .. لها خبرة في إدارة المطبخ .. إنها امرأة لم تتلق حظًا من التعليم ولكن حباها الله بالفطرة .. ثقافة نقية .. لا تعرف المراوغة ولا المداورة .. تقول رأيها بشجاعة تُغضب المتلونين .. فلا يرتاحون لها .. متدينة بالقلب أكثر من العقل ..طَبَعَتْ خوف الله في أعماقها ؛ لذا فقد حباها الله بحكمة روحية تختلف عن حكمة دارسي الشريعة.. هذه هي أمي.. لكنها لا تُقيد استقلالية أولادها .. كانت تقول رأيها وتطبعه في الضمير .. ثم تقول:- لك حرية الاختيار.. ولكن احرص ألا تندم يومًا على قرارٍمعيبٍ اتخذته .. هذه هي أمي.
كنت أحيانا أراقبها في ساعات ابتهالها لله .. فتسأله أن يعطي ابنها المرأة الصالحة التي لا يشوب ماضيها عورة .. جميلة النفس والروح.. وكنت أحيانا أمزح معها قائلا : أفهم جمال النفس والروح.. ولكن ما معنى لا تشوب ماضيها عورة .. فكانت تقول لي : يا بني.. جمال الفتاة هو أن لا تسمح لرجل أن يخدش حياءها الجسدي أو النفسي .. وأن تكون عذراء متوجة ملكة لزوجها .
تذكرت هذا الكلام قبل مفاتحتها فيما أنوي عليه .. حيث كنت أعرف رأيها مسبقًا.. ولا يخفى على نفسي أن هذا أيضًا كان رأيي .. ولكن الحب أحيانًا يولد جسارة ويكسر القيود والتقاليد مثل أمواج البحر العاتية التي من شدة هياجها تقسم الصخور.
قالت أمي رأيها بصراحة .. وختمته بأن هذه هي حياتك .. لك أن تلعب فيها كما تشاء .. ولكن احرص على ألا تندم يومًا على مشهد مصيري لعبته .. وأخطأت فيه.
نشأ صراع رهيب في نفسي بين ضميري وقلبي . بل قل معركة ضارية .. كان من الصعب على نفسي أن تجعل أحدهما ينتصر على الآخر .. لأن أطراف المعركة متساوون في الحجج والدفوع والأدلة وكان علي أن أحسم الأمر وأن أترك للضمير أن ينتصر أو للقلب .. وحدث ما لم يكن في الحسبان . لقد منحتني وزارة الصحة بعثة دراسية لمدة عامين في جنيف وهي فرصة لم يكن من الحكمة أن أرفضها.
تحدثت مع فتاتي وطرحت أمامها كل التطورات وموقف أمي والبعثة .. ومنحتها قبلة مفعمة بالمودة والحنان وقلت لها :
- بعيني سوف أتمسك بك مهما قابلت من عواصف وعقبات.. فبدونك كياني لا يكون كيانًا..وبادلتني قبلة كلها ثقة وامتنان.
الطلاق شيء بغيض .. أبغض الحلال عند الله .. وكان موسى يعطي كتاب طلاق لغلاظة قلوبهم .. جلست أفكر .. لماذا الطلاق ومن المسؤول عنه؟ هل غلظة قلوب الناس .. وما هي الغلظة إلا مصالح ورغبات .. وتناولت حالة فتاتي.. لقد أرغموها على الزواج بكهل يكبرها بثلاثين عاما .. لقد باعوها.
ولكن أين رجل الدين الذي وَثَقَ عقد الزواج ؟ كيف سمح له ضميره المهني أن يوثق عقدًا بين طرفين غير متكافئين .. لقد كانت فتاتي ضحية ما بين أبويها ورجال الدين .. وكم من طلاق ودمار للبيوت كان هؤلاء أطرافا فيها .. وكم من ضحايا أمام المحاكم يُسئل عنهم المجتمع الذي يُصنف هؤلاء بنظرات العار والدونية ثم يضع عليهم القيود والحدود .. وهو الذي يعقد ويربط .. وبعناد لا يشاء حلها .
قالت : - سوف انتظرك.
قلت : - سوف نتزوج هناك .
قالت : - أنا معك في أي مكان تريدني فيه .
الارتباط كلمة نقولها ونعيشها عملا .. قمت بشراء دبلتين وفي يومها وضعت دبلة في إصبعها.. ووضعت هي الأخرى في إصبعي.. ومنحتها قبلة عهد وميثاق وارتباط .. واحتفلنا بخطوبة رسمية.. أمسكت السكين بيدٍ .. ووضعت يدي فوق يديها وقطعنا التورتة .. وقامت بوضع قطعة في فمي وقمت أنا بالمثل .. و كانت السعادة ترفرف داخل قلبي.. ولكن في ضميري إحساس يريد أن ينقض على فرحتي . ماذا يريد ضميري ؟
ما هو الضمير ؟ هل هو شيء ملموس .. وأين مكانه في النفس وكيف يكون تأثيره .. كل هذه الأسئلة مرت في خاطري جملة واحدة. أرجو أن أكون صادقا .. إن قلت أن الضمير هو أوامر أمي..في داخلي.. وجلست على منصة القضاء في محكمة شغلت حيزا كبيرا داخل عقلي . كيف اخترت شيئا وضميري اختار شيئا آخر . تمهل معي أيها القارئ فسوف تحكم أنت بنفسك .
حلقت الطائرة في الفضاء فوق السحاب متجهة إلى جنيف وأحسست كلما ارتفعت بالقرب من السماء .. بمشاعر أخرى تختلف عن مشاعر الأرض .
سمعت صوت أمي يرن في أذني .. هذه هي حياتك . لك أن تلعب فيها كما تشاء .. ولكن احرص على ألا تندم يوما على مشهد مصيرى لعبته وأخطات فيه .
أيقظني من مشاعري صوت امرأة كانت تجلس بجواري.. يديها ممدودة نحوي بقطعة من الشيكولاتة.. وبلغة فرنسية لم أفهمها ولكني فهمت المقصود .. فشكرتها بالإنجليزية .
- هل أنت من مصر ؟
- نعم .
- أنا بتكلم العربية بس مكسر ( قالتها بالعربية )
- جميل انتِ بتتكلمى العربية مكسر بالسكر .
فابتسمت وقالت :
- أذاهب إلى جنيف ؟
- نعم
- تتفسح ؟
- لا . منحة دراسية
- ما نوع الدراسة ؟
- أنا طبيب .
- تقدر تفحصني ؟
ابتسمت وقلت لها :
- أٌقدر لو تديني فرصة .. وحضرتك مقيمة في جنيف ؟
- نعم أسرتي كلها .. وأنا اتولدت في مصر .. وتركتها وعمري أربعة أعوام .. وتلقيت كل دراستي في جنيف .
- وطبعا عندك عمل .
- أعمل في السلك الدبلوماسي حيث كان والدي يعمل .. ولكنه الآن على المعاش . حضرتك متزوج ؟
- خاطب .
- ولم لا تكون خطيبتك معك ؟
- طبعا ما تنسيش تقاليد مصر ..ما ينفعش الخطيبة تذهب مع خطيبها في أي مكان إلى أن يتزوجا .
- سمعت كده .
- لكن مقتنعة به ؟
- المثل بيقول " إن كنت في روما عش زي أهلها " .
- ده انتِ عارفة أمثال .
- درست أدب كتير وأحب القراءة في كتب كثيرة .
- وهل تعرف المكان الذي ستقيم فيه ؟
- القنصلية محددة كل شيء وسوف أعرف منهم هذه التفاصيل .
دردشة تحدث غالبا لإضاعة الوقت في الطائرات والقطارات لمسافات كبيرة .. ثم يذهب كلٌ لحاله.
قالت :
- عموما أنا بحب المصريين وأكون سعيدة لو طلبت مني أي شيء..وناولتني كارت يحمل اسمها وعملها ورقم تليفونها.
لم أعر للأمر أهمية .. كان كل همي أن أنتظم في الدراسة .. وأبحث عن وسيلة لإتمــام زواجي.. كنت أتردد على أكبر متجر في جنيف ( البلاست) لأحتسى فنجانًا من القهوة وأبحث في قسم الكتب عن بعض الكتب التي تهمني.. أو أشترى لوازمي من الطعام .. وفي إحدى الأمسيات كنت أطالع كتابا في الكافتريا وإذ بي أجد من يناديني باسمى :
- فاكرني ؟
إنها هي . تذكرت اسمها .. تلك التي قابلتها في الطائرة . دعوتها لفنجان قهوة .. ووجهت لي حزمة من الأسئلة .. أين تقيم .. وكيف دراستك في اللغة .. وكيف تقضى وقتك . ثم فوجئت بدعوة : هل تحب تشرفنا في حفل عيد ميلادي ؟
لم لا وأنا وحيد في بلد لا أعرف فيه أحدا .. فما المانع أن أتعرف على البعض .. وأصادق البعض .. وأعرف كيف تسير الحياة مع الناس في بلد يختلف عن بلدي.
اشتريت بوكيه من الورد ووجدت أبويها في استقبالي..عرفتني عليهما فاستقبلاني كشخص من عائلتهم وقد غاب عنهم فترة من الزمن .
انتهت مراسم الحفل .. سألتني إن كنت أحب أن أشرفهم على مائدة العشاء .. لم أرفض لهم الطلب .
كان العشاء مع موسيقى هادئة وأنوار خافتة .. ودار الحديث عن عائلتي والهدف من الإعارة .. وقد كان حديثا مرتبا منسقا ومقصودًا مسبقًا.. قال أبوها :
- ما رأيك في جنيف ؟
- جنة الله على الأرض .
- لو أُتيحت لك إقامة وعمل وأسرة .. هل تفضل هنا أم هناك؟
- أنا مرتبط بفتاة وتكليف في بلدي .
- هل أنت متزوج ؟
- خاطب .
- أرى خاتم في إصبعك . هل هي طبيبة مثلك ؟
- نعم .
- وماذا تعطيك وزارة الصحة ؟
- سوف أفتح عيادة .
- وهل تعرف أجر زيارة المريض هنا ؟
- أعلم . ليس هناك وجه للمقارنة .
- ولماذا لا تفكر يا ابني في حياة أفضل تشعر فيها بحريتك وكرامتك واستقلالك.
- طبعا معك حق .
كان حديثه معى من الناحية العملية لا غبار عليه ولكن من الناحية العاطفية غير مقبول .. ثم استطرد :
- فكر يا ابني . الفرص لا تأتي جُزافا .. والقرارات التي تصدر عن العقل والرؤية السليمة شطارة ونجاح .. وأغلب الناجحين في الحياة كانت عقولهم هي التي تقودهم وليست قلوبهم.
كان هذا الحديث بمثابة مدخل لإعادة الرؤية لاسيما تأثير الحياة الاجتماعية والمناخ الذي تواجدت فيه .. لقد احتوتني تلك الأسرة بالعاطفة والمودة والحنان ..ووضعوني في منزلة ابن لهم .. ومن جانبي شعرت في نفسي بطعم المحبة .. وأكون صادقًا لو قلت إنني لم أتذوقها من قبل .. فقد قربوني إلى قلوبهم وأفراحهم وأحزانهم حتى وصل الأمر أن شاركوني في قرارتهم .
كانت تصطحبني في كل أنحاء جنيف وتُعرفني على معالمها .. وكنا أحيانا نتنزه على الكوبري الممتد على بحيرة جنيف .. ثم نخترق الرقعة الخضراء المترامية الأطراف مع الأزهار المختلفة الألوان وروائحها التي تنعش النفوس . نتبادل الحديث كيفما بدأ وفي أي جانب .. وفي المساء بعد أن ينهشنا الجوع نتناول العشاء في المطاعم .
ويوما بعد يوم أحسست كأنني تناولت مخدرًاينشلني من الماضي ويضعني في حاضر كله استرخاء ونشوة وحياة ..وكأنني ولدت من جديد في هذا الجو.
وذات مساء كنا نجلس في إحدى كافتريات جنيف . الأنوار الخافتة والموسيقى التي تسمو بالنفس وتثقلها .. وإذا بيديها أشعر بها فوق يدي.. ولا أعرف هل كانت تتعمد ذلك أم جاءت مصادفة ..احمر وجهي نشوة واضطرابا .. ولما رأت حمرة وجهي دفعت يديها برفق ودلال وتأسفت..ولكني لم أشأ أن أحرجها ؛ فربتْ على يديها وبدون أن أشعر اندفعت وطبعت قبلة على وجنتيها .. ومن هنا ومن تلك الليلة رُفعَتْ الكُلفة بيننا .. وكانت لمسات الأيدي أسرع وأجرأ تعبير عن مشاعرنا من أي كلام .
جاءني البريد برسالة من فتاتي التي أعطيتها كلمة ارتباط ووعد .
قرأت : حبيبى . أعرف أنك مشغول في ترتيب أمورك ودراستك وأحوالك .. ولم أشأ أن أزعجك أو أذكرك بأي شيء.. ولكن كل ما في الأمر أحس بالحاجة إلى الاطمئنان على أحوالك وصحتك .. ولتتذكر أنني دائمًا على استعداد أن أكون بجانبك . أعطيك كل إمكاناتي وحبي حتى تكون أسعد إنسان في الوجود . تقبل قبلاتي المبللة بدموع الفراق .
كانت كلماتها بمثابة خنجر مدبب الأطراف نفذ في أحشائي.. وكأنها ردتني بعنف إلى واجب وأمانة أحاول أن أخونهما .. ولكن الأيام والدفء المحيط بى .. كانا كفيلان أن يطيبا كل ألم ويمحيا كل ذاكرة ندم ويخدرا كل أوجاع الضمير .
ضع نفسك مكاني.. وقارن أيها القارئ العزيز . ربما تعذرني لو حكمت بالعقل والمنطق .. فأنا لست وحدي . كلنا لو أتيحت لنا الفرص الجميلة سوف نقف في طابور لكي ننالها .
جنيف جنة الله على الأرض . شوارعها وميادينها . حدائقها وبحيراتها . مبانيها . ثقافتها . لغتها . أدباؤها.. وضعها الحضاري. شعبها المهذب المثقف . هل هناك وجه للمقارنة ؟!
لم تكن شجاعتي ولا إمكاناتي ولا قدراتي النفسية .. على استعداد أن أبدأ الطريق من أوله .. أو أن أنحت في الصخر لأعد طريق لا أعرف كنهه بعد .

نسيت الماضي بكل ما فيه وتشبثت بالحاضر الذي أنا فيه .. والفرصة لا تأتي إلا مرة واحدة .. وتخليت عن المبادئ والمُثل التي تعرقل حياتي .
تزوجت وأنجبت أطفالا وأصبح لي أكبر عيادة في جنيف يتوافد عليها العرب وأهل البلد .. ذاع صيتي وصار لي أصدقاء من رجال السياسة والدين يُبجلونني ويحترمونني .
مرت الأيام يومًا يطرد يومًا.. وتغير فكري تماما .. وتلونت مشاعري بلون الوضع الذي أصبحت عليه .. ونما إلى مسامعي أن فتاة الماضي نذرت نفسها لخدمة الأطفال المعوقين وأعطتهم كل حياتها. لقد اختارت الصدق والعطاء .. أما أنا فاخترت ذاتي وأحببت نفسي .
هذه حكاية زواجى .. ومن منكم لا يبحث عن ذاته فليرمني بحجر.



#فوزى_سدره (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مهاجر على باب ناشفيل
- الواقعية السحرية في سردية أنا وكتبي وكلبي للمبدع فوزي سدره
- (12) عام جديد
- (11) أنا والأدباء
- (10) حكايتى مع الكتب
- (9) محكمة الضمير
- (8) أنا وكتبى
- (7) ميتشو صديق ميكو
- (6) لماذا الإيذاء
- (5) عودة ميكو وفضائحه
- (4) الإحساس الضائع
- (3) هل للإنسان أن يختار طريقه
- بالقراءة تُقاس حضارة الشعوب
- البحث عن الوفاء


المزيد.....




- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فوزى سدره - حكاية زواج