أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ساطع هاشم - عقيدة اللون الاخضر















المزيد.....

عقيدة اللون الاخضر


ساطع هاشم

الحوار المتمدن-العدد: 6119 - 2019 / 1 / 19 - 23:27
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



يحتل اللون الاخضر حاليا مساحة واسعة عالميا كرمز أيدلوجي لافكار حماية البيئة وانقاذ سكان العالم من التلوث وارتفاع درجات الحرارة والعودة الى الزراعة الخالية من المواد الكيميائية والتدخل الجيني بالنباتات والطبيعة البشرية لم يتمتع به اي لون اخر قبله سوى الأحمر الذي كان احدى اهم العلامات السياسية العالمية للكفاح في سبيل الاشتراكية والتقدم منذ كومونة باريس وحتى انهيار السلطة السوفياتية قبل حوالي ثلاثين سنة.

وقد بدأ الصعود التدريجي لرمزية اللون الأخضر في الغرب الصناعي منذ بداية السبعينات ليحقق اكبر انتصاراته على الأحمر منذ بداية التسعينات والى الان، فبينما كان لونا مرفوضا كرمز سياسي على الدوام منذ بداية الثورة الصناعية بالقرن التاسع عشر من قبل جميع الأحزاب السياسية يمينا ويسارا ومنظمات العمال والصناعيين والمثقفين، فجأة نجده اليوم في كل مكان كعلامة سياسية لاحزاب الخضر وايدلوجياتهم بالسلام الأخضر للعالم وشعاراتهم في سبيل السلام والديمقراطية والبيئة الخالية من التلوث، حيث اصبح رمزا يعرف معناه اتباع هذه المنظمات والأحزاب، بالضبط مثل احمرالأحزاب الشيوعية والعمالية سابقا، وأصبح أيضا كعلامة تجارية لا تخطأها العين للصحة والنظافة والطعام الصحي، ورمزا للصيدليات والزراعة العضوية الصحية ولعموم السياسة البيئية الجديدة ومفاهيمها الايدلوجية والعلمية، وهناك المئات من الشركات والمؤسسات التي غيرت ألوان شعاراتها الى الأخضر حفاظا على استمراريتها بالسوق لانه لون يضمن لها الزبائن، حتى اصبح علينا من الصعب ان نفصل اليوم اللون الأخضر عن معناه العقائدي الجديد لاحزاب الخضر، فإذا كنت سترتدي سترة خضراء غدا وتتجول في الشوارع فلابد ان تكون اذاً من دعاة البيئة وأحزاب الخضر تماما لو كنت ترتدي سترة حمراء أيام المجد السوفيتي المنقرض، فهو اليوم في اذهان الملايين علامة للسلام والأمل والحرية وحيادية الفكر وجاهز للقتال ضد كل ما هو مصطنع واستبدادي، باختصار يراد له ان يكون لون الخلاص الذي سينقذ العالم.


غير ان رمزية وايدلوجيا اللون الأخضر في زماننا ليست جديدة على ثقافتنا الشرقية المتوارثة منذ آلاف السنين فالأخضر عندنا وفي الثقافة الشرقية عامة كان ومازال على الدوام لوناً إيجابياً بشكل عام يرتبط بالتفاؤل والخضرة والماء والجنة والمحبة، وفقراء الناس عندنا يزينون مزارات الائمة والمتقين بالاخضر كرمز للجنة الموعودة، وهذا تقليد قديم، لكنه لون سلبي في معتقدات اليونان القديمة وروما بعده، فقد ارتبط عندهم مثله مثل الازرق بالبرابرة والعبيد، واستمر هذا الاعتقاد في اوربا حتى القرون الوسطى كرمز الى الفلاحين والاقنان والانحطاط والشر ايضا.
ومنذ منتصف القرن السادس عشر وانتشار حركة الاصلاح الديني حدثت تحولات جديدة في الرمزية الغربية, فمثلا ربطت الارستقراطية الفرنسية اللون الاخضر بالقسمة والحظ والنصيب بسبب ابتكارهم لبعض العاب التسلية مثل المقامرة والمباراة ولهذا اصبحت طاولات القمار خضراء وورق اللعب اخضر وانتشرت منهم كتقاليد للعالم كله في العاب الحظ وخاصة في الرياضة, كما في طاولة البليارد الخضراء ومنضدة كرة المنضدة الخضراء, وساحات كرة القدم والطائرة والسلة وغيرها الخضراء وليس لألوان هذه الملاعب علاقة بحشائش الطبيعة الخضراء كما هو شائع, بل بما جاء به الفرنسيون من تقليد ارستقراطي.


نعود الى تاريخنا حيث لايعرف غالبيتنا معنى الرموز الصورية المنتشرة بيننا للحضارات القديمة التي تواصل تأثيرها علينا بوعي وبدون وعي من خلال رموزها الدينية البصرية المحوّرة والمنتشرة في كل مكان والتي تم ابتكارها منذ العصر الحجري الحديث وحتى نهاية عصر الحديد وما تلاه من احتلالات وحروب وحتى زماننا الحالي والتي أصبحت جزءاً أساسياً من التعاليم الدينية المنتشرة في الشرق بعد ان تم تطويعها وتحريف مضمونها الأصلي بواسطة الديانات الإبراهيمية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام.
ومن هذه الرموز القديمة الخالدة التي مازالت مؤثرة ما يسمى بالشجرة المقدسة او شجرة الحياة، والتي تنسب رمزيتها الى ما ورد في نصوص هذه الديانات عن هذه الشجرة، وهذا تزوير قام به فقهاء وكهنة هذه الديانات في حروبهم مع الديانات القديمة التي وصفوها بالوثنية.

ويتفرع عن رمزية ومعنى هذه الشجرة العديد من الرموز الملتصقة بها ولعل أشهرها هو رمزية اللون الأخضر والدور الفكري الديني الذي لعبه عبر الزمن، وحاليا الدور الايدلوجي المختلف الذي يقوم به وكيف أثر ويؤثر علينا وعلى طرقنا بالتفكيرومحاولة هراطقة الدين زجه وربطه بالايدلوجيا الجديدة لاحزاب الخضر لتلميع صورتهم بينهم، وهذا يقودنا الى الرغبة في ان نعرف مالذي حصل لنا والى رموزنا القديمة وأي تاريخ ادى الى انكسارها وتشويه وتحريف معانيها الأصلية التي وجدت بسببها، فمثلا يذكر القران اللون الأخضر بالاسم ثمانية مرات وكلها معاني إيجابية مرتبطة بالجنة والسماء والنبات والربيع على العكس من اللون الأسود المنبوذ بالقران والذي يربطه دائما بالكفرة والشياطين والوسواس الخناس وأصحاب الذنوب، والسؤال هنا هل يكفي ذكر الأخضر ثمانية مرات لجعله لونا مقدسا عند المسلمين الى هذا الحد، أم ان هناك أسباب تاريخية في صلب عقائد الديانات القديمة مجدت اللون الأخضر ثم جاء الابراهيميون ومن ضمنهم المسلمين وزوروها لتخدم اغراضهم.
نحاول هنا تقديم صورة مختصرة من خلال تاريخ الفن كواحد من الوسائط الضرورية في معرفة ذواتنا الفوضوية، لمابقي لدينا من اثار منتشرة هنا وهناك والتي هي بالواقع شهادات على مصائب اليوم

تتميز الفنون العراقية القديمة عن بقية فنون الحضارات القديمة في كونها تصوير ولغة بصرية لمجموعة افكار وجودية عميقة محدودة وقليلة العدد يطلق عليها بعض المختصين بالدراسات الفكرية للآثار مصطلح الأفكار المصورة الخالدة، لكنها أنتجت بكميات ونوعيات كبيرة وباستعمال مختلف المواد وبقي إنتاجها بدون انقطاع عبر آلاف السنين ومازال قسم منها يعيش وينتج الى الان بيننا وفي العالم اجمع، ومنها موضوع حديثنا الان الشجرة المقدسة او شجرة الحياة او أشجار العيد والتي يرتبط بها عمليا الأخضر كرمز ديني سماوي وأرضي وهي من ابرز الأشكال الرمزية اثارة للجدل والنقاش بين المختصين، وأهم عامل في ديانات الاقدمين منذ السومرية وحتى زماننا الحالي والتي أصبحت جزءاً أساسياً من التعاليم الدينية المنتشرة في الشرق بعد ان تم تطويعها وتحريف مضمونها الأصلي بواسطة الديانات الإبراهيمية الثلاثة.

البداية كانت مع دخول البشر الى العصور التاريخية وعصر التدوين، وابتكار الكتابة الصورية حيث كان الإنسان ومازال يرسم ما يريد قوله خاصة فيما يتعلق بتجسيد القيم المثالية والمعنوية ولهذا فقد ابتكر لغة بصرية من واقعه الحياتي كانت مألوفة بين الغالبية وسهلة الحفظ والفهم، فكان ان جسد ربه الأعلى بشجرة وارفة رمزا لديمومة العطاء والحياة ويعتبر هذا الرمز الذي ابتكره السومريون اقدم رمز عالمي للسلام معروف لحد الان ايضا، وكان منتشرا في كل مناطق الشرق الأوسط كرمز ديني يعرف معناه جميع الاتباع مثل رمز الصليب المنتشر بين المسيحيين بالعالم اليوم، وهو رمز ابتكرته اقدم عقيدة دينية كانت قد نشأت وازدهرت قبل حوالي ستة آلاف سنة، وكانت قائمة على ثنائية الموت والميلاد، الشر والخير، الرب والشيطان، الا وهي عقيدة الخلود السومرية او ديانة تموز – عشتار
وتوسعت هذه الديانة وعباداتها من البصرة جنوبا الى كافة مناطق الشرق الأوسط وهي المصدر لكل شجرة ظهرت بعدها ومازالت تثير أسئلة تتكرر دائما منها كيف استطاعت افكار محددة بالبقاء والخلود حتى زماننا اليوم بينما انقرضت المئات دون ان تترك آثاراً واضحة؟
مرت بلاد الرافدين بمراحل تطور مختلفة بدأت مع السومريين المؤسسين الأوائل للعصور التاريخية الذين استمر وجودهم اكثر من الف عام ثم الكاشيين و بعدهم الحوريين وانتهى بالآشوريين شمالا والبابليين جنوبا وجاء غزو الفرس ثم العرب والقائمة لا تنقطع، وكانت الشجرة حاضرة دائما في معتقدات هذه الأقوام حيث كان لها معنى استثنائي في الديانات القديمة وبرزت بشكل واضح وبغزارة في فن الآشوريين الأخير الذي يمتد من القرن التاسع قبل الميلاد وحتى سقوطهم في القرن السابع قبل الميلاد، ولازال الجدل قائما عن معناها ورمزيتها منذ اول اكتشاف لها قبل اكثر من قرن ونصف من الزمان ولا يوجد اجماع بين الباحثين على رأي موحد حيث لم يتم اكتشاف اي اثر مكتوب بعد يوضح معناها
رغم هذا فهناك شبه اجماع على كونها موضوع عبادة او وثن يرمز للآلهة وتعتبر كائن تعبدي، وهي المصدر الفكري القديم لعشبة الخلود التي فقدها جلجامش وابتلعتها الافعى
سنحاول إعطاء فكرة عن بداية ميلاد هذه العقيدة العظيمة العابرة للأزمنة والقارات من خلال ما تم اكتشافه ودراسته لأثارنا القديمة منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم، للتدليل على سعة انتشار هذه الفكرة المصورة عبر الزمن والتي شملت لاحقا تاريخ غالبية شعوب سكان العالم
الاخضر هو لون شجرة الحياة الذي كانت تطلى به ثم اختفت هذه الأصباغ مع مرور الزمن , فهو الى جانب الاسود لعب دورا فكريا وثقافيا هائلا في الرمزية الشرقية وعقائدها المتنوعة, منذ بداية الثورة الزراعية في العصر الحجري الحديث وحتى الان, وارتبط هذين اللونين بشدة في عاداتنا وتقاليدنا في التوصيف المجازي البصري في الفنون الدينية والدنيوية عامة, لفكرة الخير والشر, الجنة والنار, الموت والميلاد وفي عموم النظرة الثنائية للعالم والحياة التي رافقت نشوء وتطور الديانات وتعدد الهة المدن والمهن والظواهر الطبيعية, مثل الهة المياه المتعددة, والهة القصب, والليل والنهار، والإله الخضر كما سمي لاحقا والذي له مكانة خاصة في عقائد الفقراء وفي الفلكلور الشعبي وغيرها العديد جدا, مما جعل من الاخضر والاسود يرتبطان بالكثير من المعتقدات الخرافية والاوهام والغيبيات والاساطير, مازالت مترسخة سيكولوجيا وروحيا عميقا جداً في بلادنا ومن الصعب تجاوزها أو إزالتها في وقت قريب, ومن المؤسف ان تاثيراتها في السياسة والديانة والقواعد الاخلاقية ونظرة الناس المعاصرة اليها لم تدرس لحد الان من قبل المختصين بعلم الاجتماع لا القدامى منهم ولاالجدد.

لم تحدث تلك التحولات في ذلك الماضي السحيق نتيجة لصدفة سعيدة او رغبة فردية لبشر خارقين، بل لحاجة انسانية ضرورية للحياة، والصراع في سبيل البقاء، تزامنت مع انتقال الانسان من حياة الصيد والترحال الى الحياة الزراعية والاستقرار، حيث شكل هذا التحول أعظم نقطة في تاريخه لم توازيها على مدى الاف السنين غير تحوله قبل مئتين سنة الى العصر الصناعي والتكنلوجي الحديث.

وهذه الطفرة الهائلة التي حدثت في حياة البشرية قبل حوالي ثمانية الاف سنة, مع نهاية العصر الجليدي الاخير في الارض, مرت بمراحل متعددة, كانت قد بدأت باستعمال الحجر وصقله ثم صناعة الفخار واعقبها اكتشاف المعادن وطرق جديدة لاستعمال النار وتغيير البيئة المحيطة, وكان من اول تلك المعادن المكتشفة واهمها هو معدن النحاس, ومنه صنعت سبيكة البرونز او الصفر باللهجة العراقية, وذلك بخلطه مع نسب قليلة لا تزيد عن الاربعة بالمئة من معدن اخر, ولم يحدث ذلك فجأة وبسرعة, فقد احتاج الحرفيين الاوائل الى حوالي الخمسمئة سنة لإتقان استعمال هذه المادة الجديدة ومعالجتها بشكل صحيح ومقبول, وتبلورت خلال هذه العملية الطويلة المهن الصناعية الاولى حولها, مثل مهنة الحدادين والنجارين والنساجين وغيرها من مهن المجتمع الزراعي وصنعت منه احدث أنواع الأسلحة وعربات نقل الجنود، وسميت هذه المرحلة بنهاية العصور الحجرية وبداية العصر البرونزي, الذي استمر لحوالي الاربعة الاف سنة حتى تم اكتشاف الحديد بحدود سنة 1500 قبل الميلاد.

لقد غيرت صناعة النحاس والبرونز والمهن المنبثقة عنها الحياة الاقتصادية والاجتماعية للناس بشكل لامثيل له قبله وخلقت حاجات فكرية جديدة كان على اصحاب السلطة قيادتها وتوجيهها بما يتلاءم ووضعهم الجديد, فانبثقت ديانة تموز – عشتار كحاجة ضرورية للتنظيم الاخلاقي والروحي للناس من تقاليد عبادة الأم القديمة التي كانت منتشرة في مناطق عديدة في عالم الصيادين الرحل يعني عالم العصر الحجري القديم والوسيط, ونشأت معها طقوس عبادة جديدة ساعدت على ادامة الوحدة الجغرافية والعشائرية وفرضت عليهم التفكير العقلاني في إدارة الانتاج الزراعي والاستهلاك والتبادل ثم الدفاع عنها والكفاح في سبيلها.

وفي هذه المراحل الاولى بالذات من تطور المدنية وبزوغ شمس الحضارة ابتكرت الأصباغ الزرقاء والخضراء لأول مرة في تاريخ البشر، فهي لم تكن معروفة لإنسان ما قبل العصر البرونزي، يعني انها لم تكن مستعملة او معروفة لانسان عصر الكهوف او مايسمى بالعصر الحجري القديم والوسيط التي كانت قد بدأت قبل أربعين الف سنة فكانت رسومات إنسان تلك العصور خالية من الأصباغ الزرقاء والخضراء وإنما نفذت بالأبيض والأسود والأحمر والأصفر فقط حتى مجيئ السومريين واكتشافهم للنحاس الذي غير مجرى التاريخ.
فزينت الأصباغ الجديدة المعابد والمنتوجات، وكان لجمالها وصعوبة إنتاجها والحصول عليها دورا كبيرا في تمجيدها وإسباغ المعاني الرمزية الخارقة عليها في طقوس العبادات الدينية المتنوعة ومن ثم في الحياة اليومية للناس، كما تجسد ذلك في رموز الالهة المتعددة التي وصلتنا بعض بقاياها, والتي ابرزها شعار الشجرة بين حيوانين اليفين كرمز الى الاله تموز, والذي رسم ونحت بأشكال واساليب متنوعة جدا, منها اله بيده غصن يطعم حيوانين او الشجرة وحدها مع رمز حزمة القصب للدلالة على عشتار او صراع بين حيوان اليف وحيوان وحشي وعلى الجانبين شجرة او غصن او شيء قريب اليهما, واصبحت الالوان الخضراء المائلة الى الازرق التي طليت بها شجرة تموز هذه بحد ذاتها رمزا مقدسا يحمل بداخله معاني مجردة متعددة يعرفها المجتمع كما في ألوان تماثيل الرليف لبوابة بابل الموجودة حاليا في متحف برلين، ولابد هنا من التذكير بان المنحوتات التي نعرفها الان من تلك الازمنة كانت تطلى جميعها بالأصباغ المتنوعة وقد اندثرت الان لهشاشة تركيباتها, ومنذ تلك العصور استمرت عادات التمجيد والتقديس للأخضر والاسود كرموز لتموز وعشتار, وهي متجذرة في مجتمعاتنا إلان بمعاني دينية مختلفة.

وأنواع الأصباغ الخضراء التي صنعت وانتجت آنذاك هي عموما من خامات ومركبات النحاس، اما الأنواع المتميزة والغالية منه فاستخرج من أحجار اللازورد والياقوت والعقيق بوسائط صناعية وكيميائية احتاجت الى خبرات ومهارات متنوعة ومعرفة جيدة بصناعة وتحويل المعادن من شيء إلى آخر ومن مادة إلى أخرى وهو ما يطلق عليه في زماننا الآن بالصناعات الكيميائية، وهناك انواع اخرى كان مصدرها بعض النباتات والزهور البرية استعملت على الاغلب في صناعة النسيج.
وتعتبر كربونات النحاس المعروفة باسمها الدولي – ملاكايت – أقدم الاصباغ المعروفة، التي استعملت في الحضارات القديمة ومنها العراقية، وكذلك الاصباغ المستخرجة من زنجار او صدا النحاس وانواعا اخرى لا مجال لنا هنا من ذكرها وهي جميعا لا تشبه في بريقها ونوعيتها الاصباغ الخضراء في عصرنا الصناعي هذا وغالبيتها تميل قليلا او كثيرا الى الازرق كما نعرفه في مصطلحات اليوم.



فالاخضر هذا اللون الذي صنع أصباغه الأجداد وقدسوه، نجد رمزيته منتشرة عند كل شعوب العالم بدون استثناء، وقد وصف روبسبير الاخضر بكونه علامة النزاهة والشرف, وكان الاخضر لون نابليون المفضل وهو اللون الذي قتله في منفاه في جزيرة سانت هللين ايضا, حيث طلب بان تكسى جدران منزله هناك بورق الجدران الاخضر الزمردي حيث كان ابتكارا صناعيا جديدا انتشر ذلك الزمان, وكانت الاصباغ الخضراء المستعملة على الورق هذه مطورة عن صبغ اخضر اخترعه الكيميائي السويدي سيشل ويحتوي على الزرنيخ, ولم تعرف اضراره الابعد عدة عقود من الزمن, فعند تعرض ورق الجدران الى الرطوبة والتعفن فذلك ينتج عملية كيميائية تؤدي الى بخار الزرنيخ السام, ثم تؤدي الى مرض يسمى كاسيو نسبة الى مكتشفها, وهذا ما حصل لنابليون, حيث مات بسبب قرحة بالمعدة تحولت الى سرطان, وقبل دفنه قام بعض اتباعه بالاحتفاظ بخصلات من شعره, وقد بيعت قسما من هذه الشعرات بالمزاد سنة 1960 وقام برفسور من جامعة كلاسكو بفحصها وعثر فيها على مادة الزرنيخ, التي يرجح الغالبية من المختصين الان الى انها كانت سبب وفاته.

ولا يقتصر ربطه بالخرافيين والغيبيات والترهات على العامة من العراقيين وحدهم، بل حتى أرقى الادمغة في العصر الحديث لم تسلم منها، وقصة المؤلف الموسيقي الشهير شوبرت مضربا للمثل في الخوف من اللون الاخضر وقد قال مرة بانه على استعداد للذهاب الى جهنم لتجنب هذا اللون الملعون وهذه الفوبيا او المرض العصابي من هذا اللون الذي من المستحيل تجنبه قد اضاف تعاسة على تعاسته التي كان يعيش بها اصلا.
اما تولستوي فقد كان يضع في السنوات الاخيرة من حياته امامه على منضدته كلما اراد ان يكتب قطعة من الكريستال الاخضر بسمك ورق الكتابة اهديت اليه من قبل عمال معمل برانسك للزجاج مكتوب عليها: دع الفريسيون والاب الاقدس يطردونك كما يأملون، سيبقى الشعب الروسي دائما يثمنك باعتزاز - وعندما مات دفن في المكان الذي طلبه حسب وصيته، وهي منطقة كان يتردد عليها مع اخوته ايام الصبا والشباب، لأنهم اعتقدوا ان هناك قضيبا اخضر مدفون فيها مكتوب عليه كل اسرار السعادة للجنس البشري.
وفي امريكا فعملة الدولار خضراء، وبطاقة الاقامة الدائمة للأجانب خضراء وفي لغة الاسكتلنديين يعني الحنين والشوق.

اما الان وبعد هذه النظرة التاريخية عن اصل الأصباغ الخضراء ورمزيتها العقائدية في التاريخ لنعود الى حاضرنا ونتسائل هل ستغير الايدلوجيا الخضراء الجديدة عالمنا حقا لو قدر لها ان تنتصر؟ وهل هي حقا لون الخلاص الذي سينقذ العالم أم انها مجرد تحذير لايقدم ولايؤخر؟



#ساطع_هاشم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حديث اللوحة
- حصان الثورة
- الصورة في مجتمع يكره الصورة
- تأملات في الذكرى المئوية لثورة اكتوبر البلشفية
- الزوال , السرعة , والميكانيكا الكلاسيكية
- العباءة السوداء والعمامة السوداء
- التقدمية وخيبة الامل الحديثة
- جواد سليم في معرض للمخابرات المركزية الامريكية
- من دولة الخروف الاسود الى دولة العمامة السوداء
- ربع قرن في تدمير العراق
- عوالم الانسان الحي
- حرب الالوان العالمية
- الاله اشور ملحمة ومأساة جديدة
- الفن واختراع الكتابة والقراءة
- البعد الرابع في الثقافة والتفكير العالمي المعاصر
- وسط هذا الصخب
- الاحمر والاسود والاول من ايار
- الوظيفة الاجتماعية والفكرية للالوان
- فنان الحواس المعانة محمود صبري ..وداعا
- العَلم العراقي والنشيد الوطني واليوم الوطني


المزيد.....




- الشرطة الإسرائيلية تعتقل محاضرة في الجامعة العبرية بتهمة الت ...
- عبد الملك الحوثي: الرد الإيراني استهدف واحدة من أهم القواعد ...
- استطلاع: تدني شعبية ريشي سوناك إلى مستويات قياسية
- الدفاع الأوكرانية: نركز اهتمامنا على المساواة بين الجنسين في ...
- غوتيريش يدعو إلى إنهاء -دوامة الانتقام- بين إيران وإسرائيل و ...
- تونس.. رجل يفقأ عيني زوجته الحامل ويضع حدا لحياته في بئر
- -سبب غير متوقع- لتساقط الشعر قد تلاحظه في الربيع
- الأمير ويليام يستأنف واجباته الملكية لأول مرة منذ تشخيص مرض ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من استهداف وحدة المراقبة الجوية الإسرا ...
- تونس.. تأجيل النظر في -قضية التآمر على أمن الدولة-


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ساطع هاشم - عقيدة اللون الاخضر