|
أول حكم ذاتي لمواجهة النعرة القبلية والمذهبية في الدولة الاسلامية ( 6 )
سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر
(Oujjani Said)
الحوار المتمدن-العدد: 6112 - 2019 / 1 / 12 - 14:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ان تمصير الامصار ، وتطبيق الأنظمة الإدارية الديمقراطية الجديدة ، خلقا مراكز سياسية جديدة ، لا تقل وزنا عن عاصمة الدولة الإسلامية في الحجاز . ونتيجة لذلك برزت مخاطر الصدام بمركز الدولة ، وتطور الى صراع متنامٍ بين المدينة في الحجاز ، واهل الكوفة . وقد حاول الخليفة عمر تسكين الأمور ، بمداراة الكوفيين ، وتلبية اكثر مطالبهم ، ولكن الوضع السياسي الجديد ، كان من الخطورة بمكان ، ممّا حمل الخليفة على اتخاذ إجراءات تنظيمية لتحقيق توازن سياسي جديد ، يعزز من مكانة العاصمة الإسلامية في الحجاز ، وهيمنتها على الامصار . تتلخص هذه الإجراءات ، بإعادة تنظيم الدولة الإسلامية كلها ، وفق نظام ديمقراطي جديد للأمصار ، منح لكل منها استقلالاً ذاتيا فيما يتعلق بأمور الإدارة ، والاقتصاد المحلّيين ، على ان يُراجع مركز الخلافة في القضايا السياسية العليا ، و كان نظام الحكم الذاتي هذا اشبه بالاتحاد الفدرالي ان صح التعبير ، مركزه المدينة . قسم الخليفة عمر الدولة الإسلامية الى سبعة اقسام ، وفق نظام ( الأسباع ) ، وهو نظام قديم يرجع الى أصول بابلية ، يُصور العالم المعمور على هيئة سبعة أقاليم ، مُرتبة على شكل سبع دوائر ، ست منها بدائرة مركزية تمثل أقاليم بابل . يقول اليعقوبي ( 142: 2 ) ان عمر بن الخطاب ، هو الذي اوجد هذا النظام . فقال ان عمر : " مُصّر الامصار في هذه السنة ( 17 هجرية ) . وقال الامصار سبعة . فالمدينة مصر ، والشام مصر ، والجزيرة مصر ، والكوفة مصر ، والبصرة مصر ....لخ " . كان المقصود بهذا التنظيم ، منح الامصار قدرا كبيرا من الاستقلال الذاتي ، وخصص لها أربعة اخماس الغنائم العسكرية ، ودفع الخمس المتبقي لمركز الدولة الإسلامية ، إضافة الى نسبة معينة من إيرادات الخراج . ونتيجة لهذه الإجراءات الديمقراطية التقدمية ، اصبح في حوزة الامصار موارد اقتصادية ، وقوة عسكرية كبيرة ، فعمل الخليفة عمر على خلق توازنات مُعينة بينها ، لئلا تتمرد على مركز الخلافة . كان تأسيس مدينة البصرة وتمصيرها ، يستهدف خلق قوة موازنة للكوفة ، وكانت البصرة اول الامر معسكرا صغيرا ، وقد سارعت الخلافة بمدها بالمهاجرين من مختلف انحاء الجزيرة العربية ، ثم الحقت بها بعض الأقاليم التي غزاها اهل الكوفة لسد نفقات المقاتلين ، والمهاجرين الجدد . ( انظر الطبري 4 : 160 ) . اثار هذا الاجراء الأخير اهل الكوفة ، فطلبوا من اميرهم عمّار بن ياسر ، رفع شكواهم الى الخليفة . لكن امام رفض الأمير طلبهم ، وساند قرار الخليفة بدعم اهل البصرة ، شغبوا ( شغب ) عليه وطالبو الخليفة بعزله ، فاضطر عمر لتلبية طلبهم وهو كارها ، فقال : " أعضل بيّ " أهل الكوفة " . وكان يقول : " أي نائب اعظم من مائة الف لا يرضون غير الأمير ، ولا يرضى عنهم امير " . ان هذا الصراع بين اهل الكوفة والخلافة ، قد تطور فيما بعد عبر سلسلة من الثورات والحروب الاهلية ، مع اهل البصرة واهل الشام ليتخذ صورة مذهبية . وفي أرضية هذا الصراع بذرت البدرات الأولى للانقسام القبائلي والمذهبي في الإسلام . ثم ان ما جرى على نطاق الدولة الإسلامية ، انعكس أيضا داخل كل مصر من الامصار بصورة متفاوتة . لم يقتصر تطبيق نظام ( الاسباع ) على إدارة الدولة الإسلامية ، بل شمل تنظيم بعض الامصار الإسلامية نفسها . وقد أُعيد تخطيط مدينة الكوفة وفق النظام المذكور ، لضمان هيمنة المركز الإداري على الاحياء القبلية المحيطة . فكان من مزايا التخطيط الجديد ، توفير سيطرة مركز المدينة على الأطراف ، وضمان عزل الاحياء القبلية عن بعضها البعض عند الضرورة ، وكذلك سد منافذ المدينة الى الخارج إذا اقتضى الحال . وقد ظهرت نتائج هذا التخطيط الذي استقرت عليه الكوفة ، في تسهيل ضرب الحركات الثورية فيما بعد ، ولا سيما ثورة الحسين ، وثورة زيد بن علي ، حيث استطاعت الكوفة المدينة ، حصر الناس في معسكر النخيلة ، او في المسجد الجامع ، وعزلهم عن الثوار . وكما حدث في الصراع بين الكوفة ، والبصرة ، والشام ، فقد جرى ذلك بين احياء الكوفة نفسها ، فانحازت قبائل اليمن الى الشيعة ، في حين انحازت ثقيف وغيرها من القبائل العدنانية الى الامويين . لكن التنظيمات الديمقراطية التي نفّدها عمر بن الخطاب ، باحترامها للإستقلال الذاتي للأمصار ، حافظت على وحدة المقاتلة الإسلامية ، واضعفت عوامل الانقسام المذهبي ، والصدام السياسي . غير ان هذا الوضع سرعان ما تغير بعد وفاة عمر ، وانتقال الخلافة الى عثمان بن عفان ، الذي سيطر بالكامل لوحده ، وعائلته ، وأصدقائه ، والمقربين منه على بيت المال ، شرارة مقتله ، وشرارة ثورات الامصار الثورية ، وعلى رأسهم ثوار مصر . كان الخليفة الجديد ، ينتمي الى الاسرة الاموية التي فقدت مكانتها السياسية المهيمنة بعد الإسلام . وقد تولى عثمان الخلافة في وقت أنجزت اكثر الغزوات ، وتزايدت ثروات المقاتلة ، وتراكمت الأموال في الامصار ، فأدى هذا الى تزايد هجرة الناس للبلدان المغْزُوّة ، وخلق مشاكل خطيرة حاول الخليفة مواجهتها بإحداث إجراءات لم تعهدها الجماعة الإسلامية ، إذ لم يمر وقت طويل ، حتى شرع عثمان بن عفان بانتهاج سياسة تخالف سيرة من سبقه . فقد حاول تعزيز المركزية في الدولة الإسلامية ، وتحويلها من ديمقراطية الى دكتاتورية ، وتقوية مؤسسة الخلافة ، الدولة انا / انا الدولة ، وجعلها اشبه بالمُلْك . فاقدم على الغاء نظام الامصار ( الحكم الذاتي ) الديمقراطي التقدمي ، وحولها الى إدارات محلية مرتبطة مباشرة بالخلافة ، وعيّن أبناء عشيرته ، وأصدقائه من الامويين امراء على الأقاليم والامصار ، وخول لهم الاستئثار بأموال الدولة الإسسلامية . وكان من إجراءات عثمان ، تعزيز هيبة الخلافة أمام العامة ، ونبذ حياة البساطة التي سار عليها النبي ، وأبو بكر ، وعمر . فقد بنى لنفسه قصرا كبيرا في منطقة الزوراء بالمدينة ، وحاول نقل مركز الخلافة الى مكة كصلاة المقيم فيها . وهذا امر اخذه عليه خصومه ، واعتبروه من احداثه المبتدعة . ثم عمل عثمان على احاطة نفسه بجند مماليك ، اختارهم من العبيد الذين كانوا يرسلون الى الحجاز ، ضمن الخمس المخصص للخلافة من الغنائم العربية ، فكانوا يسمون " عبيد الخمس " ، أي الخماسة . ثم شرع عثمان بتدوين القرآن ، وحصره ذلك بالخلافة وحدها ، فامر بتوحيد المصاحف ، واحراق القديمة منها التي كتبت في عهد النبي والخلفاء من بعده . والغى نظام الامصار، واحل محله نظام ( الاجناد ) ، لذلك ابدل اسم الكوفة ، فأصبحت " كوفة الجند " ، كما تذكر العديد من المصادر . ورغم انه بعث للأمصار سبعة مصاحف ، الاّ انه اسقط مصاحفها الخاصة بها ، سيما مصحف ابن سعود ، الذي ظل موضع اجلال من اهل الكوفة والشيعة عامة . وسمح عثمان لأشراف الحجاز الانتقال الى الأقاليم بعد ان كان عمر منعهم من ذلك . وسوغ لهم استثمار أموالهم ، وشراء العقارات في الامصار ، وبناء دور التجارة فيها ، أي الجمع بين الحكم ، والتجارة ، والثروة . وبمثل هذا التنظيم الاستبدادي شبه الملكي للدولة غير المعهود من المسلمين ، قاد الى تدمر واسع بين الناس ، واثار روح التمرد في الامصار التي حُرمت من استقلالها الذاتي ، كالكوفة ، والفسطاط ، والبصرة . وقد كانت ثورة اهل مصر شديدة على عثمان لأسباب عديدة ، منها انه اسقط الفسطاط كليا من بين الامصار، ولم يخصّها كما فعل مع الامصار الأخرى . انفجر التذمر الشعبي بثورة سياسية كبرى ، حُوصر فيها الخليفة في داره في عاصمة الدولة الإسلامية ، ثم قتل دون ان ينصره احد غير بعض أبناء عمومته من الامويين . وبعد مقتل عثمان بايع اهل المدينة علي بن ابي طالب بالخلافة ، فهرب الامويون من المدينة ، وتجمعوا في الشام استجارة بأميرها معاوية بن ابي سفيان . بعد ذلك انحاز بعض اشراف قريش الى البصرة في محاولة للإنفراد بالعراق ، وعزل الحجاز عن اهم أقاليم الدولة الإسلامية ، الامر الذي دفع بالخليفة علي بن ابي طالب الإسراع الى ترك الحجاز ، واتخاذه الكوفة مركزا للخلافة ، والشروع بحروب طويلة ضد البصرة والشام كما هو معروف . هكذا نرى ان محاولات عثمان بن عفان فرض نظام دكتاتوري مركزي مطلق ، وحرمان الامصار من استقلالها الذاتي الديمقراطي ، وتركّز الملكيات الخاصة بيده ، ويد عائلته ، وأبناء عمومته ، وتعمق التمايز الطبقي ، والعنصري ، كانت العوامل التي قادت الى صراع سياسي حاد ، مهّد الطريق لظهور القبلية والمذهبية في الإسلام . فما اشبه الامس باليوم . ( يتبع )
#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)
Oujjani_Said#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحرب على ايران على الابواب . خطييييييييييييييييييييييييير .
-
ماذا انتم فاعلون ؟ ماذا انتم تنتظرون ؟
-
مساهمة بسيطة كي تخرج جبهة البوليساريو من الجمود .
-
الاطار الاجتماعي للنعرة القبلية والمذهبية ( 5 )
-
سؤال وجيه الى قيادة جبهة البوليساريو
-
رسالة الرئيس الامريكي دونالد ترامب -- الانسحاب من سورية الأب
...
-
النعرة المذهبية الدينية في تشتيت الوحدة الشعبية ( 4 )
-
الاحتفال باعياد المسيح .
-
أسباب نفخ الاسلام في النعرة القبلية والمذهبية ( 3 )
-
تطور القبيلة في الاسلام ( 2 )
-
النظام القبائلي في الدولة الثيوقراطية ( 1 )
-
بخصوص تقادم جريمة ( حامي ) الدين .
-
الحاكم العربي
-
هل اقترب انهاء مدة بعثة الامم المتحدة لتنظيم الاستفتاء في ال
...
-
زمن العهْر ، زمن الذّل ، زمن القهْر ، زمن الإنكسار .
-
الطاغية العربي
-
لقاء جنيف : أي مخرج .. أي نتيجة ؟
-
ملكية برلمانية ام جمهورية برلمانية .. اي تغيير جذري سيكون با
...
-
كل شيء للفقراء .
-
أيّ بلاد هذه ........ بلادي ليست قابلة للنسيان ( 9/9 )
المزيد.....
-
التوقيت بعد ساعات على تهديد ترامب.. خامنئي يشعل ضجة بتدوينة:
...
-
مصر.. عمرو موسى يشعل ضجة بدعوة عاجلة تفعيل المادة 205 بسبب ص
...
-
التقارب بين بيونغ يانغ وموسكو يزعج سيئول
-
مكون بسيط في أغذية شائعة قد يقلل خطر النوبات القلبية
-
آبل تخطط لإطلاق ساعات ذكية مزودة بمقياس لسكّر الدم
-
أطعمة تزداد فائدتها عند تبريدها
-
مقتل شخصين وانتشال 5 ناجين حتى الآن إثر انهيار مبنى في منطقة
...
-
حلم الشباب الدائم يقترب!.. مركبات بكتيرية في دمائنا تمنحنا ا
...
-
اكتشاف بركان مريخي ظل مخفيا عن أعين العلماء 15 عاما!
-
إسرائيل بدأت الحرب، فمن سيربح؟
المزيد.....
-
كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف
/ اكرم طربوش
-
كذبة الناسخ والمنسوخ
/ اكرم طربوش
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|