أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جودت شاكر محمود - الآداب والفنون والطبيعة البشرية (الجزء الأخير)















المزيد.....

الآداب والفنون والطبيعة البشرية (الجزء الأخير)


جودت شاكر محمود
()


الحوار المتمدن-العدد: 5993 - 2018 / 9 / 13 - 13:27
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


كان الأدب جزءا أساسيا من ثقافة الإنسان في الوجود الإنساني. كان يستخدم دائما كطريقة لتحديد كيفية تفاعل البشر مع بعضهم البعض. كما يمكن أن يمنحنا الأدب الكثير من المعرفة عن الطبيعة البشرية والتي نحتاجها للتعلم، والتفكير. حيث يمتلك الأدب القدرة على التأثير على أعمالنا ومعتقداتنا، وربطنا بالزمن والمكان، وإلهام التفكير النقدي بالجمال الدائم والقيم الدائمة، كما يمكنه أن يعلم الناس عن الحالة البشرية وكيفية تحسين قدراتهم.
تعتبر مسرحيات وليام شكسبير مثالاً مثالياً لقطاعات الأدب التي ليست فقط مسلية، أدبا من أجل الأدب، ولكنها توفر أيضا نظرة ثاقبة للطبيعة البشرية. بشكل أو بآخر، يتم ترسيخ الأدب كتعبير عن طرق الإنسانية، وبالتالي من خلال استيعابه، يمكن للمرء الحصول على فهم أكبر للسلوك البشري.
ويليام شكسبير(William Shakespeare) هو مثال للكاتب المبدع، ومثال ملهم على الإرث الذي يمكن أن ينتجه الكاتب في العالم: أربعة قرون من التأثير العاطفي والنفسي. على الرغم من هذه السمعة الشاهقة، فإن ويليام شكسبير هو، على الأقل في كتاباته، حكيماً صادقاً وحساساً ومتواضعاً جداً، أنه الإنسان الأكثر موهبة.
كان وليم شكسبير حقاً رائداً في استكشاف الجوانب المتعددة للطبيعة البشرية: من جمال سوناتاته، كوميديا أبطال رواياته سيئين الحظ، إلى الحقول المظلمة والملتوية من الحب والخيانة والحرب. لا شك أن استكشاف نقاط القوة والضعف البشريين هو مفتاح شعبية وبراعة عبقرية شكسبير الأدبية وقابليتها للتطبيق عبر الزمان والثقافات. شكسبير كاتب مميز، يتحدث لغة عالمية، استفاد شكسبير من الصفات والخصائص الإنسانية والوطنية غير قابلة للتغيير، والتي يقرها جمهوره، عبر التاريخ وعبر الثقافات. وأنه كان يمتلك قدرة استثنائية على فهم عمليات التفكير البشري من "الداخل إلى الخارج". شخصياته ليست مجرد نماذج أصلية أو منتجات من الاتفاقيات العامة، فهي محاكاة معقدة للتفكير والشعور في العمل. شكسبير يجسد مفاهيم أساسية حول الطريقة التي تعمل بها عقولنا والتي تم شرحها من قبل علماء النفس. كما يبدو أن شكسبير قد فهم، بشكل ضمني، ما وجده علم النفس الحديث: من أن البشر لديهم عادة من اتخاذ القرارات التي تستند أكثر إلى حدسهم وعواطفهم أكثر من تفكيرهم الإدراكي.
إنه يفهم الناس: كيف يفكرون وكيف يشعرون، وفي كثير من الأحيان قد لا يصلون إلى مستوى توقعاتهم الاجتماعية والأيديولوجية والدينية. كما يمكنه أن يرى أن تفكيرنا غالبا ما يكون كسولا وقصير النظر وغير منطقي. أن تركيزه ليس على صياغة الشخصيات فحسب، بل على محاكاة عمليات التفكير الخاصة بهم. وحينما نفكر بما تفكر به الشخصية، فأننا أيضا نفكر في أنفسنا. انتاج شكسبير مشوق وغزير يمتد إلى الكشف عن تقدير رفيع للفروق في الطبيعة البشرية، أنه ومن خلال فنه خلق صورة مصغرة عن الكون. لكنه رغم ذلك، لم يظهر تقديرا عميقا لفهم الطبيعة البشرية وفهمها كما يتجلى في مجموعة من الشخصيات، من المهرّبين والمهرّجين إلى التجار والملوك. كما إنه كان يتنقل بين موضوعات مثل القوة المدمرة للغيرة، وأسس العدالة، وديناميكية الخيانة، والتي تقف إلى جانب التحقيقات الأكثر تفاؤلاً في طبيعة الحب المتوازن ضد المصلحة الذاتية، ومزايا المغفرة وقيمها الكبيرة للمجتمع.
لو تناولنا مثالا على ذلك فأننا نلاحظ (Sonnet 15) تشير إلى فكرة التأثير السماوي في نمو البشرية:
عندما أفكر مليّاً في أنّ جميع الأشياء التي تنمو
لا تبقى في حالة اكتمالها سوى لحظة قصيرة
لأن هذا المسرح الضخم لا يُقدِّمُ شيئاً هاما سوى العروض
التي تؤَثِّر فيها النجوم بالتعليق الصامت
هنا، ترتبط فكرة التنجيم هذه بفكرة القدر، والبشر لا يملكون سوى القليل من السيطرة على مصيرهم. وهذا أيضا يعطي البشر عذرا للحظات الأقل تهذيبا. وترتبط قوة تأثير النجوم على العمل البشري أيضًا بالأفكار الأبدية، التي استخدمها شكسبير للاستدلال على استمرارية كلماته المكتوبة في (Sonnet 18):
لكن صيفك الخالد لن يذوي أبداً
أو يفقد ما لديه من الحسن الذي تملكه
ولا الموت يستطيع أن يطويك في ظلاله
عندما تكبر مع الزمن في الأسطر الخالدة
إنها تدل على الإحساس بالطبيعة البشرية باعتبارها وحشا أبديا، لا تنتهي أبداً، وربما لا تتغير أبداً. لكن، شكسبير يتغير قليلا في سوناتاته عندما يصل إلى (Sonnet 130). وهنا يؤكد على الجانب الأكثر واقعية للطبيعة البشرية. الحب لدى الشخص ليس بالشكل التقليدي الجميل. ربما هو يسخر حتى من شعر الحب التقليدي، الذي كتب عنه الكثير، وليس هذا الوصف الأكثر رومانسية للحبيب دليل على ذلك:
وفي بعض العطور رائحة أكثر إمتاعاً
من الأنفاس التي تفوح من معشوقتي
كذلك يقوم شكسبير في مسرحياته بالتقصي الكامل عن الطبيعة البشرية. ففي هنري الرابع (Henry, IV)، يستكشف الجانب السياسي للطبيعة البشرية، وهي فكرة تم استكشافها على مدى الألفين سنة الماضية من قبل علماء السياسة. وعلى وجه الخصوص، فإن هنري الرابع "يهتم بشكل مركزي بالسلطة السياسية: مصادرها، استخداماتها، مظاهرها، عروضها المتصنعة، غموضها، وخنادقها". حتى المؤامرة السياسية هي عنصر مشترك في مسرحيات شكسبير، وخاصة فيما يتعلق بشخصياته الملكية. هذا هو جهاز لاستكشاف العناصر الأساسية للطبيعة البشرية. في حين أن الشرور والانحرافات الجنسية للبشر لم يتم مناقشتها بشكل واضح، فإن استخدام السجال السياسي يسمح لشكسبير بربط هذه الطبيعة البشرية الأساسية بتطور المؤسسات السياسية والدينية.
في الملك لير (King Lear)، يستخدم شكسبير العديد من صور الطبيعة البشرية في أسوأ حالاتها: الجشع والخيانة، العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج، والانتقام. كما يعود أيضًا إلى فكرة الطاقة السماوية كونها عاملًا مُرشدًا لخصائص الشخصية. وهنا يذكر(Edmund) ذلك وبصراحة: "عزونا مصائبنا إلى الشمس والقمر والكواكب كأنما نحن لا نكون ً أوغاداً إلا لزاماً لفعلها، أو حمقى مجانين إلا طوعاً لإرادتها، أو أشراراً ولصوصا وخونة ً إلا تبعاٍ لسلطان أفلاكها، أو سِّكريين مدمنين أو أفاكين أو مفسدين في الأرض إلا مكرهين بقدرة سياراتها، وكأنما كل ما ركب فينا من الشر إنما أنزلته في أنفسنا يد سماوية". (شكسبير، ص21).
يبدو أن غالبية مناقشة شكسبير حول الطبيعة البشرية تدور حول نقاط الضعف في النوع الإنساني. في حين أن هناك استكشاف للقوة البشرية، وهي قوة الحب والولاء، فهي الجانب الأساسي للطبيعة البشرية التي يجسدها الخيال. وهنا يبدو شكسبير مسروراً جداً بإرساء الروح البشرية والنفس العارية ليرى السباق بأكمله، ويعترف بأن البشر بعيدون عن الكمال (Norton, 1993).
شكسبير يعتبر شاعر الطبيعة، شاعر يحمل مرآة صادقة عن الأخلاق والحياة (Johnson, S,2014). يعتبر شكسبير "شاعر الطبيعة" مما يعني أنه ومن خلال أعماله يعكس الحياة، الحياة الحقيقية والأدب. الشاعر الذي يمثل بصدق الطبيعة البشرية في مسرحياته. لا يزيف الواقع. ولأن شخصياته طبيعية، يفعلون ويسلكون ويفكرون ويتكلمون مثل البشر. فأنه يتعامل مع المشاعر والمبادئ المشتركة للبشرية. وهو لا يصور فقط الطريقة والعادات الخاصة لأي بلد أو عمر. شخصياته ليست مجرد ملوك ورومان. هم فوق كل البشر. هذه الشخصيات لديها جاذبية عالمية. لكن هذا لا يعني أنها لا تملك أي صفات فردية. بحيث لا يمكن وضع خطاب شخص ما في فم شخص آخر، كما يمكن وبسهولة تمييز بعضهم عن بعض عن طريق خطاباتهم. يبدو أن الحوار الذي استخدمه "تم استخلاصه من خلال مجموعة مختلفة من المحادثات والحوادث الشائعة". كما أنها تنطبق على العمر أو الجنس أو المهنة التي ينتمون إليها.
وصف شكسبير تصوير واقعي للشخصيات حيث نجد الصورة واقعية ومقنعة عن الطبيعة البشرية. أنه لا يصور أشخاصًا متميزين أو فسادين لا مثيل لهم. الشخصيات في مسرحياته ليسوا أبطالاً بل كائنات بشرية فقط تتصرف وتفكر بالطريقة التي يتصرف ويفكر بها القارئ نفسه في ظل هذه الظروف. حتى عندما تكون صفة الفاعل خارقة للطبيعة، فإن الحوار يتوافق مع الواقع. في مسرحياته، أظهر شكسبير الطبيعة البشرية ليس فقط بكونها تتصرف في حلول حقيقية، ولكن يمكن أن توجد في حالة قد لا تنشأ أبداً. شكسبير هو الأكثر أصالة في تصويره للشخصيات. يقول(Johnson) أن أي كاتب من قبله، باستثناء(Chaucer)، قد صور الشخصية البشرية بطريقة واقعية. وقد جمع شكسبير معرفته للطبيعة البشرية من هذه الملاحظات الشخصية. وقد مكنته هذه المعرفة من تصوير تعدد وتنوع الشخصية والكشف عن الفروق الدقيقة بين إنسان وإنسان آخر. في هذا الصدد، فأنه ليس هناك أي مثيل له، على الرغم من أنه قد تم تقليده من قبل جميع الكتاب. ولكن، سواء أكانت الحياة أو الطبيعة هي موضوعه، فإنه أعطى أدلة على رؤيته للأشياء بأم عينيه.
مسرحيات شكسبير مليئة بالمسلمات العملية والحكمة المحلية. من خلالها يمكن صياغة فلسفة للحياة، ذات قيمة عملية كبيرة في الحياة الحقيقية. إنه ليس عظيماً فقط في مقاطع معينة، لكن سلوكه الكامل يبرز عظمته كشاعر للطبيعة البشرية. وعن واقعية شكسبير، يقول(Johnson) أنه في حقيقة أيضا لا يعطي أهمية غير مسبوقة لشغف الحب في مسرحياته. أنه يعطي القائمون على الدراما بشكل عام أهمية مفرطة لموضوع الحب وغالبا ما ينتهكون الاحتمالات ويحرفون الحياة. يشير شكسبير إلى ذلك فيقول ذلك: بأن "الحب هو فقط واحد من العديد من المشاعر"، وأنه ليس له تأثير كبير على مجمل الحياة.
ويدافع جونسون عن مزج شكسبير على أرض الواقع بين العناصر المأساوية والهزلية في مسرحياته. هذا المزج لا يؤدي إلا إلى إظهار مسار العالم الذي فيه "أن خسارة شخص، ما هي إلا مكسب للشخص آخر، في نفس الوقت". كما لا يعارض انتهاك شكسبير لوحدات المكان والزمان. كما يدافع عن الخيال الدرامي لشكسبير. فالأدب هو موضع تقدير ليس بالمعنى الحرفي بل بالخيال. وبذلك يكشف شكسبير عن إنسانية عميقة وواقعية سيادية.
كما كان شكسبير مهتمًا جدًا بالقضايا المتعلقة بالذات. وتساءل عن قدرة الشخص على فصل شخصيته عن الظروف الخارجية. كما أن التساؤلات حول الذات تتخلل جميع مسرحيات شكسبير: "ما مدى ثبات الشيء الذي نسميه بالشخصية؟ ما مدى سهولة أن يعرف شخص ما شخصيته الخاصة؟ هل الشخصية هدية من الله أو الطبيعة أم لا؟ ما مدى صلابة ذلك؟" ما هو الجوهر المادي أو البناء الاجتماعي؟ " في الدراما، يشاهد الجمهور شخصا أو مجموعة من الأشخاص يخضعون لتغيير شخصي أو يظلون على حالهم على مدار الوقت استجابةً للأحداث. غالبا ما يكون ذات الشخص على المسرح في حالة اضطراب، غير متأكد من نفسه، وفوضوي للغاية. فمن خلال عرضه للعقل المشوش على خشبة المسرح، حاول شكسبير أن يرسم كيف يمكن أن يصبح العقل مجزأ من خلال الصراع مع نفسه، وهذا ليس كل شيء في إطار السيطرة العقلانية للشخص، كما أن معرفة الذات ليست موثوقة دائمًا.

في كثير من الأحيان، حتى في مسرحياته المأساوية، يقدم الشخصيات التي تجسد المبادئ والمثل العليا للنزعة الإنسانية في عصر النهضة، أو يقدم أناس يتمتعون بذكاء ومعرفة ذاتية هائلة وقادرين على التعبير عن ذواتهم وممارسة حريتهم الفردية. يستخدم شكسبير هاملت كفكرة عن العمل المعقد للعقل البشري وكيف يختار الإنسان قراره وفق خصائصه. في مسرحية هاملت، فقد أظهر فكرة الإنسانية من خلال إعطاء هاملت جميع الخصائص والأداء من النوع الذي يمكن أن يقود القارئ إلى فهم أكثر ووعيا بالإنسانية. في أعمال هاملت يظهر شكسبير بأن البشر بحاجة لأن يكونوا على وعي ذاتي بالخيارات التي ستكون في حياتهم. علينا أن نفكر مسبقا، بدلا من أن نفعل أي شيء خارج عن السيطرة. باختصار، في الملك لير، نرى أن شكسبير طور الشخصيات بدقة شديدة لدرجة أنها تشبه مرايا تعكس الحقائق والتحولات ذات الصلة بالطبيعة البشرية.
التأثير المهم الوحيد على شكسبير، في النهاية، كان شكسبير نفسه. في عمله المتزايد، يصبح ما يهمله أكثر أهمية بكثير مما يدخله، ولذا فهو يأخذ الأدب إلى أبعد من حدوده.

شكسبير وعلم النفس
أدرك شكسبير شياطيننا الداخليين وعرف كيف يعبر عنهم على صفحاته المكتوبة. من الواضح أن شكسبير كان مفتون بأداء العقل البشري. أعماله الدرامية هي المسرحيات الأعمق التي تعني بالدراما النفسية "psychodramas"، مع الكثير من العمل الهائل لتحريك دواخل نفوس شخصياته. أن تقديم الدراما النفسية على المسرح يمكننا من خلالها أن نخرج عالمنا الداخلي وأن نتعلم من الشخصيات التي تم اخترعها. وينظر إلى العقل البشري في أدواره، ليس مجرد وعي عابر، ولكن أيضا خيال، جنون، أطياف، تشنجات، وشغف شديد. أنه مهتم بما يسمى بعلم النفس غير القياسي بقدر ما هو هتم بعلم النفس الطبيعي ويرى كيف يمكن للشخص أن يتشكل وفقا لتلك الشخصية أو يتحول إلى شخصا آخر.
إن اهتمامه بالجوانب الشخصية للمسرحية هو جزء من الاهتمام العام بعمليات العقل. كثيرا ما يقال إن شكسبير كان عالما نفسيا متألقاً، مما يعني أنه كان لديه فهم عميق للطبيعة البشرية. على وجه الخصوص، وفهما للأنواع النفسية الفريدة. هذا لا شك صحيح، ولكنه أيضًا حاول الاقتراب من العقل بروح العالم، فهو مهتم بكيفية عمله، وما هي مكوناته، وكيف يتم التفاعل بينها.
هذا جزء مما يسمى بطبيعية شكسبير: فهو يقترب من العقل البشري كمشاهد ومسجل محايد، مشيرا إلى أوجه التشابه والاختلاف، في محاولة لتقديم رصد دقيق لظاهرة طبيعية. تكتسب الظواهر العقلية الغريبة انتباهه. التعميمات مكشوفة. مع احترام للتنوع.
يهدف كل من المؤلفين إلى إعطائنا صورة واضحة عن الطبيعة النفسية البشرية، مفتوحة للظواهر بكل ثرائها وتعقيدها، وليس شرطًا مسبقًا من قبل عقيدة أو أيديولوجية سابقة، دينية أو علمية. وبالتالي كل مؤلف، فوق كل شيء، نزيه، جازم، قاسي، صريح. ومع ذلك الجميع يعترف بوجود الفضيلة الإنسانية، ويراعيها. هم لا يهبطون بالرومانسية من الظلام الدامس، بل يرتفعون بها إلى سماء الخلق. حيث يعطينا شكسبير منظوراً بانورامياً للعقل البشري، محاسبة شاملة، كما لو كان يهدف إلى نوع من الكمال. لا يمكن لأحد أن يتهم شكسبير بالضعف، وضيق الرؤية. يبدو أن كل حيوات الإنسانية موجودة هناك، جسدها بشخوصيه النابضة بالحياة.
تكمن قوة أدب شكسبير الأدبية في كونه أحد كبار صانعي الرموز الأدبية ومطوري الاستعارات، جنبا إلى جنب مع (Milton)، (Keats)، (Homer) و(Sophocles)، قادرة على التعبير عن أعمق رغبات الإنسان ومآزقه. مسرحياته شهادة على رؤاه في الطبيعة البشرية.
يمتلك شكسبير قدرة في معرفته الحميمة بالحالة الطبيعية للوظائف العقلية في كل شخصية من الشخصيات، حيث يمكنه مقارنة وتقدير كل اتجاه أو درجة انحراف. إن معرفته بالفيزيولوجيا العقلية للحياة البشرية سوفر له معرفة بالغموض والتعقيدات في علم الأمراض. يضاف كل هذا إلى تلك القوة من امتلاك عبقرية لا يمكن تحديدها، أو تسميتها.
الأسوأ من ذلك، نحن البشر آخر من يلاحظ طبيعتنا المحدودة. حيث يلخص شكسبير جزءا كبيرا من نتائج علم النفس الحديث بعبارته: "الأكثر جهلًا هو الأكثر وثوقاً". وهو بذلك قدم اكتشافا في علم النفس الاجتماعي والمعرفي وهو أن البشر يشعرون بالثقة المفرطة في سخائهم في معرفتهم وحكمتهم واستقامتهم. وأن الأشخاص الذين يختلفون معهم هم أغبياء ومتصلبين وجاهلين. حيث يبالغ الناس بشكل موثوق في تقدير معرفتهم الخاصة، ويسيئون تقدير مدى دقتهم في وضع التوقعات. من اللافت للنظر أن شكسبير يعرّف هذا الجانب الغامض من شخصياتنا.
لقد أظهرت الأبحاث في علم النفس أن بعض السمات الجوهرية والتي يمتلكها الشخص في مستوياته العميقة يمكن كشفها على أساس كيفية استخدامه للغة. كما أن هذه النتائج تؤدي بوضوح إلى استكشاف الأبعاد النفسية للعمل الأدبي والتي يمكن أن تقدم رؤية أعمق لعملية التحليل النصي.
على الرغم من أن التحليل النفسي لم يتجسد بشكل كامل حتى نهاية القرن العشرين، الذي طوره سيغموند فرويد وشخصيته كارل يونغ، إلا أنه كان موجودًا بالتأكيد قبل ظهور هذا العلم، وسبق الوصول إلى أصوله العلمية العديد من العقول في الأدب والفلسفة. وكان وليم شكسبير، على وجه الخصوص، أحد الكُتاب البارزين في هذا المجال. والذي قدم مجموعة كبيرة من المسرحيات التي لا يمكن أن تُنسى. لأنه فهم جيداً العقل البشري. حيث يدفع بالقارئ عمليا القيام بالتحليل النفسي للشخصيات ودوافعهم وأفعالهم وردود أفعالهم.
هذه الشخصيات لديها وعي غير واعي، وبالتالي، هي عرضة للتناقضات الأخلاقية نفسها مثل أي إنسان، معقدة في مشاعرها إن لم يكن في ذكائها. علاوة على ذلك، حتى لو جادل المرء بأن هذه الشخصيات هي مجرد إسقاطات لإبداع شكسبير، فهناك، مثلما تسربت الكلمات من العقل قبل أن تنقط من القلم، لا تزال هناك مساحة لتحليل هذه الشخصيات والمؤامرات من خلال عدسة التحليل النفسي، لأنها توقعات شكسبير، نعم، لكنه أيضاً لديه العقل اللاواعي، وهو مليء بالدوافع الخفية حتى عن ذاته. حيث يمكن للمجتمع أن يتعلم من الأدب بقدر ما يستطيع من التاريخ، وفي الغالب أكثر إدراكا، لأن الفن المعروض هو أكثر حميمية من معظم مقاطع الخطاب التاريخي الذي لا حياة له.
الشخصيات المتعددة الأبعاد والمعقدة التي تسكن العوالم التي شكلها الكتاب المبدعون هي التي تعطي "الحياة" للأعمال المختلفة من النثر والشعر، والتي هي أكثر من سياقات عوالمهم، على الرغم من أن ذلك له أيضاً عواقبه النفسية، فإن هذه الشخصيات تسير من الصفحة إلى العقل، تاركة انطباعًا دائمًا، حفريات محفوظة لآلاف السنين بدلاً من البصمة الموجودة في الوحل، التي تغسلها وتدمرها أشعة الشمس. في الواقع، يجب على فرويد وغيره من علماء النفس أن يرفعوا قبعاتهم إلى شكسبير، وهو رجل سبقهم، ينتمي إلى الطبقة الأصلية من علماء النفس: الشعراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع جزء من دراسة يأمل الباحث بنشرها قريبا.



#جودت_شاكر_محمود (هاشتاغ)       #          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الآداب والفنون والطبيعة البشرية (2)
- الآداب والفنون والطبيعة البشرية (1)
- قريتي والعولمة
- تانتالوس
- رحلة إلى عالمها
- همسات من عالم متغير
- تساؤلات غبية
- الفراشة الأخيرة:
- الفراشة التاسعة والعشرون:
- الفراشة الثامنة والعشرون:
- الفراشة السابعة والعشرون:
- الفراشة السادسة والعشرون:
- الفراشة الخامسة والعشرون:
- الفراشة الرابعة والعشرون:
- الفراشة الثالثة والعشرون:
- الفراشة الثانية والعشرون:
- الفراشة الواحد والعشرون:
- الفراشة العشرون:
- الفراشة التاسعة عشر:
- الفراشة الثامنة عشر:


المزيد.....




- روسيا تدعي أن منفذي -هجوم موسكو- مدعومون من أوكرانيا دون مشا ...
- إخراج -ثعبان بحر- بطول 30 سم من أحشاء رجل فيتنامي دخل من منط ...
- سلسلة حرائق متتالية في مصر تثير غضب وتحليلات المواطنين
- عباس يمنح الحكومة الجديدة الثقة في ظل غياب المجلس التشريعي
- -البركان والكاتيوشا-.. صواريخ -حزب الله- تضرب مستوطنتين إسرا ...
- أولمرت: حكومة نتنياهو تقفز في الظلام ومسكونة بفكرة -حرب نهاي ...
- لافروف: أرمينيا تسعى عمدا إلى تدمير العلاقات مع روسيا
- فنلندا: معاهدة الدفاع مع الولايات المتحدة من شأنها أن تقوض س ...
- هجوم موسكو: بوتين لا يعتزم لقاء عائلات الضحايا وواشنطن تندد ...
- الجيش السوداني يعلن السيطرة على جسر يربط أمبدة وأم درمان


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جودت شاكر محمود - الآداب والفنون والطبيعة البشرية (الجزء الأخير)