|
|
خجي وسيامند: الفصل الأول 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5941 - 2018 / 7 / 22 - 21:49
المحور:
الادب والفن
وفيما القافلة الحديدية تمضي قدماً، عابرةً الفيافي والفلوات تحت شمسٍ قوية، كانت السيّدة السويدية تؤوب بأفكارها إلى ماضٍ غاربٍ. خلفَ الأفق الورديّ، المُضاء بالشعاع المنتصر، كان يتشكّل مشهدُ رحلة مماثلة سبقَ للشقيقين الدمشقيين أن قاما بها على نفس خط هذا القطار.. وربما أيضاً في ذات العربة؛ أين تجلس " تينا " بمواجهة الرجل المغربيّ، القادم من باريس على متن طائرة تقدّم النبيذ الفرنسيّ مجاناً: أكان عمداً أم اتفاقاً، تكرارُها لرحلة الشقيقين تلك، الشقية، حتى أنها فضّلت مشقة السفر بالقطار إلى مراكش بدلاً عن الطائرة؟ ولن تكتمل مقاربة السؤال سوى بذكر حقيقة أخرى، وهيَ أن كلتا الرحلتين استهلت من مطار ستوكهولم سواءً بجواز سفر حقيقيّ أو مزيّف! على أنه لا وجه للمقارنة بين الرحلتين، لناحية الحالة النفسية لأبطال كلّ منهما. لقد ثبّط البوليس السويديّ أملَ الشقيقين في ملاذٍ آمن، حينَ رفض طلبهما للجوء السياسيّ وما لبثَ أن أركبهما الطائرة المتجهة إلى الرباط. ثمة، ضاعفَ البوليس المغربيّ عذابَ بطلينا وذلك بحشرهما في قطار مراكش بعدما اشترى لهما بطاقتين بكامل المبلغ الجسيم، الذي حملاه معهما من دمشق؛ أربعمائة دولار، كانت والدتهما المسكينة قد استدانتهما من عمّ أخيهما غير الشقيق. أما وقد رسيا هنالك، على أحد أرصفة المدينة الحمراء، فإنّ طاقة الأمل قد سدّت بوجهيهما تماماً.. مثلما خيّل إليهما، في الساعات الأولى على الأقل. اليأسُ، قمرٌ يميل على سور المدينة بضحكته الساخرة. النسيم الخريفيّ، وكان ما يفتأ حاراً بعدُ، ينقل لمسامع الشقيقين عباراتٍ مبهمة يتبادلها العابرون، لعلها تترجم اعتقادهم بأنهم أمام مشهد سائحَيْن أوروبيين، يفترشان الأرضَ منامةً على عادة الكثير من مواطنيهما. فجأة، وبينما كان " فرهاد " يزيح خصلات شعر شقيقته، الغامرة وجهه مع خوفها الدخيل، إذا بصره يتعلقُ بعينين صافيتين، مشرقتين بالتعاطف، جعلتا قلبه ينتفضُ مثلما الحال مع أول نظرات الهيام. بيْدَ أنّ ذلك الشعور لم يدُم إلا لحظة، ليعقبه الاستسلام التام لليأس والخواء والإحباط. ثم عاد ليتأمل سحنة أخته، المسجاة تحت وطأة النعاس بعينين مغلقتين وشفتين منفرجتين عن أنفاسٍ متعبة. قال لها بالكردية مداعباً، مقدّراً أنها لن تسمعه وهيَ في تهويمها: " ماذا تتنبأ النجومُ، أيتها العرّافة القادمة من دلفي؟ ". التصقت بجسده أكثر، تلمّساً للدفء أو الأمان، أو كلاهما معاً. وما عتمَ صوتها الخافت أن طرق سمعه بصعوبة، بسبب أصداء العربات على الشارع العام: " قل ما تبتغيه من النجوم، يا ابن خَجيْ، العاشق؟ ". أجابته بنفس اللغة، فيما عيناها السوداوان تتفتحان ببطء ـ كأنهما بركتان، غمرهما على غرّة ضوءُ قمرٍ عابث، ضاحك الفم. *** كان أشبه بنبوءة، ذلك الجواب، طالما أنّ " فرهاد " سيفغر فمه دهشةً آنَ رؤيته لصاحبة العينين الوادعتين وهيَ ترجع على أعقابها برفقة مَن بدت أنها والدتها. بلى، إنها رجعت كي تقوده وشقيقته إلى شط السلامة كما سفينةٍ محطمة الصارية. لم يكن منزل أسرتها يبعد بأكثر من ستين خطوة، تلفه العَرَصات المشمولة بالعتمة والشارع العام المغمور بالأضواء. هنالك في صالة المنزل، وكان عبارة عن فيللا من ثلاثة أدوار، ضغطت الفتاة في رقة على يده معرّفةً بنفسها: " اسمي خدّوج؛ وهوَ تحويرٌ محليَ لاسم خديجة ". وكاد أن يقول لها عندئذٍ، متفاقم الدهشة، أنّ النبوءة اكتملت مع معرفته لاسمها: الكرد، يحورون أيضاً ذلك الاسمَ إلى " خجي "!
*** " أهيَ المرة الأولى، تزورين فيها المغرب؟ "، سألها الرجلُ الخمسينيّ، المفعم بالرائحة الحريفة للكحول. أوضحت له، أنها المرة الثانية وكانت قد سبقتها رحلة سياحية ( شارتر ) إلى أغادير. مط الرجلُ شفته السفلى في حركة تفهّم، مغمغماً بنبرة متخمة بالثقة والرضا عن النفس: " أما أنا، فلا يعجبني من المغرب سوى طنجة. مع أنني جئتها من مسقط رأسي في الريف، وكنت أتجاوز سنّ العاشرة " " أتمنى لو تتاح لي فرصة زيارتها، لأنها مرتبطة باسم الكاتب شوكري.. " " أيّ كاتب هذا؟ " " إنه مؤلف مغربي من طنجة.. " " آه، أنت تقصدين محمد شكري؟ أعرفه شخصياً. وبالأحرى، هوَ من عرفني حينما كان يتطفل في الستينات على مقاهي المثقفين! "، قالها بازدراء. " تينا "، وقد استغربت نبرة الرجل العدوانية، آثرت الركونَ إلى الصمت. ربما لم تفهم عباراته جيداً، كونه تكلم بالفرنسية والتي يُجيدها مثل معظم المغاربة من صنف " مثقفي المقاهي "ـ على حدّ تعبيره. عاد إلى الحديث متصنعاً الوقار، مع أنّ الحدة لم تبارح نبرته: " أظنك قرأتِ سيرته الذاتية، ‘ الخبز الحافي ‘، فأثارت إعجابك فضلاً عن شفقتك على مؤلفها لمعاناته في طفولته؟ " " أجل. وإنه الكاتب المغربيّ الوحيد، المترجم للغة السويدية.. " " ياه، كم هوَ محظوظٌ! مع أننا نملك أدباءً أفضل منه بكثير، هذا لو عدّ أصلاً أديباً أصيلاً! فالصدق أساس الأدب الواقعي، لو تعلق الأمرُ بالنثر لا الشعر. فماذا قدّم شكري غيرَ قصصٍ ملفقة عن طفولته، ومنها أن أباه باعه لصاحب مقهى مقابل بضعة دراهم؟ وبأيّ حال من الأحوال، هيَ قصص الكثير من المغاربة والتي لم يرضَ أصحابها رهنَ مؤخرتهم لأديب أمريكي، مثليّ، كي يترجمها من اللهجة الدارجة إلى لغته الانكليزية! "، اختتم خطبته بضحكة مريرة وكأنما يقصد نفسه في جملتها الأخيرة. هذه الضحكة، جعلته أكثر قبحاً في نظر السيّدة السويدية. طبعها لم يكن متحفظاً، ومع ذلك، آلمها أن كاتباً معروفاً عالمياً يُمكن أن يوصف بتلك الطريقة الجارحة ومن لدُن مواطنه وربما زميله في الأدب. آبت بعدئذٍ إلى مواطئ الصمت، فيما الظهيرة قد بدأت تهيمن بظلالها الملتهبة على نافذة عربة القطار.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خجي وسيامند: الفصل الأول 1
-
الصراطُ متساقطاً: فاتحة 3
-
الصراطُ متساقطاً: فاتحة 2
-
الصراطُ متساقطاً: فاتحة 1
-
كعبةُ العَماء: خاتمة
-
إلِكْترا: بقية الفصل العاشر
-
إلِكْترا: الفصل العاشر 1
-
إلِكْترا: بقية الفصل التاسع
-
إلِكْترا: الفصل التاسع 3
-
إلِكْترا: الفصل التاسع 2
-
إلِكْترا: الفصل التاسع 1
-
إلِكْترا: الفصل الثامن 5
-
إلِكْترا: الفصل الثامن 4
-
إلِكْترا: الفصل الثامن 3
-
إلِكْترا: الفصل الثامن 2
-
إلِكْترا: الفصل الثامن 1
-
سيرَة أُخرى 70
-
إلِكْترا: الفصل السابع 5
-
إلِكْترا: الفصل السابع 4
-
إلِكْترا: الفصل السابع 3
المزيد.....
-
فولتير: الفيلسوف الساخر الذي فضح الاستبداد
-
دموع هند رجب تُضيء مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ46
-
توقيع الكتاب تسوّل فاضح!
-
فيثاغورس… حين يصغي العقل إلى الموسيقى السرّية للكون
-
العلماء العرب المعاصرون ومآل مكتباتهم.. قراءة في كتاب أحمد ا
...
-
-رواية الإمام- بين المرجعي والتخييلي وأنسنة الفلسطيني
-
المخرج طارق صالح - حبّ مصر الذي تحوّل إلى سينما بثمن باهظ
-
-إنّما يُجنى الهدى من صُحبة الخِلّ الأمين-.. الصداقة الافترا
...
-
مؤسس -هاغينغ فيس-: نحن في فقاعة النماذج اللغوية لا الذكاء ال
...
-
مسرحية -عيشة ومش عيشة-: قراءة أنثروبولوجية في اليومي الاجتما
...
المزيد.....
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
-
مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز.
...
/ السيد حافظ
-
إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|