|
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 4
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5812 - 2018 / 3 / 11 - 11:57
المحور:
الادب والفن
صباحاً، المحيط مرة أخرى. برزخٌ أزرق، لا يكاد يلوح لناظريه وهوَ في مكانٍ مطوّق بجدران مدخل السقالة ( القلعة البحرية ). كأنما هوَ حضورٌ غائب، يُنيب عنه هديرَ الموج المنقضّ بشراسة القرش على الصخور السوداء المُعمِّرة، المليئة بثقوب الذاكرة. نوائبُ الريح تُلقّم لأعماق اليمّ، بين فترة وأخرى، مركبَ صيدٍ ببدائيته وبؤس عماله. تصل شذراتٌ من الهبوب الصباحيّ إلى موقف البائع الشاب، لتُجَشِمه عناءَ إعادة بعض اللوحات إلى وضعها المعتاد بإزاء الجدار. النورس، المتعجّل دوماً في طيرانه إلى وليمة ما، لا يقل إزعاجاً بعويله، ولا بسماده المهدور فوق هامات الأحياء. مالت الشمس أخيراً نحوَ منحنى الغروب، أزفَ وقتُ لملمة نتاج الرسام العجوز، آخر زوار السقالة غادرت مخلفة وراءها أثراً من آثار إعجاب بائع اللوحات الشاب. عليه كان أن ينتقل من ضاحية معزولة عن مراكش إلى ضاحية أكثر نأياً عنهما، حتى يُقدّر نعمة كونه شاعراً وغريباً. لم يعُد مُجبراً على المكوث تحت سقف كآبة الرسام العجوز، أقله خلال جلّ ساعات النهار والتي يقضيها مرفرفاً بحريّة طائر نورس فوق شواطئ المدينة. إنها لساعاتٌ من ذهب، باتَ يهبها أيضاً حقَّ ما تستحقه من قدر. شتاءُ " الصويرة " بحدّ ذاته، نعمة للغريب القادم من قارة الصقيع: رياحٌ حارّة تهبّ من جهة الصحارى، محتضنة المدينة بأجنحة الدفء، ترتدّ أمامها تياراتُ المحيط الباردة؛ رطوبة طفيفة، مشحونة بعبق ملوحة البحر وكائناته؛ سُحُبٌ تائهة، ترصّعها الشمسُ بفضّةٍ تُذكّر الأوروبيّ بندف ثلج سماء بلده.. تذكّره، فوق ذلك، بنصاعة أبدان فتياتها ـ كما لو أنها تغريه بالعودة سريعاً إلى حضنٍ أكثر دفئاً، وطيشاً، من ريح صحراوية. هوَ ذا عائدٌ للمزرعة، وإن يكن متأخراً. تخترقُ الطريقَ الضيّق دراجته النارية، ملقية عينها الوحيدة، المضيئة، الرعبَ في قلوب كائنات العتمة. ولا كذلك العشيقة الطائشة، المطمئنة إلى موعدٍ ليليّ تجترّه يوماً بعد يوم بنفحٍ من فحولة الفتى الغريب وأعطية من عطاياه. هنالك عند السياج الفاصل بين المزرعة والوادي الكبير، غالباً ما تبادلا الحبّ وسط موسيقى الطبيعة الأكثر غموضاً. ما كان ثمة متسعٌ للكلمات في الشفاه الظمأى للقُبل، قَبل أن يُفرِجَ عنها احتكاكُ الأعضاء الأكثر سرّانية.. كلمات، مثقلة بالتنهيدات والآهات، تتلقاها كائنات العتمة في خجلٍ جديرٍ بعذريتها: كان على علم، مع ذلك، أنها تمنحه بدَورها عطايا البدن الكريم، المُختلسة من سريرٍ زوجيّ مهجور. لعلها إذاً رائحة عانة العشيق الآخر، الرطبة بعدُ ( يفكّرُ دونما حاجةٍ لغيرة لا طائل من ورائها )، مَن تفوح من الفرْج المعلن العصيان على سائسه الشرعيّ. * انتصبت السيّدة السورية، لتلقي آخر نظراتها على مشهد الحديقة، المحال خضرته إلى لون الغروب القاتم بظلاله الكثيفة. ألوان أخرى، مُصنّعة من مكونات الذاكرة، تمتزجُ تحت بصرها على لوحة المخطوطة مشكلةً ملامحَ مَن كانوا يوماً كائنات حيّة يمتون لحياتها وأحلامها سواءً بسواء. لطالما رأت في مرآة ذاتها صورَهم، بكل ما فيها من الأصالة والزيف، الأمانة والغش، الإخلاص والخيانة، الفضيلة والفحش؛ بكل ما فيهم من صورة مراكش نفسها، المشوشة المتناقضة تناقض تلك القيم وتضادها؛ بكل رغبتهم العارمة أن يدفّعونها ثمنَ أرواحهم المهدورة، التي انصهرت في بوتقة روحها الضائعة. كاد بصرُها أن يُستدعى من ذلك المشهد، الواقعيّ والمتخيَّل في آنٍ، حينَ اصطدمَ هذه المرة بصورة " فرهاد ". ارتدّت إلى الخلف بحركة عفوية، كمن تفاجأ بأحدهم يتلصصُ على عري جسدها. عمق الشرفة، كان أضيق من أن يحتضنَ قامتها المترنّحة. عادت مستسلمة لموقفها الأول، كي تتلقى إيماءة مُحيية من أسفل. شدّ ما باتت على توتر دائب في الآونة الأخيرة، حتى أن حركة كتلك كانت تفقدها أعصابها: " يا لغباء هؤلاء البشر..! كيفَ بوسعهم تبادل قبلات الترحيب والوداع عشرات المرات في اليوم الواحد؟ "، خاطبته من خلال داخلها وكما لو أنه صُهِرَ فعلاً بمادة المدينة. بيْدَ أنها، ولا ريب، لم تكن تجهل حقيقة أنّ ما ألمّ بها من مشاعر حنق آنية إنما كان صدىً لأصوات ليلة من ليالي زنا تلك المخلوقة عديمة الأخلاق. ربما كان كذلك صدى لأصوات مماثلة، أطلقتها الابنة في محترف الرسم مع عشيق الليالي الخوالي .. مع هذا الشاب المكتئب، الواجم أمام الزهور المتناعسة، متصنّعاً هيئةَ أيّ غيور غبيّ: أليست هيئتها كذلك ( هيَ السيّدة رفيعة المقام )، ما فتأت تستعيدُ مرةً بعدَ مرة، بإصرار وعناد، صورةَ " الشريفة "، في أوان الانتهاء من طيّ مجلّد المذكرات. " سوسن خانم "، آبت إلى نفسها منحّيةً جانباً كلّ ذكرى. أرسلت قدميها في بطء باتجاه الصالة، غير عابئة أيضاً بانتظار الشاب الآخر. كان من شيمة " آلان " في غالب الأحيان، ألا يغادر مكان عمله بدون حضورها. فكيف، وقد شددت عليه اليومَ بضرورة انتظارها لكي تفضي له بأمرٍ ذي بال: " فإذا كان على يقين من عودتي إلى المكتب، فلأدعه ينتظر قليلاً أو كثيراً! "، أسرّت لنفسها في خفّة وهيَ متألقة الثغر ببسمة غامضة.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 2
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 2
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 1
-
المطعم
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الرابع 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الرابع 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الرابع 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الرابع 2
-
الهاوية
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الرابع 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 2
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 1
المزيد.....
-
إيرادات فيلم سيكو سيكو اليومية تتخطى حاجز 2 مليون جنية مصري!
...
-
ملامح من حركة سوق الكتاب في دمشق.. تجمعات أدبية ووفرة في الع
...
-
كيف ألهمت ثقافة السكن الفريدة في كوريا الجنوبية معرضًا فنيا
...
-
شاهد: نظارة تعرض ترجمة فورية أبهرت ضيوف دوليين في حدث هانغتش
...
-
-الملفوظات-.. وثيقة دعوية وتاريخية تستكشف منهجية جماعة التبل
...
-
-أقوى من أي هجوم أو كفاح مسلح-.. ساويرس يعلق على فيلم -لا أر
...
-
-مندوب الليل-... فيلم سعودي يكشف الوجه الخفي للرياض
-
الموت يفجع الفنانة اللبنانية كارول سماحة بوفاة زوجها
-
وفاة المنتج المصري وليد مصطفى زوج الفنانة اللبنانية كارول سم
...
-
الشاعرة ومغنية السوبرانوالرائعة :دسهيرادريس ضيفة صالون النجو
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|