|
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الرابع 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5797 - 2018 / 2 / 24 - 03:21
المحور:
الادب والفن
أطلقَ المُضيف ضحكةً مختصرة، تعقيباً على ما بدَر من علامات الدهشة على سحنة السيّدة السورية. بادر لإجابة سؤالها، قائلاً ببساطة: " أنا عنيتُ حَسْب، أنكِ لا تكترثين لأصلك الأثنيّ، مثلك في ذلك مثل هيلين سواءً بسواء ". ألقت " سوسن خانم " نظرةً على البساتين البعيدة، المنبسطة وراء أسوار الفيللا، والمنساب بينها سواقي تلمع مياهها تحت وهج الشمس فتغدو كالسيوف الفضيّة. قالت له، مومئةً إلى تلك الناحية: " كنتُ قبل حضوركَ أتأمل هذا المنظر، الأشبه بلوحة فنية من إبداع مواطنكم سيزان. وإذا بي أحسّني في مسقط رأسي، وأنّ الزمنَ القديمَ يُستعاد. كلّنا، يا سيّدي، نحاول أن نتجاهلَ أشياءَ التصقت بنا بحُكم الانتماء.. ولكنها لا تمتّ لحقيقة وجودنا، حالنا في حضرة هذا الجمال غير المنتمي إلا للطبيعة. " ولكن، يا عزيزتي، إنّ الطبيعة لا يُضيرها أن تتنوّع ورودها وأزاهيرها وأن يُضمِّخَ كلٌّ منها الوجودَ بعطره الخاص. الحق، أنني لم أكن أنظر سلباً إلى مسألة ضيق هيلين بيهوديتها. لأنني أعلمُ، وأتفهمُ، مدى تأثير الأفكار الوجودية على جيلنا. اختيارنا لهذا المنفى الشرقيّ، بعيداً عن حضارة الآلة القاتلة للروح، كان من واردات تلك الأفكار. مع أنّ هذا الأمرَ، أضحى في وقتٍ لاحق موضةً بين العديد من الأدباء والفنانين وخصوصاً الشباب. فأصبح المغرب شبيهاً بكعبَة المسلمين، من حيث كونه محجّاً لأولئك الهاربين، الأصيلين منهم والأدعياء " " الحج، له مهلة محددة. بينما أنتَ، على الأقل، أمضيتَ كما أخبرتني أمس قرابة الأربعين عاماً هنا " " ملاحظتك ذكية، ولا شك. إنها تدعمُ أيضاً هذه الحقيقة؛ وهيَ أن أكثر أولئك المثقفين قد عادوا إلى أماكن سكناهم الأولى كونهم افتقدوا نمط الحياة المرفّه، الذي اعتادوا عليه قبلاً " " حسناً، كنا نتكلم عن الحرب الحالية. صارحتك حينئذٍ برأيي، أنها تهدف لتدمير العراق خدمةً لإسرائيل. فلِمَ دخلَ في ذهنكَ، أمرُ مقارنة كرديّتي بيهودية امرأتك الراحلة؟ "، سألت الخانم مضيفها بنبرة جاهدت ألا تبدو مستاءة. بدَوره، بدا المسيو وكأنه بحاجة لجهدٍ كي يُجيب على السؤال. كذا كان حالهما، لما شاءت " للّا عيّوش " أن تطلّ على الشرفة لتقطع حديثهما بالدعوة إلى مائدة الفطور.
* " أترغبين مني الاعتذار، بخصوص تلك المقارنة؟ أدري أنكم، هناك في المشرق العربيّ، تتحسسون من كل ما له علاقة باليهود؟ "، قال لها المُضيف باسماً، مُجيباً بسؤال مضاد. كررت الخانم حركة لمس يده، المُعبّرة عن الود. ولكنها أجابت مرافقتها أولاً، باسطةً كفها نحوَ المسيو: " سأحمله على المضي إلى المائدة رأساً، كي لا يجشمكِ ثانيةً إعادة تسخين القهوة! ". اختفت المرافقة خلف مدخل الشرفة، مخلّفةً صدى ضحكتها الصاخبة. وهيَ ذي " سوسن خانم " تنهض من كرسيها، داعيةً الرجل للإقتداء بها. استجابَ ليدها الممدودة، قائلاً وقد تلاشت بسمته: " عليكِ ألا تنسي سؤالي الأخير، كون ذاكرتي أضحت شبيهة بحقيبة سفري الأولى، المتهتكة ". ولكن، ما هوَ الفطور الفرنسيّ؛ غير قطعة من المعجنات ( كرواسان غالباً ) مع قدح من القهوة؟! على ذلك، ندرك لِمَ أخّرت الخانم موعدَ الجلوس على المائدة. إذ سبقَ فتدبّرت الأمرَ بأن أرسلت مرافقتها باكراً إلى سوق الضاحية، لشراء ما تيسّر من بيض وزيتون وجبن أبيض وزبدة ومربى علاوة على الخبز بنوعيه المحليّ والإفرنجيّ. كذلك أُمرتْ " للّا عيّوش " أن تشتري ما يلزم للغداء، طالما أنها ستتعهّد بنفسها تحضير وجبة طاجين الخضار بالدجاج. أخذ ثلاثتهم إذاً أمكنتهم حول منضدة الأمس، المهيمنة على جلّ مساحة حجرة السفرة. على أنّ فكرة طارئة راودت الخانم، ولن تلبث أن تنقلها إلى المُضيف: " لحظتُ وجودَ طاولة مع كراسي بلاستيكية، ثمة عند المصطبة المحاذية لحديقة الورود. فلو لم يكن لديك اعتراضٌ، فإنّ بوسعنا الانتقالَ إلى ذلك المكان كي نستمتع بمنظر الحديقة والنسيم اللطيف؟ ".
* على أثر مفارقة المرافقة لمائدة الفطور، قامَ كلاهما بالتجوّل في مماشي الحديقة. كانت الشمسُ قد أصبحت سوطاً يلسعُ كلّ من يقف بمواجهتها. تحت شجرة زيتون، وارفة الأفياء، توقفت الخانم لتستند إلى الجذع المجعّد كغضون وجه مضيفها. نكّست رأسها قليلاً فيما هيَ تنظر مباشرة بعينيه. عندئذٍ، أستدرك الرجلُ ما فاتَ من النقاش وقد بدا مُرتبكاً أكثر منه منتعشاً. قال لها: " كما ذكرتُ قبل قليل، هنالك على الشرفة، فلعلني مدينٌ لكِ باعتذار. مع أنّ المقارنة تلك.. كيفَ يمكن القول؟ لأنها لم تكن مقارنة اعتباطية أو القصد منها تشبيه الكرد باليهود.. ". هتفت الخانم من فورها، مستولياً عليها شعورُ الحرَج: " أنا أعتبره طبيعياً، طرحُ وجهاتِ النظر إن كانت متباينة أو متفقة. لم أعقّب في حينه على كلامك عن الاعتذار، لأنني فعلاً ظننته دعابة لا أكثر " " آه، جيّد.. جيّد! "، علّق المُضيف بنبرة ابتهاج ممزوجة بالخجل. ثم استأنفَ حديثه: " كل ما بوسعي قوله، فيما يخصّ تلك المقارنة، أنني عجبتُ من حماسك للنظام العراقيّ مع ما يُعرف عنه من قمعه الشديد لأبناء قومك. كذلك من ناحية أخرى، فإنّ الحرب يمكن أن تنتهي بسقوط النظام وإشادة حكم يُتيح للكرد تحقيق الحكم الذاتي " " لستُ على اطلاعٍ كافٍ، يُجيز لي مقاربة هذا الموضوع. بيْدَ أنني أعلمُ حقيقة أخرى، يهمّني أن تطلع عليها أيضاً: إسقاط صدام حسين، سيؤدي إلى هيمنة إيران على منطقتنا كلها وتقوية الحكم الديكتاتوري في سورية. فلو حصل ذلك، فإنّ الأمريكان يكررون خطأ الفرنسيين أيامَ حكم هؤلاء لبلدنا، حينَ همّشوا الأغلبية السنيّة واعتمدوا على الأقليات. كونك فرنسياً، قبل أيّ اعتبارٍ آخر، ربما لديك رأيٌ في هذا الشأن؟ ". أومأ المسيو برأسه، كأنما علامة على التفهّم أو ربما الاهتمام. ذلك أنه لم يشأ التعليقَ على ما سمعه، قبلَ أن يتأكّد مما تراه عيناه: ثمة وراء بوابة الحديقة، المصنوعة من قضبان الحديد المشغول، كان يُمكن ملاحظة امرأة شابّة تبدو وكما لو أنها تتلصص على ساكني المنزل. حينَ تطلعت إليه الخانم بنظرة تساؤل، عليه كان أن يُجيبها متلعثماً نوعاً: " أوه، ألا ترين من يقف هناك؟ إنها مرافقتك السابقة، الشريفة! ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الرابع 2
-
الهاوية
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الرابع 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 2
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثالث 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثاني 5
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثاني 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثاني 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثاني 2
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثاني 1
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الأول 5
-
أدباء ورهبان 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الأول 4
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الأول 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الأول 2
-
أدباء ورهبان 3
-
ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الأول 1
المزيد.....
-
إيرادات فيلم سيكو سيكو اليومية تتخطى حاجز 2 مليون جنية مصري!
...
-
ملامح من حركة سوق الكتاب في دمشق.. تجمعات أدبية ووفرة في الع
...
-
كيف ألهمت ثقافة السكن الفريدة في كوريا الجنوبية معرضًا فنيا
...
-
شاهد: نظارة تعرض ترجمة فورية أبهرت ضيوف دوليين في حدث هانغتش
...
-
-الملفوظات-.. وثيقة دعوية وتاريخية تستكشف منهجية جماعة التبل
...
-
-أقوى من أي هجوم أو كفاح مسلح-.. ساويرس يعلق على فيلم -لا أر
...
-
-مندوب الليل-... فيلم سعودي يكشف الوجه الخفي للرياض
-
الموت يفجع الفنانة اللبنانية كارول سماحة بوفاة زوجها
-
وفاة المنتج المصري وليد مصطفى زوج الفنانة اللبنانية كارول سم
...
-
الشاعرة ومغنية السوبرانوالرائعة :دسهيرادريس ضيفة صالون النجو
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|