حلوة زحايكة
الحوار المتمدن-العدد: 5717 - 2017 / 12 / 4 - 10:51
المحور:
كتابات ساخرة
تعود بي الذاكرة إلى اللقاء الأخير الذي لا ينمحي من ذاكرتي مع جدّي لأمّي رحمه الله، فقد مات في بداية سبعينات القرن العشرين، وسنوات عمري لم تصل إلى عدد أصابع اليد، كان ممددّا على الفراش في بيته الكائن في الجزء الشرقي من قريتي "السواحرة"، مغطى بشرشف أبيض، لا يظهر منه سوى وجهه، كان ذا بشرة شقراء، طويل القامة، أنفه رفيع كمنقار صقر، عيونه مغمضة صغيرة غائرة، تحيط به أخواته وزوجات أبنائه، وقريباته باكيات، في الغرفة طاولة عليها إعداد كبيرة من أشواك النيص التي جمعها أحد أحفاده الأطفال، ومصباح كاز كبير"فنيار"، تقدّمت والدتي نحو والدها وقبلت وجنتيه، جلست أمامه وبدأت تبكي بمرارة وتردد نحيبا حزينا على فراقه، هناك ثلاث كلمات بقيت راسخة في ذاكرتي هي "راحوا وانكسر ظهري"، التصقت بها ورحت أبكي لبكائها وألمها، الذي كان يمزق قلبي كل ما سمعتها تردد اللحن الحزين على فراق الزوج والأب، وعلى حملها الكبير ومشوارها الطويل في هذه الحياة، كانت ترتدي ثوبا أسود، وغطاء رأسها بالمثل، لا يخالطها بياض، إلا بياض بشرتها الشقراء وعيونها الزرقاء التي تذرف الدموع بغزارة، تقدمت منها جدّتي كافية زوجة أبيها، تحاول أن تهدئ من روعها، وتشد من أزرها، وتطلب منها أن تكف عن البكاء حتى لا تخيفني أكثر، طلبت من أمّي أن تنهض وتبتعد عن جدّي وتواسيها بحب وحنان، وهي تحثّها على الصبر؛ لتكون قوية من أجل أطفالها، فهم الآن بحاجتها، فليس لهم سواها. بكت أمّي والدها، وها أنا أبكيها، وسيأتي يوم يبكيني فيه أبنائي، وهذه جدليّة الموت والحياة.
#حلوة_زحايكة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟