تكاد مبادرة السيد حسن نصر الله تضيع وسط التجاذبات العراقية اولاً، قرأنا بخصوصها ردود فعل غالبيتها الساحقة سلبية وبعضها كان بذيئا، بينما لا أحد من القوى العراقية المعارضة تحدث عن المبادرة او ذكرها كأمر مطروح ويستحق وقفة جدية، والردود التي يمكن احتسابها استخلصت من البعض ولم تكن بمبادرة منهم، مثلا تم الاتصال بي بعد خطاب السيد نصر الله كي أعلق على المبادرة في قناة المنار، وأجريت لاحقا حلقة من برنامج بثته نفس القناة وأشركت فيه ممثل المجلس الأعلى العراقي، وخلال المؤتمر الصحافي الذي عقدناه في باريس يوم 13/2/2003 طلب مراسل قناة المنار من الشيخ هادي الخالصي احد اخوتنا المشاركين في المؤتمر ان يفصح عن رأيه بالمبادرة ولست اعرف اذا كانت هنالك اتصالات اجرتها قوى او شخصيات بوسائل اخرى مع ان اخوة من تحالفنا قد ذكروا بأنهم ارسلوا بهذا الاتجاه رسائل الى الأمين العام لحزب الله.
يعود السبب في هذا ربما الى سياق طرح المبادرة وهو ما يلقي بعضا من الظلال على مستوى جديتها، فالقضايا التي من هذا النوع تقرأ بوضوح من زاوية الشؤون العراقية وهنالك من يقول بناءً على معطيات ما إن ما حدث هو مجرد (بالون اعلامي) سببه اقليمي وهو يدرج ضمن تفاصيل التوتر الأخير في العلاقة الاميركية الايرانية كما تمارس عبر المجلس الاعلى، فالاميركيون اعلنوا منذ انتهاء مؤتمر لندن أنهم قد نفضوا ايديهم من كل من الاكراد والمجلس الأعلى. حدث ذلك على جرعات سريعة، اولا بمبادرة الرئيس الاميركي الى استقبال ثلاثة من الاميركيين من اصل عراقي ليعلن عبرهم عن رفضه هيمنة الاكراد والايرانيين على المعارضة، ومن ثم عبر آخر ما صرح به خليل زاده لممثلي المعارضة حين التقاهم في تركيا معلنا عن عدم الحاجة لهؤلاء.
المعلومات تقول ان تصريح المندوب السامي الاميركي قد جرى التمهيد له بتهديدات للأكراد وإيران من اي تفكير بالتدخل في مسار الحرب: لا كركوك ولا الموصل بالنسبة للاكراد وايضا لا فيدرالية، وفيلق بدر سيباد اذا تم تحريكه، تلك حصة إيران، اذن هنالك ما يبرر الاعتقاد بأن ما صدر عن السيد نصر الله هو مجرد صوت اطلق بعيدا من لبنان ليقول للاميركيين لدينا خيارات اخرى.
هناك حسب هذا القياس، اشارات اخرى تدعم مثل هذا الحكم، فالجرعة الزائدة عن (المصالحة) بين النظام والمعارضة لا تنم عن تحسب دقيق لمزاج الطرف الاهم في المعادلة اي المعارضة فما السبب؟ العارفون بالسيد يقولون انه ممن يبالغون احيانا في تمحيص خطواته قبل الاقدام عليها، ولا بد انه قد فعل ذلك في مناسبة حساسة كهذه وقرر ان يوجه رسالته صوب جهة بعينها هي حتما ليست المعارضة العراقية التي فوجئت وامتعضت من مشروع يبقي على النظام القائم، مما يعني غلقا للأمر قبل ان يبدأ، بينما يصبح كل ما يبدو من قبيل المبادرة مجرد اعلان بلا نتائج عملية. الاشارة الاخرى موجودة في ما يبرر اكثر فأكثر فرضية القفز فوق المعارضة بكل تلوناتها، وهذه نعثر عليها محسوسة عبر ملمحين: الاول فائض اللبننة والثاني انعدام التمهيدات المباشرة مع اصحاب العلاقة.
لا يريد العراقيون ان يصدقوا أن شخصا مثل السيد نصر الله لا يعرف برغم كل التداخلات اللبنانية العراقية عمق الحساسية العراقية ازاء الإسقاطات الآتية من الخارج، خاصة عندما يكون الامر متعلقا بمواقف او مبادرات تتعلق بشؤونهم وقضاياهم الكبرى وهم محقون في ذلك، خاصة حين نصبح أمام امتحان يمس الجوانب المفهومية المتعلقة بالتجربة وبالخصائص التاريخية، وأنا شخصيا سمعت كلمة السيد وفهمت لماذا ذكر مسألة (الطائف): قال بالحرف الواحد (لكي نفهم على بعضنا كلبنانيين؟) ولكنه اردف هذا الاستدراك فورا بعبارة هي الاخرى لبنانية وحين قال (مصالحة وطنية) حكم على مبادرته بالابتعاد عن موضعها الذي صيغت من أجله.
الاقوال اللاحقة التي اطلقها وزير الخارجية الايرانية السيد خرازي عن (المصالحة الوطنية) اوصلت الى رأس الخيط كما يرى البعض مناسبة إطلاق مبادرة الأمين العام لحزب الله في ذكرى الثورة الايرانية وبحضور السفير الايراني في لبنان، ومن يأخذون بهذا الرأي يعتقدون جازمين بأن ما حدث يجب ان يعرق اي ان تمارس عليه اعادة صياغة موشورها التداعيات الاخيرة التي طرأت على العلاقة الايرانية الاميركية حول العراق، مما يجعل الحصة العراقية في المبادرة المذكورة اقل من ان تذكر، لا شيء سوى كلام عابر.
تأكيدا لذلك يقال إن الامر لو كان يحمل اي قدر من الجدية لتغير سياقه كليا، وفي البداية ولكان الخطاب قد انتقل قليلا من المصطلح اللبناني إلى الشروط العراقية التي لا صلة لها اصلا بالطائف لا في الخلفيات ولا في السياق، وبالأخص لجهة نمط الازمة التاريخية التي تحكم حالة العراق منذ قرابة اربعة عقود. ايضا: لا بد من فحص شعار (المصالحة الوطنية) بين النظام والمعارضة وهذه نقطة لا نقاش بشأنها، ولا يجوز التحدث فيها وعن الطائف في مناسبة واحدة، فمشكلة العراق تنتسب إلى ضرورات الانقلاب الديمقراطي، بينما المصالحة كلام ينطلق من إقرار ثوابت، وحتى لو افترضنا اقلمة الشعار لكي يصبح موافقا للحالة العراقية، فمن الاصوب ان نبدأ بدايات صحيحة ونقول مطلوب منا ايجاد وسائل وطنية وسلمية للانتقال الديمقراطي، بما يعني التغيير الشامل، اي: رحيل النظام الذي هو شرط وحيد للمصالحة بين مكونات العراق، لا مجال لأي كلام من هذا النوع من دون وضع خطة تحول سريع تنهي النظام الحالي وتقيم نظاما دستوريا عبر حكومة انتقالية وطنية تتكفل بنقل العراق إلى نظام دستوري في اجل لا يتجاوز السنة. والمفاضلة الحالية يجب ان تنطوي على قدر كبير من الواقعية وتأخذ حقيقة ومستوى الخطر الداهم بنظر الاعتبار، فليس من المنطقي التحدث عن رفع الذرائع والحجج الاميركية من جهة والخوض في مقترحات او حلول تبقي الامور على ما هي عليه كما يعني شعار المصالحة المقترح من قبل السيد نصر الله.
وإذا كان من الضروري زيادة توضيح الموقف، فلا بد من المبادرة من جهة اخرى للقول بأن مقترحات من نوع رحيل الرئيس العراقي إلى المنفى غير عملية ولن تتحقق، وان الأصح اذا كنا لا نريد طرح مطالب تعجيزية تؤدي إلى الحرب، ان نتحدث عن حل داخلي وعن تنفيذ للضمانات الدولية والوطنية في الداخل، وكذلك ان نفصل ما بين النظام والحزب والحاكم، لان هذا الاخير من حقه مبدئيا ان يكون مشاركا في حكومة الانقاذ الوطني الانتقالية التي يجب ان تحتوي على كل التعبيرات الاساسية الممثلة للمجتمع العراقي: القوى الاسلامية، الاكراد، اليسار الديمقراطي والقومي، قوى القوى العشيرية، وممثلي القوميات والمذاهب والديانات اي كل مكونات المجتمع العراقي، والاطار الذي يؤمن هذا الحل هو آلية دولية وعربية وإقليمية نجدها ممكنة عبر احتساب المصالح الحيوية والملحة التي يتوقع تضررها بنتيجة العدوان، وايضا وهذا ما لا مهرب من المراهنة عليه، مأزق الولايات المتحدة نفسها، لا بسبب التظاهرات الكبرى او الاعتراضات الاوروبية وحسب، بل وبسبب فقدان البديل، والحاجة الى ضمان الاستقرار بعد زوال النظام، علينا ان ندرك أن اميركا على عكس افغانستان لديها مصالح استراتيجية كبرى تريد متابعتها مباشرة من بغداد وهذا شرطه الاستقرار وهي لا تملك عناصره ولهذا رمت الى الاهمال المذل بأنصارها العراقيين وقررت اعتماد اسوأ الخيارات: الحكم العسكري المباشر كما تقول، اي خيار المأزق المفتوح.
إذا اريد ترشيد المواقف الدولية والاقليمية والعربية بحيث تقدم للولايات المتحدة إلى جانب الاحراج الشديد برفع الذرائع، مخرجا معقولا يجعلها تقبل حقبة انتقالية وتؤجل العدوان، فإن ما يطرح ينبغي ان ينطوي على كل عناصر القاسم المشرك للمصالح التي تختبر عبر الازمة العراقية الكونية الراهنة: العراق من اسفل ومن أعلى، اي الشعب العراقي والنظام، المنطقة العربية والاقليم، القوى الدولية اي اوروبا وروسيا والصين، وبالطبع الولايات المتحدة. ان ما نحن بصدده هو معركة تاريخية كبرى تقتضي تسوية تاريخية كبرى، او حربا مدمرة تصل الى العالم برمته وقد تؤدي الى انقلاب تاريخي، وفي هذا من المفيد تماما سماع الصوت العراقي وتحري اعماق نبض هذه البلاد من اهلها، فهل ذلك هو ما أراده السيد نصر الله؟ هو وحده الذي يملك الاجابة، أما نحن وغيرنا من العراقيين فلقد كان علينا ان نبدي لهفتنا للتحادث المباشر علنا، وأن نبارك بغض النظر عن التحفظات وعمقها، ثم أن نعود بعد الانتظار لنقول علنا ايضا، بعض ما كنا سنقوله في غرف مغلقة.
() كاتب عراقي مقيم في باريس