أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا - عبدالحميد برتو - بيريسترويكا غورباتشيوف (6 من 9)















المزيد.....


بيريسترويكا غورباتشيوف (6 من 9)


عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)


الحوار المتمدن-العدد: 5669 - 2017 / 10 / 14 - 23:19
المحور: ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا
    


"العالم الثالث" في المجتمع الدولي
بدأ غورباتشيف تناوله لوضع "العالم الثالث" في المجتمع الدولي، بالتأكيد على الأهمية العظيمة لظهور أكثر من مئة دولة في القرن العشرين على الساحة الدولية، بالقارات الثلاث: آسيا، أفريقيا وأمريكا اللاتينية، مشيراً الى أن تلك الدول قد خطت على طريق تطورها الخاص والمستقل لبناء حياة أفضل. ولكنه إستدرك مشيراً الى أن مساعي البناء ووتائر النمو الاقتصادي والاجتماعي لم تكن تسير بزخم واحد في كل دول "العالم الثالث".

يرى غورباتشيف أن السمات المميزة لأوضاع المستعمرات وشبه المستعمرات السابقة الفقر والعوز والأمية وإنتشار الأمراض والجهل والجوع وسوء التغذية وضعف المداخيل وغيرها من الظروف والأحوال غير الإنسانية. وعلى الرغم من ذلك ظلت الدول الغربية الغنية تجمع "الجبايات" الإستعمارية الجديدة، وبات العديد من تلك الدول عاجزة عن الإيفاء بديونها الخارجية، وأصاب مجتمعاتها الركود، و لا يقدر زعماء الدول الغربية مخاطر تلك الأوضاع وما قد تسببه من هزات سياسية واجتماعية وصراعات قاسية.

ويفسر النزاعات الإقليمية في دول العالم الثالث بسببين رئيسيين، هما: الأوضاع المزرية، والتناقضات الداخلية والإقليمية التي تقوم على قاعدة الماضي الاستعماري والعمليات الاجتماعية الجديدة، والعودة الى سياسة الضم والاحتلال. ومن تلك الأسباب ينبع الإرهاب أو تتشكل أرضية له.

ويعتبر غورباتشيف منظمة الأمم المتحدة مكاناً مناسباً لدراسة وسائل إقتلاع الإرهاب من جذوره. وأدان تصورات بعض الزعماء الغربيين، الذين يرون جوهر الإرهاب ذاته ثمرة "نشاط الكرملين التآمري".

ورد مسببات الأوضاع في الشرق الأوسط الى السياسة التوسعية الإسرائيلية، وأكد على الحقوق الثابتة للشعوب العربية، بما فيها الشعب الفلسطيني، ووصف الأوضاع في الشرق الأوسط بأنها "عقدة صعبة ومعقَّدة تلتقي فيها مصالح العديد من الدول". (الكتاب: ص247). وأكد على أهمية حل مشكلات المنطقة، واعتبر ذلك في مصلحة الشرق والغرب والعالم أجمع.

وبعد الحديث عن حقوق جميع الأطراف ونوع المفاوضات والدور الدولي، جاءت صياغته للموقف على النحو التالي: "يجب مواصلة البحث ومحاولة الوصول الى قاسم مشترك ما بين مصالح العرب وبين مصالح إسرائيل وجيرانها والدول الأخرى وفي ضوء ذلك، فنحن لا نرغب إطلاقاً أن يؤذي سير التسوية وشكلها المصالح الطبيعية للولايات المتحدة الأميركية والغرب، كما لا نطمح الى إزاحة الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، ناهيك عن أن هذا أمر غير واقعي، وعلى الولايات المتحدة بدورها ألاَّ تضع أمامها مهمات غير واقعية". (الكتاب: ص248).

يحاول الغرب إدراج جميع النزاعات الإقليمية أو الحكم عليها، من خلال منظار الصراع السوفياتي ـ الأميركي. وتكوّن إنطباع لدى غورباتشيوف أن الولايات المتحدة تحتاج الى النزاعات الإقليمية كاحتياطي دائم تستخدمه للمناورة. وتناول العديد من النقاط المؤلمة في نيكاراغوا، وجنوب أفريقيا، والحرب العراقية ـ الإيرانية.

ساد أو إنتشر مصطلح العالم الثالث والعوالم الثلاثة أثناء فترة الحرب الباردة، والمقصود هو تمييز ذلك العالم الذي توصف التنمية فيه بالتنمية البشرية المنخفضة، وشعوبه فقيرة ومهمشة في غالبتها العظمى عن العالم الأول ـ الدول الرأسمالية، التي تشهد تنمية بشرية عالية. والعالم الثاني ـ الدول الإشتراكية، الذي حقق تنمية بشرية متوسطة في فترة قصيرة نسبياً.

ومن المعلوم مصطلح أو تعبير "العالم الثالث" يحمل أبعاداً سياسية واقتصادية واجتماعية ـ ثقافية تميزه عن العالمين الأول والثاني. وقد نُحت مصطلح العالم الثالث لأول مرة في بداية النصف الثاني من القرن العشرين من قبل الاقتصادي والباحث في الشؤون السكانية الفرنسي ألفريد سوفيه، الذي إستوحى التسمية من الفئة الثالثة في المجتمع الفرنسي أثناء النظام القديم قبل الثورة الفرنسية.

ومن خصائص البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية لدول العالم الثالث الأقل نمواً أنها تعتمد على تصدير المواد الأولية، وعدم تحقيق الاكتفاء الذاتي في المواد الاستهلاكية، بما فيها المواد الغذائية الأساسية، وغياب التكامل بين القطاعات الاقتصادية، وإرتفاع المديونية الخارجية، والتبعية الاقتصادية وحتى الثقافية للدول الاستعمارية السابقة، وضعف الاستثمارات في مختلف المجالات الصناعية، بما فيها تلك التي تقوم تصنيع المراحل الأولى لموادها الأولية، وضعف الخدمات العامة في مجالات الصحة والطبابة والتعليم ووسائل الاتصال، وتتفشي فيها الأمية، وتشهد هجرة واسعة من الأرياف الى المدن، والتنامي السريع للسكان بما لا يوازيه في تنامي الموارد والخدمات.

ونصادف أحياناَ مصطلح أو تعبير "العالم الرابع"، وهو تعبير متعدد المعاني والاستخدامات وملتبس من لغة الى أخرى ويعتمد على منهجية الباحث وقاعدته النظرية. كما يمكن أن يشير تعبير "العالم الرابع" إلى الفئات المهمّشة ضمن بلدانها، أو إلى فئات إثنية أو قومية بدون دولة مثل الغجر، أو إلى البلدان الأقل نمواً وتفتقر الى التصنيع.

من جانب آخر، لم يَعد مفهوم "العالم الثالث" مناسباً، أو تزعزع تماماً بالنسبة الى عدد من الدول، وذلك لأن دولاً كانت تُعد من "العالم الثالث" قد تحولت الى قوة إقتصادية عالمية تنافس على الموقع الأول أو الثاني في الاقتصاد العالمي كجمهورية الصين الشعبية. وما كان يُعرف بالعالم الثاني لم يعد موجوداً بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية في شرق أوروبا، التي تحولت من الاشتراكية الى الرأسمالية إبتداءً من عام 1989 والأعوام التي تلته.

تغيَّرت الصورة النمطية القديمة عن "العالم الثالث" بعد الحقائق الجديدة في المجالات المحاور الاقتصادية والسياسية المختلفة التي شهدتها الصين والدول التي تعرف بالنمور الأسيوية والهند وغيرها في ظل إقتصاد عالمي جديد ومتعدد الأقطاب وسريع التطور على الرغم من الدور الواسع للولايات المتحدة الأميركية.

وجرى تداول واسع لمصطلحات أخرى الى جانب مصطلح "العالم الثالث" مثل الدول النامية أو في طريق النمو، هو مجرد تلطيف لمصطلح البلدان المتخلفة والفقيرة. في الواقع لا يوجد معيار عالمي متفق عليه حول ما يجعل دولة ما متقدمة وأخرى نامية. ولكن هناك مؤشرات يمكن القياس عليها مثل الناتج المحلي الإجمالي للفرد. ولا ينبغي الخلط بين مصطلحي "الدول الأقل تقدما" و"الدول النامية". وتم انتقاد المصطلح من بعض الدول لانه يستند إلى معايير غربية فحسب.

وأحياناً يُطلق مصطلح "الدول المتخلفة" ولكن مصطلح "الدول النامية"، كان أكثر رواجاً من غيره في الدول الإشتراكية وفي دول "العالم الثالث" نفسه. ويتفق الجميع تقريباً على أن الفجوة تتسع بين أغلب دول "العالم الثالث" فيما بينها، وبالمقارنة مع الآخرين، وإن حركة نموها وتطورها معقدة وإنتقالية ومرتبكة.

إستعمل الرئيس الأمريكي هاري ترومن عام 1949 لأول مرة مصطلح "الدول النامية"، وخاطب المجتمع العالمي لمساعدة تلك الدول للخروج من التخلف والفقر، فنشأ داخل العلوم الإقتصادية فرع يسمى بإقتصاد التنمية. ولكن من المشكوك فيه أن دعوة الرئيس الأميركي كانت تنطلق من الإخلاص لرفع مستوى الحياة والإنتاج في الدول النامية، ومن الناحية العملية فإن واقع السياسة الأميركية سار بإتجاه آخر، وساهمت بعرقلة تطور مسيرة الدول النامية، وظل الأمر في حدود الدعاية التنافسية.

تمتلك أعدادٌ كبيرة من الدول النامية ثروات طبيعية وبشرية وأراضي ذات خصوبة عالية، وجميع المقومات التي يمكن أن تجعلها من كبار الدول المتقدمة. ولكنها لا تحسن استغلال وإدارة كل تلك ثرواتها كما ينبغي، وقبل ذلك ما يعرقل نمو تلك الدول سياسةُ الدول الإستعمارية ونفوذُها على السلطات المحلية.

تعاني الدول النامية نواقص كبيرة فى المستوى المعيشي للفرد، وقصور في أهم مؤسساتها المعنية بالتعليم والصحة وبقية الخدمات الضرورية التي تُعد من الحقوق والواجبات الأساسية. وبالوقت الذي يبلغ فيه عدد الدول ذات التصنيف النامي مائة وثلاثين دولة، وتصل نسبتهم الى ما لا يقل عن سبعين في المائة من إجمالي عدد سكان العالم، فإن نسبة إنتاجهم للمحاصيل الزراعية لا يزيد عن 35% من الإنتاج العالمي، وذلك بفعل إعتمادهم على الطرق البدائية في الزراعة، أما في مجال الصناعة فلا يتعدي انتاجهم 7% من الإنتاج الصناعي العالمي.

وعلى الرغم من إبداء الكثير من البلدان النامية تحسّناً في درجة مرونتها وتأقلمها مع الاختلالات التي تشهدها الأسواق المالية في البلدان الغنية، وقد استطاع العديد من البلدان تكوين احتياطيات كبيرة من النقد الأجنبي لحماية أنفسها من تقلبات أسعار الفائدة وأسعار الصرف، ناهيك عن الاضطرابات في التمويل القصير الأجل، لكن الاحتياطيات ليست سوى حلٍ مؤقتٍ. ولا تقتصر تقلبات الأسواق على البلدان الصغيرة الحجم بل تشمل أيضاً بلداناً كبيرة الحجم كالصين التي وصلت الى مراحل متقدمة وإندونيسيا وغيرهما.

وفي إطار الحديث عن علاقات بلاده مع دول "العالم الثالث" قال غورباتشيوف عن علاقات بلاده بأفغانستان، قد لا يعرف الجميع إنها أول دولة أقامت علاقات ديبلوماسية مع الاتحاد السوفياتي. وكانت علاقات البلدين جيدة دائماً، هذا بغض النظر عمن بيده زمام السلطة الملوك أو القبائل. ومن الأساس توجد رغبة كبيرة لدى موسكو لعودة قواتها من أفغانستان بعد إيجاد تسوية سياسية. واعتبر التدخل الأميركي يعيق الإنسحاب، ووصف تزويد الولايات المتحدة المتمردين بصواريخ ستينغر التي تسقط الطائرات المدنية بالعمل غير الأخلاقي وغير مبرَّر. إن هذا الموقف الواضح من السياسة الأميركية وتدخلاتها في أفغانستان قد جاء ضمن سياق الإنسحاب من الساحة الدولية بغض النظر عن التقويم الشامل حول دور السوفياتي المتمثل بالتدخل العسكري.

يطرح غورباتشيوف إشكاليات دولية عميقة دون تحديد الأسس التي تقوم عليها السياسات، ويوجه دعوات "خيرة" ولكن دون أساس تفيد بأنه يجب أن يُتْرَكَ لكافة الشعوب حق إختيار طريقها في التطور والتصرف بمصيرها وأراضيها وبمواردها البشرية والطبعية. وأن يتخلى قادة الغرب عن سيكولوجية وتصورات زمن الإمبراطوريات الاستعمارية. وإعتراف بحق شعوب العالم الثالث في إمتلاك وجهها الخاص. والبحث عن سبل حل الأزمات الدولية على قاعدة توازن المصالح.

وأعرب غورباتشيوف عن إرتياحه لتفهم مجموعة دول حركة عدم الإنحياز للترابط بين التطور ونزع السلاح، حيث كان الرأي السائد لدى قادة دول المجموعة، أن مسائل نزع السلاح والقضاء على الأسلحة النووية من اختصاص الدولتين العظميين، الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد السوفياتي.

توقف غورباتشيوف في كتابه، عند ما وصفها بالعقدة الآسيوية في المحيط الهادئ، مؤكداً على حيوية المنطقة، وتنامي دورها المستقبلي، مبرراً إهتمامه بالمنطقة باعتبار أن الاتحاد السوفياتي دولة أوروبية وآسيوية، وله مصلحة في تطوير التعاون بالمنطقة الآسيوية من المحيط الهندي، والأخذ بعين الاعتبار مصالح دول المنطقة كافة، على قاعدة توازن المصالح.

ويرى أنه من المرجح أن ينتقل مركز السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين الى تلك المنطقة. وطرح غورباتشيوف بعد تسلمه لمهام الأمين العام للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي عام 1985 خلال لقائه مع راجيف غاندي رئيس وزراء الهند فكرة إمكانية جمع جهود الدول الآسيوية في المجال الأمني على غرار التجربة الأوروبية.

إن الشرق الأقصى وأسيا وشواطئ المحيط الهادئ، كما يراها غورباتشيوف، تبلغ نصف مساحة الكرة الأرضية، وهي تضم دولاً كبيرة: الاتحاد السوفياتي، الولايات المتحدة الأميركية، الصين، الهند، اليابان، فييتنام، المكسيك، وأندونيسيا، ودول متوسطة: كندا، الفيليبين، أوستراليا، ونيوزيلاندا، إضافة الى الدول الصغيرة. وتحدت عن مقابلة صحفية أجراها معه رئيس تحرير جريدة ميرديكا الأندونيسية ب. م. ديخ الذي نسى ذكر أسم الولايات المتحدة الأميركية ضمن دول المنطقة. أضاف غورباتشيوف معلقاً على ذلك النسيان: "إننا نعلق الآمال على التعاون مع الولايات المتحدة الأميركية. أما النقاشات والافتراضات التي تصوِّر نشاطنا واهتمامنا وكأنهما يشكِّلان خطراً على مصالح الآخرين، فهي لا تعدو أن تكون هراءً محضاً". (الكتاب: ص259 ـ 260).

قدم غورباتشيوف مقترحات ملموسة لتعزيز وتوطيد السلام والأمن في تلك المنطقة، منها: القضاء على الصواريخ متوسطة المدى في الجزء الآسيوي من الإتحاد السوفياتي، وعلى قاعدة "التصفير الشامل" مع الولايات المتحدة الأميركية، وعدم زيادة أعداد الطائرات الناقلة للأسحلة النووية في الجزء الآسيوي من الاتحاد السوفياتي مقابل توقف الولايات المتحدة عن نشر الأسلحة النووية في المنطقة، وبناء الأمن والتعاون الدولي السلمي في آسيا والمحيط الهادئ على أساس النهج المستقل، ودروس الماضي، ومساهمة الشركات في إستثمار الثروات الهائلة فيما وراء الأورال.

وأظهر إهتماماً بالعلاقات مع الهند التي وصفها بالجارة الجنوبية، واعتبر إعلان دلهي الذي تَوَّجَ زيارتَه للهند عام 1986 ظاهرة فريدة لمقاربة فلسفية ـ سياسية للعلاقات الدولية، رجحت القيم الإنسانية العامة في عصر الفضاء والذرة، على الرغم من أن الإعلان قد أعد من قبل دولتين فقط. فإختلاف النظام الإجتماعي في البلدين لم يعيق التعاون بل يؤدي الى الإغناء الروحي المتبادل.

بديهي أن يتوقف عند الوضع في أفريقيا خلال توقفه عند مسألة "العالم الثالث" في المجتمع الدولي، وقد تناول الموضوع تحت عنوان فرعي موسوم بـ "عند الممر الصعب". أشار فيه الى لقاءاته مع القادة الأفارقة، مؤكداً على الصعوبات التي تمر بها الأنظمة التقدمية الأفريقية وواقع إرتباط تلك الدول تاريخياً بدول المتروبول السابقة. وأعرب عن تضامن الاتحاد السوفياتي مع طموحات دول أفريقيا على طريق تطورها والوقوف ضد التدخلات الخارجية. وأكد الوقوف مع شعب جنوب أفريقيا ضد نظام الأبارتيد ومَنْ يقف خلفه.

وبصدد الموقف مع بلدان أميركا اللاتينية قال إن بلاده تعتمد ذات الموقف الذي إعتمدته في أفريقيا وفي المناطق الأخرى من العالم. وفَنَّدَ الطروحات الأميركية التي تدعي أن موسكو تطمح الى قيام سلسلة من "الثورات الاشتراكية" هناك، ووصف تلك الإدعاءات بالهراء. ويَذكرُ أنه قال للرئيس الأميركي ريغن: أنكم تعتبرون أميريكا اللاتينية مدخل بيتكم، الشعوب لا قبل ذلك وتطمح الى إمتلاك إرادتها. وجاءت العبارة وكأنها مشورة لصديق وليس موقف له ما يبرره على أرض الواقع وقيم التحرر الوطني.

دعا الزعيم السوفياتي الى إحترام إراد شعوب العالم الثالث، وينبغي أن تسود سياسة التعاون وليس المجابهات، وأعرب عن ثقته بأن الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد السوفياتي بمستطاعهما فعل الكثير على هذا الصعيد، أي في البحث عن سبل لإقامة علاقات متبادلة جديدة في العالم. ولن تكون خسارة نتيجة لتلك السياسة بأي حال، بل الربح الأكيد. ولا أحد يعلم، وكذلك ليس من السهولة بمكان، أن يستنبط أحد طبيعة الطرق التي أوصلت أو سلكها غورباتشيوف ليخرج بذلك الإستنتاج السقيم والمتسرع والمشحون بالسطحية وقلة الحلية في أكثر الأوصاف تسامحاً.

وفق تصورات غورباتشيف حول مدى حساسية الموقف والحديث عن "العالم الثالث"، يرى أن الأمر ليس ملتهباً على صعيد علاقات بين بلاده والولايات المتحدة الأميركية في حينها، لأن البيريستروكيا تصب جهدها الرئيسي على مهمة تمتين العلاقات بين البلدين. وإن المسألة برمتها موضوع تداول ليس إلا. والكل يلاحظ أن الحركة الفعلية للدولة السوفياتية تتجه صوب ذاتها، وليس على إتجاه تعميق وتوسيع طموحاتها بإتجاه الخارج.

وعليه يمكن توظيف طرح التصورات والقراءات بإتجاهين. الأول يقوم على ترديد الخطوط العامة للسياسة التاريخية للإتحاد السوفيتي قبل البيريستروكيا ذات الطابع الأممي، وهو ترديد يصب على النطاق الداخلي بإتجاه إرضاء حذر القلقين من سياسة غورباتشيف ونهجه على الصعيدين الخارجي والداخلي. والإتجاه الآخر لتوضيح صورة مدى تساهل البيريستروكيا إتجاه ما تريده واشنطن والغرب عامة على نطاق الهموم العامة لشعوب "العالم الثالث"، حيث ترديد شعارات لها ما يبررها ولكن دون برنامج عمل، ومعلوم أن الدول الكبرى تقوم سياستها البراغماتية على صراحة لا تتخيلها الدول الضعيفة. وحتى في ذروة الصراع بين النظامين الإجتماعيين كانت واضحة خطوط الحرب والسلام، منها: وصول الاتحاد السوفياتي الى المياه الدافئة ـ بحيرة النفط، ولا الغرب في إختراق ما كان يصفه الغرب بالستار الحديدي.

كرر غورباتشيف في كتابه غير مرة ذكر ما أسماه بقاعدة توازن المصالح، ولكنه ترك تلك القاعدة التي وصفها بالحيوية والأساسية غامضة وسائبة ودون حدود ملموسة، ولكن القراءة بين السطور، وما يرد أحياناً على هيئة تلميحات خفيفة وسريعة، ودون ملامح يمكن توصيفها، يمكن إستخلاص ما يفيد بأن القاعدة برمتها تقوم على ما يرضى به الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على وجه التحديد، وكأنهما طرف واحد.

إن غورباتشيف مارس بدأب دور محامي الدفاع عن الولايات المتحدة الأمريكية في أكثر من موقف ومناسبة، ولتمرير ذلك الود لابد من تكرار ما سمعته واشنطن كثيراً، بما فيها تلك الأوصاف الصادرة عن بعض الأميركيين أنفسهم. وفي الأسطر القليلة السابقة يلاحظ المراقب حماسة تعقيبه على كلام الصحفي الأندونيسي ب. م. ديخ الذي نسي سهواً ذكر إسم الولايات المتحدة بين دول منطقة الشرق الأقصى وأسيا وشواطئ المحيط الهادئ.

فَنَّدَ غورباتشيف غير مرة ما وصفها بالإدعاءات الأميركية، التي تفيد بأن موسكو تطمح الى قيام سلسلة من "الثورات الاشتراكية" في القارات الثلاث، وتغذي مفاهيم ومقولات من بقايا الحرب الباردة، ووصف تلك الإدعاءات بالهراء واللغو الباطل. يبدو أنه يتحدث عن نفسه فقط، وليس عن الاتحاد السوفياتي. إن غورباتشيوف منسجم مع نزعته المستسلمة للولايات المتحدة بالكامل، والتي لا تنوي إثارة أي قضية تزعج الجهات الغربية، التي يرى فيها منقداً للاتحاد السوفياتي من كل همومه التي يعاني منها، هذا من وجهة نظر وتصورات وأوهام أنصار برامج البيريسترويكا.

كان دور الاتحاد السوفياتي الذي تبنى منطلقات ثورة أكتوبر 1917 سنداً قوياً لكل حركات التحرر الوطني في العالم أجمع. وساعد في كل مراحل تطوره التاريخية الشعوب على إستكمال تحررها السياسي والاقتصادي وبناء إقتصادياتها الوطنية. هذا على الرغم من إختلاف القيادات السوفياتية عبر مراحل تطور الاتحاد السوفياتي نفسه في حقبه المختلفة، فيما يخص البناء الإشتراكي الداخلي وفي داخل العالم الإشتراكي أيضاً. ونجح الاتحاد السوفياتي في الحد من الطموحات غير المشروعة للقوى الغربية إتجاه شعوب "العالم الثالث" وطموحاتها في التقدم والبناء المستقل.

لقد أدت سياسة إعادة البناء وشعاراتها الصاخبة الى تفكيك أقوى وأول دولة فتحت أول طريق للبناء الإشتراكي الفعلي في العالم. ومَنْ ينظر بواقعية الى ما حققته الثورات الإشتراكية لا يمكنه إنكار منجزاتها العظيمة بحق، وكذلك الأخطاء الكبرى التي لا يمكن إعتبارها أي حال مبرراً لما ذهب إليه غورباتشيف.

وبعد مرور نحو ثلاثة عقود على تفكيك الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الإشتراكية في شرق أوروبا لم تحقق تلك الدول والغرب معها ما يمكن إن يفاخرا به عند المقارنة بين الحالتين ـ الاشتراكية السابقة والرأسمالية الحالية ـ على صعيد شبكة واسعة من جوانب الحياة المختلفة.

ومَنْ لديه بينة على هذه الصعد فليطرحها. ومن المعلوم أن الدفاع عن طرف خسر في المبارزة ليس سهلاً أمام المنتصر أو المنتصرين. ورب سائل يسأل عن أيِّ جوانب أقصد. أقول: تأمين المستقبل المعاشي لكل المواطنين، فرص العمل، الخدمات الطيبة ومستواها، تأمين السكن، ديمقراطية التعليم كماً وكيفاً وغير ذلك الكثير. وهنا الحديث لا ينطلق من قراءة في كتاب أو متابعة عن بعد، إنما من معايشة مباشرة لعهدين وفي أكثر من موقع.

خسرت شعوب البلدان الإشتراكية السابقة الكثير من إمتيازاتها بعد التحولات. وربما حتى تضحيات أجيالها. ولكن تظل خسارة شعوب "العالم الثالث" أكثر خطراً وضرراً، حيث فقد بعضها حركة النهضة الإقتصادية وإستكمال التحرر السياسي. والأهم أن بعض الدول فقدت أمنها، وقُتل الأملُ في نفوس غالبية تلك الشعوب، حيث إستفردت بهم القوى الإستعمارية بشكلها الكلاسيكي والمعاصر الشائنين، وكذلك قوى الإرهاب واللصوصية المحلية. وطغت على بعض القوى الوطنية روح الإنكسار الداخلي، وكأن لا مكان لهم ولشعوبهم في الحاضر والمستقبل. ومن المعلوم أن الترميم النفسي والعقدي أكثر صعوبة من البناء المادي على الأرض، وهما لا يتطوران في ذات السرعة.

إنسلخ بعض الإشتراكيين أو حادوا عن طريقهم السابق وهجروا المسيرة كلها. ويقفون على ذرة الوهم من خلال تخيل أن الرأسمالية ستنال الخلود، وإن الثورة الإشتراكية العالمية باتت مجرد حلم جميل يراود مخيلة بعض الطيبين. وتخلوا أيضاً عما طرحته الإشتراكية العلمية عن إنقسام العالم الى دول مضطهَدة وأخرى مضطهِدة. وسفهوا أهمية الجبهة العالمية الموحدة المعادية للامبريالية. واسقطوا المفاهيم الثورية التي تتعلق بتحالف الطبقة العاملة في البلدان المتطورة مع الشعوب المضطهدة من قبل الامبريالية.

إن غورباتشيوف وأترابه إبتعدوا عملياً ونظرياً عن المبادئ الأساسية للماركسية، وناوروا بإتجاه كسر الهم وتخريب البناء من الداخل دون إعلان مباشر عن التخلي. وهؤلاء هم الأخطر على نضال الشعوب من أجل العدالة وضد الإستغلال. والبعض الآخر إمتلك فرصة التخلى والإنتقال الى الضفة الأخرى علناً ودون مواربة، وهؤلاء ربما أقل ضراراً من التيارات الإنتهازية والتصفوية داخل الحركات الثورية.

كان الهدف من كل إستعراضات غورباتشيوف في هذا المجال وغيره، وعلى الرغم من كثرة إستشهاداته بلينين، هو السعي عملياً الى طمس قراءة وتحليل لينين للإمبريالية، القائل: "إن الإمبريالية تعني الاضطهاد المتزايد باطراد لأمم العالم من جانب حفنة من القوى العظمى، تعني فترة حروب تشنها الأخيرة لتوسيع وترسيخ اضطهاد الأمم، تعني الفترة التي تخدع فيها جماهير الشعب من جانب الوطنيين الاجتماعيين المنافقين".

يتبع: أوروبا في السياسة الخارجية السوفياتية



#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)       Abdul_Hamid_Barto#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيريسترويكا غورباتشيوف (5 من 9)
- بيريسترويكا غورباتشيوف (4 من 9)
- بيريسترويكا غورباتشيوف (3 من 9)
- بيريسترويكا غورباتشيوف (2 من 9)
- بيريسترويكا غورباتشيوف (1 من 9) بعض الأوليات كتاب غورباتشيوف
- الثوري والإصلاحي والإنهيار القيمي 2 من 2
- الثوري والإصلاحي والإنهيار القيمي 1 2
- مع الجواهري في بعض محطاته
- الإحتكام الى الشعب مرة أخرى
- الإحتكام الى الشعب
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (6) الأخيرة
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (5)
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (4)
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (3)
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (2)
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (1)
- هل هناك شيوعية بدون الماركسية اللينينية؟
- شخصية الفرد العراقي
- خواطر حول أيام دامية
- تحررت مدينة هيت ولكن متى تدور نواعيرها؟


المزيد.....




- من الحرب العالمية الثانية.. العثور على بقايا 7 من المحاربين ...
- ظهور الرهينة الإسرائيلي-الأمريكي غولدبرغ بولين في فيديو جديد ...
- بايدن بوقع قانون المساعدة العسكرية لأوكرانيا وإسرائيل ويتعهد ...
- -قبل عملية رفح-.. موقع عبري يتحدث عن سماح إسرائيل لوفدين دول ...
- إسرائيل تعلن تصفية -نصف- قادة حزب الله وتشن عملية هجومية في ...
- ماذا يدخن سوناك؟.. مجلة بريطانية تهاجم رئيس الوزراء وسط فوضى ...
- وزير الخارجية الأوكراني يقارن بين إنجازات روسيا والغرب في مج ...
- الحوثيون يؤكدون فشل تحالف البحر الأحمر
- النيجر تعرب عن رغبتها في شراء أسلحة من روسيا
- كيف يؤثر فقدان الوزن على الشعر والبشرة؟


المزيد.....

- الإنسان يصنع مصيره: الثورة الروسية بعيون جرامشي / أنطونيو جرامشي
- هل ما زَالت الماركسية صالحة بعد انهيار -الاتحاد السُّوفْيَات ... / عبد الرحمان النوضة
- بابلو ميراندا* : ثورة أكتوبر والحزب الثوري للبروليتاريا / مرتضى العبيدي
- الحركة العمالية العالمية في ظل الذكرى المئوية لثورة أكتوبر / عبد السلام أديب
- سلطان غالييف: الوجه الإسلامي للثورة الشيوعية / سفيان البالي
- اشتراكية دون وفرة: سيناريو أناركي للثورة البلشفية / سامح سعيد عبود
- أساليب صراع الإنتلجنسيا البرجوازية ضد العمال- (الجزء الأول) / علاء سند بريك هنيدي
- شروط الأزمة الثّوريّة في روسيا والتّصدّي للتّيّارات الانتهاز ... / ابراهيم العثماني
- نساء روسيا ١٩١٧ في أعين المؤرّخين ال ... / وسام سعادة
- النساء في الثورة الروسية عن العمل والحرية والحب / سنثيا كريشاتي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا - عبدالحميد برتو - بيريسترويكا غورباتشيوف (6 من 9)