أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا - عبدالحميد برتو - بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (5)















المزيد.....

بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (5)


عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)


الحوار المتمدن-العدد: 5512 - 2017 / 5 / 5 - 15:34
المحور: ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا
    


التأثير على الأحزاب الشيوعية في وخارج المنظومة
تملك الحركة العمالية العالمية، وفي كل بلد على حدة، إرثاً تاريخياً مجيداً يمدّها بالعزم والأمل على إنتزاع حقوقها العادلة. وكان ولازال للنضال العمالي في أي بلد تأثيراً بالغاً على واقع البلدان الأخرى، وكذا الحال على صعيد الأفكار وتطور أساليب النضال. وهذه الحالة مازلت قائمة الى يومنا هذا، وستبقى.

ومن صفحات ذلك السجل الكبير للطبقة العاملة، إضراب عمال مدينة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1886 وما سبقه وأعقبه من نضال عمالي لإنتزاع الحقوق، ودعت تلك المناسبات لتكون عيداً عالمياً لعمال العالم أجمع ـ عيد الأول من مايو/ آيار، ليكون يوماً للفرح، ويوماً لتعزيز الإرادة.

جاء إنتصار ثورة إكتوبر 1917 في روسيا، وصمودها أمام أعدائها في الداخل والخارج، ليسجل الإنتصار الأبرز في تاريخ الطبقة العاملة العالمية خلال القرن الماضي، وفي كل تاريخ الطبقة العاملة في العالم أجمع. وفي وقت لاحق أعطت إنتصارات الجيش الأحمر ضد العدوان النازي في الحرب العالمية الثانية لعمال العالم قوة دفع جديدة، وسعت دائرة طموحاتها نحو إنتزاع المزيد من الحقوق.

حين نحتفل بالذكرى المئوية لإنتصار ثورة إكتوبر هذا العام، لا ينبغي أن نبقى تحت تأثير إنقطاع مسيرتها، بل يجب أن ننظر الى العوامل التي أدت الى ذلك الإنقطاع، ونهضم بكل جدية العوامل الذاتية التي أدت إليه، خاصة وإن عمال العالم خلال الأجواء الإحتفالية بعيدهم يسعون لإستلهام العبر من كل تجاربهم السابقة السياسية منها والنقابية وغيرهما.

وإذا إتفقنا على أن السبب الرئيس في إنكسار التجربة الإشتراكية في الإتحاد السوفيتي ودول شرق أوروبا، يكمن في الحالة التي وصلت إليها قيادات الأحزاب الشيوعية في تلك الدول، يصبح من غير المستبعد، أن تنتقل بعض الصفات المكتسبة في الأحزاب الشيوعية الحاكمة الى الأحزب غير الحاكمة، سواء كانت الأخيرة تعيش تحت طائلة القمع والإرهاب والتصفيات الجسدية، أم في البلدان المتقدمة حيث يوجد قدر واسع من الحريات، خاصة إذا كانت النضالات الجماهيرية لا تمثل تهديداً للسلطة البرجوازية.

كان تأثير الأمراض التي شخصت في الأحزاب الشقيقة في بلدان المنظومة الإشتراكية العالمية على الأحزاب في الدول المتقدمة أقل حدة مما عليه الحال في دول ما كان يُعرف بدول العالم الثالث. وأخذ التأثير طابعاً آخر يمثل حالة من السجال الفكري بإتجاهين، الأول يدعو الى مزيد من اللبرلة للأحزاب الشيوعية الحاكمة، وآخر يرى وجود إنحراف عميق في خطوات غورباتشيف وأمثاله يصب في مصلحة القوى التي تريد العودة الى الرأسمالية السافرة أو المقنعة، عبر السماح بحالات خطيرة من الفساد، والتعايش بين نموذجين إقتصاديين في وقت واحد. وعلى أي حال لم يكن التأثير محصوراً بما تقوله وتمارسه الأحزاب الحاكمة، بل إن الأحزاب الشيوعية في غرب أوروبا تؤثر في أحزاب شرقها أيضاً.

لا شك في أن الإتحاد السوفيتي وبقية دول المنظومة الإشتراكية العالمية قدمت مساعدات كبيرة للأحزاب الشيوعية في الدول الساعية للتحرر الوطني والتقدم السياسي والإقتصادي، هذا الى جانب ما قُدم من مساعدات إقتصادية وسياسية على صعيد التعاون الثنائي مع الدول النامية، وهي مساعدات كبيرة لدعم الصناعة والزراعة وحماية الثروة المائية وتنظيمها وبقية الحقول الأساسية في تلك الدول، الى جانب حماية إستقلالها والوطني والحد من وحشية تدخلات الدول الأمبريالية.

يُعد جود منظومة إشتراكية قوية أمر يُحسب حسابه في الحياة الدولية بحد ذاته، ويُمثل قوة دعم غير مباشر للأحزاب الشيوعية خارج دول المنظومة. وفي حالات معينة أتيحت بعض الفرص أمام الأحزاب الشيوعية للعمل العلني في ظل حريات نسبية أو قمع تُمارسه السلطات بالبلد المعني في حدوده الدنيا. وبعض الحكومات التي أرادت كسب ود الإتحاد السوفيتي والدول الإشتراكية، حاولت إقامة علاقات مع الأحزاب الشيوعية في بلدانها، ليس من منطلق الإخلاص للتعاون الوطني، وإنما للإستفادة من الدعم المحتمل للدول الإشتراكية، المادي منه والمعنوي، ومن الأمثلة على هذه الحالة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية التي قامت في عام 1973 بين الشيوعيين والبعثيين في العراق. من جانب آخر ليس كل أدوار المنظومة الإشتراكية كانت على طول عهدها تسير في الخط السليم، وأحياناً لم تُحكم الموازنة في العلاقات على مستوى الدولة الإشتراكية ومسؤولياتها الدولية وبين سياسة الحزب ومسؤولياته إتجاه أشقائه.

إن تحوّل المهمات الحزبية في الأحزاب الشيوعية الحاكمة الى وظيفة، تتسم بالرتابة والمراتبية وتضاؤل المحفزات الوجدانية، فتح الطريق واسعاً أمام الإنتهازيين داخل الأحزاب وخارجها إتجاه مصالحهم الخاصة، أضر بالغ الضرر بصلابة وتماسك تلك الأحزاب، وعزز مواقع أصحاب التوجهات والطموحات البرجوازية الصغيرة، ووفر الفرصة لخلق تحالف إجتماعي يضم التيارات الإنتهازية في الأحزاب مع نشطاء إقتصاد الظل والعناصر الأقل وعياً من هوامش الطبقة العملة نفسها، ووعلى نطاق أوسع بين العاملين في القطاع الزراعي، وطفيلي البطالة المقنعة.

وبديهي أن النموذج الإشتراكي بكل حسناته وسلبياته يجد إنعكاساً له على الصعيد الأممي، وهذا أمر من طبائع العلاقات. ولما كنّا نتابع العثرات في المسيرة الإشتراكية من أجل حماية الغد، نقول إن المسؤولية هنا لا تقع على طرف واحد، بل حتى الطرف الذي في موقع المتلقي كان عليه أن يحمي ويحصن نفسه، وكذلك شريكه على الصعيد الأممي.

ربما تمثلت أبرز الحالات السلبية، في تحويل الأخوة الأممية، الى حالة أقرب ما تكون الى الوصاية البيروقراطية. هذا بالنسبة لطريقة التعامل السوفيتية في أواخر سنواتها مع دول شرق أوروبا، والمركز بموسكو مع الأطراف في الدولة السوفيتية. وإذا لم يكن هذا الحكم قاطعاً في هذا الصدد بالنسبة للمتابعين، فإنه على أي حال هكذا مطروح من قبل قطاعات شعبية واسعة، ومن قيادات وقوى التحوّل الى الرأسمالية على وجه التحديد. ويبدو أن هذه الحالة أكثر وضوحاً في العلاقات مع الأحزاب الشيوعية في الدول النامية، كما تدعي أوساط واسعة في قيادات تلك الأحزاب. كما لعب ضعف الموازنة بين مسؤوليات الدولة والحزب على الصعيد علاقات مع الأحزاب الشقيقة دوراً سلبياً للغاية، في إضعاف بعض الأحزاب الشيوعية، وتنامت الدعوات الى إلغاء بعضها في دول العالم الثالث.

ومن تاثيرات تلك الحالة من جانب آخر تنامى إعتماد الأحزاب الشيوعية على الحليف الأكبر بما فيها إعتماد دول شرق أوروبا في شؤون أمنها على الإتحاد السوفيتي. وظهرت سلبيات ذلك الموقف خلال التحولات في شرق أوروبا، إذ أصيبت بعض تلك الأحزاب بحالة من فقدان التوازن، وتعاملت مع التطورات وكأنها لا تعنيهم، أو كأنهم مراقبون سلبيون لا غير، وعند سؤال أحدهم عن أسباب ذلك الموقف، يعزون ذلك كله الى دور موسكو، أو يكتفون بإشارة في اليد شرقاً حتى دون كلام.

وفي الدول النامية كان لإنهيار المنظومة الإشتراكية أثراً مروعاً وصادماً ومخيباً للآمال والثقة بالنفس والمستقبل، وذلك نتيجة للإعتماد السابق على الأشقاء، أي عقلية الإعتماد على الخارج. فقدت بعض تلك الأحزاب توازنها، وباتت أكثر قبولاً للأفكار البرجوازية الإنهزامية، وبعضها تلفت هنا وهناك بحثاً عن حلفاء بين أعداء الأمس، ناسين أن الإعتماد ينبغي أن يكون على القوى الذاتية والطبقة العاملة وبقية فئات الشعب التي تساند نضالها. باتوا أرق من جناح طير في مواجهة الصدمات الخارجية، وحتى على الصعيد الفكري بدت واضحة ملامح التشكيك بكل شيء، ليس بالطبقة العاملة فقط، بل بالشعب كله وبالمستقبل، ولم تعد تلك الأحزاب في حالات معينة تربطها رابطة بفكرها وتاريخها وأهدافها السابقة، أو تقيم وزناً لأهدافها في الحياة.

خلق النشاط التجسسي الغربي على الإتحاد السوفيتي ودول شرق أوروبا، حالة من التحفز والحذر البالغين، إتجاه هذا النوع من النشاطات العدوانية الغربية. وهذا الحذر والتحفز حق مشروع لأي دولة أو حزب أو حتى أي جماعة منظمة بأن تحمي نفسها. ولكن شدة التركيز في هذا الجانب، ومضي عقود على ممارسته، خلق حالة من الإضطراب النفسي عند عموم السكان صوب هذه المسألة، حيث لا يخفي أي مواطن في الإتحاد السوفيتي ودول شرق أوروبا ذلك. وكان لتلك الحالة (الخوف والحذر من الآخر) تركيز أكبر في الإتحاد السوفيتي خاصة، الى درجة أنهم باتوا يرون خلف كل أجنبي مترصداً لهم. وقد تسرب حالة الخوف الى الأحزاب في الدول الأخرى، وكان لها تجسيدات مؤلمة للغاية.

يؤدي فقدان الأصالة الثورية وتعمق البيروقراطية والرتابة الى تفريع معظم الأعمال المشروعة من محتواها، وفي حالات غير قليلة تتحول الى حالة مرضية ومعاكسة وضارة، والوقائع العملية والتاريخية تخبرنا بالكثير من الأفعال السلبية للغاية، والتي تقف بالضد من الماركسية ـ اللينينية ونزعاتها الإنسانية والحازمة في الوقت ذاته. وفي حالة كثير تكون الأجهزة القمعية وراء تصفيات غير مشروعة داخل حزب الطبقة العاملة نفسها، وربما سيرة حياة لافرِينتِي بيرِيا رئيس جهاز الشرطة السرية في عهد ستالين، تمثل نموذجاً لمخاطر التوجه الى الداخل (الحزب والدولة) بذات الأساليب في التوجه الى الخارج (الإمبريالية والأعداء الطبقيين)، ومن غير المستبعد أن تكون الروايات صحيحة حول سلوك بيريا في نهاية مطافه، بأنه هو نفسه وراء تصفية ستالين.

أتاحت هذه الظروف والتصورات والمعتقدات بأن تتبع الأحزاب الشيوعية في الدول المتخلفة الإسلوب السوفيتي نفسه في الشؤون الأمنية. وهذا أقصر طريق لإضعاف تلك الأحزاب، وخلق البطانات في داخلها، والإضرار بقواعد الشرعية الحزبية. إن من حق أي حزب يطمح للسلطة بأن يكون له جهاز لحمايته من الأعداء والخصوم، وإن يمارس بعض السرية في جزء من أعماله، من أجل إتقاء ضربات الأعداء بكل أنواعهم، والحد من تأثيرها على النشاط العام للحزب. وبديهي أن وسائل الإتقاء من الإنحرافات معلومة، كما هو معلوم حالات الخطأ فيها. إن الحزب الشيوعي مطالب دوماً بمراجعة وفحص وتدقيق حال أساليبه لحماية كيانه وعضويته، لأن سرعة الضربات ذات الطبعة الأمنية باهظة الثمن وسريعة الأذى من حيث الوقت. وتختلف عن أضرار دعاية الخصوم والأعداء السياسيين والطبقيين وحروبهم ضد الإشتراكية العلمية بالوسائل الفكرية، فالحرب الأيديولوجية تحتاج الى زمن أطول، ومقاومتها أسهل، وذلك من خلال الوضوح الفكري والمعرفي والبرنامجي، وبل من خلال طبيعة الأفكار الماركسية ـ اللينينية نفسها، لما تتسم به من تفوق مشهود لها حتى يومنا هذا.

كانت الأحزاب الشيوعية في الغالب تنفرد بقيادة الحكومات والمجتمع في فترة ما قبل إنهيار منظومة الدول الإشتراكية، وفي بعض التجارب التي توجد فيها جبهات وطنية يكون دور الشركاء شكلياً أو ثانوياً، والأحزاب الحليفة تسترشد بما تتوصل إليه مؤتمرات الأحزاب الشيوعية من آراء ومواقف في الشؤون المحلية والدولية، وهذا النهج لم يكن عامل قوة للحزب وحلفائه، ولم يقدم تجربة يحتذى بها على النطاق العالمي، بل كثيراً ما إستخدمته الحكومات في العالم الثالث ضد شعوبها متجاهلين الفوارق الشاسعة بينهم وبين التجربة الإشتراكية على علاتها.

وعلى صعيد التنظيمات الشيوعية نفسها إستطاعت السلطات السوفيتية تأكيد أو فرض القاعدة القائلة: إذا وجد حزبان شيوعيان في بلد واحد فأحدهما إنتهازي. ربما هذا الرأي ينطوي على شيء من الصحة في إنشقاق داخل حزب شيوعي، تتوفر فيه حقوق الإختلاف والتعبير عنها، ويكون الإختلاف حالة محترمة ومتاحة أمام الجميع بفرص متكافئة. وفي غير ذلك الحال تكون تلك المقولة أداة قمع طاغية. ومن جانب آخر فأن السؤال التالي يبدو مشروعاً للغاية: هل يحصل إنشقاق في حزب تتوفر فيه حرية الصراع الفكري كأداة للنمو والإزدهار وتصارع الأفكار والتباري التطويري فيه، وفي حزب يحصل فيه جميع الأعضاء على فرص متكافئة في التعبير عن مواقفهم وتصوراتهم وأفكارهم؟ كما إن هذه النظرية من جانب آخر تمنح الحزب الشيوعي السوفيتي نوعاً من السلطة للحكم على أي من الحزبين الشيوعيين في هذا البلد أو ذاك إنتهازي.

هذه القاعدة التي حرّمت وجود حزبين شيوعيين في بلد واحد لم يجري الطعن بها في العراق حتى عند الأطراف التي إنشقت على الحزب المعترف به موضوعياً ومن الأطراف الأخرى، حيث يعتبر كل طرف هو التعبير الحق عن أصالة الماركسية ـ اللينينية وعن تاريخ وتنظيم الحزب. إن النهج السوفيتي لم يشجع أي حالة من حالات الصراع الفكري المشروع، وكان مصير أي إنشقاق الإضمحلال حين لم يحصل على دعم الأممية. الوضع مختلف حالياً تماماً لعدة أسباب، منها: غياب الحَكم الأممي، وأصبح واقع تعدد الأحزاب الشيوعية في بلد واحد واقعاً لا يمكن تجاوزه، وهذه الحالة من التعددية شملت الحزب الشيوعي الروسي نفسه، وكذلك في الدول الإشتراكية السابقة، بل تعدد في داخل الإتجاهات التي تدعي الشيوعية، والتي يمكن تصنيفها الى ثلاث مراتب في كل منها إتجاهات متعددة، وهي: إتجاه ماركسي ـ لينيني، وإشتراكي ديمقراطي، وإتجاه إبتعد كثيراً، ولم يبقى من شيوعيته غير آثار ملامح غائمة.

أعتقد، وتوخياً للدقة، أقول: على أغلب الظن، أن أول إشارة في مجال إقرار حق وجود أكثر من حزب شيوعي في بلد واحد، في أوساط القيادة التاريخية للحزب الشيوعي العراقي على سبيل المثال، جاءت في كتاب نبض السنين لآرا خاجادور وسكانيان (ص: 268): "إن الأزمة العامة في الحزب التي حوّلت ما كنا نعتقده الحقيقة التنظيمية المطلقة، أي مقولة "إذا وجد حزبان شيوعيان في بلد واحد، فإن أحدهما إنتهازي" حولتها الى قضية فيها نظر، فما الحال بالنسبة الى وجود كتل شيوعية في بلد واحد؟".

ربما ما يُقال عن البلاشفة والمناشفة في روسيا ووحدانية التمثيل، لا ينطبق بحذافيره على الحالات القائمة اليوم في أكثر من بلد، ينبغي الأخذ بنظر الإعتبار أن الحالة قد نشأت في ظروف مختلفة تماماً. وتكتسب مسألة الإعتراف بإمكانية وجود حزبين شيوعيين أو أكثر أهمية خاصة، وذلك بعد أن أصبح أمر واقعاً لا يتجاوزه إلا معانداً أو متعصباً أو لا يحترم منطق الأحدات والحياة وتطوراتها. ولا ينبغي النظر الى هذا الأمر نظرة كمية حسب، وتجاهل مؤثرات أخرى مثل: الحيوية؛ عمق البرنامج، ووسائل النضال المتبعة وغير ذلك.

يفتح الإقرار بتلك الحقيقة ـ الإعتراف بالآخر ـ باباً إيجابياً مهماً. وعند الحديث عن التعاون المشترك بين قوى اليسار، الذي يتعالى هذه الأيام، وتفرضه الظروف الملموسة وضرورات النضال المشترك، ضد المخاطر الواسعة والشرسة والتدميرية، وإذا ما توصلنا الى أن آفاق التعاون مفتوحة بين قوى اليسار، فمن باب أولى أن تكون وحدة الشيوعيين هي الأساس، وهنا يرتقي الحديث الى حالة ممكنة من إعادة الإندماج في وقت مناسب، لأن المنطلقات الفكرية والتاريخية والطبقية لتلك القوى تبدأ من رؤية واحدة من حيث الأساس السياسي والطبقي. إن أخطر المواقف في هذا الميدان، هو أن تسود المنافسة بمعناها وأبعادها وواقعها السلبي، والإدعاء بإمتلاك الحقيقة والنفوذ وما الى ذلك. لا خطر من تبادل النقد والنقد الذاتي البناء، وفي أجواء الثقة والإحترام المتبادل، بل إن خلق مثل هذا الوضع ضروري جداً.

وعلى صعيد التعاون بين القوى اليسارية، يشاهد المتابع نشاطاً واسعاً أكثر من أي وقت مضى، وذلك تحت ضغط عوامل موضوعية، منها: هيمنة الإتجاهات المتعصبة والتدميرية على الحياة السياسية، ودفع اليسار ثمن إجهاض التجربة الإشتراكية وما تركته من إحساس بالخسارة الفادحة، وتزايد نشاط القوى الشعبوية على النطاق العالمي، وتضعضع الأمل بالمستقبل داخل أوساط غير قليلة، وبات التطاول الجائر على جدية المبادئ الإشتراكية كطريق للخلاص على المستوى الطبقي وعلى مستوى كل دولة وعلى النطاق الأممي عند البعض بارزاً.

ما زالت ثمار التوجه صوب التعاون بين القوى التقدمية واليسارية والوطنية محدودة النتائج، وربما يستمر هذا الوضع لبعض الوقت على هذا الحال، ولكن لا يوجد في الوقت نفسه سبيل آمن ومجرب غيره، وينبغي أن يتأكد الجميع بأن الصراعات الهامشية لا تجدي نفعاً، ولا تساهم في تعميق وعي الجماهير وإرتقاء بها الى مراتب متقدمة، تناسب الظروف الراهنة في البلاد العربية كافة. وبكل آسف نرى أن القوى الرجعية أوعى وأكثر حرصاً منّا في بعض الحالات على حماية مصالحها.

علينا أن نعرف بأنه في فترات التراجع العميقة يغيب أو يتضعضع الحوار الجدي بين الحركات الثورية والتقدمية واليسارية والوطنية، بل وفي داخل كل منها على حدة، ولولا هذه الحالة ربما ما حصل التراجع أصلاً، ولما وصل نضال قوى الشعب الحية الى الحالة القائمة حالياً. إن مراجعة الحالة تتطلب إعادة الإعتبار الى شؤون عديدة، مثل: إعادة حالة الإحترام المتبادل والحوار البناء وإعتماد قواعد النقد السليمة كخطوات أولية في طريق بناء أمل جديد بين كل القوى ذات الحساسية الإجتماعية.

إن ملاحظة النواقص والأخطاء والإنحرافات في الذات وعند الآخرين أمر ضروري للغاية، ولكن ما يحمي الحالة العامة سيادة الروح الإيجابية والنظرة الموضوعية والإخلاص الى جانب طبيعة اللغة المستخدمة في الجدل، وعدم التقليل من قيمة ومكانة أي طرف وطني، لأن القيمة الحقيقية لا يقررها إطلاق الأوصاف على هذا الطرف أو ذاك، وينبغي البعد كل البعد عن المنافقة أو التجريح عند معالجة الثغرات أيضاً. توجد حالة جنينية بين الناس اليوم تتمثل بإتجاه إعادة الثقة بالنهج اليساري بصفة عامة، وإدراك هذه الحالة التي نشأت من جراء جشع أحزاب الدين السياسي، تتطلب من جميع المعنيين جهوداً كبيرة لتحويل تلك النظرة الإيجابية الى ظاهرة إجتماعية تثير الإهتمام، ليس في الأوساط القريبة حسب، وإنما في أوسع دائرة إجتماعية.
يتبع: وتظل الإشتراكية العلمية أملاً للشعوب ـ الحلقة الأخيرة



#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)       Abdul_Hamid_Barto#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (4)
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (3)
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (2)
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (1)
- هل هناك شيوعية بدون الماركسية اللينينية؟
- شخصية الفرد العراقي
- خواطر حول أيام دامية
- تحررت مدينة هيت ولكن متى تدور نواعيرها؟
- عملية سياسية مندحرة ولكنها مستمرة
- موجعة ذكرى الشهداء
- ثورة 14 تموز
- الفقراء يتضامون ... ويتبرعون أيضاً
- 31 آذار يوم مجيد لكل كادحي العراق
- وداعاً أبا نصير؛ المناضل عبد السلام الناصري ...
- ألف مبروك لكل من يهمه الأمر!
- الوطنية الحقة وحروب التدخل (5)
- الوطنية الحقة وحروب التدخل (4)
- الوطنية الحقة وحروب التدخل (3)
- الوطنية الحقة وحروب التدخل (2)
- الوطنية الحقة وحروب التدخل (1)


المزيد.....




- بالخيام والأعلام الفلسطينية.. مظاهرة مؤيدة لغزة في حرم جامعة ...
- أوكرانيا تحوّل طائراتها المدنية إلى مسيرات انتحارية إرهابية ...
- الأمن الروسي يعتقل متهما جديدا في هجوم -كروكوس- الإرهابي
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1005 عسكريين أوكرانيين خلال 2 ...
- صحيفة إسرائيلية تكشف سبب قرار -عملية رفح- واحتمال حصول تغيير ...
- الشرطة الفلبينية تقضي على أحد مقاتلي جماعة أبو سياف المتورط ...
- تركيا.. الحكم بالمؤبد سبع مرات على منفذة تفجير إسطنبول عام 2 ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لقتلى وجرحى القصف الإسرائيلي
- -بلومبيرغ-: إسرائيل تجهز قواتها لحرب شاملة مع -حزب الله-
- بلينكن يهدد الصين: مستعدون لفرض عقوبات جديدة بسبب أوكرانيا


المزيد.....

- الإنسان يصنع مصيره: الثورة الروسية بعيون جرامشي / أنطونيو جرامشي
- هل ما زَالت الماركسية صالحة بعد انهيار -الاتحاد السُّوفْيَات ... / عبد الرحمان النوضة
- بابلو ميراندا* : ثورة أكتوبر والحزب الثوري للبروليتاريا / مرتضى العبيدي
- الحركة العمالية العالمية في ظل الذكرى المئوية لثورة أكتوبر / عبد السلام أديب
- سلطان غالييف: الوجه الإسلامي للثورة الشيوعية / سفيان البالي
- اشتراكية دون وفرة: سيناريو أناركي للثورة البلشفية / سامح سعيد عبود
- أساليب صراع الإنتلجنسيا البرجوازية ضد العمال- (الجزء الأول) / علاء سند بريك هنيدي
- شروط الأزمة الثّوريّة في روسيا والتّصدّي للتّيّارات الانتهاز ... / ابراهيم العثماني
- نساء روسيا ١٩١٧ في أعين المؤرّخين ال ... / وسام سعادة
- النساء في الثورة الروسية عن العمل والحرية والحب / سنثيا كريشاتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا - عبدالحميد برتو - بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (5)