أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا - عبدالحميد برتو - بيريسترويكا غورباتشيوف (3 من 9)















المزيد.....



بيريسترويكا غورباتشيوف (3 من 9)


عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)


الحوار المتمدن-العدد: 5651 - 2017 / 9 / 26 - 15:27
المحور: ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا
    


البدايات والاستنتاجات الأولى
تذهب أغلب الدراسات والتقديرات التي تناولت البيريسترويكا ـ إعادة البناء ـ وبداياتها، في المعنى الضيق للكلمة، أي إعادة الحيوية الى الحياة الداخلية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي وفي المجتمع السوفياتي ككل الى القول: إن بداياتها كانت في عهد الرئيس السوفياتي يوري أندروبوف للفترة (1982 ـ 1984). مع إشارات وتأكيدات واضحة على وجود فوارق جوهرية بين أهداف وجهود أندروبوف، التي تسعى الى خلق نهضة جديدة داخل المجتمع والحزب وتحت قيادة البلاشفة. وذلك من خلال العمل على تهيئة عضوية الحزب بكل هيئاته لتلك المهمات الكبيرة. وبين تلك التي قادها غورباتشيوف والمحيطون به وكل التيارات التصفوية والإنتهازية وشبكات إقتصاد الظل والإدارات الفاسدة في الأجهزة الحكومية والمؤسسات الاقتصادية وغيرهم، بما فيها أجهزة النشاطات الخاصة الغربية والمعادية، وتكرست تلك الحالات والتوجهات في دورات إجتماعات اللجنة المركزية والمكتب السياسي قبل إنعقاد المؤتمر السابع والعشرين للحزب الشيوعي في الإتحاد السوفياتي الذي كان بمثابة وضع الختم على وثائق النهاية المؤسفة.

وعلى درجات أقل، هناك مَنْ يَعتقد أن محاولات "الإصلاح" داخل الحزب والمجتمع السوفياتيين ظهورت في السنوات الأولى من تسلم ليونيد بريجنيف مركز الأمين العام للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي بين الأعوام (1964 ـ 1982). ولكن توجهات بريجنيف للمعالجة تراجعت شيئاً فشيئاً، لتتوقف في السنوات الأخيرة من عهده. ومن جانب آخر هناك حالة من الإتفاق بين المهتمين والدارسين، على أن عهد الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي قسطنطين تشيرنينكو (1984 ـ 1985) القصير، والذي لا يحمل أية ملامح خاصة، فيما عدا الركود السياسي والاقتصادي، هو مجرد مرحلة إنتقالية بين إصلاحات أندروبوف الثورية وبين "إصلاحات" غورباتشيوف. وبديهي أن تحديد نقطة بداية البيريسترويكا تتوقف على موقف كل باحث أو جماعة بحث، وحسب الإتجاهات الفكرية داخل وخارج الأحزاب الشيوعية، وحتى بين خصومها. بالنسبة لي أتناول بيريسترويكا غورباتشيوف تحديداً، لأنها هي مادة المعالجة الحالية، وليس تاريخ الحزب الشيوعي في روسيا والاتحاد السوفياتي. كما إن نهج الغورباتشيوفية هو الذي نال الإهتمام الدولي وإقترنت البيريسترويكا به، وعُمِمَّتْ الكلمة عالمياً بعد تولي غورباتشيوف ناصية السلطات السياسية والحزبية في موسكو، وأعطى الكلمة أبعاداً أوسع من مجرد معنى إعادة البناء.

يحسم غورباتشيوف، الذي تولى مهمة الأمين العام للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي بين الأعوام (1985 ـ 1991) النقاش من جانبه، فيما يتعلق بمسألة تاريخ بدء البيريسترويكا. يرى أنها ظهرت في عهده دون غيره. ويؤكد على أنها نمت وأصبحت تملك مفهوماً نظرياً وبرنامجاً مُحدداً، وأصابها الكثير من التطوير والتعديل، هذا الى جانب أنها إغتنت، كما يرى، بأساليب وأفكار جديدة من خلال مساهمات الاجتماعات الدورية للجنة المركزية للحزب، خاصة في آذار/ مارس ونيسان/ أبريل 1985، والمؤتمر السابع والعشرين للحزب، الذي عُقد في 25 شباط/ فبراير 1986 تحت شعار: "الحزب والشعب هما واحد".

تعامل المؤتمرُ السابع والعشرون ذو الشعار المركزي الفضفاض مع خطة غورباتشيوف بفتورٍ بالغ. ولاحقاً إتسع نطاق الصراعات بين أقطاب وقادة الصف الأول، ومنهم الإنتهازي المتهور بوريس يلتسين (1931 – 2007) مسؤول موسكو وعضو المكتب السياسي للحزب، الذي أعلن حل الحزب الشيوعي والاتحاد السوفياتي في وقت لاحق. وهو أول رئيس للاتحاد الروسي، وامتدت ولايته من عام 1991 إلى عام 1999. ومن الجدير ذكره أن يلتسين لم تكن تصرفاته الشخصية والعامة تليق بمركزه، لما تحمله من خفة ومزاجية وغرور، خاصة عند إفراطه في تناول الكحوليات، وفق إعترافات وإجماع أصدقائه وخصومه. وهناك بعض الإشارات الى ماضي عائلة يلتسين، يروي بعضُ القريبين منه وكذلك المصادر الرسمية: أن يلستين كان يُشير أحياناً الى أن ما حصل لوالده وتناقلته العائلة إليه، قد ترك أثراً ما في نفسه، حيث إن إتهاماً بمعاداة السوفييت عام 1934، قد وجه الى والده نيكولاي يلتسين، وحكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات.

أعلن ميخائيل غورباتشوف في 25 كانون الأول/ ديسمبر 1991 إستقالته من منصبه، وهو الرئيس الأخير والثامن للاتحاد السوفيتي منذ تأسيسه، ونقل سلطاته الدستورية كافة، بما فيها السلطة على الأسلحة النووية إلى الرئيس الروسي بوريس يلتسن. وبعد يوم واحد أصدر مجلس السوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي إعترافه باستقلال الجمهوريات السوفيتية السابقة رسمياً، وإنشاء رابطة الدول المستقلة لتحل محل الاتحاد السوفيتي. وتم بعد الإعلان إنزال علم الاتحاد السوفيتي ـ الراية الحمراء من مبنى الكرملين للمرة الأخيرة، ورُفِع محله علم روسيا الاتحادية.

من المهم والمناسب، التأكيد على أنه قبل الحل الرسمي للاتحاد السوفياتي، وخلال الفترة الواقعة بين آب/أغسطس وكانون الأول/ ديسمبر 1991، أعلنت جميع الجمهوريات المكونة للاتحاد السوفياتي إنفصالها بشكل فردي. وإجتمع ممثلوا 11 دولة مكونة للاتحاد السوفيتي - باستثناء دول البلطيق الثلاث وجورجيا - قبل أسبوع من الحل الرسمي للاتحاد، وقرروا إنشاء رابطة الدول المستقلة. جاء في البروتوكول الصادر عن الإجتماع حل إتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية صراحة، وأشار إلى أن الاتحاد السوفيتي لم يعد موجوداً قانونياً كدولة. وعلى الصعيد الدولي وقعت قبل ذلك تطورات أحدات عام 1989 في دول شرق أوروبا، كمقدمة لحل منظومة الدول الاشتراكية بالكامل، بما فيها حل المنظومة الإقتصادية ـ مجلس التعاضد الاقتصادى. وحل منظومة التعاون العسكري ممثلاً بحلف وارشو.

غنيّ عن البيان أن بيريسترويكا غورباتشيوف أوصلت الاتحاد السوفياتي في عام 1991 الى إعلان تفكيكه، والى حل الحزب الشيوعي، ليحل محله الحزب الشيوعي الروسي، الذي تأسيس في عام 1993، وظهرت الأحزاب الشيوعية المستقلة الأخرى في 14 دولة إنفصلت أو إنبثقت عن الاتحاد السوفياتي، إذ بعد فشل حركة آب/ أغسطس 1991 إستقال غورباتشوف رسمياً من منصب الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي، وخلفه نائبة فلاديمير ايفايشكو لمدة خمسة أيام فقط، حيث أصدر رئيس روسيا الاتحادية بوريس يلتسن قراراً في اليوم الخامس يحظر من خلاله نشاط الحزب الشيوعي السوفيتي.

يرى غورباتشوف في العامين والنصف التي سبقت المؤتمر السابع والعشرين للحزب الشيوعي بأنها فترة مخاض، بقدر ما هي ساهمت في تطوير المواقف والتصورات، وبرهنت في الوقت عينه على أن الصعوبات التي تواجه الإصلاحات بالغة التعقيد. ووصف تلك الفترة بأنها وفرت عملية تأمل نقدي لماضي الاتحاد السوفياتي، عملية شارك فيها آلاف الناس من مختلف الفئات الاجتماعية، ويرى أن المؤتمر ساهم في إشراك القوى السليمة في المجتمع بأعماله. لكنه عاد وإعترف كما من قبل في الصفحات السابقة، قائلاً: "وبعد إنقضاء عام على إنعقاد المؤتمر ظل الكثيرون في مختلف أوساط فئات الشعب، وحتى في الحزب نفسه، يعتقدون أن نهج البيريسترويكا ليست سياسة طويلة الأمد، بل لا تعدو أن تكون مجرَّد حملة عادية". (الكتاب: ص86).

وأشار غورباتشوف الى وجود مقاومةٍ ومحاولات ضرب ما يشبه الحصار على مؤيدي البيريسترويكا، ويستدرك مشيراً الى أن دورة كانون الثاني/ يناير قد حللت الوضع، ودعا الى العودة نحو الينابيع والجذور، وإبعاد التحليل عن الشخصانية، والتركيز على القضاء على أوالية الكبح، وتجنب تكرار أخطاء الماضي، وتحقيق المزيد من الديمقراطية الاشتراكية، على أساس أنها تعني الاشتراكية. في الجمل السابقة يبرز جلياً محاولات الإلغاء المرن للقواعد الأساسية لما تبقى من أعمدة واعدة لدعم النهج الإشتراكي، وكذلك مقاومة مَنْ لم تنطلي عليهم اللعبة.

وهكذا كما يرى غورباتشيوف، إن عجلة أوالية ـ ميكانيزم ـ البيريسترويكا بدأت تدور، ولكنه يقول بأن العربة لا تسير في منحدر، بل يؤكد على أنه ورفاقه يدفعونها لصعود التل، وأمامهم المزيد من المشقة في دفع العربة. ويعترف بأن هناك من يساند العملية أيضاً، التي وصفها هو بالتقليعة الجديدة. وعندما يُقَوّم دور المواطن السوفياتي، فإنه لا يرى ذلك المواطن نفسه معنياً بعملية التحوّل، أو إنه يرى العملية تجري في مكان آخر، خاصة وإنه (يقصد المواطن السوفياتي) تعود على الأوامر التي تصدر من فوق، وتحقيق المهام الجديدة يتم بالطرائق المعهودة.

يُشير المؤلف غورباتشيوف الى قاعدة مقبولة في إطارها العام، ولكن من المعاوم أن قراءتها وإستثمارها تتوقف عند طريقة إستخدامها والغرض منها ومنه. تفيد تلك القاعدة، بأن الخطأ الأكبر يتمثل بالخوف من الوقوع في الخطأ، وهذا يؤدي الى نوع خطير من الركود وفقدان الحيوية، ويرى أن الغرب أدرك تلك الحقيقة، وبدأ يستعد لرمي الاتحاد السوفياتي في "مزبلة التاريخ" على حد قوله. ومع تشخيص هذه الحالة يرى أموراً تجري في بلاده وصفها بغير الإعتيادية منها: المشاريع المشتركة مع الشركات الأجنبية؛ التمويل الذاتي لمشاريع ومصانع التعاونيات الزراعية ومزارع الدولة؛ نزع القيود عن الممتلكات الزراعية الرديفة التي تنتج السلع الغذائية؛ تشجيع النشاط الإنتاجي الفردي في الإنتاج الصغير والتجارة وإغلاق المصانع والفبارك غير ذات الجدوى الاقتصادية وغير ذلك. ووصف تلك الفترة بأنها الأقسى في تاريخ الحزب الشيوعي السوفياتي، ولكنه قال عنها مع ذلك كانت إحدى أغنى الفترات الأكثر جدية. وبالغ في وصف تلك الفترة، بقوله: "وها نحن الآن نعايش مرحلة غير إعتيادية، حتى أن ممثلي الأجيال السابقة يقارنون الجو الثوري الراهن في البلاد بالوضع الذي كان سائداً بُعَيْدَ ثورة إكتوبر في زمن الحرب الوطنية العظمى". (الكتاب: ص94).

تلك "الحالة الثورية" التي يتمناها أو يراها أو يتوهمها غورباتشيوف، على ماذا بناها؟! يقول: "لقد تمثَلت الوسيلة الأهَم للـ (العلاقة العكسية) مع الجماهير بالنسبة للقيادة السوفياتية في الإختلاط المباشر مع المواطنيين والاطلاع على رسائلهم. فالرسائل توجَه الى الصحف والمجلات (التي تنشر الكثير منها) وإلى الحكومة ومجلس السوفيات الأعلى، وخصوصاً اللجنة المركزية للحزب". (الكتاب: ص95). ويتجاهل عن قصد وتعمد عمليات وخطوات إعادة الرأسمالية بخطوات ثابتة، وهو نفسه سردها بنوع مرتفع من التفاخر، مثل إقامة المشاريع المشتركة مع الشركات الأجنبية وغيرها. وهنا يبرز التحايل على الواقع ومحاولات الإيهام والتضليل المقصود، وبكل ما أوتي من براعات لا تغطى.

يسعى الكاتب الى تزكية نفسه وفترة سلطته بقوله: إن مثل تلك الرسائل، كان يُكْتَبُ الكَثيرُ منها، في الحقب الماضية الى المراجع العليا، ولكن ميزتها في عهده أن طابعها قد تغيّر، حيث أصبح موضوعها الرئيس مصير البلاد، ولم تًعد تدور حول مطاليب شخصية: كالمساعدة في الحصول على شقة؛ رفع الراتب التقاعدي؛ إنقاذ محكوم دون ذنب ... الخ. ويعود كعادته ليعترف بأن ذلك النوع الأقدم من الرسائل لم يَنتهي.

يورد المؤلف عدداً من تلك الرسائل إمتثالاً لطلب الناشرين الأميركيين الذين إطلعوا على مسودات الكتاب، ويأخذ من تلك الرسائل ما يخدم قصده وقصدهم. أنقل للقائ الكريم روح تلك الرسائل وبلغتها، وهي تقع بين الصفحات (96 ـ 104).

ـ رسالة عامل (33 عاماً) من جمهورية أو مدينة ياكوتسك ذات الحكم الذاتي: كان كثيرون في البدء يتحفظون، ولا يقدمون على الكتابة، لأنهم ذاقوا لوعة التباعد بين الكلمات الرنانة وبين الواقع الفعلي. أما الآن إبني ذو السبعة أعوام يدعوني لمشاهد التلفزيون: "بابا، إسرع، ميخائيل سرغيفيتش يتحدث!".

ـ رسالة مواطن من جمهورية ليتوانيا السوفياتية، كتبها بعد دورة اللجنة المركزية للحزب في كانون الثاني/ يناير 1987: "فها نحن نرى للمرة الأولى بعد سنوات طويلة في قيادة الحزب والدولة أناساً لهم وجوه إنسانية. إن هذا بحد ذاته إنجاز عظيم". سوف أُصْدِقُكُم القول ميخائيل سرغيفيتش: "فبعد هذا الشتاء الطويل والرهيب يصعب أن نتوقع ذوبان جليد الأدمغة بهذه السرعة، إن ذلك سيكون عملية طويلة وشاقة".

ـ كاثوليكي مؤمن: إن أفعالكم وسلوككم تشهد على أن ثمة ما ينبغي على بعض المؤمنين أن يتعلموه منكم. سوف أصلي للرب من أجلكم، ومن أجل أفراد أسرتكم.

ـ مدّرس من كيشينيوف: يدعو غورباتشيوف الى الإستمرار بقضية لينين، وإن قلبه يعتصر ألماً، لأن بعض الناس لم تفهم مقررات الحزب الأخيرة، وإختلاط غورباتشيوف الشخصي مع الجماهير. وهو يتهم الكثيرين من مواليد الثلاثينات ـ الخمسينات بأنهم قد تحجَّروا، وهم دائماً موافقون وإدعاءاتهم زائفة.

ـ مواطن من جمهورية جورجيا السوفيتية: مبادراتكم في السياسة الخارجية والداخلية تستنهضني لأنها تلامس همومنا ومشاغلنا، وتناول القادة المحليين الذين نشأوا على نمط ونسق القادة السابقين، ويرجو غورباتشيوف ألا يتراجع الى الوراء خطوة واحدة.

ـ رسالة مواطنة من لينينغراد: إن من واجبهم جميعاً المساعدة في محاربة تجليات "الماضي المقيت"، المتمثل بالبيروقراطية، الفساد، الإمتثال الأعمى، التملق والتزلف، والرعب أمام من بيده السلطة ... الخ.

إعتبر غورباتشيوف تلك الرسائل غيض من فيض، وهي تعبر عن الثقة بقيادة الحزب والدولة، والدعم الحار للبيريسترويكا ومحاكمات نقدية تتخوف من أن تَلقى عملية إعادة البناء ذات مصير إصلاحات الخمسينات والستينات، وأن تخمد جذوتها، بعد أن إنفتح الناس، وإرتفع صوت المثقفين الحازم والمؤثر. ويؤكد على أن المكتب السياسي يَجمع تلك الرسائل ويدرسها دورياً، لإنها تساعد في جسِّ نبض الأحداث، ويرى في تراكم خبرة البيريسترويكا تأكيداً لفكرة لينين القائلة: إن المشورات هي مدرسة عظيمة وفعالة للتربية والتثقيف السياسيين للجماهير. لا يتسع المجال هناك لإجراء مناقشة مفصلة حول المنهجية التي إستخدامها المؤلف عند قراءة تلك الرسائل، وتقويم مدى قدرتها على رسم لوحة واقعية عن وجه المجتمع السوفيتي، وعن الإتهام السريع وغير المسؤول لسبعة عقود من الزمن، ولا تلك النرجسية المغرقة في الذاتية التي إستخدمت تلك الرسائل لإضفاء صفة التفرد الإيجابي على قائد البيريسترويكا.

يصف المؤلف البيريسترويكا بالثورة، لا بل أكثر الثورات سلمية وديموقراطية، ولكنه يعرب في الوقت نفسه عن قلقه من النقص في أدب المجادلة. وتوقف عند حالة الغلاسنوست/ العلانية، ودعا الى العمل من أجل أن يعم ألقها أكثر، وكالعادة إتخذ من أقوال لينين مظلة: "الأضواء، المزيد من الأضواء، فليعرف الحزب كل شيء!". لا يريد غورباتشيوف بقاء زاوية معتمة يمكن للعفن، على حد وصفه، أن يتجمع فيها من جديد. ويعتبر العلانية شكلاً من أشكال الرقابة الشعبية.

يقول بصدد الأدوات التي إستخدمها خلال عملية إعادة البناء، بأنها تقوم على ركيزتين أساسيتين هما: اللجان الحزبية ووسائل الأعلام الجماهيري. وإن العلانية والنقد والنقد الذاتي يشكلان موقفاً مبدئياً للحزب. ويرى أن الإعلام الغربي يترصد النقد الداخلي ليعيد توظيفه ضد الاتحاد السوفياتي. ولكنه يصفه بالدواء المر، الذي تحتم الأمراض ضرورته، ومخطئون الذين يميلون الى تجزئة النقد زمنياً على جرعات. هنا تكمن مراوغة بلغت حداً مرتفاً للغاية، الى جانب منافقة الإعلام الغربي، فالغرب كان سُلمَاً للبيريسترويكا ورموزها، ولتبشيع الحياة في الاتحاد السوفياتي، وكان الإنتقاص من التجربة السوفياتية شغلاً رئيسياً لوسائل الإعلام الجماهيري في الغرب. أما دور الهيئات الحزبية فقد كان شكلياً، لأن إعادة البناء جرت دون تهيئة الحزب لها، وسار النقد والنقد الذاتي بإتجاه واحد هو تجريد التجربة السوفاتية من كل منجزاتها.

وفي وقفة حول علاقة الإنتليجنسيا مع البيريسترويكا، يؤكد غورباتشيوف على وقوفها الى جانب البيريسترويكا، وتأييدها بحرارة. ويصف المثقفين بأنهم أوفياء لقيم الاشتراكية، وهم جزء عضوي من المجتمع السوفياتي، وإنهم الرأسمال الروحي للبلاد الذي لا يُقدر بثمن. ولكنه تجاهل بالمطلق أن هذه الفئة الحساسة والفعالة والمهمة جداً إحدى ثمار البناء الاشتراكي. وأشار الى إهتمامه بطريقة التعامل مع المثقفين، مشيراً الى إجتماع عقده من شغيلة جهاز اللجنة المركزية للحزب حول البيريسترويكا، دعا فيه رفاقه الى تَعَلّم كيفية العمل مع المثقفين بإسلوب جديد، والكف عن توجيه وإصدار الأوامر إليهم. وأشاد بالأجواء المفعمة بالحماس والنشاط الذي شهدته مؤتمرات الاتحادات الإبداعية، ونقد القادة السابقين لتلك المنظمات. لا شك أن هذا الكلام بمجمله من الناحية النظرية صحيح، ولكن لهذا الكلام مختبره العملي على أرض الواقع، فقد تم عملياً صب الجهد على عزل المثقفين من معارضي البيريسترويكا فحسب، الذين عبروا عن هواجسهم من أن تشكل البيريسترويكا إستهدافاً تدميراً للبناء الاشتراكي. وهذا النقد الغورباتشيوفي هو ذو طبيعة إجرائية ولا يملك المشروعية في تحميله للإشتراكية العلمية نفسها.

يعود الكاتب كعادته الى نفي ما سبق أن أكده، ليشن هجوماً على المثقفين الذين يعارضونه وبروح نزقة، حين يتحدث من أبرز الإعتراضات والزعم بـ" أنه لمن الصعب العمل في بيئة يعتبر فيها كل واحد نفسه فيلسوفاً لا فيلسوف بعده، أو ذا شأنٍ لا يُعلى عليه، وحيث يعتقد الكل أنه وحده على حق، فكان ردّي: إنه لمن الأسوأ بكثير التعاطي مع مثقفين سلبين، مع اللامبالاة والاستهتار". (الكتاب: ص115).

وللتخفيف من وصف الحالة كما تصورها عاد ليقول بأن بعض وجهات النظر غير عقلانية، ولكنها ليست تناحرية على أي حال،، ومن دواعي الأسى أن تحل المهاترات محل تضامن الإنتليجنسيا مبدعة الفن ومواصلة الإنفتاح. وكما في كل مرة يحاول جعل كلامه صقيلاً جداً، وربما دون ملمس، فيغترف من السجل المجيد لإنجازات ثورة اكتوبر 1917، وذلك من خلال التأكيد على أن الثورة الثقافية اللينينية، قد حولت روسيا من بلد أمي أو شبه أمي الى واحدة من أكثر بلدان العالم ثقافة.

وإذا كانت بعض الحقول يسهل فيها تمرير بعض القضايا دون عثرات بارزة تتطلبُ إنتباهاً عالياً، فالحديث عن السياسة الاقتصادية والاجتماعية الجديدة في الممارسة العملية تكشف جوهر المطلوب فعله من عملية إعادة البناء.

أعتقد أن النص التالي يكشف دون الكثير من المواربة الموقف الحقيقي للبيريسترويكا من الملكية الاشتراكية، وفيه يُلَحَنُ بيتُ القصيد، تحت مسمى مهمات الإصلاح الجذري: "ينبغي من أجل ذلك إيجاد أكثر الأشكال فاعلية للملكية الاشتراكية، وتنظيم الإقتصاد بشكل مستمر، وأهم ما في ذلك أن يكون الإنسان، فعلاً لا قولاً، سيداً ومالكاً للإنتاج ... يتضمن الإصلاح تحويل المؤسسات الى النظام الاقتصادي المستقل التام (الحساب الاقتصادي)، وإعادة البناء الجذرية للقيادة المركزية للإقتصاد، والتغيير الجذري للتخطيط، وإصلاح نظام تشكيل الأسعار وأوالية التمويل والإقراض، وإعادة بناء العلاقات الاقتصادية الخارجية، وتشكيل بنى تنظيمية جديدة للإدارة، وتطوير الأسس الديمقراطية للإدارة بكافة الوسائل المتاحة، والتطبيق الواسع لمبادئ الإدارة الذاتية" (الكتاب: ص117 ـ 118).

يحدد معايب الأوالية السابقة لإدارة إقتصاد المؤسَّسة بـ: ضعف الحوافز الداخلية للتطوَّر الذاتي، وهو ينطوي ضمناً وأحياناً معلناً على التخلي نهائياً عن الإقتصاد المخطط وإفساح المجال أمام البطالة، وهو يدرك أن مواصفاته هذه تعني التخلي عن الاشتراكية أو إضعافها، وليخفف من وطأة ما ذهب إليه، يقول: "نريد توطيد الاشتراكية وليس إستبدالها بنظام آخر". (الكتاب: ص122). هذه العبارة عامة وجوفاء إن لم تكن مقرونة بتوجهات ملموسة وواضحة. وعلى الأرض كانت كل خطوة يتخذها تصب فيما يناقض قوله السابق. ومن الواضح أن عبارة ترك الأمر للحياة تقوّم خطواته، والتعويل على تحقيق الخطط الخمسية حتى عام 2000، وإمتداح الفهم الجديد للجنة المركزية للحزب بصدد إشاعة الديمقراطية والعلانية، وشن نقد حاد للممارسات السابقة، وإنتقاد حالة إعتماد الهيئات على مؤشرات محدودة، مثل: إنجاز الطلبيات الحكومية، مؤشرات الربح، إنتاجية العمل، المؤشرات العامة للتقدم العلمي ـ التقني، ومؤشرات المجال الاجتماعي نحو مستوى علمي من التجهيز التقني. والدعوة الى إستراتيجية الإنفتاح على الغرب، وشراء بعض المستحدثات التقنية تفضح النوايا التي سعى الى تجنب الإشارة إليها بالوضوح المطلوب.

إن عمليات التطوير في الاتحاد السوفياتي فرضت على الكاتب الإعتراف بالحقيقة التاريخية، التي تفيد بأن الحاجة أم الإختراع، أو ربَّ ضارَّة نافعة، كما قال: "إن الولايات المتحدة الأميركية قد ساعدتنا إجمالاً على فهم أمور كثيرة، بواسطة (عقوباتها) و(مقاطعتها) وغير ذلك من ألوان الحظر المختلفة، وكما يقال، ليس هناك روح مجرَّد من خير. لقد تمكنا من إستخلاص العبر من مواقف الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الغربية الأخرى، التي رفضت بيع التكنولوجيا المتطوَّرة للإتحاد السوفياتي. ولعل ذلك هو السبب في هذا الرواج المفاجئ الذي يسود عندنا في حقل المعلوماتية والكمبيوتر، وفي مجالات التقدم العلمي التقني الأخرى". (الكتاب: ص133).

ينتقد حالة عدم تطبيق منجزات العلماء السوفيات في بلاده التي يأخذ بها الغرب، وكأنه مراقب أجنبي لا يملك إلا سلطة الكلام فحسب. ويشير الى ما حققه العلماء السوفيات، مثل: خطوط النقل الدوَّارة، وطريقة السكب المتواصل للفولاذ. ويعود ليقول إننا نبذل مجهوداً ضخماً لتنشيط التقدم العلمي ـ التقني. وينتقل الى مسألة تأثير المصلحة الشخصية كحافز. وهي مسألة أرى فيها ما يستحق بذل إهتمام واسع نظرياً وعملياً من جانب الإشتراكيين. يقول: "ثم إننا نعتبر أن توحيد المصلحة الشخصية مع الاشتراكية يبقى حتى اليوم، مشكلة رئيسية". (الكتاب: ص136). "إذا لم تراعى المصالح الشخصية لن يكون هناك ما يُرضي، وسيكون المجتمع هو الخاسر، ولذا يجب إقامة توازن في المصالح، وهذا ما نسعى إليه". (الكتاب: ص138). وإمتدح العمل على أساس المقاولة، ليظهر نزوعه بإتجاه الإبتعاد عن مسألة إنماء الروح الإشتراكية.

إعترف غورباتشيوف بمجال السياسة الاجتماعية، بأن التجربة السوفياتية حققت نجاحات ثقافية، صحية، وتعليمية على طريق العدالة الاجتماعية، وتقديم الخدمات للمؤسسات الاجتماعية والإنتاجية والعلمية مثل أكاديمية العلوم، إتحاد الكتاب وبقية المنظمات الاجتماعية والإبداعية، التي لها فنادقها ومصحاتها وكذلك للنقابات والمنظمات الحزبية. يمكن التأكيد من خلال تجربة تفكيك الإشتراكية في الاتحاد السوفيتي ودول شرق أوروبا على أن الإصلاح يجب أن يكون متكاملاً ومتسقاً وإلا يؤدي الى نتائج مفرطة في سلبيتها.

وتناول موضوعة الديمقراطية والشرعية والترابط بينهما، وعدم إمكانية إستمرار إحداهما دون الأخرى، وأشار الى جهود لينين والحزب منذ الخطوات الأولى للسلطة السوفياتية لتوطيد السلطة الجديدة، مثل: إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، تأميم الأرض، رقابة الكادحين على الإنتاج، حماية مصالح العمال والفلاحين من هجمات الثورة المضادة، معتبراً أن العملية الثورية مهددة بالفوضى من ذون ذلك. ويعترف بمهمة الحزب تأسيساً على قول لينين في تعليم ملايين الكادحين "كيف يحاربون في سبيل حقوقهم" (الكتاب: ص151). وليس من الواضع لماذا يؤكد غوباتشيوف على قواعد لينينية لا تخدم موقفه العملي، هو مارس على أرض الواقع كل ما يتعارض معها، لا يمكن أن تفسير بغير محاولة التعمية والتضليل، وربما يستطيع القارئ أن يقول: إن لينين توقع ما يمكن أن يعمله التصفويون الإنتهازيون أمثال غورباتشيوف ويلتسين من ذوي الميول البرجوازية في حزب الطبقة العاملة والبلاد كلها.

ثم عاد كالعادة الى تاريخ الاتحاد السوفياتي، مشيراً الى عدم الإلتزام بأعراف دستور 1936، وإستباحة القوانين مستنداً في ذلك الى تقويم المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، مذكراً بربع القرن الأخير ومرحلة الركود التي أضعفت الإنضباط، وكأنه يرى تاريخ الاتحاد السوفياتي كله على تلك الشاكلة، وذلك يتبين من مراجعة توزيع إنتقاداته اللاذعة لفترة هنا وأخرى هناك بين دفتي كتابه.

إقتصرت إشادة غورباتشيوف على القوانين التي صدرت في فترته فقط، فيما يخص المناقشة الشعبية للشؤون الحكومية المهمة، التي إكتسبت شكلاً حقوقياً، وأُقِرَتْ في قانون صدر في حزيران/ يونيو 1987 عن مجلس السوفيات الأعلى، وتقدمت النقابات والكومسومول بعد مؤتمريهما الأخيرين بإقتراحات حول إعداد مشاريع قوانين للإتحادات النقابية والشبابية. ودعا الى القيام بعمل ضخم يهدف الى ترسيخ الدعائم القانونية للإشتراكية. ولا ينفي أن مجالس السوفياتات التي ظهرت محاولاتها الأولى منذ ثورة 1905 وتحوَّلت الى هيئات للسلطة نتيجة لثورة شباط/ فبراير 1917 وثورة أكتوبر العظمى أطلق عليها إسم جمهورية السوفياتات، وهي فريدة من نوعها في تاريخ السياسة العالمية، التي وحدَّت الملايين، ولولاها لما حصدت السياسة الاقتصادية الجديدة (NEP) تلك النتائج. ولكن فيما بعد تراجع دورها بسبب ظهور نظام الإشراف الإداري، الذي أدى الى تغريب الكادحين عن حقوقهم الدستورية في المشاركة المباشرة في شؤون الدولة. ويرى بأن دور السوفياتات إستبدل بالهيئات الحزبية، ولكن غورباتشيوف لم يحدد متى حصلت تلك السلبيات.

يقول إن إحياء دور السوفياتات قد طُرِّحَ أمام البيريسترويكا، وهو إتحاد الأمم الاشتراكية في كيان فريد من نوعه. حظى في إجتماع كانون الثاني/ يناير 1987 بدعم قوي. وأولى الإجتماع كذلك عناية خاصة بالمنظمات الاجتماعية والعمل على مساندتها دون التدخل. وأن تظل السمة الرئيسية لها البقاء على صلة مع الشعب. وأكد على الدور الجديد للنقابات، وأشار الى أهمية العمل على محاربة محاباة، ولكنه قبل ذلك حصر مهمات النقابات في تقديم خدمات الاصطياف وزيارة المصحات للكادحين والسياحة والرياضة وإستجمام الأطفال وإستشفاءهم، ومن جانب آخر دعا الى السعي لتعزيز التوَجَّه الاجتماعي للقرارات الاقتصادية. وإعترف بأن الكادحين هم بحاجة الى الحماية حتى في ظل الاشتراكية. ويضيف كعادته لتمرير طروحاته المثيرة للجدل بعض الجمل، ويقول عن حق، كانت روسيا القيصرية بسجن الأمم، واليوم دولة متعددة القوميات، وهذا يُشكل ميزة وليس نقطة ضعف، إنتهى الإضطهاد القومي، وعدم المساواة، وأمِنَ التقدم الاقتصادي والروحي لكافة القوميات والشعوب.

ويعود من جديد ليناقض نفسه أو قوله السابق في العبارة التالية: "إن المسألة هنا مسألة جدلية: فمع نمو التعليم والثقافة، ومع تحديث الإقتصاد، يتشكل لدى كل شعب مثقفوه، ويزداد الوعي القومي الذاتي، وينمو الإهتمام الطبيعي بالجذور التاريخية، وهذا أمر رائع ... ولا يخلو الأمر أحياناً من ظهور بعض النزعات القومية لدى فئة معينة من الناس، فيتجلى ضيق الأفق والتنافس والغطرسة القومية" . (الكتاب: ص167 ـ 168).

ويضيف دون تعليل أن أجيال جديدة تنشأ لا تعرف كيف تطورت شعوبها، وتوصلت الى هذا المستوى من الإزدهار، فلم يكن ليوضح لهم أحدٌ كم عملت من أجلهم الأممية وماذا عملت. وأعطى أهمية مميزة للقومية الروسية في تطوير بقية الأمم. وتناول تجربته الخاصة في منطقة القفقاس التي تشهد إختلاطاً قومياً في كل قرية ومدينة. وأضاف دون ملامسة الموضوع: إن الاتحاد السوفياتي ليس في وارد الهروب مما يطرأ من مشكلات، كما أوصى لينين بالتقيّد بأقصى درجات الحذر والتأني خلال التعاطي مع المسألة القومية، وأكد على أهمية حفز العمل سوسيولوجياً وسايكولوجياً.

وبصدد علاقة الغرب مع البيريسترويكا: أفرد إهتماماً خاصاً بنظرة الغرب الى إليها بين صفحات الكتاب (من 176 الى 188) مُظْهِراً ومُؤكِداً على: " إننا نهتم دائماً بكيفية تقبل البيريسترويكا خارج حدود بلادنا وخصوصاً في الغرب، وليس ذلك من باب الفضول، بل من قبيل واجبات السياسة". الكتاب (ص176)

ويواصل مستشهداً بصحيفة ألمانية: "فقد كتبت إحدى الصحف الألمانية الغربية تقول (إن ما يحدث في الاتحاد السوفياتي يمس العالم بأسره)". ووصف الإهتمام العالمي بالصادق، ولكنه يستدرك على صعيد رد فعل الحكومات ويعتبره رداً متشكاً، ولا يخلو في بعض الأحيان من التهكم، ويؤكد على أن الإصلاحات قد فاقت توقعاتهم في الحوار الصريح والإجراءات البنَّاءَة الواسعة بعد إجتماع اللجنة المركزية للحزب في حزيران/ يونيو 1987. ويقرُ بتراجع وصف البيريسترويكا أو نعتها بـ "التدابير المجتزأة".

وعلى الرغم من ذلك يواصل إظهار إرتياحه من الأوصاف الغربية، التي أطلقت على إجراءاته، ووصفها بـ "الثورة الجديدة" على قاعدة إقتصادية وحقوقية جديدة، ولم يتجاهل مطاليب الغرب بضرورات التسريع في تلك الاجراءات، وتلك المطالبة حظت ، كما يعتقد، بدعم اليسار واليمن في الغرب على حد السواء. ولكنه يذكر بأنها تعثر قليلاً بصدد جمع الشتيتين في إقتصاد واحد، ليشير الى قلق المراقبين الغربيين عما سينجم عن إستمرار البيريسترويكا، ويقول: "وهم يتساءلون عن الشيء الأكثر ملاءمة للغرب: أهو نجاها أم فشلها؟" (الكتاب: ص178).

ويعرب عن السرور البالغ إتجاه نمو وإتساع نطاق التساؤلات، خاصة عند الإختصاصيين الجديين الذين يقرون بأن نمو الرفه المادي للمواطنيين السوفيات والتطوير المضطرد للديمقراطية ضمانة مادية لنهجه السلمي في السياسة الخارجية، ووجه الإختصاصيون نداءات لقادة الغرب لئلا يجزعوا من البيريسترويكا، وألاَّ يجعلوا منها موضوعاً لحرب نفسية، بل ينبغي دعمها، وعدم إرتكاب خطأ تاريخي.

ومن جانب آخر عَرَّجَ على وجود ترويج لوجهات نظر مغايرة في وسائل الإعلام الجماهيري الغربي، وفي المناظرات السياسية من تأثيرات الحرب الباردة، وركز في هذا الصدد على الدوائر اليمينية المتطرفة، وأشار الى أنهم يستغلون الغلاسنوست ـ العلانية في محاولات التشويه، وذلك من خلال خلط الأخبار الملفقة مع المكاشفات العلنية في بلادنا مستشهدين بما تنشر الصحافة السوفياتية لتشويه الغلاسنوست.

ويحاول درء الإتهامات للصحافة في عهده بأنها "الليبرالية"، وإنها تسير بضغط من الغرب، ويلقي مسؤولية ما ينشر على كفاءة الإعلاميين الغربيين. ومن جانب آخر يستمر في الدفاع ضد "الإتهامات" التي تَطلق أوصافاً على السائد في عهده، مثل: إرتفاع التضخم، البطالة، والأسعار وتزايد الفرز الاجتماعي. ويؤكد على تلاحم الشعب والجيش والمخابرات وغيرها من المؤسسات في الاتحاد السوفياتي. ويعود لينصف المعلقين الغربيين الذين يرون الطابع الإشتراكي للتغييرات الجارية، وإنها تهدف الى توطيد الاشتراكية.

يؤكد على إفتراض نجاح خططه، ويقول: فذلك سوف يسكت الأفواه التي تريد النيل من البيريسترويكا. وينهي تصوير بلاده بأنها "إمبراطورية الشر". وإن ثورة إكتوبر 1917 غلطة تاريخية. وطريق بلاده بعد إكتوبر بأنها "طريق متعرجة". ولكنه بعد ذلك قدم أوصافاً في ذات الإتجاه توحي بأنه ليس أقل من المعلقين الغربيين في كيل الإتهامات. وقد إعترف في موقع آخر في الكتاب قائلاً: "وإذا كنّا ننتقد أنفسنا كما لم ينتقدنا أحد من قبل ـ لا في الغرب ولا في الشرق ولا في أي مكان آخر ـ فذلك لأننا أقوياء ولا نخشى المستقبل. وسنتحمل هذا النقد، وسيتحمله معنا الشعب والحزب أيضاً". (الكتاب: ص183). وهو في الواقع لا ينتقد نفسه أو نهجه، فالكتاب من حرفه الأول الى حرفه الأخير يمثل إشادة بدوره ونهجه الفكري والسياسي، إنه سخي في تقريع التجربة السوفيتية بطريقة تجاوزت تقريع وتبشيع الكتاب والسياسيين الغربيين، بل وأكثر مهارة وإيلاماً، لأنه ينبع من داخل التجربة، ومن رأسها تحديداً. وإن العمل من الداخل، وفي موقع القيادة، يوفر ميزات كبيرة وحُسْنَ إطلاع يمكن إستغلاله في غير موقعه السليم.

يستند غورباتشيوف مجدداً على الصحافة الألمانية، وينقل عن مجلة شتيرن الألمانية الغربية لتزكية موقفه ونهجه حين تقول: "إنهم يحاولون الآن وبتهور التشهير بالإصلاحات في الاتحاد السوفياتي، ويؤكدون في الوقت نفسه أنها توطد الشيوعية، وأن الكرملين لا يبغي إلا أمراً واحداً، أن يجعل النظام أكثر فاعلية، ولكن يا إِلَهي، إذ كانت مكافحة الفساد والتبذير، وإذا كانت حرية الرأي الواسعة توطد الشيوعية، فإن الديمقراطية، تبعاً لهذا المنطق، هي التربة الأكثر خصوبة للماركسية ـ اللينينية". وأضيف الى هذا المقتطف المعبر بعض الكلمات: إذا كانت الاشتراكية لا تتواءَم فعلاً مع الديمقراطية والفاعلية الاقتصادية، على حد زعم أعدائها، فليس ثمة ما يدعو أولئك الأخيرين الى القلق على مصيرهم وعلى أرباحهم". (الكتاب: ص182 ـ 183).

إن درجة ثقة غورباتشيوف بممثلي الدول الغربية دفعته، كما يقول، الى طرح سؤال صريح عليهم حول: هل يهمهم زيادة الاتحاد السوفياتي إنفاقه على أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية على حساب الإنفاق العسكري؟ ويعود ليعكس الأمر مؤكداً على أن الإطراء الزائد للنظام الرأسمالي وللديمقراطية الغربية ناتج من عدم ثقتهم التامة وخوفهم من التنافس مع الاتحاد السوفياتي في الظروف السلمية، وهم عن تعمد ينفخون الريح في أشرعة التوتر الدولي. ويساوره القلق من محاولات الغرب لإلقاء روسيا في "مزبلة التاريخ" على حد قوله. ولكنه يتعلل بمساحة بلاده الواسعة الأرجاء والغنية بالموارد الطبيعية والكوادر ذات الكفاءة العالية والصروح العلمية العظيمة، وإن غالبية العمال يملكون ثقافة متوسطة، وأشار الى أنه تحدث مع وفد مجلس نواب الولايات المتحدة في نيسان/ ابريل 1987 عن خطط التجديد في بلاده التي لا تُشكل تهديداً سواءً كان سياسياً أو إقتصادياً أو أي تهديد آخر، وكرر الكلام ذاته في الكرملين بندوة كان موضوعها: "من أجل عالم غير نووي، من أجل خلاص البشرية".

يؤكد بإصرار على أن ليس الاتحاد السوفياتي ولا البيريسترويكا يُشكل تهديداً لأحد، ويعرب عن ضجره من الإدعاء بأن بلاده لديها نية في نشر الشيوعية في العالم أجمع، ويصف ذلك الإدعاء بالهراء. وإستهجن أن يصدر ذلك من شخصيات مسؤولة في الغرب، ونفى أي إعلان منه حول "نشر الهيمنة الشيوعية"، وكالعادة يُقحم لينين لتمرير مشاريعه، ويذكر الإقتباس التالي عن لينين: "إن تأثيرنا الرئيسي على التطور العالمي سوف نمارسه، نحن الدولة الاشتراكية من خلال نجاحاتنا في نشاطنا الاقتصادي". (الكتاب: ص186).

ومن جانب آخر يعتبر أن البيريسترويكا ستكشف ضيق الأفق الطبقي لدى القوى السائدة في الغرب وأنانيتها. وإن موسكو ستساعد البلدان النامية على تحديد سبل تحديثها الاقتصادي والاجتماعي دون تراجع أمام الإستعمار الجديد أو الإرتماء في أتون الرأسمالية، يا للغرابة أن يحذر الدول الأخرى مما هو يسعى إليه. جاءت هذه العبارات نافرة وغير منسجمة مع السياقة كله، ربما تستهدف تضليل الإشتراكيين وتخدير يقظتهم، وكالعادة عاد غورباتشيوف مسرعاً للتأكيد على أن سياسة البيريسترويكا تستجيب لمصالح السلام العالمي الشامل والأمن الدولي. يتوقف عند العلاقة العضوية بين السياسة الخارجية والداخلية، وكيف تزداد تلك العلاقة وثوقاً في الفترات الحاسمة. ويختتم بتلخيص سياسته الخارجية بنقطة واحدة، بالقول: إنها سياسة طامحة الى عالم لا نووي وخال من العنف. ويعتبر ذلك نهج مبدئي يمكن الإعتماد عليه.

سوف أتناول لاحقاً مطالب الغرب الصريحة والخطيرة من غورباتشيوف، تلك المطالب التي تجاوزت الأعراف المتعارف عليها في العلاقات الدولية، وأبين أهم التنازلات التي قدمها، وعلى لسانه هو لا غيره، بما فيها تلك التي تتعلق بأمن الدولة السوفياتية.

يتبع: رؤية للعالم المعاصر



#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)       Abdul_Hamid_Barto#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيريسترويكا غورباتشيوف (2 من 9)
- بيريسترويكا غورباتشيوف (1 من 9) بعض الأوليات كتاب غورباتشيوف
- الثوري والإصلاحي والإنهيار القيمي 2 من 2
- الثوري والإصلاحي والإنهيار القيمي 1 2
- مع الجواهري في بعض محطاته
- الإحتكام الى الشعب مرة أخرى
- الإحتكام الى الشعب
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (6) الأخيرة
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (5)
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (4)
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (3)
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (2)
- بين عيد العمال ومئوية ثورة إكتوبر (1)
- هل هناك شيوعية بدون الماركسية اللينينية؟
- شخصية الفرد العراقي
- خواطر حول أيام دامية
- تحررت مدينة هيت ولكن متى تدور نواعيرها؟
- عملية سياسية مندحرة ولكنها مستمرة
- موجعة ذكرى الشهداء
- ثورة 14 تموز


المزيد.....




- فيديو كلاب ضالة في مدرج مطار.. الجزائر أم العراق؟
- الناتو يقرر تزويد أوكرانيا بمزيد من أنظمة الدفاع الجوي
- طهران: لا أضرار عقب الهجوم الإسرائيلي
- آبل تسحب تطبيقات من متجرها الافتراضي بناء على طلب من السلطات ...
- RT ترصد الدمار الذي طال مستشفى الأمل
- نجم فرنسا يأفل في إفريقيا
- البيت الأبيض: توريدات الأسلحة لأوكرانيا ستستأنف فورا بعد مصا ...
- إشكال كبير بين لبنانيين وسوريين في بيروت والجيش اللبناني يتد ...
- تونس.. الزيارة السنوية لكنيس الغريبة في جربة ستكون محدودة بس ...
- مصر.. شقيقتان تحتالان على 1000 فتاة والمبالغ تصل إلى 300 ملي ...


المزيد.....

- الإنسان يصنع مصيره: الثورة الروسية بعيون جرامشي / أنطونيو جرامشي
- هل ما زَالت الماركسية صالحة بعد انهيار -الاتحاد السُّوفْيَات ... / عبد الرحمان النوضة
- بابلو ميراندا* : ثورة أكتوبر والحزب الثوري للبروليتاريا / مرتضى العبيدي
- الحركة العمالية العالمية في ظل الذكرى المئوية لثورة أكتوبر / عبد السلام أديب
- سلطان غالييف: الوجه الإسلامي للثورة الشيوعية / سفيان البالي
- اشتراكية دون وفرة: سيناريو أناركي للثورة البلشفية / سامح سعيد عبود
- أساليب صراع الإنتلجنسيا البرجوازية ضد العمال- (الجزء الأول) / علاء سند بريك هنيدي
- شروط الأزمة الثّوريّة في روسيا والتّصدّي للتّيّارات الانتهاز ... / ابراهيم العثماني
- نساء روسيا ١٩١٧ في أعين المؤرّخين ال ... / وسام سعادة
- النساء في الثورة الروسية عن العمل والحرية والحب / سنثيا كريشاتي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا - عبدالحميد برتو - بيريسترويكا غورباتشيوف (3 من 9)