جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 5645 - 2017 / 9 / 20 - 21:03
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كيف أضاع صدام العراق وضيَعّه .. الأثرة والجزع
جعفر المظفر
عام 1991 وبعد الهزيمة الشنيعة في الكويت وصل شوارزكوف إلى طريق الناصرية وصار طريقه إلى بغداد سالكا لكنه تلقى أمرا من رئيسه بوش الأب بضرورة التوقف فورا عن فكرة الزحف إلى بغداد والإنسحاب السريع من الأراضي العراقية.
ثمة تفسيرات عدة لذلك الأمر الرئاسي الأمريكي لكن كان أهمها على الإطلاق نية طبخ العراقيين على نار هادئة حتى يكون بالإمكان بعدها التقدم من البصرة إلى بغداد دون مقاومة. وضع الأمريكان العراق في حصار أُريد له أن يكون أتونا لحرق العراقيين وتدمير قيمهم, أما صدام حسين فقد ظل يتنازل ويتنازل وكأنه يمارس رقصة الستربتيز السياسي التي أكلت ما تبقى من رصيده حتى ضمن الأغلبية من البعثيين, في حين راحت أكثرية العراقيين تتمنى يوم الخلاص, وبينما كان يقال قبلها : إذا رايت إثنين من العراقيين يتحدثان مع بعض فإنهما يتحدثان ضد صدام, فإن صاروا ثلاثة فهم يتحدثون لحسابه خوفا من الثالث, فإن هذه الحكاية قد تغيرت بعد أن صار الثالث ايضا من ضمن الحانقين .
بعد ثلاثة عشر عاما من الحصار صدر قرار إحتلال العراق وإستطاع الجيش الأمريكي أن يصل بغداد بسهولة. ودون الحاجة للإغراق بالتفاصيل, فإن الجيش العراقي كان ألقى سلاحه حتى قبل المعركة, أما الشعب العراقي فهو, وإن لم يستقبل الأمريكيين بالزهور, غير أنه لم يستقبلهم بالحجارة, وما عدا بعض جيوب مقاومة متفرقة فإن المدن العراقية كانت تسلم مفاتيحها للمحتل دون قتال.
يُنسب لميشيل عفلق انه قال (الشعب على حق ولو كان على خطأ). لكن مؤسس الحزب لم يكن يحسب أن قوله الذي أطلقه في البدايات سوف يفسر أفضل تفسير حالة الشعب العراقي حين صفق لمحتليه وذلك بعد أن وضعه صدام حسين في الموضع الصعب.
كل حكايات الإحتلال السهل عبر التاريخ لم يكن لتحدث لولا سقوط النماذج في السلطة. كان صدام قد تجول بمناسبة عيد ميلاده في عربة مذهبة في وقت كان يجري فيه تنظيم مواكب لتشييع الأطفال العراقيين الذين يموتون بفعل نقص الغذاء وفقدان الدواء. وبينما كانت نسبة النساء اللواتي ينحدرن في درب الرذيلة تتصاعد بشكل مخيف, أما نتيجة للإحباط العام الذي يعيشه المجتمع أو نتيجة وللجوع والفقر ثانيا, فإن بساتين رجال القبيلة الحاكمة ومريديهم كانت تبدأ إحتفالاتها الليلية المجنونة من الغروب إلى مطلع الفجر, وكان منظر (زين الشباب) عدي صدام حسين وهو يتجول بسياراته الفارعة كافيا لإقناع الناس أن اي حكم جديد حتى لو ترأسه الشيطان سيكون أرحم من نظام صدام, وربما سيكون مبعثا لأمل بعراق جديد.
الواقع أن صدام كان سقط سياسيا في اعقاب هزيمته المرة في الكويت, أما سقوطه القانوني فقد تأجل لغرض أن يكون بوابة لإحتلال العراق نفسه, ولو كان شوارزتكوف قد زحف على بغداد حينها لجابهت أمريكا وضعا حرجا ومربكا. لكن فترة الحصار التي إستمرت لأكثر من ثلاثة عشر عاما كانت كافية للحصول على تنازلات مفتوحة وتسديد فواتير لتعويضات هائلة بتوقيع صدام حسين نفسه, وهي إضافة إلى ذلك كانت أنجزت تعبيد طريق الإحتلال بشكل يضمن سهولة الوصول إلى بغداد.
كانت نتائج الحصار قاسية جدا, أما صدام فقد أوقع نفسه في الهاوية حينما ترك لنفسه وعائلته وعشيرته أن تعيش خارج الزمن العراقي الصعب الذي كان هو المسؤول الأول عن صناعته.
لقد ذهب صدام ضحية نفسه قبل أن يذهب ضحية أعدائه, وذهب العراق ضحية لصدام قبل ان يصير ضحية للأمريكين. ولو أن صدام كان قد تخلى عن الحكم وعمل على إعداد بديل له من داخل منظومة الحكم نفسه, أو أنه على الأقل كان تخلى عن مظاهر البذخ والتمشدق بالبطولات الفارغة وإتجه لبناء زعامة شعبية تتأسس على مشاركة الناس معاناة الحصار لتمكن من تحقيق الإلتحام بينه وبين شعبه ولصارت مهمة الإحتلال أكثر صعوبة.
وإن من المضحك حقا أن صدام كان يتغنى بالإنتساب للرجلين الأكثر شهرة في تاريخ الإسلام بعد النبي, وهما علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب, في حين أنه كان سلوكيا الأبعد عن الخليفتين, فالأول كان معروفا عنه أنه كان يخصف نعله بيديه حتى بعد أن صار خليفة في حين أن الثاني كان قد قرر ان لا يأكل سوى الخبز مغمسا بالزيت أو الخل إلى أن يجتاز شعبه الجوع في عام الرمادة.
إن العنصريين والمدلسين أو الجهلة غالبا ما يتناسون الحلقة الأهم في مشهد الإنهيار. إن الأمم تتقوض من داخلها قبل أن يفلح العدو في التمكن من بواباتها. لقد علقوا كارثة دخول المغول إلى بغداد برقبة الوزير العلقمي لكنهم لم يقفوا ولو بكلمة أمام دور الخليفة المستعصم بنسائه وحماماته الذهبيه وهواية (المطيرجي) التي كان شغوفا بها. إن الخطيئة هي نفس الخطيئة. ما قام به صدام عمليا هو نفس ما قام به المستعصم, أما العلقميون هذه المرة فكان بينهم الشيعي والسني, العربي والكردي والتركماني والكلداني.
لو كان صدام قد فعل عُشر ما كان فعله إبن الخطاب في عام الرمادة. لو أنه أجل الإحتفالات بعيد مولده السنوي إلى ما بعد الحصار وما كان صعد العربة الذهبية التي تجرها عشرة خيول. لو أنه منع ولده عدي من إحتكار تجارة الوسكي والسكائر واللحوم. لو أنه منع السيدة الأولى من توسيع مزارع الأسماك التي باتت تملك منها الكثير. لو أنه طلب من (الويلاد) أن يتخلوا ولو لحين عن بعض سلوكياتهم المهينة ويظهروا تلاحمهم مع الناس إبان أزمتهم المؤلمة. لو إنه أجَّلَ بناء قصوره التي تناثرت أثناء الحصار في العديد من مدن العراق في وقت بدأ البعض يفتش عن مصادر عيشه حتى في المزابل. لو أنه كان شارك الشعب بعض همه لما تمكن الأمريكيون على فتح أبواب بغداد دون مقاومة تذكر.
حتى الجيش الذي كان يشتري ولاء قياداته بالهدايا الباذخة صار يستحصل رزقه بوسائل رخيصة في مقدمتها الرشاوى من الجنود.. كان الحصار معركة خسرها صدام بجدارة, وهي, وليست هزيمته الشنيعة في الكويت, كانت الموقعة الأساسية التي فتحت أبواب العراق أمام جيش الإحتلال الذي لم يجد أمامه مقاومة تذكر, سواء من الجيش الذي عطل سلاحه صدام قبل ان يتغلب عليه الجيش الغازي أو من الشعب الذي لم يعد يربطه مع النظام سوى أمنية زواله.
الشعب على حق ولو كان على خطأ, ما قاله عفلق في محاولته تفسير دور الطليعة, التي تتحمل هي ذاتها مسؤولية وضع الشعب في مساحة الخيار الخاطئ, هي التي ستفسر بعد ذلك حالة الأغلبية من الشعب العراقي التي رحبت بالإحتلال سعيا للخلاص. كان خيارا لا معقولا من قبل شعب كان صدام هو الذي وضعه في مساحة اللامعقول, وحينها لم يعد معقولا ان يصدر منه المعقول, ونفس الحال سوف تجابه بعد ذلك العديد من أهل نينوى وغيرها من مدن المناطق الغربية حينما مدوا أياديهم للتعاون مع داعش بعد أن وضعهم المالكي, ومن خلفه نظام السوء, في خانق الإضطرار الخاطئ .
وإنه من المؤلم حقا أن يلام هذا الشعب على خطأ كان صدام قد إضطره عليه. أما المعتزون بالإثم فسوف لن يعدموا فرصة إسقاط مخزونهم العنصري وتصريف مشاركتهم الإثم عن طريق العودة إلى قصة العلقمي الذي فتح بوابة بغداد لدخول المغول أو عن طريق التذكير بقصة عبدالله إبن أبي سبا الذي خرب على المسلمين دنياهم وأغراهم بقتل الخليفة عثمان.
ويوم قُتل الخليفة الثالث عثمان قال الإمام علي بن أبي طالب في وصف حال القاتل والمقتول.. إستأثر فأساء الأثرة وجزعتم فأسئتم الجزع
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟