أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - أمين نور - الحراك النسوي, نقده, و ما يتوجب عليه (2)















المزيد.....


الحراك النسوي, نقده, و ما يتوجب عليه (2)


أمين نور

الحوار المتمدن-العدد: 5622 - 2017 / 8 / 27 - 02:33
المحور: حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
    


من الصعب صراحة البحث عن الشخص المناسب في التاريخ النسوي العربي أو السوري, فحتى بوجود أسماء مثل ثريا الحافظ, نجد لاحقاً ما يلطخ صفحتها في الذهنية الاجتماعية, مثل ميولها الناصرية و تغزلها بالدكتاتورية, و ردودها الغريبة و الدخيلة على النص الديني. ينتهي الأمر بأمثال ثريا الحافظ بأن يصبحوا مثالاً model كرتونياً مبالغاً به في الذهنية الاجتماعية, إذ هي تدعم دكتاتوريين يكرههم الإسلاميون كما العلمانيون, بالإضافة لوضعها على الطرف المقابل من الدين. و بهذا فهي تكون ورقة نسوية خاسرة في تعبئة المجتمع, كل المجتمع. و تعبئة المجتمع كلمة مفتاحية هنا سنأتي إليها لاحقاً. ثريا الحافظ و جيلها من النسويات, هي مثال على البدايات النسوية في المجتمع السوري و العربي, و التي و إن نجحت بتحقيق تقدمٍ ما, إلا أنها في ذات الوقت أسست لتريب و تخوف طويل الأمد من النسويات, خصوصاً العلمانيات منهن.
نمشي قليلاً إلى الأمام, لنصل إلى نسوية—أو شبه نسوية— ما قبل الربيع العربي, التي طغت عليها الرومانسية الروائية و الميتافيزيقية العاطفية. في هذه المرحلة, الفوبيا الاجتماعية من العلمانيين ما تزال موجودة. كانت الأنظمة العربية قد اعتقلت من تحتاج لاعتقاله من كل الحراكات, بما فيها النسوية, لتدع المجال لكل من هو غير مؤثر حقاً. و كما في سوريا, عرضت الحكومة بديلاً نسوياً مدجناً بالكامل, و بصفة دينية, يُسمى بـ "القبيسيات", مشكّلة النسوية الدينية, التي استهدفت ميسورات الحال و/أو الغير مستقرات اجتماعياً. النسويات المتدينات وجدن حاضنة جيدة, أفضل من العلمانيات, لما تحمله الذاكرة الجمعية من شك بالعلمانيين, إثر دعمهم التاريخي للدكتاتورية العربية, و لو أن بعض النسويات العلمانيات كن قد أدّين عملهن الفكري بفعالية عالية, و اعتقلن و عذبن لذلك. آنذاك تَكَوَن تمييز إن لم نقل صدع بين النسوية العلمانية و النسوية الدينية.
لم تخب الذاكرة الاجتماعية بشكها بالنسوية العلمانية, فأغلب الأخيرات لاحقاً دعمن الثورات المضادة و الدكتاتوريات العسكرية, بمن فيهن النسويات المفترض منهن أن يكن "فاعلات" و اللاتي كن يحظين باحترامٍ نسبي. هذا أساء أكثر لشعبية النسوية العلمانية الكلاسيكية.
و من الاصطدام ما بين النسوية العلمانية و الدينية, تمخضت نسوية غريبة الأطوار, ذاتها التي سادت قبيل الربيع العربي. كانت هذه النسوية تحاول أن تكون حيادية أو مُرضيةً لكل الأطراف المتناقضة حولها, للحكومة, للعلمانيين و للمتدينين. يرى البعض—من بينهم أنا—أنها لا تستحق لأن يطلق عليها "نسوية" لما هي فارغة نظرياً. إنها ليست نسوية متأسسة على كتب و نظريات, و إنما مكتوبة فقط في الروايات. إنها لا تملك أساساً مبدأياً و إنما تعتمد على مسلمة عائمة في فضاء أنثوي يفترض الإجماع. تتصف هذه النسوية المهمة تاريخياً بما يلي:
1- هناك عدو, و هو الذكر الشرقي المهيمن الذي يرى بالنساء عبيداً. الحل للخروج من استعباده هو الاتجاه الصوفي نحو عبادة كيان واحد غير ذلك الذكر, إلى عبادة الله, الله كما في الأديان. يصل تصدير العبودية هذا أحياناً إلى أماكن غريبة, مثل التغزل الرومانسي بالله, كأنه هو النموذج الأصلي البديل للذكور.
2- إن المرأة تتساوى مع الرجل و هي مِثلُه, لكن المرأة في ذات الوقت كيان مميز و ذا كينونة فريدة.
3- الابتعاد عن نعت الحكومات بـ"الذكورية الشرقية" و "الأبوية" و ما شابه, و تعويض هذا بالنعت الشديد للمجتمع, و ذكور المجتمع بتلكم الكلمات.
4- تستهدف—كما قبلها النسوية الدينية—الطبقة الأنثوية المعرضة لعدم الاستقرار الاجتماعي, كالأرامل و المطلقات و المستعصىً عليهن الزواج و المراهقات. فهي تعرض مواساة لهن و صوتاً أنثوياً يفرض نفسه على أنه يفهمهن.
5- يمكن للمرأة أن تحظى بالسعادة و إن بقيت مغيبة (متصوفة), و لا داعي لأن تنشط سياسياً أو اجتماعياً بشكل ثقيل لكي ترى نفسها ناجحة و مساهمة. الكلام الصوفي العاطفي المعسول طغى هنا على أنه الحل لاكتفاء المرأة و تحقيقها لذاتها.
6- إنها متأثرة بالجناح النسوي لليبرالية الكاليفورنية التي تكلمنا عنها في الجزء الأول, لكن بتجلٍ غير سياسي.
كل الحراكات النسوية القديمة لم تتطرق أو تشخص أو تعالج المشكلة الأساسية للمرأة, هي أن النساء في مجتمعات الشرق الأوسط يكوّنّ مجتمعاً موازياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فبحكم الفصل الجنسي التاريخي, و عزل المرأة عن الرجل, أصبح للنساء مجتمعهن الخاص, مجتمعٌ للنساء فقط, و هو المجتمع التي تتعرض له المرأة في معظم الأوقات, و الذي تشكل معه شخصيتها و نموها الفكري و سيرورتها الاجتماعية, و بنفس الوقت بالكاد ما تتفاعل مع الرجل, ليكون هناك فراغاً عميقاً بين الجنسين. حتى "تحررهن" المفترض مع بداية الاستقلال عن الاحتلال الأجنبي و تكوين الدولة الحديثة هو جديد نسبياً, و ليس بالناجع حقاً. و أتت الحراكات النسوية الآنفة الذكر لتعزز حالة المجتمع الموازي تلك, فأصبح كيان كالقبيسيات فعلاً مجتمعاً موازياً واضحاً مميزاً لنفسه عن المجتمع و عن الذكور.
إذن, فالأمثلة النسوية السابقة فشلت في تحقيق شعبية معتبرة تساعد على قضاياها بالنبوغ و التقدم, بل لربما أعاقت الحراك النسوي أكثر من أنها أفادته.
لكن.. ما المهم؟ هل نحتاج لأمثولة نسوية من الماضي كي نفعّل الحراك النسوي الحقيقي في بلادنا؟ أقول, لا داعي أبداً, لا داعي لأن نملك رصيداً تاريخياً و تقديماً ماضوياً عما نحتاج نحن لفعله اليوم. على المرأة أن تعتمد على نفسها, لا على نساء أخريات, من أزمان مختلفة, أو أماكن مختلفة, مقيداتٍ بقيودٍ مختلفة ليفرضن عليها و على مجتمعها طروحات من سياقات مختلفة. و هذا ما حصل بقدوم الربيع العربي, الذي نسف كلشيء قبله, و حصل نبوغ رائعٌ لشتى التيارات الفكرية في ما هو أقرب لـ"ولادة من جديد", إذ رُفضَ القديم, بل حُقِد عليه, و أخذ المحدِثُون على عاتقهم كتابة ((الأسس النظرية)) من البداية أو من جديد, و كان ليكتمل هذا لولا انقلاب الثورات المضادة. الحراك النسوي كان جزءاً أساسياً من الربيع العربي, و تشارك مع غيره من الحراكات في مشروع إعادة استحداث نفسه.
مع الربيع العربي و إلى الأمام في الزمن قليلاً, حمص / كانون الأول 2011. الراحلة فدوى سليمان, أنثى علوية تقود مظاهرة في حي الخالدية, واحد من أكثر الأحياء تقليدية و شعبية و "سنيّة" في المدينة, و حيث أغلب الحاضرين ذكور, و في أيامٍ محتقنة طائفياً. ما القصة؟ هل فدوى سليمان كانت تعلن تسننها أمام المتظاهرين؟ أم اعتناقها الذكورة؟ لا! كانت أنثى في حالتها الأكثر قوة و فخراً بالذات تقود جمهوراً أغلبه رجالٌ من طائفة مغايرة اقتادوا وراءها طوعاً, و إن ما وحدهم هو تعالٍ تجريدي مشترك يقال له "القضية".
لم يكن من المهم آنذاك إذا ما كانت النسويات أم الشباب هم من ينظمون المظاهرات و يُسَيِرُونَ الحراك السياسي, أو إذا ما كانت فتاة أم شاب هو من يقود و يهتف بالمتظاهرين, و إنما كانت المظاهرة و غيرها من الأعمال الثورية يقام بها لذاتها. هذه القدرة على تطبيق شراكة تجريدية متعالية و متماسكة مع الوقت هو ما نطلق عليه "الثورة" أو بالأحرى ما يعطي "الثورة" معناها و حقيقيتها و قوتها. تلك كانت لربما اللحظات الأولى في التاريخ الحديث حيث تساوت المرأة مع الرجل. إنها من هنا لتستمد المبادئ للنسوية الحقّة, من ذلك التعالي التجريدي القوي لدرجة توحيدنا و تغييرنا و تعبئتنا جميعنا و الذي أطلقنا عليه اسم "ثورة". لا تزال فدوى سليمان رمزٌ محترمٌ في خلد أكثر أضدادها في القضية تزمتاً.
من تلك الأيام, تم التسليم دون الرجوع إلى الخلف, بأن المرأة تقود و تثور و تشارك و تساهم و تفكر و تخطط و تنتصر و تفرح و تصاب و تنزف و تتألم و تحزن. باختصار, لم تعد النساء مجتمعاً موازياً, بل خرجن و بتن الآن شريكاً فاعلاً بالكامل مع الذكر, بتن يكتشفن القوة الحقيقية التي يتحسسنها مع كل خطوة يخطينها في الشارع تظاهراً, و كل صرخة يصرخنها في الساحات اعتصاماً. لم يعدن غريباتٍ عن أنفسهن ولا عن شريكهن الذكر, لم يعدن آخراً مخيفاً فوبياوياً بالنسبة للذكر. لا شك بين الجنسين الآن, إذ لا يشك المرء في من هو مستعد للموت معه. و تساوى الإثنان كل أمام واجبه اتجاه القضية المشتركة, توحد الرجل مع المرأة في القضية, في النضال, في العذاب, و اختلطت دماؤهم في ساحات التظاهر و ملاجئ القصف و زنازن التعذيب. الكل أدرك عدوه ببداهة غريزية, إنه الدكتاتورية, سواءاً نطقت على لسان بثينة شعبان, أم بشارٍ الأسد, و بدى أن جيلاً يافعاً جديداً سيحرر الجنسين من بوائد القمع السياسي و الاجتماعي.
فشلت هذه المرحلة من الربيع العربي بالنضوج بشكل عام, بحكم القمع الدكتاتوري, و الأهم, بسبب الثورات المضادة. كل تلك الحراكات الفاشلة المدجنة القديمة باتت عالة و عقبة كبرى, فإما تحولت إلى دعم الثورة المضادة, أو دعمت النظام الدكتاتوري. و بالفعل, كانت طعنة النساء المنتظمات في الثورات آتية من النسويات الكلاسيكيات اللاتي "بايعن" أو تغزلن بالأنظمة القمعية سواءاً المعادية أم المنقلبة على الثورة (مثال: نوال السعداوي, القبيسيات).

إن المفتاح موجود بتفجير التعبئة الاجتماعية التي حصلت في 2010 و 2011, و التي تبدو أنها توفر الأسس النظرية اللازمة من أجل كتابة مشروعنا المجتمعي و الإصلاحي. ماذا على الحراك النسوي أن يفعل كي يكون أكثر شعبية؟ كيف يجب أن يكون؟ ماذا يجب عليه؟ أو بالأحرى, ما هي واجباته الثورية؟
في البداية, على الحراك النسوي في بلادنا أن يقوم بأصعب خطوة عليه و أكثرها حاجة للشجاعة و الإقدام, و هي نبذ الحراكات النسوية الأخرى, تحديداً الحالية غربياً و السابقة محلياً. و تشخيص وضع النساء في الشرق الأوسط على أنه وضع مجتمع موازٍ, لا مجتمع منبوذ محقّر, و هو ذو سيرورة و سياق خاص به—فصل الجنسين—و يحتاج إلى الكثير من التأريخ و النقاش النظري, و أن يعي أن ظاهرةً كالعنف اتجاه النساء ليست موجهة إلى النساء خصيصاً, بل هي جزء من ظاهرة عنف عامٍ تتبع هرمية تنتهي بعنف—أو إرهاب—الدولة على قمّتها. إن هذه الخطوة هي الأصعب, فهي توجب على الحراك النسوي أن يؤسس نفسه من جديد, و أن يلغي الكثير مما يظن به مكاسب و انجازات. إننا بهذا الشكل نطالب الحراك النسوي بأن يكتب مبادئه النظرية دون الوقوع في أي من إغواءات التقليد, أي أن الكثير من العمل يجب أن يحصل, لا مكان للكسل, و سيكون هناك كثير من الإرهاق و لربما الخذلان. و لربما بتجاوز هذه الخطوة تكون النتيجة الطبيعة هي إعادة ابتكار النسوية من جديد, و تنصيع الصفحة النسوية عالمياً, لتكن نسوياتنا هن الأمثولة المثالية للنسويات المعاصرات, لا النسويات الغربيات.
من الواجب على الحراك النسوي الإصلاحي إن ولد, أن يعرّف بنفسه جزماً و يكتفي بوجوده دون اعتماده على التمايز و تعريف العدو و التعريف بالنفي. إننا ببساطة نطالب بالحراك النسوي بأن يكون. إننا لا نريد أن نرى أي حراكٍ نسويٍ, ولا نريد أن نرى نجاح نسوية فئوية تحقق ما تراه مكتسبات محدودة, إننا نريد منه أن يكون الحراك النسوي الأنجح و الأكثر فعالية على الإطلاق, ليكون أمثولة قاطعة للزمان و المكان و نقطة انعطاف تاريخية, كما أردنا تماماً من ثوراتنا في الربيع العربي أن تكون. و ليس من الثوري التقليد و الاستعارة, بل تجب الثورة علينا أن نبني مدرستنا النسوية الخاص بنا, و لربما نغير إسم "نسوية" كله إلى إسم أكثر ودية مع الذكور من أجل النجاح بتعبئتهم أيضاً لنفس المبادئ.
على الحراك النسوي أن يسأل السؤال التالي لنفسه, من نريد أن نعبئ و نستهدف بالمجتمع؟ النساء فقط, أم كل المجتمع؟ و عليه أن يجيب بـ"كل المجتمع", أما تعبئة النساء فقط, فهو فخ سيؤدي إلى احتقار الحراك من باقي مكونات الشعب. و على عكس ما يُسَوَقُ عن الذكر الشرقي بأنه متعصب و مهيمن الخ.. إلا أن النتائج قد تفاجئ الكثيرين, فقد كانت مثلاً ردة فعل المجتمع الذكوري السوري الشاب في بلاد الاغتراب إيجابية نسبياً أمام العدد الملحوظ من خالعات الحجاب من الفتيات السوريات, و لو أننا لا نريد أن نختزل النضال النسوي بموضوع الحجاب فقط, و لنا حديث في هذا الأمر لاحقاً.
و ما إن استطاع الحراك النسوي الجديد أن يثبّت نفسه بأعمدته النظرية المتماسكة الأساسية و الأصيلة, و يحدد أهدافه المنظورة, و يجزم وجوده, و يدرك المفاتيح في الوصول إلى قلب المجتمع, أي يقيم معه مصلحة متبادلة و متفقٌ عليها, ليتماهى مع المجتمع و يكون جزءاً منه, يبدأ بعدها و فقط بعدها بتعريف عدوه, حينها يغدو عدو النسويات ليس عدواً للنسويات, و إنما عدواً للمجتمع كله. الترديد الببغاوي لكلمة باتت ذات بعد ميتافيزيقي كالـ"باترياركية" لا تجدي أبداً هنا, و اختراع كلمات أخرى لأدلجة الجمهور(الزبائن) توجب عليه حفظها سرعان ما ستخيف الزبون و تبعده. إننا أثبتنا تاريخياً عنادنا كمجتمع, فحتى في ثوراتنا, أي في أمس حاجتنا إلى تقنيات جديدة, ترانا نقاوم الدخيل(و هذا المقال قد يكون أحد الأمثلة), و ليس الحل في الإصرار على الدخيل, و إنما قد يكون هناك حلٌ آخر لم نحاوله بعد. إن في المجتمع الكثير من القيم, لربما كل القيم الممكنة, و على الحراك الإصلاحي أو الثوري أن يعزز مؤسساتياً القيم التي يريدها و يكسف و يثبط من القيم التي يراها سيئة, و ذلك دون الحاجة إلى كلمات دخيلة أو نخبوية تخيف الإنسان العادي. إن العدو آنذاك هو كل ما يمنع الحراك النسوي من بلوغ أهدافه, لا لإنه يعيق حراكاً, بل لإنه يعيق مجتمعاً بأسره.
عندما يصبح الحراك النسوي, حراكاً مجتمعياً, و يبني ثقة مع الأناس العاديين, ذكوراً و إناثاً, و يعرّف مصالحه مع مصالح المجتمع, و ازدهاره من ازدهار المجتمع, عندها بإمكان الحراك النسوي النجاح في عملية التعبئة الاجتماعية, و هو عملية بدونها لن يكتب له النجاح أبداً, و أريد منها أن تتعاكس مع عملية التعبئة الفئوية.

ما هي الأسس النظرية التي يجب أن يبني عليها الحراك النسوي نفسه؟
1- التفكير ضد العاطفة. على النسويات الوقوف بحزم اتجاه هذا الشبح, و حسمه لصالح الفكر, و التسويق على أن المرأة تفكر أيضاً, و ليست مجرد إسفنجة عاطفية.
2- معاداة الحراكات النسوية المضرة بالقضية النسوية, و الإقدام دون خوف عند التعريف بالنفي—و ذلك بعد الانتهاء من التعريف بالجزم—على أن يكون التعريف بالنفي حاوياً على الحراكات النسوية التي لا يجب على النسويات اتباعها, فهي تفيد في تحديد ما يجب تداركه من الحراكات الأخرى.
3- بناء صورة المرأة أمام نفسها, و مرة أخرى أقول موكداً, أن تكون هذه الصورة أمام الذات صورة جازمة, و كينونة كائنة موجودة بذاتها, و على مستوىً تجريدي ذهني. لا يجب أبداً أن تبني المرأة صورة نفسها من خلال دمج أمثلة مكتسبة إعلامياً أو اجتماعياً تملي عليها كينونتها, سواءاً كان مصدر الاكتساب هذا كاتبة أم ممثلة أم عارضة أزياء أم أستاذة دين أم حتى كبيرة النسويات. و لعل هذا العمل يبلغ من الصعوبة ما يبلغ, إذ من الصعب التحكم بالصورة الذهنية للأفراد, ناهيك عما تستهلكه النساء اليوم من قصف إعلامي و مادّي و مشاهدات يومية.
4- التسويق على أن المرأة ليست فئة أو مجتمعاً موازياً, بل دورها في المجتمع هو دور عضوٍ حاضرٍ متساوٍ مع غيره من الأفراد, عضوٍ استحق دوره في المجتمع بقدر ما هو فاعلٌ و مساهمٌ فيه. و لا نريد أن نقع في فخ الفعالية هنا, فنحن لا نريد أي فعالية, أو فعالية زائفة, بل فعالية مُثلى و محددة—و لا أقول محدودة—و معلنٌ عنها مسبقاً من قبل الحراك النسوي و المجتمع. أي, على الحراك النسوي أن يحمي المرأة من الانجراف في حركات زائفة, كما هي الكثير من الحركات في كاليفورنيا الأمريكية اليوم, أو ما تبدو حركات إصلاحية دولياً بشكل عام, و التي قد تخدع معتنقيها بأنهم يمارسون فعالية اجتماعية, إلا أنهم في الحقيقة ضائعون أيما ضياع. يبدو لي وجود خط رفيع حساس هنا لما قد يكون أداة للتحكم بالجانحين عن المجتمع, لكن, من الواجب النظري أن نستخلص الميكانيكيات اللازمة لكي نحقق الوقاية الفضلى من الزيف, مع المحافظة على الدور النقدي الفعال و البناء.
5- رفض التكلم عن العبودية تماماً, و لو كان على شكل تسوية سايكولوجية مع الدين أو المجتمع أو الحكومة. لا مكان في الحراك النسوي لعبودية الذكر, أو لتصديره نحو عبودية الإله, ولا لعبودية الدولة أو قائد الدولة. الموقف الفكري(الفكروية كما هي ضد العاطفية) إن اعتنقته النسوية, فسيوحي إليها بالنباهة النقدية الدائمة, و التي ستملي عليها لزوماً انتقادها البناء و الهادف لكل من المجتمع, الدين, و الحكومة, دون الانتهاء بتسويات صوفية قَدَرِية غريبة الأطوار. لا يجب في التأسيس النظري للحراك النسوي أن يملك مرجعية حكومية أو دينية لنظريته, و فعل هذا سيكون خطأ فادحاً.
6- على النسوية الجديدة أن تتخلص من التحلق حول الضحية. عليها أن تسوق لقوة المرأة, لا ضعفها و قسورها. الرجل أيضاً ضحية للكثير من المهاترات السياسية و الاجتماعية.. كلاهما ضحايا, لكن معاً, هم أقوياء.
7- في موضوع المساواة, على النسويات إدراك أن بعض الأمور يحتاج الرجال لأن يقتدوا بالنساء فيها, لا أن يغدو النساء كالرجال. إن الحل ليس في مساواة المرأة مع الرجل, بل أحياناً الرجل مع المرأة. إن علاقة المساواة يجب أن تكون تبادلية حسب القضية المتناولة.
8- تعزيز الثقة بين الجنسين, و اعتباره على أنه الطريق الأمثل لمجتمع صحي. و بلوغ هذا الهدف أمرٌ وارد و مسهل باعتبار أن جميع الحراكات بما فيها النسوية لا تزال مقموعة و صفرية و في طور التشكل, على شرط أن يظل الحراك متحرراً من تأثيراته الخارجية, الأمريكية منها خصيصاً.
9- في الدِين, ذكرنا سابقاً أنه لا يجب أن يملك الحراك النسوي مرجعية دينية. لكن عليه أن يحمي حقوق النساء المتدينات. على الحراك النسوي أن يفصل بين الدين—و ما يحمله من تصورات مسبقة عنه—و بين الفرد في المجتمع اللازم حماية حقوقه. أي, يمكن للمرأة المحجبة أو المتدينة أن تكون نَسَوِية عادية (غير قبيسية مثلاً), يمكن لها أن تكون قيادية و مديرة حازمة تنشد فعالية اجتماعية و حقوقية لكل أفراد المجتمع, و تكون مثلها مثل الغير محجبة في حساسيتها لحقوقها و دورها. إن موضوع الحجاب بالذات, لما هو من الدلائل السهلة عن خلفية الشخص (جنسه, طائفته, بل أيضاً مدينته أو جنسيته أو إثنيته), و لأن المحجبات يُرَوْنَ كأنهن فئة بذاتها في المجتمع مختلفة عن فئة الغير محجبات, هو موضوع على النسويات حلّه و مكاملته مرة واحدة و إلى الأبد في الحراك النسوي. إن حقوق المرأة المحجبة احتُكِرَت طويلاً لصالح فئة واحدة, دينية الطباع, فشلت في عكس مصالحهن الدنيوية, و لربما شعرن المحجبات بتمايز أو نفور أو تحقير من النسويات الغير محجبات لرفض الأخيرات القيام بمناقشة بيئة المرأة المحجبة و حماية حقوقها بل و التجرؤ على معيرة الحالة الغير محجبة على أنها الأمثولة النسوية. و هذا من الأسباب التي توجب على الحراك النسوي أن يبقى بعيداً عن المثال و التجسيد, و يبقى في الباحة الذهنية و النظرية و التجريدية, بل حماية التجريد و محاربة المثال.
لا يجب الاعتماد أبداً على الدعوات المجابهة للدين في تعريف المرأة النسوية, إنها ليست فقط تقصي المرأة المتدينة و المتحجبة عن الحراك, بل الأخطر, إنها دعوة نافية و جزءٌ من تعريفٍ بالتمايز. يجب أن تكون النسوية الجبهة الأخيرة و إن بقيت وحدها للدفاع عن حقوق النساء جميعاً, مهما اختلفن بالعرق أو الدين أو الطائفة, إنها هذه ما وجدت لأجله, و يجب أن تبقى موجودة لأجلها مهما حصل.
لا يجب أيضاً تهميش نساء الأكثرية على حساب اصطفاء المرأة الأقلوية و ذلك بحجة الظهور بمظهر عصري, بل يجب ضمان حقوق جميع النساء و تعزيز دورهن و قوتهن جميعاً دون النظر إلى دينهن أو طائفتهن أو أي من المحددات الوراثية أو الموروثة. أي, على نساء الأكثرية و الأقلية أن يكن كاملات التمثيل, و متوحدات أمام تعالٍ تجريدي مشترك.
10- محاربة تسويق الصور النمطية عن النسويات أو النساء بشكل عام.
11- تجنب الانعزال النخبوي للنسويات.
12- النسوية هي وسيلة النساء و المجتمع لحصول التغيير من الداخل, و وقايته من التغيير الخارجي و الدخيل.
13- استنتاج نطاقات التأثير التي تقدر عليها المؤسسة النسوية, مع الالتزام بها و العمل الدقيق على توسيعها المستمر, دون الانجرار المغري وراء "عولمة" القضية النسوية سواءاً بالتوريد أم بالتصدير.
و أرى بهذه خلاصة الواجبات التي نتحملها جميعاً في بناء مجتمعٍ أفضل, مجتمعٍ متماسكٍ يستطيع مقاومة العثرات التاريخية و الغير تاريخية ليتجاوزها أفضل مما كان. إن خطَّ هذا المشروع هو جزء من الواجب الثوري الحقيقي لكل امرئ يرى صالح الإنسانية في ما التزم به من مبادئ ثورية. و به أختم مقالي.




#أمين_نور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحراك النسوي, نقده, و ما يتوجب عليه (1)
- بسام طيبي و نقده للقومية العربية
- الصور الذهنية المؤدلجة في عقل الفرد السوري: نظرة معرفية
- الثورة الدينية المضادة، حزب البعث، و العداء للكلمة و الحرية
- الدين و الثورة
- حلب: نهاية حقوق الإنسان
- الاختناق
- -جهاد النكاح- كذبة و تسخيف للقضية و الكفاح العلماني
- الهوية و الماضي
- الهوية و ظاهرة خلع الحجاب
- سوريون و لسنا عرباً
- أين أودت الثورة السورية الجيل الأول من شبابها
- أسوء أجيال مرت على سوريا و العرب
- أخلاقيات المصورين الإغاثيين
- اكتئابات شباب بلا شمس
- قصة وجودية قصيرة تنتقد سوريي المهجر بعنوان -عبد القادر السور ...
- الثورة السورية و استحقاق ثوراها للحضارة بشجاعة أو الجبن و خس ...
- نظرة توفيقية بين التيار الإلحادي و الإسلام العربي
- في تسويق الأمثال العربية و الدينية للكسل و الانحطاط و تغييب ...
- في تسويق الأمثال العربية و الدينية للكسل و الانحطاط و تغييب ...


المزيد.....




- برلماني بريطاني.. الاحتلال يعتدي حتى على النساء الفلسطينيات ...
- السعودية ترأس لجنة وضع المرأة في الأمم المتحدة بدورتها الجدي ...
- تطورات في قضية داني ألفيش -المتهم بالاغتصاب-
- رومي القحطاني.. أول سعودية تشارك بمسابقة ملكة جمال الكون 202 ...
- شون كومز.. مغني الراب الأمريكي الشهير واتهامات -الاغتصاب وال ...
- بصورة مع علم السعودية.. رومي القحطاني تعلن تمثيل المملكة بأو ...
- الشهادة السابعة من حملة #مش_طبيعة_المهنة
- لأول مرة.. سعودية تشارك بمسابقة ملكة جمال الكون
- العنف الرقمي يهدد اللبنانيات.. ابتزاز واحتيال وانتهاك خصوصية ...
- نازحو/ات اليمن.. معاناة متفاقمة باستمرار الحرب


المزيد.....

- مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية / رابطة المرأة العراقية
- اضطهاد النساء مقاربة نقدية / رضا الظاهر
- تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل ... / رابطة المرأة العراقية
- وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن ... / أنس رحيمي
- الطريق الطويل نحو التحرّر: الأرشفة وصناعة التاريخ ومكانة الم ... / سلمى وجيران
- المخيال النسوي المعادي للاستعمار: نضالات الماضي ومآلات المست ... / ألينا ساجد
- اوضاع النساء والحراك النسوي العراقي من 2003-2019 / طيبة علي
- الانتفاضات العربية من رؤية جندرية[1] / إلهام مانع
- النسوية.المفاهيم، التحديات، الحلول.. / طلال الحريري
- واقع عمل اللمراة الحالي في سوق العمل الفلسطيني الرسمي وغير ا ... / سلامه ابو زعيتر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - أمين نور - الحراك النسوي, نقده, و ما يتوجب عليه (2)