أمين نور
الحوار المتمدن-العدد: 5619 - 2017 / 8 / 24 - 02:24
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
لا يبدو من الخفي الارتباك الذي تسببه الرسائل النسوية المتضاربة بين بعضها, و التي دائماً ما تكون جزءاً مسبباً لردات فعلٍ سلبية و مستغربة من المجتمعات, و ليس دونالد ترامب سوى مثالاً قادحاً في الرعونة التي قد تنتهي بها الحراكات التحررية الغير منظمة.
بالفعل, بات "اليسار" الليبرالي الكاليفورنيوي في شمال أمريكا عالة على الحراكات الثورية العالمية الأخرى, و عقبة معتبرة في بلورة النظرية الثورية و تقدم التطبيق الثوري و التعبئة الثورية. اليسار الأمريكي, ذلك الكيان الغريب على كل حراك ثوري في هذا العالم, المليء بالتخبط و السذاجة و الغارق بما بعد الحداثة حتى النخاع. إنه كما لو أنه تقولب على يد أعدائه ليكون بهذا التهلهل و التباين عن نفسه و عن مجتمعه.
من هذا اليسار الكاليفورنيوي تتأتى الحراكات النسوية في شمال أمريكا, الموجة النسوية الثالثة تحديداً و ما بعدها, و التي "تشع" بأفكارها إلى مناطقنا, و يرحب بها بعض نسوياتنا كم لو أننا غير قادرين على توليد نظرية خاصة بنا, كما لو أن ما ينطبق على مجتمع كالأمريكي ينطبق أيضاً على المجتمع السوري, أي كما لو أن السياق التاريخي للبلدين هو ذاته و هو ما لا يصح واقعاً.
و هذه ستكون الأطروحة الرئيسية لهذا المقال, حيث سيكون موجهاً لتبديد تأثير النسوية الأمريكية و تحفيزاً لبدء حراك نسوي خاص بالمجتمعات الأخرى, السورية تحديداً بحكم وجود سياق ثوري هناك. إنه سعيٌ للتحرر من الاستعارة و التعلق بأماثيل مأخوذة من "الآخر", المتشربة بالرومانسية, و أيضاً بالتخبط المميِزِ لما بعد الحداثة.
ما ورثناه اليوم من كاليفورنيا, هو الطريقة المستحدثة التي يحتاجها أي حراك جديد من أجل تسويق نموذجه الفكري. حيث سابقاً كان عليك لتستطيع تسويق أيديولوجيتك, أن توفر نظرية قوية مدعومة بقوة سياسية تنفيذية و عسكرية ليتم لك النجاح و بلوغ المعيارية الاجتماعية. فيما اليوم, و مع الانحدار النسبي للصراع العسكري الدولي, و دخول بنىً ذهنية جديدة أثرت سلباً على التفكير الحر و النقدي و التجريدي و القدرة على التنظير, بنىً مثل التواصل الاجتماعي و التلفاز و غيرها, فلم يعد الأمر كما كان سابقاً. اليوم, لا تحتاج إلى نظرية قوية حقاً, و لا جيشاً عرمرماً أو بيروقراطية حكومية تنفيذية فاعلة, بل أنت بحاجة إلى أن تصل إلى أدوات التدجين الجمعي( التلفاز, التواصل الاجتماعي, دور نشر و تسويق.. الخ) و مجموعات الضغط و العلاقات العامة, لا لشيء سوى لكي تحصل وحدك على حقوق تكرار أطروحة حراكك, أطروحة ليست بالضرورة منطقية ولا محببة ولا مفيدة. تكرار الأطروحة, هذا هو المفتاح اليوم, و لكي تنجح هذه الأطروحات, يجب أن تتصف بصفات كالتالية: الأولى, أن تحصل على حقوق سياسية لتكرر نفسها و تصل إلى أدوات التدجين الجمعي كما ذكرنا.
الثانية, أن تكون الأطروحة بسيطة, لربما ساذجة, بل و غوغائية كثيراً ما تكون أقرب للتذمر و "النق" كما نقول بالعامية السورية, و ذلك لكي تحاكي الوصول السهل إلى عقول الناس, و لعل الأطروحة هذه تكون من البساطة المقصودة بما يكفي لكي تغطي على عيوب حراكها كله و جانبه المظلم, أي أداة للخداع.
الثالثة, العزلة الفئوية, أي أن يتم توجيه الحراك لا إلى عامة الشعب بل إلى فئة ما منه, مثل حقوق النساء, حقوق السود, حقوق المثليين..الخ و هذا الأسلوب الأخير يسبب عزلةً, بل اغتراباً, عن باقي مكونات الشعب, أو ما قد نطلق عليه الناس العاديين, الطبقة العادية. إنه يعزل مجموعة من الناس عن الكلِّ العضوي الذين هم جزء منه. إنهم يريدون إنقاذ اليد من الجذام ببترها عن الجسد.. و هم اليد هنا. إنهم يغدون بحراكهم أقرب لنخبة متكبرة على المجموعات الأخرى, إذ كثيراً ما يسخر هذا الحراك المؤسس حديثاً من طريقة حياة "الناس العاديين" أولئك, و كأن السخرية هي البديل عن النقد و التبديد النظري. و السخرية الليبرالية أو "التحررية" من حياة الناس العاديين, عندما تغدو غاية لا وسيلة, تصبح داءاً ينخرُ في الحراك التحرري, و يمشي يداً بيد مع الصفة الثانية التي ذكرتها أعلاه.
الرابعة, التعريف بما ليس عليه المرء, لا بما هو عليه. أي, لنأخذ مثالاً, حراك حقوق السود, إنه لا يبني لنفسه شخصية سياسية مستقلة, و لا كينونة معرّفة بذاته, بل هو موجودٌ فقط بتمايز عن الآخرين, إنه يعرف نفسه بالنفي, من هم السود؟ إنهم كل من ليسوا بيضاً ولا سمراً ولا صفراً.. لن تجد تعريفاً جازماً مثل "هم كل من بشرته سوداء و يملك أجداداً أفارقة جلبوا قسراً لاستعبادهم في أمريكا". إنهم يفضّلون التعريف بالتمايز, بالعداوة, لا بالحضور. هذا ما يفسر أحياناً غزل أو تحفظ الكثير من اليسار الأميركي المخدوع مع الأسد, فنظام البعث يعرف نفسه أيضاً هكذا, و يستمد شرعية وجوده بالتمايز و النفي.. بالتمايز عن إسرائيل و النفي عن الصهيونية, و حارب بضراوة كل محاولة للجزم الوجودي لسوريا. استطاع الأمريكيون(بمن فيهم اليمين و المحافظين) رد حراك السود الأخير في أمريكا Black Lives Matter بتقديم شعار مضادٍ يواجه هذه الفئوية و التمايزية بـ All Lives Matter و الذي طغى على شعار السود بسهولة. هذه الصفة تحديداً, أراها الأكثر خطورة لما تنتج من إنكار و تخبط و ارتباك وجودي.
الخامسة, الاستخدام المسيس للعِلم. حيث يتم طرح أرقام علمية, إحصاءات و غيره.. لكن لا داعي أن يكون هناك (منهجية علمية). إنه (علم) بدون (منهجية علمية). إنها أرقام تستخدم باسم العلم لإثبات رسائل أيديولوجية متحيزة تماماً.
السادسة, أبقت من المبادئ القديمة للأدلجة أمراً مهماً, و هو "السكوت عن بعض الحقائق, و الكلام عن بعض الحقائق الأخرى". أي فعلياً, عدم إيصال المعلومة كاملة, و إذاعة ما يفيد الحراكَ فقط.
السابعة, إنهم يرون العالم بعيون أمريكية بحتة. كأن كل ما ينطبق في كاليفورنيا ينطبق أيضاً في كابل و دمشق و الرياض و موسكو و برلين و لندن.
الثامنة, التحلق حول دور الضحية, عبادة الضحية بالأحرى. و هو مبدأ انتشر بسرعة بعد الحرب العالمية الثانية, عندما نجحت بعض الشعوب بتفعيل أجنداتها, بل بإقامة دول مستقلة بسبب تحلقها حول دور الضحية و الندب و النواح و استضعاف الذات و الغلابة.(اسرائيل مثالاً).
إذن, هذه هي التحررية الكاليفورنية, التي تلون الحراكات المحسوبة على اليسار في أمريكا الشمالية. و بعد التقديم لها, نبدأ بنفض الغبار عن آثارها النسوية.
النسوية الأمريكية, و عندما نقول أمريكية هنا لا نعني أنها فقط في أمريكا, بل ولدت في أمريكا و توسعت لاحقاً لمناطق أخرى, و هي أثرت و تؤثر بالنسويات الشرق أوسطيات. ما قصتها إذن؟ لماذا أتهمها( و لست لوحدي أبداً) بالتناقض و الارتباك و أصفها بالعالة و العقبة؟
إن النسوية الأمريكية تستمد مقوماتها من الصفات الثمان التي ذكرناها. بهذا هي:
- لا تملك تماسكاً نظرياً, و هو سبب تناقضها الذاتي. على سبيل المثال, يعادي الحراك النسوي أشد العداء "تشيؤ المرأة" و عدّها أداة متعة جنسية (و هو صراحة من الأفكار الرائعة التي طرحها الحراك). لكن للمفاجأة لا يملك مشكلة مع صناعة الأفلام الجنسية الإروتيكية(الرائدة في الولايات المتحدة), على شرط أن تكون "إروتيكية=محفزة جنسياً Erotica" لا "تحقيرية" أو "تعنيفية شديدة hardcore". و للمفاجأة, فإن من يعادي صناعة الأفلام الجنسية هم حركة حقوق الرجال! و اصطدم هؤلاء مع الحراك النسوي في هذه القضية. يبدو التناقض كبيراً هنا, فهم تارة يرفضون العباثة الجنسية بالمرأة, و تارة يتسامحون مع ما قد يكون أخطر محفز على تصوير المرأة على أنها أداة للمتعة و الجنس. إذاً إما مبادئهم النظرية هي حبرٌ على ورق, أو مهاراتهم في تطبيق مبادئهم الأساسية تكاد تنال علامة الصفر, و في كلا الحالتين, هذا سيء و مثبط.
- إنها تعرف نفسها بالتمايز, عن من؟ نستطيع أن ندرك الجواب بالنظر إلى الإسم "نسوية". هناك كلمة سحرية يكررها الحراك النسوي, و هي جزء من ثقافة أدلجة البساطة التي يتصف بها, و هي "الأبوية= الباترياركي". هناك, نرى قمة الأيديولوجيا و التسليم الميتافيزيقي. إنه الشر, الشيطان, العدو الأكبر, ابليس الذي يجب أن يتعوذ المرء منه, إنه يكاد يكون أقرب لنظرية المؤامرة, السبب في كل مصائب هذا العالم, "الأبوية", إنها كما لو أنها فرصة لتطهير العواطف كما ذلك المشهد من رواية 1984 لأورويل عندما يفجر الناس كل أسباب غضبهم على ذلك الشخص في الشاشة. الباترياركي هي "إسرائيل" بالنسبة لحزب البعث, إنها العدو الأكبر, العدو الذي يعتمد عليه البعث لكي يكون موجوداً, العدو الذي يجب أن ترمى إليه كل الشتائم و التحقيرات و أسباب الفشل و التخلف و سوء الحال. الرسالة التي تصل بالنهاية و التي تثير حنق النصف الآخر من المجتمع هي أن الأبوية لا يحملها إلا الذكور, و لا يمارسها إلا الذكور. الشر سببه الأبوية, و الأبوية سببها الذكورة.
للعلم فقط, يدّعي الحراك النسوي المُأمرَكْ إمكانيته لتعريف "الأبوية", لكنه لا يتفق على تعريف واحد للـ"نسوية", و لربما, هذه من المواقف الرئيسية التي تذكرنا بالأساليب الدكتاتورية في إرباك المجتمع و تثبيطه عن السعي وراء الحقيقة. يحاول التيار النسوي السائد الآن تعميم أحد التعاريف "الحراك المطالب بالمساواة للجنسين". و نقول سائد لإنه يخالف بعض التيارات النسوية الأخرى كالنسوية المتطرفة.
أيضاً يدّعي هذا الحراك النسوي, أنه ليس موجهٌ للنساء فقط, بل أيضاً للرجال. و هو أيضاً ما تخالفه الحقائق الموضوعية التي لحسن حظنا أتت من بعض النسويات الناقدات للنسوية, اللاتي قدن دراسات أثبِتَتْ علميتها و قلن صراحة بسوء تسمية الحراك بـ"نسوي" لما يودي إلى دعوة لتنفير و إقصاء و تهميش الرجال بما هو أقرب بالرفض للذكورة, ذاكرين أن الأغلبية الطاغية المطلقة من الحراك النسوي مؤلفة من نساء, و لا يشكل الرجال بأي حال من الأحوال نسبة متساوية مع النساء. و هذا, من الأخطاء الكبيرة للحراك النسوي, فهي يستحيل لها مهما فعلت أن تعبئ نصف المجتمع أو أكثر. و ليحزنني هذا أشد الحزن, فالكثير من المبادئ النسوية تستحق أن تكون عمومية, سائدة في المجتمع, لا مجرد عينة فئوية بسيطة منه, لا مجرد( بأفضل الأحوال) 50% منه.
يشكك الكثيرون بصراحة توجيه النسوية الأمريكية دعوتها للرجال للانضمام إليها. هناك في شمال أمريكا حراك من الرجال النسويين المنشقين عن النسوية, الذين شكلوا ما يسمى حركة حقوق الرجال قبل انشقاقهم, ظناً منهم أنهم بهذا يقدمون دورهم في المساواة الجنسية ضمن الإطار النسوي و متحالفين مع النساء النسويات, لكن الأخيرات سرعان ما طردن حركة حقوق الرجال و اتهموهم بالأبوية و كره النساء و ضغطن على الحكومة لحجبهم و محاكمتهم بتهمة التمييز الجنسي. حركة حقوق الرجال اليوم حركة منشقة عن النسوية(أو بدأت منشقة عن النسوية فيما هي اليوم تنمو بانضمام كوادر جديدة). قامت إحدى النسويات بعمل فيلم وثائقي عنهم سمّي بـThe Red Pill لينتهي بها الأمر نهاية مثيرة للاهتمام, حاولت النسويات بسببها حجب الفيلم عن العرض. هذا الاصطدام بات حرباً بين الجنسين Gender war سببه كثير من سوء التفاهم, كثير من سوء النية, و قليل من التماسك النظري.
- إنها عاطفية. الشبح الذي يجب على النساء أن يهربن منه, و الذي كان من المفروض على النسوية أن تساعدهن به, ليفشلن به في النهاية, بل ليعززنه. لا يمكن تجاهل كل التوثيقات المرئية و المكتوبة التي تدل على اللهجة العاطفية للنسويات المأمركات, و عادة ما تكون هذه العاطفة هي الغضب. اشتهرت في الفترة الأخيرة Big Red, و هي نسوية تنشط في كندا, كانت فيديوهاتها "الغاضبة" بمثابة هدية على طبق من ذهب لليمينيين و المحافظين في شمال أمريكا. إن طريقة استعراض الحجج بطريقة تجريحية, ساخرة, عاطفية غاضبة, لا توصل سوى شعورٍ بالاشمئزاز بدلاً من الاقتناع.
- إنها تسكت نسبياً عما يبدو بوادر تغيرات مشرقة و تعاوناً بين الذكور و النساء, و تسوق للإضطراب المستمر السرمدي الخالد بين الجنسين, كأنها تمنع أي أفق للتعاون من أن يزدهر.
- إنها تستخدم عِلماً بدون منهجية علمية, و تلوي عنق الأرقام لكي تلبي رغبات مشاريعهن, هي متحيزة علمياً بشكل عام. و تستخدم العلم المتحيز هذا كمرجعية, موضعة إياهم بمنطقهم الدائري الخاص.
- إنها ترى أن القمع الممارس على النساء في أمريكا هو نفسه القمع الممارس على النساء في مكان آخر, كالشرق الأوسط مثلاً. السبب؟ السلطة الأبوية الباترياركية طبعاً. مثلاً, تعميم الصورة النمطية للمرأة في أمريكا على المرأة في مناطق أخرى, كالصورة النمطية عن المرأة الأمريكية بأنها ضعيفة في الرياضيات, و التي تعممها النسويات كما لو أنها متلازمة بكل نساء العالم!. إن سبب الفقر الذي منع فتاة من شراء الآيفون الجديد في نيويورك, هو نفسه سبب الفقر الذي أدى بفتاة في بانكوك إلى سوق النخاسة الجنسية الدولية. إن سبب منع المظاهرات النسوية في سوريا, هو ذات سبب منع المظاهرات النسوية في واشنطن. إن السماح للنساء بدخول الجيش, لقتل أناس من شعوبٍ أخرى, هو تحرر, أما الكف عن التجييش, فهو مسكوت عنه, و ويلٌ للجيش المؤلف من ذكورٍ فقط, فهم معادون للنساء. (مسألة دخول الإناث للجيش مسألة مثيرة للجدل). و الأسوء, هي تملي على النساء من السياقات الاجتماعية الأخرى كيف يفكرن عن أنفسهن, مثلاً, المرأة الشرق أوسطية ستظل ناقصة لإنها متحجبة, كمال المرأة الشرق أوسطية مشروط بخلع الحجاب.
- تصنيم الضحية, بل عبادة حالة الضحية. إنها من الرسائل المتناقضة التي تكلمنا عنها. لا يكاد يوجد في أيٍ من الأدب النسوي الأمريكي ما لا يسوق لأن المرأة ضحية الرجل, أو الباترياركية, أو النظام الحاكم, أو المجتمع السائد. إنها عقدة التمسكن( من مسكين), عقدة هي أيضاً من الصورة النمطية التقليدية للمرأة, التي كان من المفروض أن تساعد بها النسوية لأن تخرج النساء منها. حيث بدلاً من أن يتم التسويق لقوة إرادة المرأة في تقرير ما تريد, و بلوغها لاستحقاقاتها الطبيعية في مواجهة كل المصاعب, نرى الكثير من الاهتمام و الطاقات البلاغية مصروفة على العداوة و التجييش ضد العدو الميتافيزيقي. المرأة تُضرب, المرأة تُغتصب, المرأة تُطرد, المرأة تُشيَئ, المرأة تُستغل, المرأة تعمم عنها صور نمطية... باختصار, المرأة ضحية, دائماً ضحية.
متى تكون قوية؟ يجيب النسويات (إن أجابوا), عندما ترمي دورها التقليدي النمطي و تكسره لتشغل مكاناً لانمطياً, بحجة أنها تريده لنفسها. و يتخذ النسويات رمزاً لهن بوستر المرأة الأمريكية العاملة في الحرب العالمية الثانية مع عبارة We Can Do It, باعتباره كسراً للنمط البائد بأن المرأة لا تعمل, و لا يتكلمن للحظة عن أن سوق العمل للنساء فُتِحَت أساساً من أجل صناعة السلاح للجيش ((الذكوري)) المحارب على الجبهات و تمويل الحرب, حربٌ توصف في تلك الآداب نفسها بأن سببها و دافعها هو الباترياركية الذكورية. صراحة, ما أرادوا قوله هو أن المرأة القوية هي التي تستعرض كسرها للنمط, و لا داعي لأن تملك إرادة في هذا, و ما يُذكر عادة كمثال هنا هو أن تغدو عاملة بناء, أو سائقة شاحنة. هذه "السطحية" أدت بالنسويات إلى نمط ظاهري و استعراضي ملحوظ, نمطي عن النسويات لسخرية القدر! الشعر القصير(المصبوغ عادة بلون غريب), التدخين, الثياب الذكورية, التظاهر السياسي المدموج بالتعري, فاجرة و أم حلق و جاعور؟... كلها باتت صوراً نمطية عن النسوية. و هو ما تنبهت إليه النسويات نفسهن, و بدأن بمحاولة السيطرة عليه و نقده و تقنينه لما بات ينقل صورة سلبية و مزعجة.
هناك أيضاً الخيارات السياسية و التمثيل الجنسي لجوائز و شواغر عادة ما تعطى لمن يستحق بقدر المساهمة التي قدمها أو قدمتها بغض النظر عن الجنس. في 2016 تخير الشعب الأمريكي بين خيارين فقط في الانتخابات الرئاسية, بين سيء و أسوأ, و يقول البعض بين أسوء و أسوء. بخسارة هيلاري كلينتون, كان رد بعض النسويات أن السبب هو لأن هيلاري أنثى بمهبل! و أغلب المصوتين الذكور اختاروا ترامب الكاره للنساء. كأن كلينتون للحظة تغدو ملكاً من السماء, طاهرةً نقيةً برئية, سويةً و محبوبة سياسياً.. لكن ألا ليت! لو أنها ملكت قضيباً فقط, لكان العالم يعيش بسعادة أبدية. أوليس هذا ما قصده فرويد بـ"الغيرة من القضيب" التي قال بأن النساء تملكنها, و التي تم شيطنتها من قبل النسويات و وصمن فرويد بكراهة النساء بسببها؟ أظن أن تسربل "الغيرة القضيبية النسوية" هو من المآخذ العبثية التي يقع بها الحراك النسوية مرة تلو مرة. أما بالنسبة لـ"دمقرطة" التمثيل الذي من المفروض أن يكون استحقاقياً, فهو أمرٌ خطير لا للمجتمع, ولا للذكور و حسب, و إنما للمرأة بالمقام الأول. في 2014 حصلت مالالا يوسف أزادي على جائزة النوبل للسلام, لتكون أصغر حائزة على جائزة النوبل في العالم. بالتأكيد, قامت مالالا بأمر إيجابي و بنّاء, و تستحق لأن يقال عليه عملاً خلوقاً. لكن, المشكلة هي التالي:
1- ما قامت به يجب تعميمه و مَعيَرَتَهُ كقيمة يجب لكل مرأة—أو رجل—أن تقوم بها, لا جعل هذه القيمة حالة شاذة فردية تستحق البطولة و المكافأة. إن جعل مالالا نبية من أنبياء حقوق الإنسان و التعليم و الآن, النسوية أيضاً, هو فصل لها عن مجتمعها, إنها الآن بالنسبة للباكستاني العادي جزءٌ من النخبة! و قيمها هي قيم نخبة! بالنسبة لمن يراها بإيجابية هي بطلة, لكن البطلة شخصٌ له قوىً خاصة لا يمكن—أو من الصعب جداً— للشخص العادي أن يبلغها. فيما كانت سابقاً قيمها هي قيم امرأة عادية من مجتمع عادي تناضل للتغير نحو الأفضل, و قسمٌ واسع من المجتمع إن لم يكن كل المجتمع من ورائها و متطبع بنفس القيم. و إن اختزال كل الوجوه و الأسماء التي عانت و ماتت من أجل تحقيق نفس القضية بوجهٍ واحد و إسم واحد "مالالا", و بل و إغداق المكافآت على مالالا دون أي أحدٍ غيرها, لا يمكن إلا أن يكون سبباً للانزعاج من مالالا أو رفض لها أو تثبيط و إخصاء لمجتمعها.
2- ماذا عن النساء الأخريات اللاتي قمن بنفس هذا الدور, لكن دون القدرة على تغطيتهن و مكافئتهن؟ ماذا عن سيدة أفغانية قامت بنفس ما قامت به مالالا و من نفس عمر مالالا, و لكن لم تكن ((محظوظة)) كفاية بوجود إنترنت لديها, أو قدوم المصورين الوثائقيين لتوثيق حياتها. كيف سيرون مالالا؟ كمثال جيد يحتذى به؟ أم كحسرة تزيد أسى العالم على المرء و تدعم التسليم القدري بالحظ في هذا العالم؟
3- بدلاً من تعزيز قيم التعاون و التكاتف من أجل كف الظلم, فإن ما حصل من تغطية لمالالا هو تسويق لقيم الأنانية و الفردانية الساذجة, لننظر مثلاً لعنوان الكتاب عن مالالاI Am Malala: How One Girl Stood Up for Education and Changed the World. ما المشكلة هنا قد يسأل البعض؟ أقول, إن شخصاً واحداً لا يغير العالم! و هذه سذاجات رومانسية, و رائحة الفردانوية الأمريكية تشع من هذا الإسم, إنه يصلح ليكون عنواناً لفيلمٍ هوليوودي, لا لواقع معاش. آخر ما نحتاجه هو خياليات في حركات العالم الإصلاحية اليوم. إن تغيير العالم يأتي بالتعبئة الاجتماعية و التعاون و التكاتف, و هناك دائماً في الحركات الإصلاحية الناجحة المئات و لربما الآلاف من الجنديين المجهولين, لا فقط الشخص المترأس, و النجاح هنا يجب أن ينسب لكل المجتمع الذي حقق هذا.
4- إنها تعزيز لفكرة أن الظهور الإعلامي هو ما يجلب المكافأة و الاعتبار و الدعم, و لا قيمة حقيقية للعمل الموضوعي و المثابرة و المساهمة إذا كان بصمت أو معتم عليه أو لا يمكن تغطيته. و هنا تقع إحدى المشاكل بالنسبة لأولئك العاملين من باب التطوع و/أو موجهين بأخلاقيات واجبة, إذ أنه من الممكن تثبيطهم و تحويل انتباههم نحو المكافأة و التثمين.
5- و يا خوفي من هذه, و أتمنى ألا تكون صحيحة. لكن قد يكون ما حصل بمالالا قد ساهم به الفكر الاستشراقي. كوفِئَت مالالا الباكستانية على قيامها بنشاطاتٍ إصلاحية بوجه الطالبان, و هو تنظيم عسكري أفغاني, حيث امتد—انسكب spillover— الطالبان إلى المناطق الحدودية الباكستانية و حسب, دون رغبة بالسيطرة على باكستان أو وجود أجندة ضد باكستان تحديداً. إنها مثل وصول بعض الميليشات الإسلامية المعارضة في ريف دمشق إلى جبال القلمون اللبنانية بحكم سيرورة تاريخية خاصة, حيث لا يملك الأخيرون أجندة مباشرة ضد لبنان, و وجودهم هناك مؤقتٌ أساساً. و هذا ما حصل بالنسبة لقوات الطالبان الذين دخلوا منطقة مالالا الباكستانية آتين من أفغانستان.
بتأثير من التفكير الاستشراقي, لربما العقل الغربي الذي أغدق بالجوائز على فتاة باكستانية, لا يدرك الفرق بين أفغانستان و باكستان في النزاع مع الطالبان, و يبدو هذا ممكناً بمتابعتنا للطريقة المتداخلة التي يغطي بها الإعلام الغربي الحرب على الطالبان, و أيضاً بملاحظة الطريقة الساذجة التي يتعامل بها الأمريكان و لربما غيرهم من الشعوب الغربية مع العالم.
الطالبان حركة إسلامية أفغانية متطرفة, و كان من الأولى أن يتم تغطية فتاة أفغانية أو مجتمعٍ أفغاني يتحرك ضد الطالبان من الداخل, لا شخص من بلدٍ آخر, شخصٍ قد يوصف بالغريب, و هو يعادي عداءاً طبيعياً من تعدى على أرضه في مواجهة عابرة.
6- ماذا عن الإسلاميين الذين يملكون ميولاً إصلاحية, و الذي يتحسسون من موضوع مكافأة الغرب لفتاة قاومت حركة إسلامية؟ ألا يعزز هذا تعصبهم الديني؟
إن التمثيل الجنسي دون مراعاة الجدارة العملية يثير شك الذكور باستحقاق الإناث لمنصبهن أو جوائزهن, و هو ما لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن ينتج مجتمعاً صحياً متناغماً. إن مجرد بدء الشك بإسهامات النساء و تحيز النسويات, قد ينتج عنه قلاقل إجتماعية لا خير منها, و مالالا أعلاه مجرد مثالٍ واحد.
هل يجب على الحراك النسوي أن يستمر هكذا؟ لا, ليس هنا على الأقل, و ليستمر هناك إن أراد. في الجزء الثاني نبدأ التكلم عن الحراك النسوي في بلداننا الناطقة بالعربية, و سياقها مع ثورات الربيع العربي.
#أمين_نور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟