أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بقوح - قصة : غيلم زفزاف















المزيد.....

قصة : غيلم زفزاف


محمد بقوح

الحوار المتمدن-العدد: 5606 - 2017 / 8 / 11 - 14:36
المحور: الادب والفن
    


الموسم خريف والوقت مساء. "موج البحر ليس على عادته"، قالها كما لو كان يكلم أحدا إلى جانبه. انحنى بظهره المقوس قليلا. وضع قصبة الصيد الطويلة على صخرة خشنة مستوية. أخرج من حقيبته التي كان يحملها على كتفه اليسرى غيلمه المفضل: يسميه (غيلم زفزاف). حطه بجواره، قرب الصخرة المكسوة بالمحار الأسود، ثم وضع أمامه بعضا من نبات الخصّ الأخضر الطازج. "أنت الآن في الأمان وعلى ما يرام.. يا صديقي العزيز. مرحبا بك في عوالم الصيد والبحر والأشياء الأخرى.."، نبس بّا العربي، ويداه الصلبتان تتحركان ببطء، تخرجان ما تبقى من أدوات الصيد من حقيبته الجلدية. بدأ الغيلم ينظر إليه بعينين حزينتين، غير مهتم بنبات الخصّ الأخضر الموضوع أمامه. فكر بّا العربي سارحا بنظره الثاقب في أفق البحر الأزرق البعيد، حيث يعانق حدّه حمرة قوس الشمس الآخذة في السقوط وراء شبه جزيرة القصر الملكي المحاذية لمصب وادي سوس. أخرج قنينة سائله المفضل. يسميها "الفرّاكة". "وبعدها يأتي الطوفان"، قال، وهو يسكب الكأس الحمراء الأولى. أفرغها دفعة واحدة في جوفه. انتشى، ثم فكر في زمن التقاعد الذي ينتظره بعد أشهر قليلة من الآن. تأمل، ثم أعاد التفكير في أمر تقاعده القادم: "كيف ستكون أيامي وحياتي بعد زمن العمل الطويل ؟". قيل له أن لحظات التقاعد في بلده، والذين هم في وضعيته الإدارية، لا تختلف كثيرا عن لحظات البطالة البئيسة. يتدارك ناظرا إلى سرب طير النورس يحلق في السماء، مفكرا: "لن أحس بالبطالة مادامت معي هذه القصبة. مؤنستي العزيزة !!". أشعل محتوى شَقْفِه الأول. امتصّ النثرة الأولى. فانتشى للحظات، سافرت به إلى ما وراء التقاء زرقة ماء البحر بجزر السحاب. هذه أول مرة يستعمل فيها "سبسيَه"1 البني الجديد، بعد سقوط "السّبسي" القديم بين الصخور الضخمة لنفس المكان الذي يوجد فيه الآن. كان يريد أن يتخلص منه بأية طريقة. تعالت أشرطة الدخان أمام عينيه إلى السماء. فشرد قليلا.. ثم أطال في الشرود والتفكير..
في مساء الساعة السابعة، غالبا ما تشهد هذه المنطقة مدّ البحر الذي يعرفه بّا العربي جيدا. المدّ الكاسح الذي يزبد موج البحر عند قدميه، حيث يكثر تلاطم الموج بحافة الصخور السوداء المثقلة بتشابك المحار والطحالب. لماذا تبدو اليوم هيئة البحر وأمواجه هادئة وغير عادية ؟
البحر ساكن وممتد عبر الأفق، وموجه يكاد يكون غائبا وغير مرئي. وأسراب البط الذي لا يخالف موعده، أين رحل ولماذا تخلف عن موعد اليوم ؟ تبدو له من بعيد قامات طيور البلارج الناصع البياض، ذي السيقان الطويلة كالخيزران. لأول مرة يرى فيها البلارج على سطح أرضية مياه ضفة البحر الضحلة، في أقصى المنطقة المعشوشبة الجنوبية. ثمّة تغيرات لاحظها بّا العربي في البحر ومحيطه هذا المساء، لم يجد لها تفسيرا مقنعا. حوّل بصره إلى الصخور الضخمة بجواره. بحث بعينيه عن رفيقه: (غيلم زفزاف) الذي ابتعد. يراه هناك على بعد أمتار، منشغلا بسرطان البحر. يحاول الكائن البحري جاهدا تسلق ظهر (غيلم زفزاف) الذي يقاومه. لكن سرطان البحر يسقط على أرضية الصخر الخشن. فيعاود التسلق من جديد ظهر الغيلم الذي جمد في مكانه. كان التسلق هذه المرة من الأمام وليس من الوراء. يمدّ السرطان بمنكبيه الطويلين المزغبين على رأس الغيلم الذي سحبه نحو داخل غشاء جسده الصلب. بدا (غيلم زفزاف) في هذه الأثناء كدبّابة حرب تتأهب لإرسال قذيفة نارية. "لا تفعلها يا صديقي الحكيم". قالها بّا العربي مبتسما لمشهد العراك الذي سيبدأ بعد قليل بين (غيلم زفزاف) وسرطان البحر، بينما تابعت عيناه البحث عن طعم عضوي لصنارته داخل الحقيبة. لم يجد شيئا يذكر سوى سمكة نتنة إلى درجة التعفن. "البحر الذي يطعمني السمك الطازج لا بد أن أمده أنا الآخر بطعم أنيق في مستوى كرمه". هيأ بّا العربي لوازم الصيد واقفا. أسند القصبة أولا إلى صخرة كبيرة جدا. ثم سحب من الجرار خيطها الدقيق إلى درجة مكنته من عقد الشصّ في رأس الخيط، بعد أن جعله يخترق ثقب وسط اللولب الرصاصي الصغير.
عدّل قبعته الشمسية الواسعة الأطراف. نظر إلى مشهد الغروب الجميل في أفق ملتقى زرقة البحر وصفحة السماء الغائمة. جلس على كرسي خزفي لا يفارقه عند كل عملية صيد. بعد ذلك، قام بإلقاء الشصّ المربوط بالقصبة الطويلة بعيدا إلى مياه البحر، بعد أن ثبت فيه الطعم الطازج المناسب الذي كان معه. بعد خمس دقائق أمضاها دون أن يحسّ بّا العربي بأدنى حركة. كأنها توقف فيها الزمن. شرد للحظات. أدخل مقبض قصبته الملفوف بقطعة ثوب قطني مزركش، والمصاص لعرق اليدين، في ثقب حجري محفور على ظهر صخرة متوسطة الحجم. تأكد من التثبيت الجيد للقصبة في ثقب الصخرة. بدت له القصبة بقامتها المنتصبة واقفة قوية في الهواء، كما لو كانت جنديا يستعد ببندقيته للقيام بهجوم كاسح على العدو. عاد بّا العربي إلى إشعال محتوى شقفه الثاني. أحس به دون طعمه السابق هذه المرة. "الطابا ضعيفة في هذا. ولاد الكلاب، كيغشو حتى في توزيع السمّ.."، هكذا نبس بّا العربي. ثم واصل تأمل البحر الممتد من حوله. انتبه إلى أن موجه أخذ في تغير طبعه الآن. فكر: "الرايات البيضاء بدأت تظهر، وبعد قليل سيكبر الموج، ومعه تأتي خيرات السمك إلى هنا حتى قدمي إن شاء الله". حوّل نظره إلى ناحية اليسار، حيث يوجد (غيلم زفزاف) الذي بدا له متشابكا مع سرطان البحر. نهض بسرعة. حاول الاقتراب من المنظر المجسد أمامه ليفهم ماذا يجري بالضبط بين الحيوان البري والحيوان البرمائي !! انحنى بقدر جعله يدقق ملاحظته. استنتج بّا العربي أن سرطان البحر يشدد ويبالغ في رغبته المصرة، في تسلق ظهر (غيلم زفزاف)، فكان مصيره أن يقع منهارا تحت ثقل قاعدته العظمية الصلبة. يستعد الغيلم لرفسه. "ما هكذا تتصرف ضيوف البحر يا صديقي الحزين"، قالها بّا العربي مبتهجا. امتدت يده بهدوء لحمل غيلمه المتوتر شيئا ما، والذي لم يره على هذه الحال منذ مدة. حمله بأصابع ثابتة. بدا له سرطان البحر كالمتجمد ممددا على ظهره لا يتحرك. في هذه الأثناء تحرك خيط الصنارة المشدود بالقصبة. ظهرت هذه الأخيرة تهتز بقوة في الهواء. أنزل بّا العربي غيلمه بسرعة، وجرى نحو قصبته. انتزعها من ثقب الصخرة بتأن، وأخذ يسحب الخيط بالجرارة اليدوية ببطء شديد. "صيد ثمين في مساء جميل"، قال بّا العربي، وهو يلقي بأول سمكة متوسطة الحجم إلى داخل سلته الخزفية. نظر إلى (غيلم زفزاف) الذي عاد إلى اللهو واللعب مع سرطان البحر الآخر، في الجهة اليمنى من موقعه، فوق الصخور الداكنة والجافة. استحسن بّا العربي مشهدهما المرح الجديد، ثم تابع مراقبة موج البحر وقصبته بين يديه.

__________
1 - أداة عمودية خشبية تستعمل للتدخين في المغرب



#محمد_بقوح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مملكة الذباب الموحش
- التعليم كمحرر للشعوب
- الوعي الديني والوعي الفلسفي
- قصة : الحمّى
- السياسيون الانتهازيون
- يسار حراك الريف ويمينه (مطلب اجتماعي وضرورة تاريخية)
- نظرية الدولة عند أنطونيو غرامشي، من خلال كتابه (رسائل السجن)
- مسألة المثقف عند بيير بورديو
- قراءة فلسفية لرواية ساق البامبو(1) (جدلية العلاقة بين تيمة ا ...
- الأنا الذي لا يفكر .. أو الطبيعة الصامتة و الطبيعة اللغوية
- من دفاتر نيتشه الفلسفية : مسألة الإغريق و علاقتهم بالفلسفة ( ...
- نقد مفهوم الحرية في فلسفة سبينوزا
- من دفاتر نيتشه الفلسفية : مسألة الفلسفة و التفلسف و الفيلسوف ...
- من دفاتر نيتشه الفلسفية : الفلسفة و الفيلسوف .. المفهوم و أي ...
- الفلسفة .. ضد سياسة التجميع
- محمد ابزيكا .. المثقف العضوي . أو صراع الأنساق : بين الحداثي ...
- الفلسفة و سياسة التكرار
- التقدم ضدّ خرافة الوصول .. في سبيل الصداقة الفلسفية
- المرتزقة الجدد ، وجهة نظر فلسفية
- أعشاش لاحمة


المزيد.....




- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بقوح - قصة : غيلم زفزاف