أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم المطير - أربعة قرون يتوهج فيها رامبرانت بالحب والحزن..















المزيد.....


أربعة قرون يتوهج فيها رامبرانت بالحب والحزن..


جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 1454 - 2006 / 2 / 7 - 12:01
المحور: الادب والفن
    


حين وضعت حقيبتي في أمستردام عام 1997 أدركت في الحال أنني في بلد ليس هو امتداد لما علق بذهني لإمبراطورية هولندا البحرية بل أنني في ارض هي مرجعية لسير وتواريخ حياة رجال عظام في التاريخ الإنساني الفلسفي مثل سبينوزا وبايل وغيرهما من الفلاسفة الذين ساهموا في بناء أسس المعرفة الإنسانية العميقة . فقد كانت الجمهورية الهولندية في عصر مضى قد شهدت تقدما كبيرا في ميادين الفلسفة والعلوم الطبية والأمراض وخصوصا في مجال تشريح جسم الإنسان للأغراض الطبية ، التي تقدمت كثيرا لان هولندا لم تكن خاضعة لتلك الآراء الدينية المعادية لتشريح جسم الإنسان التي كانت سائدة في اغلب الدول الأوربية مما فتح الأبواب أمام الرسامين بتسجيل حرية التشريح الجسدي في لوحاتهم ، وكان من بين هؤلاء شاب اسمه رامبرانت .
تفاعل الثقافات
نعم وجدت نفسي عام 1997 في بلد المليون رسام فتذكرت تأثير الرسامين الهولنديين في مدن لايدن وأمستردام واوترخت ودلفت وهارلم على الفنون الأوربية المعاصرة والقديمة كلها وعلى ثقافتهم وبصيرتهم الفنية الأكثر عمقا . حين كنت في العراق ، قبل هذا التاريخ ، قرأت من قبل عن الثقافة والفنون في المملكة الهولندية وقبلها عن فترات الجمهورية الهولندية ، وعرفت الشيء الكثير عنها . كما كنت اعرف أن ثروة كبيرة حققتها طبقتا الحكام والتجار الهولنديين بصورة مباشرة وغير مباشرةعن طريق المتاجرة بالثقافة الهولندية عبر البحار خلال القرن السادس عشر والسابع عشر وقد خلق هذا النوع من المتاجرة سوقا رائجة للمطولات الشعرية الدافقة للشاعر كاتس مثلما راجت تجارة الخرائط البحرية والمجلدات وتجارة الخزف بين الشرق ( الهند والصين واندنوسيا ) والغرب ( هولندا ) مما مهد على نحو تفصيلي لتكوين بذرة تفاعل الثقافات والفنون في هذا البلد .
تذكرت رسامين هولنديين عديدين وفي مقدمتهم رامبرانت الذي بدا اعتزازي به أمام بعض الأصدقاء الهولنديين كاعتزازهم به . فقد كنت قبل حط رحالي في هولندا قد حصلت على موجز واف عن إبداعات هذا الفنان بالذات وعلى مبادئه في الرسم . ومن خلال وجودي في جزيرة تسل لمدة عام ويزيد وهي جزيرة ذات طبيعة هادئة على بحر الشمال رغم أن الله وهبها حركة رياح يومية متواصلة استطعت زيادة معارفي بالرسم الهولندي وبهذا الفنان ذاته . فقد قضيت عامي الكامل هناك في زيارة كل المعارض الفنية التي يغلب عليها الجد مثلما يغلب عليها الثقة برسومات رامبرانت الذي كان يحتل كرسي الأستاذية في كل معرض أو محاضرة فني . فكل فن في هولندا حتى في القرية الصغيرة النائية التي عشتُ فيها ــ ديكوخ ــ كانت حرية الإرادة واردة في كل رسم شأنها في ذلك شأن الحريات السياسية .
هناك عنصر رئيسي لاحظته هو الاهتمام في كل مقال أو حديث في الفن الهولندي يضفى دائما على طابع العمل الرامبرانتي ولا يخطئ احد في ملاحظاته عما يكتب أو يقول عن زوايا عمل رامبرانت كما كانت الفنانة ــ ماريانا ــ وهي سويدية الجنسية مقيمة في جزيرة تسل منذ ثلاثين عاما ملكت قدرة وموهبة في استلهام أفكار رامبرانت بدرجة عالية من النضج كما لاحظت ذلك في نتاجها الغزير المعتمد على اللوحات الصغيرة الحجم في أغلب أعمالها ، كما فعل رامبرانت في بعض مراحله . .
اعتزاز الهولنديين بالفن
يعتز الهولنديون بفنانيهم ومثقفيهم بصورة عامة . يؤكدون هذا الاعتزاز بكل مناسبة سواء في لحظة المناسبة المسلية أو في اللحظة الأخرى الخطرة . ومع بزوغ العام 2006 بدا نشاط فني وشعبي واسع للترحيب بالذكرى السنوية لمولد أشهر الفنانين الهولنديين رامبرانت الذي حظي في هولندا وأوربا بشعبية نادرة المثال . ولا بد أن أشير بأن من الصعب على أي هولندي أن يقول أن الناس في عصره كانوا يعتزون به كما في العصر الراهن .. فالكنيسة الكالفنية وقفت منه كما هو موقفها من الفن عموما موقف اللامبالاة .
وعلى الرغم من ميل الأثرياء من أبناء الطبقة الحاكمة والتجار والبورجوازيين في ذلك العصر إلى اقتناء اللوحات الفنية إلا أنهم نظروا نظرة احتقار إلى الفنانين ذلك أن غالبية الرسامين الهولنديين تقريبا انحدروا من اسر متواضعة أو فقيرة ولم يرتفعوا عن منشئهم الاجتماعي المتواضع ليحتلوا مكانة سامية إلا القليل الذي انحدر من صلب الطبقة البورجوازية مثل مكانة كل من برونزوفان ديك و فيلاسكيز .
فن رامبرانت حظي بإعجاب بعض الأثرياء قبل أربعة قرون باعتباره فنانا من الطراز الأول لكنهم كانوا يحتقرونه لأنه لا يملك مالاً ولا عقارا ولا تجارة ، بل لأنه كان مفلسا على الدوام وقد اعتاد المجتمع النظر إلى الرسامين عموما باعتبارهم صعاليك يقضون أكثر وقتهم في الحانات حيث يعلمون تلامذتهم مبادئ الرسم .. وعلى العموم فأن الرسام الهولندي "فان رين رامبرانت" يعتبر بشهادة كبار النقاد والباحثين العالميين هو أحد عباقرة الفن، ممن يشهد لهم التاريخ بالتميز والإبداع. وهو أحد ركائز الفن التشكيلي الأوروبي، في القرن السابع عشر، والذي طور عالم التصوير برؤيته التشكيلية، وتعامله مع الظل والنور. كما أنه برع في تصوير الأشخاص، والتعبير الإنساني العميق ، والمتداخل، والمفعم بالحزن والشقاء والمعاناة.. في كثير من لوحاته، المستوحاة من القصص الدينية والأسطورية.
أول شيء يمكن ملاحظته هنا ، خلال هذه الأيام وفي كل أيام العام 2006 القادمة ، في الأوساط الفنية والثقافية الهولندية أن كل واحد منهم مقتنع بان الاحتفال بمولد رامبرانت هو حق وواجب وعليه أن يخوض في الاحتفالات المكرسة لهذه المناسبة التي بلغت حدها الأعلى عندما قامت الملكة بياتريكس "، يوم الأربعاء 14 ديسمبر 2005، بافتتاح " عـام رمبراندت "، وذلك في متحف مدينة لايدن "De Lakenhal" ‏، مسقط رأسه، حيث رفع الستار عن معرض بعنوان: " والدة رامبرانت.. بين الحقيقة والخيال ".
وجد الهولنديون بعد هذه الخطوة الملكية أنهم ميالون لإعادة تقييم فنانهم رامبرانت لاستخلاص فلسفة الجمال من الألوان التي ابتدعها في لوحاته ليمنح للناس دليلا على حيازته لفلسفة الفن التي تقوم صراحة على " أن الحقيقة لا يمكن أن تعرف " وهي الفلسفة التي قبل بها الرومانسيون فيما بعد أثناء ثورتهم ضد عقلانية القرن الثامن عشر القائلة بان المعرفة هي معرفة الظاهر وحده ما دام العقل لا يستطيع معرفة الأشياء في ذاتها .
من هنا فأن فناني هولندا بهذه المناسبة راحوا يحتفلون بدءا من مدينة لايدن التي عاش ودرس فيها "رامبرانت " حتى الخامسة والعشرين من عمره، وكذلك في العاصمة أمستردام؛ حيث اشتهر وعمل حتى توفي عن عمر يناهز الـ 63 عاما. غير أن هذه الاحتفالات لم تكن عرضية آو مجردة خاضعة للصدفة والأهواء بل أنها مصحوبة بالدرس والتقييم للعلاقة والربط بين " الشعور " و " العمل " أي بين شعور الفنان ولوحته لتوفير كل ما يؤدي إلى تحديد عناء المعرفة لدى هذا الفنان ولتحديد الذكاء العقلي الذي وجهه .
مولده
ولد "هارفنزون فان ريجن رامبرانت" في 15 يوليو 1606، في مدينة لايدن، في هولندا. وهو الطفل الثامن من تسعة أولاد لعائلة هولندية عريقة. عاش طفولة صعبة وفقيرة .. التحق بكلية الفلسفة، في جامعة لايدن لدراسة الأعمال الكلاسيكية، في أوائل عمره، إلا أنه خلال فترة دراسته الجامعية، وجد فى نفسه ميلاً فطريًّا للرسم، فأخذ يرسم على دفاتره وكتبه المدرسية، وقرر أن يترك مقاعد الدرس، وأن ينشغل بالرسم. واستطاع ـ بعد جهد كبير ـ إقناع والده بذلك؛ فترك الكلية ـ عام 1622 ـ وبدأ فترة دراسة فن الرسم، على يد الرسام الهولندي "جاكوب فان سوانبرغ"؛ الذي تلقى تدريسه الفني في إيطاليا وقد اصبحا صديقين متعاونين لمدة ثلاث سنوات، اكتسب خلالها مهاراتٍ فنية كبيرة. وخلال هذه الفترة، كان "رامبرانت"، يرسخ صلته بزميل له يكبره سنًّا، ألا وهو "جان ليفز"، وقد انغمس الاثنان في علاقة صداقة خاصة، وبعد ذلك توجه "رامبرانت" إلى أمستردام للدراسة، على يد "لاستمان"؛ الذى ذاع صيته في تلك الفترة، فقضى قرابة ستة أشهر في استوديو "لاستمان".. تعلم خلالها اللغة الإيطالية، واطلع على حياة المجتمع الإيطالي والروماني.
العودة إلى لايدن
لكي يشعر انه موجود وموهوب عاد إلى العيش في مدينته لايدن عام 1625 ـ لكي ينشىء مشغلا فنيا خاصًّا به؛ ليباشر أعماله ويحس انه كائن فني في حالة من الشغل الدائم وفي عالم من الانعطاف نحو إظهار مواهبه كوجود موضوعي حي بعد زواجه من حبيبته "ساسكيا" ـ عام 1634 ـ وقد تبددت ثروته بعد وفاة زوجته ـ عام 1642 ـ وعاش منزويًا بعد ان تراكمت عليه الديون . وفي عام 1657 بيعت مجموعات "رامبرانت" بالمزاد العلني؛ إلا أن المبالغ المحصلة لم تكف لسداد ديونه، وفي ـ عام 1660 ـ بدأ "رامبرانت" يعيش حياة العزلة التامة في منزل ابنه، ولكنه استمر في تلبية الطلبات التي كانت ترده من محبي فنه، مثل لوحة "أعضاء نقابة صانعي الملابس"؛ التي أكملها ـ عام 1662 ـ وفي عام 1668 تزوج ابنه "تيتوس"، ولكنه توفي بعد زواجه بستة أشهر، فأصيب "رامبرانت" بحزنٍ عميق، وتراكمت عليه الديون؛ ليقضي حياته فقيرًا كما ولد. وتوفي "رامبرانت" في الرابع من أكتوبر 1669.
كان والد رامبرانت "هارمن فان راين ‏ بروتستانتيًّا صاحب مطاحن، وأمه "نيلي فان زويتبروك ‏كاثوليكية ابنة خباز تجيد القراءة والكتابة، وهو أمر نادر في تلك الفترة، وقد تزوجا رغم المنع الكنسي الرسمي . تمكنت والدته من استثمار تركة زوجها؛ فوفرت لابنها "رمبراندت" حياة مريحة؛ فالتحق بالمدرسة اللاتينية في لايدن، ومن ثم بجامعتها.
يعتبر "رمبراندت أشهر الفنانين الهولنديين في العصر الذهبي؛ عندما وصلت هولندا إلى أوج مجدها العسكري، وتقدمها العلمي والثقافي والأدبي والسياسي . وإذا كان الناس يبحثون عن حريتهم وإرادتهم في ظل هذا المجد والتقدم فان رامبرانت وجد حريته بالفعل بوصفها إرادته في رسوماته ولوحاته .
في الفترة التي عاش فيها رامبرانت قبل 400 سنة كان كل نوع من الإبداع الهولندي نشيطا ويمكن القول أن الأدب الهولندي الذي ساد في تلك الفترة لم يثر اهتماما خارج هولندا رغم أن الكتب الهولندية عن الأسفار والرحلات والجغرافيا والملاحة البحرية كانت تترجم سريعا إلى اللغات الأوربية الأخرى لأسباب عملية فمثلا أن أعظم أدباء هولندا وهو ( جوست فان دن فوندل ) أجمعت عليه الآراء باعتباره يستحق نفس مستوى التكريم الذي حظي به شكسبير في انكلترا ، وسرفانتس في اسبانيا ، وكامويس في البرتغال ، لكنه لم يجد أحدا يتطوع لترجمته ولم يجد رواجا في الخارج مثلما حدث للآخرين .
علينا أن نلاحظ النقطة الرئيسية حول الصلة بين هذا الإهمال المتعمد للأدب الهولندي وبين النظرات المتعالية من جانب الأدباء والمترجمين الأوربيين الآخرين . فمن الجدير ذكره وملاحظته أن الفرنسيين والانكليز ــ جيران هولندا ــ اعتادوا النظر باستعلاء إلى اللغة الهولندية نفسها وانتقاد ما سموه " خشونة " مخارجها الصوتية . هذه النظرة نفسها وجدتها موجودة أيضا لدى اغلب الكتاب العراقيين المقيمين في هولندا ممن جاءوا إليها هربا من دكتاتورية صدام حسين ونالوا الجنسية الهولندية. فلم يظهر حتى الآن أي كاتب عراقي اهتم ايجابيا بنسيج الثقافة الهولندية وترجمة ظواهرها الإبداعية إلى العربية وعن طريق نظراتي الخاصة وجدت ( بعض ) المضامين المسرحية الهولندية تنتقل تدريجيا إلى ( بعض ) الشباب من المسرحيين العراقيين ، مثل رسول ، الصغير ، صالح حسن ، احمد شرجي ، هادي الخزاعي ، فارس الماشطة .
لا ادري في ما اذا كان من الممكن مقارنة الرسامين العراقيين بالمسرحيين العراقيين الذين ذكرت أسماء بعضهم هل استفاد فنانون من تجربة اللغة الفنية لرامبرانت ولا ادري هل المقارنة ممكنة بين فرص وجود حوالي 100 من الرسامين العراقيين في هولندا والعديد منهم له علامة مميزة وجاء من وطنه الأم وهو يملك قيمة فنية معينة فهل أصبح رامبرانت الهولندي موضوعا لوعيهم الفني وهل ارتبطت رؤيتهم بتصورات الإنسان الحر الذي رسمه رامبرانت ربما يكون جواب مثل هذه الأسئلة لدى عفيفة لعيبي وستار كاووش وزياد حيدر وحامد الصراف ورملة الجاسم وكمال خريش وفاضل نعمة وسلام جعاز وقاسم الساعدي وأور البصري وعشرات الفنانين العراقيين الآخرين ..
كم هائل بهوية متميزة
في تلك المرحلة الهامة من تطور هولندا ألقى رامبرانت بفنه وسحره تحت أنظار الناس واضعا رسوماته الهائلة الكم والنوع تحت أيادي الجميع مقدما حوالي 600 لوحة، و300 "كليشيه" حفر، و2000 من الرسومات، وما يقارب الـ 100 " بورتريه ".. معظمها لنفسه أو لأفراد عائلته. وجميعها اتشحت بوشاح السحر الفني مستخدما كل وسيلة لكي يضفي على لوحاته قوة الجمال فلجا إلى الموازنة الدقيقة أثناء ممارسته لعبة الضوء والعتمة في سطح اللوحة وأعماق ألوانها باعتبارها الوسيلة في تصوير الحقيقة الإنسانية في الجانب الشكلي من إرادته في ابسط حدس لألوان لوحاته كما استخدم انفعالية فرشاته في العلاقة الداخلية للتباين الموحى فيها كي يخرج إنسان عصره وإنسان كل العصور إلى النهار ، إلى الضوء ، كي يكشف مباشرة عن ثراء الأفكار في لوحاته التي جلب معها أمثلة دراماتيكية كلية ومتعينة عن حق الإنسان وعن أخلاقياته وعن الحياة وما فيها من جمال وعن واقع الإنسان الساعي لتحقيق العدالة والحرية وما يبذله من عناء في رحلة الكفاح .
خلال مشاهداتي لعدد من رسوماته في معرض دنهاخ وفي عدد من الكتب وجدته بهوية متميزة يركز على عنصر جوهري ما في هذه اللوحة أو تلك عن طريق الربط بين اللوحة والأفكار مما يوحي أنه يعتبر حرية فرشاة الرسم هي الشكل الأول للتخلص من كثير من القيود التي كانت سائدة في عصره وفي فنونها أيضا معتبرا أن " حرية " فرشاته هي العلة العاقلة الأولى لفنه وربما لكل فن يريد أن يبقى دافئا في أعماق قلوب الناس .. بهذه النظرة اكتشف ضرورات انسيابية أعماله بصبر عجيب منتبها لفلسفة كل لون وانعكاساتها في العين الإنسانية لتنطبع فيها على الفور فنا خاصا وخالصا بوعي الخير والمحبة كمنبع أول للأفعال الإنسانية ولواقع الإنسان الفرد نفسه . من هنا نجد اهتمامه الفني ببعض تفاصيل لوحاته :
فقد أضفى التجاعيد على وجه والدته ،
بينما أضفى الحيوية والنشاط على وجه ابنه ،
في حين أضفى الثقة والاطمئنان على وجه زوجته ولم تفلت فرشاته من إضفاء الجمال على وجه عشيقته .
عاش رامبرانت قصة حب جميلة وأليمة ، سعيدة في بدايتها حزينة في نهايتها .. تعرف على الفتاة الجميلة الفقيرة ( ساسكيا ) وأحس بسرعة أن حبه لها لم يكن مجرد شعور عاطفي عابر ، بل إنها حركت في نفسه آيات الإبداع ، وفجرت طاقات فنه كان ارتياحه إليها ومعها عميقا جدا مؤثرا في رسوماته بوصفها الضوء الذي يبقى في لوحاته . كانت تقوم بكل نشاط في الحياة من أجل أن يحقق أهدافه وغاياته بكل مشروع من مشاريع رسوماته .
فواجع بعد زواجه
تزوج "رامبرانت" من ( ساسكيا ) في 22- 5- 1634. وكانت هي فتاة جميلة تشبه النساء في لوحات الرسام الفلمنكي "بول روبنز"، واتخذ "رامبرانت" من وجه زوجته تعبيرًا عن الدفء والألفة الممتلئة بالعاطفة، وكان كلاهما يأمل في حياة سعيدة، بهذا الزواج، إلا أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن؛ فقد مات وليدها الأول ، وقد بدا له الأمر طبيعيا يمكن حدوثه لكل زوجين ، لكن تكرار الموت على ولدين آخرين من أولاده أفقده سعادته ، وكانت الضربة القاصمة لـ" رامبرانت " بالمولود الرابع؛ فقد عاش المولود هذه المرة، ولكن أمه ( ساسكيا ) هي التي ماتت في 14 يونيو عام 1642.
كانت وفاة زوجته فاجعة كبرى ألمت به بل شكلت نقطة تحول في حياته التي انقلبت حزنًا وألمًا على فراقها وقد تغيرت مضامين حياته ظنا منه ان السعادة ليست دائمة من دون فعل فني مثله الأعلى هو الانطواء للسيطرة على فواجع الحياة وأحزانها .
لم تعد الحياة بعد رحيل ساسكيا سهلة على "رامبرانت"؛ الذي جمع ثروة هائلة لإسعادها ، فما لبث أن انطوى على نفسه.. يعيش حزنه الأزلي الدفين وحيدا ، فتبددت ثروته الهائلة التي جمعها طوال حياته، وهو الذي ولد لأبوين فقيرين، وعاش مكافحًا طوال عمره، إلى أن جمع ثروة هائلة ـ بسبب شهرته التي انتشرت في كل مكان ـ إلا أن موت زوجته "ساسكيا" أثر على حياته سلبيا بمغزى عيني وسلوكي ، وكأنه لم يعد له أمل في الحياة فضاعت ثروته.
شيوع فن رامبرانت خارج هولندا
كان فن رامبرانت قد وجد وضعا مختلفا عن وضع الأدب الهولندي وعلاقته وانتشاره في خارج البلاد ، فقد كانت اختيارات الناس خارج هولندا مختلفة إزاء رامبرانت الفنان عن غيره من المبدعين الهولنديين في الشعر والمسرح والرواية فقد استطاع فنه أن ينتقل بسرعة إلى العالم الخارجي حاملا بصمات عقله وأثار روحه إلى بقاع مختلفة من العالم ، خاصة إلى الشرق . لم يقبل الأثرياء الهولنديون وحدهم في تلك الفترة على شراء اللوحات الفنية لتزيين منازلهم فقط بل أضحت اللوحات ممتلكات ثمينة يحرص على امتلاكها الجميع فيما عدا بيوت الفقراء وفي هذا الصدد يمكن القول ان لوحات رامبرانت وجدت لها سوقا رائجة وواسعة في الطلب عليها من مختلف البلدان لاقتناء أعمال رامبرانت ــ عدا اليابان ــ التي لم يجد احد تفسيرا لهذا الموقف الياباني . وتشير العديد من المصادر إلى أن رامبرانت قد تلقى الكثير من الدعوات لزيارة البلدان الأجنبية وبذلك أصبح فن رامبرانت أكثر شيوعا من غيره خارج هولندا مما هو في بلده . وقد قال الرحالة الخبير بيتر موندي عن فن الرسم وحب الناس الهولنديين له وذلك عقب زيارته لهولندا في عام 1640 : ( لا أحسب أن هناك في العالم كله فنانين يبزون فناني هولندا براعة وموهبة خاصة رامبرانت الآن ..) .
تصدير رسوم الفنانين
كان الناس الاعتياد يون في هولندا يتهافتون على تزيين بيوتهم خاصة عرف الاستقبال بأعمال نفيسة غالية الثمن فترى الجميع بمن فيهم الجزارون والخبازون وغيرهم حريصون على اقتناء بعض الصور .
وأنني ألاحظ الآن منذ أول وجودي في هولندا عام 1997 وحتى الآن ان ( حب اللوحات والابتهاج بها ) هو حب متولد لدى الهولنديين جميعا كأنه حب فردي من نوعية خاصة . فما رأيت بيتا هولنديا أو مكتبا أو دائرة أو مستشفى أو محطة قطار أو مطعم إلا ووجدتها مزدانة بعشرات اللوحات وقد أعجبت بتنسيقها إلى حد الذهول .. يبدو انه من المألوف أن لكل عائلة هولندية تفكير وجداني بضرورة أن يكون بيته مزدانا بلوحات الفنانين فمن النادر أن لا تجد هولنديا ليست لديه هواية جمع اللوحات والتبادل فيها وتغيير إطاراتها أو تجديدها بين آونة وأخرى .
كما حظي الرسامون الهولنديون جميعا في عصر رامبرانت بتقدير كبير خارج هولندا بل أصبحت لوحاتهم مادة رئيسية في تجارة التصدير وأصبحت مدينة أمستردام تحتل مكان الصدارة في مجال الفنون بعد ان كانت مدينة انترويب هي الأولى وقد جرى تصدير لوحات هولندية كثيرة إلى اندنوسيا والصين والهند وإيران حتى قبل تأسيس شركة الهند الشرقية وكان من ضمنها لوحات رامبرانت .
مراحل حياته الفنية :
يقسم الدارسون الفنيون في هولندا حياة رامبرانت إلى خمس مراحل هي :
( 1 ) المرحلة اللايدنية 1625 – 1631 وقد ظهر فيها تأثير معلمه ( لاستمان ) إذ اتسمت لوحاته بالصغر وبالتفاصيل الواسعة والصغيرة أيضا . ويمكن ملاحظة تأثير الروح التوراتية على لوحاته .
( 2 ) مرحلة أمستردام الأولى 1632-1636 استخدم الأقمشة الكبيرة والألوان الحارة في "ثيمات دراماتيكية" مستقاة من التوراة و"الميثولوجيا"؛ علاوة على إنجازه عددًا من الـ"بورتريهات".
( 3 ) مرحلة نهاية الثلاثينيات من القرن السابع عشر رسم المناظر الطبيعية، والعديد من الـ"كليشيهات" الحفرية حول الطبيعة؛ حيث ظهرت قوة عناصر الطبيعة وقسوتها، معبرًا ـ بذلك ـ عما مر به من فواجع.
( 4 ) المرحة السوداوية منذ 1640 انعكست فيها على لوحاته العائلية بشكل بارز؛ فاتسمت بالسوداوية المباشرة والقنوط؛ رغم غناها العاطفي، مستقيًا "ثيماته" من الإنجيل . وقد حلت المناظر الطبيعية الهولندية الهادئة مكان الطبيعة الجامحة. وقد تميزت لوحاته بالصغر؛ عدا أشهر لوحاته وأكبرها حجمًا: "الحرس الليلي De Nachtwacht ".
( 5 ) مرحلة اللوحات الكبيرة . وقد استخدمها عند خمسينيات القرن السابع عشر تحول إلى اللوحات الكبيرة ذات الألوان الحارة، وضربات الفرشاة الراسخة المعبرة، وذلك عكس ما كان سائدًا؛ حيث اللوحات صغيرة وكثيرة التفاصيل. اتسمت هذه المرحلة بأجمل الـ"بورتريهات" الذاتية؛ حيث يبرز حزنه وهمه في تقاطيع وجهه، وفي لعبة التناغم بين الضوء والعتمة.
أعماله الفنية
تميزت أعمال "رامبرنت" بطبيعة خاصة مؤثرة، ويبدو ذلك من خلال رسم الشخصيات، والموضوعات الدينية الكثيرة، المقتبسة من الإنجيل والتوراة، وأيضاً كان للأساطير نصيبٌ وافر من أعمال "رامبرانت"، إلى جانب صور شخصية "بورتريه" جاوز عددها ست عشرة لوحة، معروفة ومنتشرة في عدد من متاحف العالم. وحظيت باكورة أعمال "رامبرانت"، بإشادة الفنانين، والخبراء الفنيين، ونقاد الفن. وعد رسّامًا من الطراز الأول، حتى إن عمدة مدينة ليدن السيد "جوهانز أورليز كرس" قد خصص صفحة كاملة لحياة "رامبرانت"، في الطبعة الثانية من كتابه "وصف مدينة ليدن" جاء فيها: كانت موهبته عظيمة جدًّا، لدرجة أنه أصبح أحد أشهر الرسامين، وإن أعماله قد لقيت قبولاً وإعجابا من جميع سكان أمستردام .
أبرز اللوحات التي رسمها "رامبرانت" هي: "التاجر نيقولاس روتس"، و"الشاعر جان كرول"، و"امرأة شابة"، و"رجل جالس على مقعد". ورسم "رامبرانت" ثماني لوحات لوالديه، واثنتي عشرة لوحة لشقيقته "إليزابيث"، وخمس لوحات لزوجة شقيقه "دراين"، ورسم الكثير من اللوحات والتخطيطات لزوجته "ساسكيا"، ورسم نحو 40 صورة لنفسه، وبين السنتين 1626 و1627 رسم "رامبرانت" لوحاته: "حمار بالما"، "القديس بول"، و"البخيل"، وتأثرت هذه اللوحات بالفن الإيطالي. وفي عام 1632، رسم رائعته الشهيرة "درس التشريح للدكتور تولب"، ورسم لوحته "اختطاف كانميد" الموجودة حاليًّا في متحف لايدن، كما رسم ـ في عام 1632 ـ لوحة "وجه سيدة في الثانية والستين من العمر"، ولوحة "وجه رجل ذي لحية يرتدي معطفًا أحمر". وفي عام 1642 ـ بعد إكمال لوحته الشهيرة "الحراسة الليلية" ـ توفيت زوجته "ساسكيا"؛ فانفطر قلب "رامبرانت"، وبدأ يصنع محفورته "100 غالدر". وبعدما لاقت أعماله التخطيطية شعبية كبيرة، وفي عام 1652 أكمل لوحة "أرسطو طاليس يتأمل بالتمثال النصفي لهوميروس"، وتوفي "رامبرانت"، قبل أن يكمل اللوحة "سمعان"، و"الطفل يسوع في الهيكل".
لقد اشبع رامبرانت مضامين فنه من خلال الحاجات الجزئية والتفصيلية في أعماله ومنجزاته فقدم للشعب الهولندي إبداعات حملت قيمتها الفنية من جيل إلى جيل ومن قرن إلى قرن وقد ظلت خالدة في هولندا بينما زالت سلالات حاكمة بأسرها وزالت أنظمة كثيرة خلالها ، وكان فن رامبرانت مستقلا استقلالا كاملا عنها يعيش مندمجا في عقل الشعب الهولندي وقلبه وسيظل متوهجا إلى الأبد على العرش الذهبي متجها كما كان إلى عواطف الشعب وخلقه وقوته متعهدا له بالولاء والحب .



#جاسم_المطير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إبراهيم الجعفري عشيق الليدي LIJNA ..!!
- بمنتهى الصدق : وزير التعليم العالي نائم ..!!
- عن داء الفساديزم
- ما هو الجديد في جامعة البصرة
- هل انتهى عصر حزب البعث السوري ..؟
- عن واقع السفارات العراقية
- عليه اللعنة حيا او ميتا ..!!
- العراق بحاجة إلى فريد شوقي .. !!
- عن عربة الدينوقراطية
- شيء واحد تبرهن عليه أنظمة المخابرات .. أنهم قتلة ..!!
- من هو بطل مهزلة المسرحية في محكمة العصر ..!
- حول الاستفتاء على الدستور
- من كتم داءه أعياه شفاؤه
- إذا صمتَ رمضان لا تنسى النصائح اليابانية التالية ..!!
- ذهبتُ إلى الهند بحثا عن هلال المسلمين ..!
- دعاء شهر رمضان المبارك ..!
- رواية جديدة أسمها صدام حسين ..!!
- أسوأ شيء في الدول الإسلامية هو المايوه البكيني ..!!
- الرياضة في كربلاء حرام على الذكور حتى وإن تحجبوا ..!!
- ميناء أبو فلوس ورصيف كاتيوشا ..!


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم المطير - أربعة قرون يتوهج فيها رامبرانت بالحب والحزن..