أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد هادف - الأزمة الخليجية في ضوء التاريخ















المزيد.....


الأزمة الخليجية في ضوء التاريخ


سعيد هادف
(Said Hadef)


الحوار المتمدن-العدد: 5575 - 2017 / 7 / 8 - 03:57
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


استيقظت قطر فجر الرابع والعشرين مايو 2017 على وقع حملةٍ إعلاميةٍ شديدة اللهجة، قادتها بشكل نسقي وسائل إعلام إماراتية وسعودية ضد تصريحات منسوبة إلى أمير دولة قطر، اتضح مع الوقت أنها مفبركة لحاجة في نفس المتحالفين. وبأسلوب الصدمة أيضًا، وفيما يشبه إعلان حرب، أعلنت كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر صباح الخامس من يونيو قطع العلاقات مع قطر وعلى جميع المستويات.
انخرط أطراف الأزمة في سباق ضد الساعة، وقد سعى كل طرف إلى إسقاط خصمه بالضربة القاضية، وتجند الإعلاميون والمحللون يستعرضون مهاراتهم للانتصار لهذا الطرف أو ذاك، ودخلت دول عديدة على الخط؛ فكيف نقرأ هذه الأزمة في ضوء التاريخ؟ وفي ضوء المسألة الشرقية، ومخطط سايس بيكوا تحديدا؟ وما علاقة هذه الأزمة بالإرث الفكري والسياسي الذي راكمته أسئلة "النهضة العربية" في تفاعلها بالنهضة الأروبية؟
ليس هذا المقال سوى اختزال لجملة من الرؤى تبلورت في ذهني من خلال عمل بحثي كنت عكفت عليه سنة 2015 حول مفهوم الدولة في سياقاتها التاريخية وخلفياتها الدينية والفلسفية والسياسية. وهو مسعى أردت من ورائه أن أفهم العوائق التي حالت دون تطور المجتمعات العربية والمجتمعات الناطقة باللسان العربي. ومضامين المقال في المحصلة نتاج قراءة تفاعلية في عدد من المقالات والمقاربات التي واكبت الأزمة، وفي عدد من الكتب منها: تاريخ الشرق الأوسط (بيتر مانسفيلد)، مذكرات (غيرترود بيل)، المسألة الشرقية (كارل ماركس)، النهضة العربية الحديثة(عبد العزيز نوار)، الإسلاميون السعوديون (ستيفان لاكروا)؛ الإخوان السعوديون (جون س حبيب)، الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة (نازك سابايارد)، صدام الحضارات (هتنغتون)....

النهضة وإشكالية التسمية
تناول المؤرخون والمهتمون بالشأن الفكري والسياسي، موضوع "النهضة العربية"، وقد حددوا تاريخها مع بداية القرن التاسع عشر، أما حيزها الجغرافي ومسرح أحداثها فقد شغلت مصرُ الجزءَ الأكبر منه.
يبدو لي أن "هذه النهضة" التي تمت تسميتها بالنهضة العربية، كان من الموضوعي أن تسمى "النهضة العربوفونية"، أي نهضة البلدان الناطقة باللسان العربي.
فرواد النهضة الذين ظهروا في مصر: أمثال الطهطاوي وطه حسين ولطفي السيد وسلامة موسى وعلي عبد الرزاق، أو في تونس: أمثال خير الدين التونسي، فإن بلدانهم ليست عربية، بل هي بلدان لها تاريخ عريق لا يمت إلى العرب بصلة، ولها خصائصها الثقافية واللسانية، ولم يربطها بالعرب سوى الدين واللسان والمكون العربي الذي استقر بها بعد هجر أرض العرب، وبالتالي هي بلدان ناطقة باللسان العربي (Arabophones)، وكتحصيل حاصل، فإن نهضتها كانت ستثمر لو وعت نخبتها السياسية والفكرية طابعها العربوفوني؛ أما النهضة العربية فهي تلك التي نشأت في الجزيرة العربية، في نجد منتصف القرن الثامن عشر مع محمد بن عبد الوهاب وحليفه السعودي، وهو رائدها ومؤسسها.
إن "النهضة العربية" التي أسست لها وأطرتها إمارة الدرعية سنة 1744 على الخلفية الأيديولوجية التي صاغ مقولاتها محمد بن عبد الوهاب، استقوت واشتد عودها في الأرطاوية مطلع القرن العشرين مع تنظيم "إخوان من أطاع الله"، وهو الجيش الذي أنشأه عبد العزيز. لقد اجتاز آل سعود أهوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بكامل عنفوانهم، وولجوا القرن العشرين بمملكة كادت تبتلع كل أراضي الجزيرة، وقد انهزمت أمامهم كل الأيديولوجيات التي عرفها العالم العربي، كما سقط على أعتابهم أغلب زعماء هذه الأيديولوجيات بطريقة تراجيدية، وانهارت أمجادهم، بل حتى بلدانهم أصبحت على شفا هاوية من الانهيار. تلك الفكرة التي ولدت في بلدة العينية وهجرت إلى بلدة الدرعية واتسعت في الزمن وفي المكان، يعيش حملتها، اليوم، تحديات صعبة بعد أن أصبحت مصدر تهديد لوجودهم.
من الصراع على النفوذ إلى الصراع على البقاء
لا يخفى على أحد ذلك الصراع الفرجوي الذي دار بين عدد من القادة العرب على النفوذ وعلى الزعامة، وكيف انتهوا في نهاية المطاف إلى صراع من أجل البقاء. وهذا ما يعيشه اليوم أبطال الأزمة الخليجية.
حتى الربع الأخير من القرن العشرين لم يكن للإمارات الخليجية أي دور على مسرح التاريخ إلا في إطار ارتباطها بمخططات آل سعود. وفي الوقت الذي دخلت المملكة القرن الواحد والعشرين مزهوة وممتلئة بالثقة، دخلت معها بلدان التعاون الخليجي على قدم وساق، وقد راكمت بعض أسباب الهيبة والمنعة وبدأت تتحسس سيادتها وتتطلع إلى لعب أدوار تليق بمقامها، وتحركت في نفوس قادة الإمارات المتحدة وقطر شهوة التوسع، وقد رأوا أنه ليس عدلا وهم أصحاب العقول الكبيرة أن تكون لهم بلدان صغيرة، وقد حز في نفوسهم أن رأوا حكاما بلداء يتحكمون في أراض مترامية الأمصار.
لقد أفلح آل سعود في ضم أغلب أراضي الجزيرة إلى نفوذهم، وبعد أن أسسوا مملكتهم في تزامن مع سقوط الخلافة العثمانية والتحولات التي عرفها العالم يومئذ، لم يتوقفوا عن التوسع، فسعوا إلى بسط نفوذهم على البلدان الإسلامية عبر وسائل وأساليب عديدة لعل أهمها:

أولا: على مستوى الجزيرة
- استحداث هيئات ذات مظهر اتحادي (مجلس التعاون الخليجي، ثم دعوة المغرب والأردن للانضمام بعد ثورات 2011)؛
- التضييق على بلاد اليمن، ثم شن الحرب عليها؛

ثانيا: على مستوى العالم الإسلامي
- نشر الإيديولوجيا الوهابية؛
- استقطاب فاعلين من كل أنحاء العالم الإسلامي؛
- بناء شبكات موالية؛
- بناء المساجد والمرافق الثقافية؛

ثالثا: على المستوى الأممي
- اختراق الجاليات الإسلامية، وتلغيمها بالفكر المنغلق المعادي للغرب.

إن المملكة السعودية سعت إلى احتكار الإسلام وبسطت نفوذها الأيديولوجي والمالي على أغلب المجتمعات السنية، وظلت كقطب مضاد للقطب الشيعي المتمثل في إيران الخمينية التي جعلت، هي أيضا، من الإسلام خلفيتها الأيديولوجية، دون أن ننسى تركيا الأردوغانية كقطب سني ما زال يحن إلى ماضيه العثماني.
إن هذه الأقطاب الثلاثة ذات النزعة التوسعية والمتنافسة سرا وعلنا على مرجعية أيديولوجية واحدة، ظلت علاقتها بالغرب ملتبسة، كما ظلت تعاني من قصور بنيوي حرمها من الاندماج في التاريخ الحديث. كما أن هذه الأقطاب الثلاثة، بالإضافة إلى إسرائيل "القطب التوراتي" كان لها تأثير سلبي على الفضاء الجيوسياسي الشرق أوسطي ولاسيما شمال أفريقيا الذي ظل بدوره، ليس فقط، متخلفا عن الركب الحضاري، بل سدا منيعا ضد أي اندماج حضاري للقارة الأفريقية برمتها.

الغرب الديمقراطي
من الضرورة أيضا أن نميز بين الغرب الديمقراطي والغرب الإمبريالي، ففي الوقت الذي تنامت الحركات والتيارات الديمقراطية في الغرب، فإن القوى الإمبريالية أدركت أن نفوذها بات مهددا، فسارعت إلى إعادة بناء نسقها وشبكاتها. وفي الوقت الذي كان ممثلو التنوير الغربي منشغلين بتوعية مجتمعاتهم، قفز ممثلو الإمبرياليا إلى الشرق، وشنوا حربا مقدسة، سرية واستباقية، مضادة للتنوير، وكانت أنشطتهم الكنسية التي رعاها زويمر ذريعة استند عليها أعداء التجديد، ولاسيما آل سعود والموالون لهم.
إن الغرب الديمقراطي، يمثله مفكرون أفذاذ، وإعلام نزيه وجمعيات مدنية، حقوقية وإنسانية ومراكز أبحاث، وهؤلاء يرفعون خطابا إنسانيا ويقدمون النصح لحكوماتهم ويدعون شعوبهم إلى نبذ العنف واحترام الآخر، والعمل على نشر قيم السلام.
إن الغرب منذ أن تبنى القيم الديمقراطية التي مازالت تلاقي مقاومة من داخل مجتمعاته، نجح في ترسيخ أنساق سياسية ديمقراطية صلبة مازالت تتجدد باستمرار؛ وهو إذ يسعى إلى نشر هذه القيم ، يجد مقاومة شديدة من الثقافات المحصنة ضد التغيير ومن الدول ذات الأنساق الجاهلة للديمقراطيا: أروبا الشرقية، أمريكا الجنوبية، أفريقيا، وأغلب بلدان آسيا.
أروبا الشرقية والشرق الأوسط الكبير يشكلان الحزام الجيوسياسي الذي يقف سدا ضد انتشار هذه القيم. إن أروبا الشرقية تتغذى مقاومتها للديمقراطيا من روسيا ذات العمق الأرثذوكسي بينما بلدان الشرق الأوسط تتغذى مقاومتها للديمقراطيا من السعودية الوهابية ومن إيران الخمينية.

الغرب الإمبريالي
الإمبرياليا، هي القوى المعادية للديموقراطيا، ولا هم لها سوى افتراس الشعوب. هذه القوى الإمبريالية التي ظلت تجدد أساليب عملها، استغلت الديمقراطيا لتعزز من نفوذها عبر ابتكار عدد من "اللوبيات" ذات التأثير على سياسات الحكومات من خلال مراكز أبحاثها وإعلامها وخبرائها، وارتباطها بالقوى المحافظة واليمين المتطرف، وترفع خطابا عنصريا محرضا على الكراهية والعنف، يتناغم مع خطاب السلفيين والقومجيين والمتياسرين.
أما النسق العربي والعربوفوني المضاد للتاريخ، فقد ظل يشن حروبه ضد الغرب الديمقراطي، لكنه في ذات الوقت كان خير خادم للقوى الإمبريالية التي تجبرت، بفضل جهله وفساده، شركاتها ذات القوميات المتعددة.

الصهيونيا
يتم اختزال الصهيونيا في كيان واحد هو "إسرائيل"، وهو الجانب المرئي من التاريخ، لكن قراءة عميقة للتاريخ تجعلنا نكتشف أن الصهيونيا، ليست مجرد منظمة، ولا مجرد كيان سياسي، بل هي نسق، ليست إسرائيل سوى جزء من كينونته.
لا أريد أن أخوض في الخلفيات التي كانت وراء الحركة التي أعلنت أن هدفها هو خدمة اليهود وإنقاذهم من الشتات ومن الاضطهاد، فقد يكون المنخرطون في هذا المشروع آنذاك صادقين، وقد يكون مشروعهم تعرض إلى الاختراق من الإمبرياليا التي تسللت إليه مثلما تسللت إلى باقي المشاريع الشرق أوسطية (قومية كانت أو سلفية أو ثورية أو اشتراكية...). وهذا يعني أن المشروع الصهيوني ككل المشاريع الأيديولوجية المضادة للتاريخ ظل يحمل بذور إفلاسه في صلبه.

الخليج ورحلة البحث عن الزمن الغربي
منذ الدولة السعودية الأولى التي أسقطتها مصر في عهد محمد علي، دخل آل سعود برؤى متباينة في صراع أهلي حول السلطة، كما عرف الحقل الديني تحولات أفرزت تيارين دخلا في صراع حول الفتوى ولاسيما تفسير مبدأ "الولاء والبراء"، أحدهما إقصائي والثاني احتوائي. وقد استثمر آل سعود كلا التيارين حسب ما تقتضيه المرحلة. غير أن التحولات المتسارعة حملت المملكة الموصوفة بالرجعية على تحديث شرعيتها على غرار ما عرفته بلدان الجوار مثل مصر والعراق وسوريا؛ فاستحدثت فئة من "شيوخ الحداثة" إزاء "شيوخ التراث". وقد تلازم ميلاد هذه الفئة مع بروز مجال ثان للإنتاج الفكري إلى جانب الإنتاج الديني. كما أن الحقل الديني عرف تنوعا بعد هجرة الإخوان من مصر وسوريا إلى المملكة وانخراطهم في الحياة العلمية والتعليمية ، وبالتالي شهدت حقبة السبعينيات تأسيس مركزين في القطاع الجامعي، أحدهما وهابي احتكر تدريس العقيدة، والثاني، إخواني بدأ نشاطه في مجال الثقافة الإسلامية ثم شرع يزاحم الوهابيين في تدريس العقيدة، وقد تطور الأمر إلى صراع بين الفريقين سرعان ما اتسع إلى فرق شتى ظلت فتاويها ومواقفها متضاربة حول عدد من القضايا، فضلا عن صراع رموز هذه الفرق مع المثقفين المتشبعين بقيم الحداثة.
لقد لعب آل سعود دورا محوريا في الأحداث المؤسسة للحرب العالمية الأولى وما ترتب عنها من تغيرات جيوسياسية أممية. وظلت المملكة، حليفة بريطانيا ثم أمريكا، تلعب هذا الدور المحوري حتى اليوم (الحرب السوفياتية الأفغانية، الحرب العراقية الإيرانية، الحرب ضد العراق، الحرب ضد الإرهاب....).
لا يمكن فهم الأزمة في جانبها المرئي إلا في سياقها اللامرئي، وفي عمق مجالها التاريخي، وبالتالي فإن الاتهامات والاتهامات المضادة، وتغير المحاور والتحالفات، وتناقض المواقف في الإدارة الأمريكية ليس في المحصلة سوى مؤثرات خاصة بالمعنى السينمائي، غير أن المتلقي، هنا، هو جزء من كينونة المشهد الدرامي، سواء كان هذا المتلقي عاديا أو متخصصا، بينما المنتج والمخرج والسيناريست والأبطال الأساسيون وحدهم يعرفون نهاية الفيلم.
إن الدور الأمريكي في إدارته للأزمة الخليجية وتقاطعها مع الأوضاع في سوريا والعراق وتركيا والملف الإيراني، يشبه إلى حد ما الدور البريطاني الذي أدارت به الحرب العثمانية الروسية؛ ما يعني أن الإدارة الأمريكية لن تسمح لأي طرف من هذه الأطراف بفرض إرادته على الآخرين، كما أن الغرب لن يبقى مكتوف الأيدي أمام دول الشرق الأوسط الكبير التي أثبتت إفلاسها.
في نهاية عهدة أوباما تلقت المملكة رسائل أدانتها تصريحا وتلميحا، فقد اتهمت عدة تقارير المملكة بضلوعها في نشر قيم الإرهاب، غير أن الحدث البارز الذي أزعج المملكة، كما أزعج الإخوان المسلمين هو مؤتمر غروزني حول الإسلام الذي أقصى الوهابيين والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين من الحضور، وهي رسالة صريحة أنهم لم يعودوا يمثلون "أهل السنة والجماعة"، وأنهم مطالبون بالتوبة والعودة إلى الإسلام الخلاق المناهض للإرهاب.
إن الراهن الخليجي هو تجل لتلك "النهضة" التي نشأت وامتدت في سياق صراعاتها الأيديولوجية/ الهوياتية المتعددة: إزاء الفرس، الترك والغرب؛ والتي خرجت من جوفها حركات إسلامية في شتى البلدان الإسلامية السنية كان لها آثار عميقة في الأنساق السياسية وأنماط العيش في المجتمعات الإسلامية، كما كانت لها تداعيات وخيمة على المجتمعات الغربية ومكوناتها الإسلامية. ويبدو أن هذه النهضة التي أصبحت لها مملكة تحميها منذ بداية القرن العشرين، ظلت تحمل بذور تجددها بنفس القدر الذي تحمل بذور فنائها، فهل استنفدت كل طاقاتها المتاحة؟ أم ما زالت تتوفر على الانبعاث؟
لقد سعت المملكة دائما إلى تجديد آليات اشتغالها السياسي، وفي الوقت الذي اشتعلت فيه الأزمة مع قطر، كانت قناة العربية تبث سلسلة وثائقية تحت عنوان "على خطى العرب" أعدها وقدمها الباحث عيد اليحيى، وقد تناولت تلك السلسلة تاريخ الجزيرة ما قبل الإسلام بطريقة علمية خالية من أي مقاربة قدحية قد تمس بالتاريخ العربي الذي عادة ما يوصف بـ"الجاهلية". وقد كان الهدف من تلك السلسلة إعادة الاعتبار لتلك الحقب التاريخية العربية التي تم طمسها وتشويهها باسم الإسلام، كما أن هذه القناة من خلال عدد من البرامج عملت على الانتصار للأقليات الدينية ورموز الفكر النهضوي الذين ظلوا يوصفون بأقدح الأوصاف في الأيديولوجيا السعودية. كما أن المملكة أنشأت مركزا لمحاربة الإرهاب والفكر المتطرف. في تلك الأثناء أيضا طفت إلى السطح فتاوى تشجع على الفن. وقد تحدثت الكثير من المصادر عن مشروع محمد ابن سلمان الرامي إلى مراجعة النسق التعليمي والتروبوي ووضعية المرأة، وقد عمل على تقليص نفوذ الشرطة الدينية (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وإن دل هذا فعلى إرادة المملكة في تنزيل مشروع الإصلاحات على غرار تلك الإصلاحات التي عرفتها الإمبراطوريا العثمانية منتصف القرن التاسع عشر.
على صعيد آخر، وبعد الطفرة التي حققتها الإمارات وقطر، بدأت السعودية تخسر بريق نفوذها، ووجدت نفسها محل تنافس مع هذين القطبين المحليين، ولاسيما إمارة قطر التي سحبت من السعودية أبرز الحركات الإسلامية ورموزها المؤثرة، فضلا عن انفتاحها على نخبة من المفكرين والأكاديميين والإعلاميين متعددي الميول الأيديولوجية والمشارب الفكرية.
وفيما كانت قطر وقناة الجزيرة تؤديان أكثر أدوارهما حيوية ومحورية في المنطقة العربية خلال هذه المرحلة، كانت السياسات العربية تعيش مرحلة انكماش ودفاع عن النفس، وبدل أن تنخرط تلك السياسات في إصلاحات جدية اكتفت بالانحناء لعواصف الأحداث في انتظار هدوئها. لكن الأمور لم تلبث أن تغيّرت بسرعة. وجراء الإفلاس السياسي والانفلات الأمني والسخط الشعبي، كان الممسكون بزمام السلطة في البلدان العربية والعربوفونية، في حالة ذعر يركضون في اتجاه الهاوية. وكان آل سعود وآل نهيان وآل ثاني يتربصون ببعضهم، وكل من موقعه يبحث له عن غنيمة في أرض الثورات الواسعة.
وما إن أعطى رونالد ترمب إشارة الانطلاق حتى انطلق المتنافسون الثلاثة في مضمار السباق طمعا في الفوز بشهادة البراءة من تهمة الإرهاب، غير أن مضمار السباق، كما يبدو، لا نهاية له؛ أو بتعبير آخر، نهايته على شكل سراب.

قراءة استشرافية
من الضرورة المنهجية والتاريخية أن نقرأ الأزمة في سياقها الإقليمي والعالمي: حالة الكاوس التي تعيشها بلدان الثورات، محادثات أستانا تحت رعاية الأطراف ذات العداء التاريخي (روسيا، إيران وتركيا)، انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأروبي، الحراك العسكري على تخوم الجنوب المغاربي تحت الإشراف الفرنسي، الاحتجاجات التي تعرفها بلدان أمريكا الجنوبية، تهديدات كوريا الشمالية، قمم حول البيئة وأخرى حول الهجرة...؛ عقول تشتغل من أجل السلام وحروب تحركها المصالح والأهواء. المشهد باختصار: صراع يؤججه السفهاء، ويستثمره الأذكياء، ويعمل على إطفائه الحكماء.
ثم أن الأزمة الخليجية ليست سوى سيرورة للأزمات والكوارث التي تعيشها المنطقة (اليمن، العراق، سوريا وفلسطين)، فضلا عن الأزمة المُقَنعة التي يعيشها لبنان والأردن.
إن القيمين على الشأن السياسي في المملكة ومعهم القيمون على الشأن الديني يدركون أن نهر التاريخ الجارف لن يرحمهم، ولأنهم يحفظون على ظهر قلب المقولة النبوية الشهيرة "البلاء عام والرحمة خاصة" فلا شك أنهم سيعملون معا على أن يكونوا ضمن المخصوصين بالرحمة.
وبناء على ما تقدم، لن يبقى وضع الجزيرة على ما هو عليه اليوم، وستعبر، عاجلا أم آجلا، طوعا أو كرها إلى الوضع التالي:

أولا: أن يجلس أطراف الأزمة على طاولة الحوار والعمل معا على ابتكار وثيقة تنص على مكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه الأيديولوجية؛
ثانيا: أن تعمل هذه الأطراف على تحرير الأنساق السياسية لبلدانها من أيديولوجياتها المنغلقة (الوهابية، الإخوانية، الشيعية، البعثية والتوراتية)؛ إن التحرر من هذه الأيديولوجيات، هو في المنطلق وبالأساس بداية انهيار النسق الصهيوني في معناه العميق وليس في معناه الضيق الذي يتم اختزاله، عادة، في الكيان الإسرائيلي؛
ثالثا: أن يتسع مجلس التعاون الخليجي إلى إطار اتحادي يضم اليمن والأردن ولبنان وإسرائيل وفلسطين والعراق وسوريا بخارطتهما الجديدة، وأن يتأسس هذا الاتحاد انطلاقا من إعادة الاعتبار للشأن الجهوي وفي إطار احترام الحقوق والحريات في بعدها الكوني وإطارها الأممي.

إن المرور إلى هذا الوضع أمر محتوم، ويبقى السؤال مطروحا حول الكيفية والمدة الزمنية. فهل سيتم الانتقال إلى ذلك الوضع بأقل الخسائر؟ أم أنه سيكون مصحوبا بمضاعفات مدمرة؟
ليس هذا هو الوضع الوحيد، بل هناك تركيا وعلاقتها بالمسألة الكردية وبلدان آسيا الوسطى، وأيضا إيران وأفغانستان وباكستان.
أما شمال أفريقيا، فهناك مصر والسودان من جهة، ومن جهة أخرى منطقة المغرب الكبير. فهل ستعمل نخب هذه البلدان على التغيير الخلاق؟ أم أنها ستتمادى في سياسة الهروب إلى الأمام حتى تأتيها الدروس من الخليج في طبعته الجديدة؟



#سعيد_هادف (هاشتاغ)       Said_Hadef#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عاصفة الحزم: السياق والمقاصد
- الجزائر: الخطاب الأخير
- ليبيا: صراع الأجندات
- غيتوهات تندوف: الذهول عن المقاصد
- الجهوية الموسعة أساس الاتحاد المغاربي
- هل سيشهد المغرب نمطا جديدا من الاحتجاج؟
- الإسلام في غمار الصراعات الأيديولوجية: محاولة للفهم
- شذرات على هامش الثورة
- الهجرة السرية: من أجل بدائل لا تتعارض مع المبادئ الإنسانية: ...
- مهاجر يدعى -أبو-: من مملكة بنوي بنجيريا إلى مخيم بنوي بوجدة
- الهجرة اليوم: هل هي ظاهرة أم عرض؟
- حول استحقاقات 2012: السلطة الفعلية في الجزائر تعيد سيناريو 1 ...
- الحراك السياسي ومعالم النظام المغاربي الجديد
- الإرهاب: خبراء يزيفون الحقائق ويضللون الرأي العام الغربي
- المغرب ومحيطه: الشروط المؤسسة لمنطقة آمنة*
- النظام الجزائري: أسطرة التاريخ وعسكرة الجغرافيا
- الأساطير المؤسسة للنظام الجزائري، هل تصمد أمام الأحداث؟
- الراهن الليبي، النظام الجزائري وأفريكوم: أي مصير مغاربي؟
- النظام الجزائري وموقفه من الثورة الليبية
- المغرب ومحيطه العربي: الحتميات التارخية وحرب الاختيارات


المزيد.....




- بلينكن يزور السعودية ومصر.. وهذه بعض تفاصيل الصفقة التي سينا ...
- في جولة جديدة إلى الشرق الأوسط.. بلينكن يزور السعودية ومصر ل ...
- رغد صدام حسين تستذكر بلسان والدها جريمة -بوش الصغير- (فيديو) ...
- فرنسا وسر الطلقة الأولى ضد القذافي!
- السعودية.. حافلة تقل طالبات من جامعة أم القرى تتعرض لحادث مر ...
- -البديل من أجل ألمانيا- يطالب برلين بالاعتراف بإعادة انتخاب ...
- دولة عربية تتربع على عرش قائمة -الدول ذات التاريخ الأغنى-
- احتجاج -التظاهر بالموت- في إسبانيا تنديداً بوحشية الحرب على ...
- إنقاذ سلحفاة مائية ابتعدت عن البحر في السعودية (فيديو)
- القيادة الأمريكية الوسطى تعلن تدمير 7 صواريخ و3 طائرات مسيرة ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد هادف - الأزمة الخليجية في ضوء التاريخ