تتكشف الاستراتيجية الأمريكية الهادفة للهيمنة المطلقة على العالم بأجلى مظاهرها هذه الأيام ، وتتميز هذه الاستراتيجية بتقديس السيطرة التكنلوجية التي تتمتع بها كوسيلة فعّالة لتحقيق أهدافها .
وتأتي التحركات الأمريكية في الإعداد لحرب خليج ثالثة " ضد العراق " كمرحلة أولى ضمن هذا السياق ، وكلحظة تجسيدٍ لذلك الانحراف الأمريكي الهادف لتحقيق السيطرة الكلية على مصير العالم ،ومصير البشرية ،متذرعة بضرورة العمل ، وبأقصى سرعة ضد المجمع الصناعي العسكري العراقي الذي سعت لتضخيمه، وحذرت من برامجه المتقدمة في مجال صناعة أسلحة الدمار الشامل ، النووي والكيمياوي والبيولوجي ، وسعت لإقناع حلفائها الغربيين بأن العمل العسكري المباشر هو السبيل الوحيد للتخلص من هذا الخطر الماثل ، علماً أن الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين هم من ساعدوا النظام العراقي في هذا المجال ، ومدوه بكل الخبرات والوسائل أبان حرب الخليج الأولى التي خاضها النظام العراقي ضد الجارة إيران نيابة عن الولايات المتحدة والتي امتدت لثمانية أعوام من دون أي مبرر.
ويقدم الكاتب الفرنسي المعروف [ آلن جوكس ] في كتابه [ أمريكا المرتزقة ] تحليلاً تفصيلياً لميكانيزمات هذا التحول الأمريكي نحو تبني نظرية الحرب الهجومية كوسيلة للدفاع عن المصالح الأمريكية ، اعتماداً على توثيق دقيق للشهادات التي يدلي بها أهل صناع دوائر القرار والتوجيه أمام اللجان المختلفة للكونغرس الأمريكي ، إضافة إلى تلك الوثائق والدراسات التي يعدها كبار الخبراء ، والتي تلعب دوراً مهماً في صوغ المواقف السياسية لجزء هام من النخبة الأمريكية .
إن أحد أهم مفاصل هذا التحليل المعمق لميكانيزمات صنع القرار السياسي والاستراتيجي للولايات المتحدة يتمثل في توضيح العلاقة المتشابكة ما بين " السلطة التشريعية " متمثلة بالكونغرس و " السلطة التنفيذية " متمثلة بمؤسسات الرئاسة، ووزارة الخارجية ، والبنتاغون ، حيث أن الانفصال بينهما يجسد أحد أهم مبادئ الدستور الأمريكي ، وهكذا فإن للكونغرس سلطة فعلية ، ألا وهي السلطة المالية ، حيث أن سحب الثقة عن ميزانية ما مقدمة من طرف إحدى المؤسسات التنفيذية ، إنما هو سلاح فعال لمواجهة سياسات لا يتفق الكونغرس على خطوطها الرئيسية .
لكنَّ هذه السلطة لدى الكونغرس ليست سوى سلطة منقوصة في حالات الحرب ، وبخصوص قضايا الأمن القومي التي ينظر إليها الدستور الأمريكي على أنها حكر ٌعلى السلطة التنفيذية بامتياز .
ولغرض إقناع الرئيس الأمريكي بوش للكونغرس للموافقة على مشروع الحرب المزمع تنفيذها إزاء العراق ، كخطوة أولى في المخططات الأمريكية للهيمنة على العالم كان سلاح المناورة والتحايل وتضخيم الأخطار إزاء الولايات المتحدة والشعب الأمريكي ، سلاحاً فعالاً بيد الإدارة الأمريكية لخلق قبول عام لفكرة الحرب الهجومية على العراق .
أن تشكيل أي رأي عام مؤيد للحرب من شأنه ممارسة أشكال من الترهيب والتخويف للمجتمع الأمريكي من مخاطر الإرهاب الدولي ، مستغلاً أحداث الحادي عشر من أيلول الإجرامية الرهيبة ، وكذلك للضغط على السلطة التشريعية لإقناعها بضرورة الحرب المطلوبة ، أو لإجبارها مكرهة على الالتحاق بهذا الركب .
و لا شك أن الجيل الأمريكي المتلفز قد أصبح سهل الانقياد لمناورات التضليل بعد أحداث أيلول التي تحوم الشكوك حول مدبريها الحقيقيين ، والأهداف المتوخاة منها والمتمثلة بما تدعي الإدارة الأمريكية بمكافحة الإرهاب من أحل تبرير مشاريعها الحربية الهادفة للهيمنة على العالم .
وفي ظل هذا الواقع يجد المتتبعون للسياسة الأمريكية أن الديمقراطية الأمريكية قد فقدت الكثير من مصداقيتها المتمثل بالتلاعب بالرأي العام الأمريكي بشكل خاص والرأي العام العالمي بشكل عام ، والذي يطلب منه تبني فكرة اللجوء إلى الحرب الهجومية كضرورة لا مفرَّ منها ، وهذا التلاعب قد امتد على فترة زمنية طويلة وكان شعارها الاقتصادي والعسكري كسلاح وحيد وفعّال لإجبار النظام العراقي على الانسحاب من الكويت عام 1991 ، وعلى تدمير أسلحته ذات الدمار الشامل في هذه الأيام ، وفي ظل هذا الشعار المخادع تجري الاستعدادات للحرب الهجومية على قدم وساق ، وهذه الاستعدادات لم تكن سراً من الأسرار ، فلا مجال في الولايات المتحدة لكتمان الأسرار طويلاً ، وهكذا تبدو الحرب ضد العراق مؤكدة بنظر أهل الاختصاص من ذوي العلاقة بالدوائر الحاكمة حيث تعمل المؤسسة العسكرية جاهدة على تجهيز خطة متكاملة للحرب لكي تكون جاهزة في لحظة قرار سياسي من قبل الرئيس بوش .
إن التفكير الأمريكي الذي يقدس الإمكانات والوسائل التكنولوجية لدرجة سيادة نوع من دكتاتورية الأدوات والوسائل تتقدم لتملي على السياسة مبادئ عملها وأهدافها ، قد غدا العامل المحرك لسياستها الهادفة للهيمنة على العالم ، وهذا الجانب المأساوي من الفكر الإستراتيجي الأمريكي الذي ينظر لسيادة التكنولوجيا على السياسة ، وهذا الانسحاب للمجتمع المدني ولتعبيراته البرلمانية والجماهيرية أمام تقدم طبقة أو شريحة من التنكوقراط المرتبطة بجملة مصالح المجتمع الصناعي العسكري الأمريكي هو ما يدفع أوربا خصوصاً والعالم عموماً إطلاق صيحة تحذيرٍ من الأهداف الأمريكية ، ذلك أن الانصياع والخضوع للسياسات الأمريكية إنما يحمل خطراً جسيما على مستقبل البشرية جمعاء .
إن الولايات المتحدة تعمل هذه الأيام بنشاط مكثف من أجل الحشد الميداني الذي يفوق بالفعل حاجات الانخراط في ميادين المعركة الحقيقية ، وذلك لتحقيق هدف استراتيجي يتجاوز البعد العسكري للمواجهة مع العراق في محاولة لردع النظام العراقي دون أن يضطر الطرف الأمريكي للتورط في معركة فعلية ذات أبعاد كارثية إذا ما أمكن ذلك ، ومهددة النظام بمواجهة خطر التدمير الساحق الذي يتجسد عياناً بتلك الحشود الهائلة في الميدان ، وهي مصرة على شن الحرب لإسقاط النظام العراقي إذا ما أصرَّ على تجاهل تلك الحشود والتهديدات كما أصر َّ من قبل على تجاهل الدعوات له للخروج من الكويت ، رغم كل النصائح المقدمة له من خطورة الحرب التي كانت الولايات المتحدة تهيئ لها مستقدمة قوات هائلة ومسلحة بأحدث ما أنتجته المصانع الحربية الأمريكية ، ويبدو أن صدام حسين لم يتعلم الدرس ، ويصر على مواقفه الخاطئة حتى لو أدت إلى تدمير العراق ، وقتل مئات الآلاف من أبنائه ، وتشريد الملايين لتلتحق بالملايين الأربعة المشردة في شتى بقاع الأرض .
وطبيعي لن يذرف أحد الدمع إذا ما تم إزالة هذا النظام الفاشي الجاثم على صدور أبناء شعبنا منذً أربعة وثلاثون عاماً ، أذاق خلالها شعبنا من الويلات والمآسي والمصائب ما لا يوصف جراء فاشيته ووحشيته وحروبه العدوانية ضد إيران والكويت ، وضد أبناء شعبه ، وإن الشعب العراقي بمختلف أطيافه يتطلع إلى يوم الخلاص من هذا النظام الذي فاق بإجرامه أعتى الأنظمة الدكتاتورية في العالم ، لكن شعبنا ينتابه القلق الشديد مما تخبئه الولايات المتحدة له ولا سيما وأن ما بدأ يتكشف من المخططات الأمريكية من احتلال وتشكيل حكومة عسكرية يقودها جنرال أمريكي ، واحتلال منابع النفط واستغلالها هذا بالإضافة إلى ما ستستخدمه الولايات المتحدة من أسلحة مهلكة ربما تكون أشد وطأة من أسلحة اليورانيوم المنضب والتي سببت لشعبنا من الأمراض الخطيرة ما لا يوصف .
والشعب العراقي له هواجس كثيرة وعدم الاطمئنان والثقة بالسياسة الأمريكية ولا سيما وأنها قد خذلته في انتفاضة آذار المجيدة عام 1991 ، ودعمت النظام العراقي في قمعها ، وابتلع الرئيس جور بوش الأب دعوته الشعب العراقي للإنتفاض ضد حكومة الدكتاتور صدام حسين ، كما سبق وأن خذلت الولايات المتحدة الحركة الكردية بزعامة السيد مصطفى البارزاني عام 1975 بعد أن وقع صدام حسين وشاه إيران اتفاقية الجزائر ، والأمثلة كثيرة على عدم صدقية وجدية السياسة الأمريكية التي لا تعرف غير مصالحها الذاتية .
إن أخشى ما يخشاه شعبنا أن يبدل نظاماً دكتاتورياً فاشياً باحتلال أمريكي قد يطول لسنوات عديدة ، فلم يعد الشعب قادراً على تحمل المزيد من العبودية والمظالم ، وهو لا ينشد سوى العيش بسلام وحرية وأمان ، وأن يحيا في ظل نظام ديمقراطي تعددي تسوده قيم العدالة والمحبة والوئام بعيداً عن الحروب ومآسيها وويلاتها .