منذُ أن لقي رئيس الجمهورية عبد السلام عارف حتفه في حادث سقوط طائرة مروحية مدبر في الثالث عشر من نيسان عام 1966، حدث صراع على السلطة بين مجموعة الضباط الداعمين لسلطة عارف، وعلى رأسهم [ العقيد سعيد صليبي ]والمجموعة المدنية بزعامة رئيس الوزراء [عبد الرحمن البزاز ]والتي ضمت كل العناصر الرجعية المرتبطة مصالحها بمصالح الإمبريالية ، والتي عملت جاهدة للهيمنة على مقدرات العراق من جديد .
لكن ذلك الصراع تم حسمه على يد العسكريين ، حيث تم فرض [ عبد الرحمن عارف ] شقيق عبد السلام عارف رئيساً جديداً للجمهورية.
اتسم حكم عبد الرحمن عارف بالضعف ، فقد كان يفتقر إلى الدهاء ، والطاقة ، ولا يتمتع بسلطة قوية لاتخاذ القرارات ، ويفتقد للحدس السياسي ، والمعرفة بالشؤون العامة ، وعدم القدرة على إدارة دفة الدولة ، كما كان يفتقر إلى روح المبادرة والمناورة حتى شعر من كان حوله أنه لم يخلق ليكون رئيساً لدولة ، ولذلك فقد كان عبد الرحمن عارف العوبة بيد عدد من الضباط المتخلفين والأنانيين الذين لا يهمهم سوى مصالحهم الشخصية ، معتمدين على الولاءات العشائرية ، ولذلك لم يسد في العراق استقرار سياسي بسبب تصارع الأجنحة المدنية منها والعسكرية .
وخلال سنوات حكمه أخذ النشاط اليساري يتنامى في العراق بقيادة الحزب الشيوعي ، والجناح المنشق عنه والذي كان يدعى ب [ القيادة المركزية ] والذي كان يدعو إلى الكفاح المسلح من أجل استلام السلطة ، مما أثار مخاوف الإمبرياليين البريطانيين والأمريكيين من أن ينجح الشيوعيون في قلب حكومة عبد الرحمن عارف والوثوب على السلطة .
كما أن محاولات القوى الناصرية تحقيق الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة كانت تسبب للإمبرياليين المزيد من القلق ،حيث تشكل الوحدة قلقاً شديداً على الوجود الإمبريالي في المنطقة وعلى إسرائيل ، القاعدة المتقدمة للإمبرياليين، وسيفهم المسلط على رقاب العرب .
وجاءت قرارات حكومة طاهر يحيى الاقتصادية لتثير القلق الشديد لبريطانيا والولايات المتحدة على مصالحهما النفطية.وكانت أهم تلك القرارات هي :
1- قرار حكومة طاهر يحيى ، في 6 آب 967 ، باستعادة حقل الرميلة الشمالي من شركة نفط العراق ، وإلحاقه بشركة النفط الوطنية ، ومعروف أن هذا الحقل غني جداً بالنفط ، مما أثار حنق شركات النفط الاحتكارية التي اعتبرته تحدياً جدياً لمصالحها الإمبريالية .
3 - عقد اتفاقية نفطية مع الاتحاد السوفيتي ، بتاريخ 24 كانون الأول 967 ، تعهد الاتحاد السوفيتي بموجبها بتقديم كل المساعدات التقنية وتجهيزات الحفر لحقل الرميلة الشمالي ، واستخراج النفط وتسويقه لحساب شركة النفط الوطنية ، وقد اعتبرت الإمبريالية هذا الأمر تغلغلاً سوفيتياً في هذه المنطقة الهامة التي تحتوي على نصف الخزين من الاحتياطات النفطية في العالم، واتخذت قرارها بالتصدي لهذا التغلغل المزعوم .
4- إقدام حكومة عارف على عقد اتفاقية نفطية مع شركة [ إيراب ] الفرنسية للتنقيب والحفر واستخراج النفط في منطقة تزيد مساحتها على [ 11000]كم مربع تقع في وسط وجنوب العراق ،وذلك بمعزل عن الاحتكارات النفطية البريطانية والأمريكية ، حيث اعتبر ذلك تجاوزاً على مصالحهما النفطية في المنطقة .
5 - رفض حكومة عارف منح شركة [ بان اميركان ] الأمريكية امتيازاً لاستخراج الكبريت في العراق ،حيث اكتشفت كميات كبيرة منه على نطاق تجاري مما أثار نقمة الحكومة الأمريكية .
كل هذه العوامل جعلت الإمبريالية تقرر قلب النظام العارفي الهش والإتيان بحكومة جربتها يوم دبرت انقلاب 8 شباط 963 ،تلك التي أعلنت الحرب الشعواء على الشيوعيين ،وكل الوطنيين ، واغتالت ثورة الرابع عشر من تموز ،وقائدها عبد الكريم قاسم ،وصفت كل منجزات الثورة التي دفع الشعب العراقي من أجلها دماء غزيرة .
جرت عملية الإعداد للانقلاب من قبل الدوائر الإمبريالية في كل من بريطانيا والولايات المتحدة حيث سعت تلك الدوائر لتعاون العناصر الموالية لكلا الجانبين . فهناك البعثيون على الجانب الأمريكي ، وعبد الرزاق النايف وإبراهيم عبد الرحمن الداؤد وزمرتهما على الجانب البريطاني .
كان النايف يشغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية ، فيما كان الداؤد يشغل منصب آمر الحرس الجمهوري .
سارع الإمبرياليون ، عن طريق عميليهما الدكتور [ ناصر الحاني ] ، سفير العراق في بيروت ، وبشير الطالب ، الملحق العسكري في السفارة المذكورة ، والذي سبق أن شغل قيادة الحرس الجمهوري في عهد عبد السلام عارف ،حيث تمت الاتصالات بالانقلابيين وتجنيدهم من خلال السعودية ،وقد قام النايف والداؤد بالاتصال بسعدون غيدان ، آمر كتيبة الدبابات المكلفة بحماية القصر الجمهوري ،والملحقة بالحرس الجمهوري ،واستطاعا جره إلى جانبهما .
وبعد أن تم للإمبرياليين تأمين اشتراك القادة الثلاثة في الانقلاب طلبوا من النايف الاتصال بالبعثيين ودعوتهم للمشاركة في الانقلاب .
وجد البعثيون فرصتهم الذهبية للعودة إلى الحكم من جديد ، وأعلنوا على الفور استعدادهم للمشاركة في الانقلاب ، فقد ورد ذلك على لسان عبد الرحمن عارف ، في حديث له في اسطنبول ، في 18 شباط 1970 ،مع السيد عبد الرزاق الحسني حيث قال :
{ إن النايف لم يكن إلا أداة حركها إغراء المال ،وإن شركات النفط العاملة في العراق ، والقوى التي تقف وراءها كانت قد سعت منذُ منحت حكومته عقداً لشركة [يراب ] الفرنسية ، وعقد اتفاقية التفاهم والمساعدة الفنية مع الاتحاد السوفيتي لاستثمار حقل الرميلة الشمالي الذي تم سحبه من شركة نفط العراق ، وإلحاقه بشركة النفط الوطنية ، وكذلك حجب الحكومة امتياز الكبريت عن شركة [ بان أميركان ] الأمريكية ، سعت إلى البحث عن عملاء يعملون على تدمير حكمه ، ووجدوا في النهاية أن عبد الرزاق النايف ، هو الرجل الذي يحتاجون إليه ، واشتروه من خلال السعودية بواسطة الوسيطين [الدكتور ناصر الحاني] و[ بشير الطالب] وأكد عبد الرحمن عارف أنه يقول هذا عن معرفة أكيدة وليس مجرد شكوك } .
أما عبد الرزاق النايف فقد أكد دوره في ذلك المخطط ،بعد أن قام البعثيون بانقلابهم ضده، بعد مرور 13يوماً من تنفيذ انقلاب 17تموز 968 ،ونفيه إلى خارج العراق ،حيث عقد مؤتمراً صحفياً فضح فيه دوره ودور شركائه البعثيين في الانقلاب وعلاقاتهم بالإمبريالية حيث قال :
أنا لا أنكر علاقتي بالأمريكيين لكنهم هم الذين فرضوا عليَّ التعاون مع البعثيين وكان عرّاب الانقلاب الدكتور ناصر الحاني ،الذي أصبح وزيراً للخارجية عند وقوع الانقلاب ،وقد سارع البعثيون إلى اغتياله في أحد شوارع بغداد ،ثم اتبعوه باغتيال النايف بعده في لندن ،محاولين بعملهم هذا حجب نور الشمس بواسطة الغربال !! .
كيف نفذ انقلاب 17 تموز 968
سارع عبد الرزاق النايف إلى إعداد خطة تنفيذ الانقلاب بالاشتراك مع إبراهيم عبد الرحمن الداؤد ، وسعدون غيدان ، واحمد حسن البكر ، وصالح مهدي عماش ، وحردان عبد الغفار التكريتي ،وأنور عبد القادر الحديثي ،حيث جرى الاتفاق فيما بينهم على تفاصيل خطة الانقلاب ، معتمدين على كتيبة الدبابات التي كانت في القصر تحت إمرة سعدون غيدان ،وجرى الاتفاق على أن يأخذ سعدون غيدان كل من أحمد حسن البكر ، وصالح مهدي عماش ، وحردان التكريتي بسيارته الخاصة إلى داخل القصر الجمهوري ليقوموا جميعاً بالسيطرة على كتيبه الدبابات فجر يوم 17 تموز 968 ،فيما يقوم عبد الرزاق النايف بالسيطرة على وزارة الدفاع ،وأنيطت مهمة السيطرة على دار الإذاعة إلى إبراهيم الداؤد .
وفي فجر ذلك اليوم قام سعدون غيدان بإدخال الضباط المذكورين ـ وهم يمثلون حزب البعث ـ بسيارته الخاصة ، وتم لهم على الفور السيطرة على كتيبة الدبابات المذكورة ، وأحاطوا بها القصر ، وقاموا بإطلاق 5 إطلاقات من مدافع الدبابات كخطوة تحذيرية لعبد الرحمن عارف ، الذي استيقظ من نومه مذعوراً ، وحالما وجد القصر مطوقاً بالدبابات ، أعلن استسلامه على الفور ، وطلب تسفيره إلى خارج العراق .
وفي الوقت نفسه تحرك عبد الرزاق النايف نحو وزارة الدفاع ، بمساعدة عدد من الضباط الموالين له ، وسيطر على الوزارة دون عناء ، فيما توجه الداؤد إلى دار الإذاعة بعدد من الدبابات وسرية من الحرس الجمهوري ، وسيطر عليها دون قتال ، و قام بإذاعة البيان الأول للانقلاب في الساعة السابعة والنصف من صباح ذلك اليوم 17 تموز 968.
حاول الإنقلابيون في بيانهم هذا التغطية على الأهداف الحقيقية للانقلاب ، وجرى ذلك تحت شعار حل القضية الكردية ، وإحلال السلام في كردستان ، وإقامة الديمقراطية في البلاد ، وإتاحة الفرص المتساوية للمواطنين ، وانتصار حكم القانون والتأييد الحازم للقضية الفلسطينية ، داعين إلى تحديد مسؤولية الهزيمة في حرب حزيران ، ولم ينسَ البيان التهجم على الحكم السابق ، واتهامه بشتى التهم ، من رجعية وعمالة وغيرها .
وخلال الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم تم للانقلابيين السيطرة على البلاد ، وانتهى كل شيء وجرى اعتقال رجالات النظام العارفي ، وعلى رأسهم رئيس الوزراء [ طاهر يحيى ] ، وجرى على الفور تسفير رئيس الجمهورية ، عبد الرحمن عارف ، بطائرة عسكرية إلى لندن ، حيث كانت زوجته تعالج هناك ، ثم انتقل بعد ذلك إلى تركيا واتخذها مقراً لإقامته لسنين عديدة . ولكونه لا يشكل خطراً على النظام ، فقد وافق البعثيون على طلبه بالعودة إلى العراق ، بعد سنين عديدة ليعيش حياته كمواطن عادي .
أما الشعب العراقي فقد أستقبل الانقلاب ببالغ القلق والاكتئاب ،فالوجوه هي نفسها التي أغرقت البلاد بالدماء، إثر انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963 .
*****************
الطريق