أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - مصطفى مجدي الجمال - أغرب فيش وتشبيه















المزيد.....

أغرب فيش وتشبيه


مصطفى مجدي الجمال

الحوار المتمدن-العدد: 5487 - 2017 / 4 / 10 - 21:10
المحور: سيرة ذاتية
    



في مثل هذه الأيام منذ ثمانية عشر عامًا.. وبالتحديد في فجر يوم 13 أبريل 1989 (السابع من رمضان) داهمت حملة ضخمة مكونة من لوريين أمن مركزي وعدد من البوكسات التابعة لقسم ثان المنصورة (رغم أنني أسكن في قسم أول) وسيارات ملاكي لضباط أمن الدولة.. داهمت منزلي وحاصرته.. المهم أنني كنت متهمًا في قضية سياسية طبعًا تتراوح بين طباعة منشورات لحزب سري، وبين الانضمام لتنظيم يخطط لقلب نظام الحكم (إلى آخر الصياغة..).

وقد تذكرت أثناء تفتيش البيت ما قاله لي المناضل المرحوم حسين عبد ربه ذات مرة بأنه إذا قُبِض عليك فعليك أن ترتدي أفضل ما عندك من ملابس.. فالهيئة الشكلية مهمة جدًا في التعامل مع الشرطة والنيابة.. ففعلت هذا وارتديت بالفعل سترة إنجليزية بعث لي بها أخي المقيم في بريطانيا.. ووضعت بقية ملابسي في حقيبة فخمة من الجلد الطبيعي اشتريتها من الخارج.. ومضيت معهم..

إلى هنا والأمر عادي.. وبالفعل صدقت نصيحة رفيقي حسين وعوملت معاملة غريبة لها بعدان.. البعد الأول الاحترام البالغ في المعاملة، والبعد الثاني النظر إلي على أني خطير جدًا.. وبان البعد الثاني في الإجراءات والتحقيقات بعد ذلك، ولم أعرف السبب إلا فيما بعد..

فيبدو أن زكي بدر وزير الداخلية، والخبير السابق بكل سياسيي محافظة الدقهلية، كان "مزنوقًا" في قضية ما لشيء يتعلق مثلاً بالحفاظ على وظيفته، أو عمل بروباجندا لدواعي سياسية تخص النظام في تلك اللحظة.. وبالطبع لم تجد الحملة عندي شيئًا ذا بال.. والغريب أن ضباط أمن الدولة في الدقهلية كانوا حريصين على إظهار عدم الحماس في حملتهم.. بل صارحني أحدهم بقوله: "مش إحنا والله.. دي معلومات جاية من القاهرة"..

ماذا فعل زكي بدر.. عقد مؤتمرًا صحفيًا في الصباح الباكر معلنًا عن اكتشاف خلية "شيوعية" خطيرة قيادتها في المنصورة.. وهو ما أزعج إخوتي أيما إزعاج خاصة بعد تزايد عدد المقبوض عليهم.. كما أن الوزير لا يعلن بنفسه عن قضية كهذه إلا عند وقوع عمليات إرهاب أو تجسس مثلاً.. بالطبع لم يكن عندي علم بهذا المؤتمر وقتها لأنني كنت مرحلاً إلى نيابة أمن الدولة في القاهرة..

تحرك لوري الترحيلات الكئيب في الصباح إلى القاهرة، ووراءه سيارة بوكس بها ماكينات نسخ تصويري.. ولم يكن معي في اللوري سوى شخص آخر لم يسبق لي أن رأيته قط، وتبين أنه متهم أيضًا في القضية.. صاحب مكتبة وعضو- للمفارقة- في الحزب الوطني الحاكم. وتبين فيما بعد، وباعترافه لي، أنه قد مورست عليه ضغوط ليبادر بالتبليغ عني بأنني دفعت له أربعة آلاف جنيه ليطبع لي منشورات، وهو مبلغ ضخم بمعايير أيامها.. لكنه تردد في التعاون معهم، فقاموا بإدخاله هو نفسه في القضية على أمل أن يتحول إلى "شاهد ملك" فيما بعد (للعلم كان الرجل هو الوحيد بيننا الذي تعرض للتعذيب في السجن)..

عندما وصلنا مبنى نيابة أمن الدولة في موكب يسبقه موتوسيكل لم أكن أفكر سوى في أمي.. وتم إدخالي إلى مكتب وكيل نيابة في منتصف العمر.. بادرته بقولي إنني لن أتحدث إلا في حضور محامٍ، فابتسم في وجهي وقال: بص أنا مش شايف عليك حاجة.. وخلينا نخلص التحقيق النهاردة ويمكن تروح بيتكم إنشاء الله واحنا في رمضان..

بقدر ما استبشرت للحظة، بقدر ما غلبني التوجس، فسألته سؤالاً مفصليًا: "هل أنا معتقل؟".. فسألني لماذا السؤال؟ فقلت له: لأنني إذا كنت معتقلاً فإنني سأكون ذاهبًا إلى السجن في كل الأحوال فلا داعي للعجلة، أما إذا كان الأمر قاصرًا على تحقيق النيابة فممكن أن أفكر (طبعًا لم أكن لأقبل أبدًا التحقيق بدون محام.. لكنني أردت استبيان الموقف).. فقال: ماعرفش.. صدقني..

أجرى وكيل النيابة اتصالاً تليفونيًا لم يدم إلا ثواني.. وقال لي: أنت معتقل. قلت إذن أرجو إبلاغ الأستاذ عبد الله الزغبي المحامي بأنني أريده إلى جانبي في التحقيق.. فأمر وكيل النيابة بإرسالي إلى السجن.. ومضى الموكب إلى سجن استقبال طرة في شوارع القاهرة المزدحمة.. ووقفت السيارة أمام مدخل السجن وقتًا طويلاً دون أن يفتحوا باب العربة.. وبعد طول انتظار فوجئت بالعربة تستدير وتعود بنا إلى المنصورة..

وفجأة وقعت رجة كبيرة في السيارة عند قرية صهرجت، فانقلب زميلي في العربة (وكان هو الآخر قد طلب محاميًًا كما نصحته) أما أنا فقد أنقذني من الوقوع أنني كنت واقفًا متشبثًا بقضبان الشباك الصغير أنظر إلى الترعة والزراعات والحياة.. لكنني فوجئت أن السيارة استقرت على وضع مائل خطير يوشك أن يغرقنا في الترعة.. وبسرعة فُتِح باب العربة ليطمئنوا علينا.. وتشهدوا لأننا لم يحدث لنا مكروه.. فسألت الضابط : إحنا راجعين المنصورة ليه؟ فقال لأن من قبضوا علينا نسوا أن يرسلوا معنا "فيش وتشبيه" (صحيفة الحالة الجنائية)..

المهم عدنا إلى حجز قسم ثان المنصورة.. ومر الليل ثقيلاً في زنزانة مظلمة تمامًا حتى لا تعرف إن كان هناك معك بشر أم لا.. وتنبعث فيها روائح كريهة عصية على الوصف.. وطوال هذا اليوم الطويل لم أكن قد تناولت أي شيء على الإطلاق (رغم أن الحقيبة كان بها بسكويت اشتراه لي الصول عطية بعد القبض علي).. وفي حوالي الساعة الثانية صباحًا فتحوا باب زنزانة الحجز ومضوا بنا دون أن يتفوهوا بكلمة ردًا على تساؤل زميلي المتهم الآخر.. والغريب جدًا أنهم أوثقوه بالقيد مع جندي، وأنا لا..

بعد دقائق وصل بنا بوكس الشرطة إلى مبنى لمحت عليه لافتة "مصلحة الأدلة الجنائية".. وأنزلونا ومشينا على الممر فنهض جندي الحراسة المبهوت.. وأدى لي سلامًا على السلاح (سلام سلاح!!) حيث كنت حاملاً حقيبتي ومتخلفًا في المشية أمامي المتهم الآخر (بلا أي حقيبة سوى كيس طعام) وورائي ضابطان من أمن الدولة والقسم.. بالطبع لا يمكن تخيل أن يتم فتح فرع الأدلة الجنائية في هذا التوقيت تحت أي ظرف من الظروف.. ولا بد أن جندي الحراسة تخيل أمرًا جللاً وراء ه هذا الشخص، العبد لله.. ولأنني كنت ضابطًا احتياطيًا سابقًا فرددت على الجندي تحيته على النحو السليم.. ضحك الضابطان خلفي.. أما أنا فكنت فقط أرد المجاملة تلقائيًا ولم تعرف الابتسامة وجهي..

دخلنا البدرون الكئيب الذي تؤخذ فيه البصمات.. وكان الموظف الذي جاءوا به في حالة صمت وتبرم عجيبة، وقلت لا بد أنهم انتزعوه من سريره أو من أمام التلفزيون قبل السحور.. فكوا قيد الرجل الآخر، وأخذوا بصمات يديه وخرج.. وبدأ أخذ بصمات يدي.. ولاحظت أن الموظف يتعمد "لغمطة" يدي بالحبر أكثر مما يحتاج الأمر كأنه ينتقم مني..

لكن الطامة الكبرى كانت أن الموظف قال لي: اقلع الجزمة والشراب (الحذاء والجورب). فقلت له: ليه؟ قال: أوامر. التفت إلى الضباط فأكدوا ذلك. وكانت هذه أول مرة أسمع عن بصمات القدمين.. ولمن؟ لمتهم سياسي. قلت ولماذا لم تؤخذ من الآخر بصمات قدميه؟ فأشار الموظف إلى كلمة واحدة على الملف "مسجل".. لم يكن هناك مفر.. وكما هو متوقع "لغمط" الموظف قدمي بالحبر اللزج.. وبعد أن انتهى أخذت أحاول تنظيف قدمي ويدي، ولكن المصيبة كانت أكبر من التغلب عليها.. المهم أنني حافظت على رباطة جأشي ولبست الجورب والحذاء بهدوء..

عاد الموكب للخروج بذات الترتيب.. وبينما كانت لزوجة الحبر قد ألصقت الجورب بالقدمين.. فوجئت بعسكري الحراسة يدق كعب البندقية في الأرض مؤديًا ذات التحية..



#مصطفى_مجدي_الجمال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العدوان الأمريكي لا يكسر عين الليبراليين
- مبادئ وتصورات للعمل الجبهوي
- البطالة إبادة اجتماعية والجناة طلقاء
- فرط اليسار
- لغة الحرامية وأصوات من القاع
- عن اليسار المصري والثورة
- سالم سلام.. النبيل الذي رحل
- فيليب وأبو الوفا
- وقضم أظافره
- لو روسيا العدو من تكون أمريكا؟
- الشراكة العربية الأفريقية إلى أين
- عن التمويل والثورة
- محمود فودة.. ومازال الرحيل يتقاطر
- حكومات الغرب باعثة الإرهاب
- الخلاف لم يكن رحمة دائمًا
- الطفل المسلح.. قاتلاً ومقتولاً
- الاقتصاد السياسي للملابس المستعملة
- إنهم يديرون الأزمة
- رهانات السيسي السبعة
- المحرّض.. رسالة وفنًا وعلمًا


المزيد.....




- تحذير سوري من انهيار سد تشرين في ريف منبج بعد استهدافه خلال ...
- أولمرت: لم ألتزم قط قبل المفاوضات بالانسحاب من الجولان وعلين ...
- الإعلام العبري يطرح سيناريوهين -مثيرين- لمستقبل سوريا لما بع ...
- فلكي يلتقط مشاهد فريدة تُظهر -كرات نارية- تسقط على سطح القمر ...
- بلينكن يعلن عن حزمة مساعدات عسكرية أمريكية جديدة بقيمة 500 م ...
- السفارة الروسية لدى اليونان: الغرب يشهد مرة أخرى ولادة الفاش ...
- إعلامي مصري: إذا سقطت دمشق فعلى القاهرة أن تستعد لمعركة المص ...
- خبيرة روسية: سيكون هناك حوالي 41 مليون متقاعد عام 2025
- سوريا : صرافة العملات الأجنبية من السر إلى العلن وتخبط التجا ...
- ترامب يفوز بلقب شخصية العام 2024 من مجلة -تايم-


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - مصطفى مجدي الجمال - أغرب فيش وتشبيه