|
الأخلاق والدين
رمضان عيسى
الحوار المتمدن-العدد: 5476 - 2017 / 3 / 30 - 14:51
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
من خلال المعايشة الحياتية التعاونية ضمن المجموع البشري عرف الإنسان التجربة الأخلاقية ، وبدأ يصدر أحكام قيمة على سلوكه وسلوك الآخرين . وهذه الأحكام تضافرت مع بعضها البعض لتكون منظومة حكمية ضابطة لسلوك وتصرفات الفرد داخل المجتمع . فلا مجتمع بشري بدون قيم خلقية تكون ضابطة لسلوكات الأفراد . من هنا قيل أن الانسان وحده هو الذي يحمل صفة الكائن الاخلاقي لأن القيم الأخلاقية أصبحت تقترب من ضرورات وحاجات البيولوجية . يُعرَّف علم الاخلاق بانه جملة المبادئ النظرية والقواعد العملية التي على المرء إتباعها ليحيا وفق طبيعته بوصفه كائن اجتماعي . لهذا كان سقراط أول من رأي أن الأخلاق علم ، حينما قال : الفضيلة علم والرذيلة جهل . ولكن ما علاقة الأخلاق بالدين ؟ يخلط الكثير من الناس بين الأخلاق والدين ، بل نجد البعض يصرح أن لا أخلاق بدون دين !! وهذا خطأ كبير ، فالأخلاق هي المنظومة الضابطة للمسلكيات المقبولة التي تتوافق عليها الجماعة ، ومن جهة أُخرى هناك أعمال مستهجنة ومرفوضة لا يقبلها الذوق الاجتماعي ، ولا تتوافق مع طبيعة العلاقات الانسانية الاجتماعية !! فالمبادئ الأخلاقية وجدت في المجموعات البشرية قبل نماذج الأديان المعروفة ، وخاصة الكتابية !! ونجدها مختلفة ومتعددة عند الشعوب ، ونسبية . = وقد نجد أخلاق وقيم راقية وحضارية وتعتبر من العادات السائدة عند شعب ، بينما تجدها غير مقبولة وممجوجة ومستهجنة عند شعب آخر مع أنهم يقعون تحت مُسمى نفس الدين . هذا يؤكد أن الأخلاق والقيم ظهرت منعزلة عن الدين ، ولكن الدين حاول أن يحشر الأخلاق ضمن مفاهيمه ونصوصه ... فالعادات والتقاليد مثل الثأر وثقافات الأكل والألبسة ، وعادات الزواج ، والصدق والشجاعة والكرم واحترام الجار والصداقة هي أخلاق تختلف في مداها وتطبيقاتها من شعب الى آخر ، ومن بيئة الى أُخرى ، لكن الدين وأحكامه هي نفسها عند كل الشعوب التي تدين بنفس الدين ! أي أن الأخلاق تتطور وتتغير وتتشكل حسب الحياة ، - فأخلاق أهل المدن في النظرة للمرأة والألبسة وفكرة العيب ، تختلف عن أخلاق أهل الريف ، أو الصحراء . وهناك أخلاق رأسمالية ، فردية ، وهناك أخلاق اشتراكية جماعية !! وهناك أخلاق أثناء حالة الحرب ، وهناك أخلاق أثناء حالة السلام !! وهناك أخلاق تتميز بها مجموعات فئوية داخل المجتمع ، فهناك أخلاق للصيادين ، وهناك أخلاق للتجار ، كما نجد هناك أخلاق تتميز بها الطبقات الاجتماعية ، فهناك أخلاق للفقراء ، مثل التعاون والنخوة والحشمة والغيرة بينما قد لا تظهر بنفس القوة مثل هذه لدى الأغنياء ، كما نجد أحيانا أن الأغنياء يعملون على عدم تزويج بناتهم للفقراء خوفاً من تفتت الأملاك وخروجها من يد العائلة . وأيضاً ، هناك أخلاق للفلاحين ، وهناك أخلاق للاقطاعيين ، وهناك أخلاق للعبيد تختلف عن أخلاق الأسياد !! فمعنى الإهانة عند الفقير تختلف عن معناها عند الغني ، فالأخلاق التي يفرضها المجتمع العبودي تأمر العبد بالطاعة والخضوع الكامل للسيد أو المالك حتى لو أمره بالتخلي عن زوجته ، في حين نجد لدى السيد أخلاق تمنعه من مجالسة العبيد ، أو الزواج الرسمي منهم . ومن جهة أخرى نرى أن هناك أخلاق خاصة للمحبين تتجاهل أخلاق وحواجز الطبقات الاجتماعية ، فإذا أحب إبن الغني إبنة أحد الفقراء ، فلا يأبه للنقد والاستهجان من أفراد طبقته ، ولا للتهديد بالحرمان من الأملاك ، فهو يضحي بكل المكاسب الطبقية في سبيل التواصل مع محبوبته . كما نرى أن المُحب يتجاهل الاختلاف في الدين أو القومية ، والتي قد يكون لها اختلافات واضحة وفوارق أخلاقية . ونلاحظ اختلاف في عادات الزواج ، ففي مرحلة تشكُل المجموعات البشرية في مرحلة المشاع ، كان الزواج الجماعي هو السائد بين أفراد القبيلة الواحدة ، فكل الرجال يتعاملون مع نساء القبيلة دون تخصيص ، أو تفريق في درجة القرابة ، وكانت أخلاق الانسان في تلك المرحلة تقبل هذا ، وبعد تفشي الملكية الخاصة والاستقرار الجغرافي بدأت العلاقة بين الرجل والمرأة تميل الى التخصيص لتوريث الممتلكات ، فظهر الزواج الأحادي ، وظهر معه تشكيلة الأسرة المكونة من رجل وامرأة وأولاد !! وهناك أخلاق قَبَلية تُعظم دور المرأة وسُلطتها ، فقبيلة الـ”موسو” التي تقوم على ضفاف بحيرة “لوجو” الصينية تُدار شؤونها وفق النظام الاجتماعي الأمومي، أو ما يعرف في علم الاجتماع “ماترياشي” وهو المجتمع الذي تحكمه الإناث . وهذا غير مقبول في الدين الذي ينص على قوامة الرجل على المرأة !! ونرى أخلاق من نوع خاص عند قبيلة " الماساي " التي تعيش في محمية (ماساي مارا) الكينية ، والتي لا تعرف أي من الأديان ، نرى أنه يُسمح للرجل الذي يملك عشرة من الأبقار بالزواج من عشرة نساء ، والغذاء الرئيسي للرجال هو دماء الأبقار بعد مزجها بالحليب !! وبهذا نرى أنه قد تتعارض النصوص الدينية مع الأخلاق الفئوية أو الطبقية أو القَبَلية ، حيث لم تستطع الأديان أن تواجه قضية العبودية ، وخضوع الأقنان لمالكي الأرض ، وطاعة الأَمة لمالكها ، فنجد أن نصوصاً دينية تؤيد العبودية وترفض تمرد العبد على سيده أو هروبه ، وأن صلاته غير مقبولة عند الله إلا بعودته لسيده ، فقد ورد في الحديث الذي أخرجه مسلم (70) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه ولفظه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة". ولكن مراعاة للمعاناة التي كان يلاقيها العبيد اذا ما دخلوا الاسلام ، فقد جعل من تحرير العبيد وسيلة للتكفير عن الذنوب ، وكسب رضوان الله !! إن اعطاء نمطية دينية أو أخلاقية للإنسان في منطقة جغرافية محددة ، هو إعطاء المعتقدات والشرائع والملامح الأخلاقية صفة التوريث ، أي إعطاء عملية توريث الأفكار والأخلاق صفة الإطلاق والتعميم ، كما هو توريث الصفات الجسدية !! إن حشر الأخلاق داخل النصوص الدينية يعني إضفاء صفة القدسية وجعلها سماوية ، وبدلاً من أن تكون الغاية من وجود الأخلاق خدمة الإنسان في الحياة بتنظيم علاقاته الاجتماعية ، تصبح أن لا غاية من وجود الإنسان إلا خدمة الأخلاق المقدسة !! وبتعبير آخر ، لم توجد الأخلاق لخدمة الانسان ، بل وُجد الانسان لخدمة الأخلاق !! إن تلبيس الأخلاق ثوب القداسة والاطلاق يقضي على كل امكانية لظهور ملكات فكرية تجديدية في المجتمع ، باعتبار أن الأفكار الجديدة بِدّعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار !! كما أن القول بفطرية الأخلاق ، أو فطرية الأديان تلغي امكانية التنوع في الأخلاق أو الأديان في مجتمع ما ، كما تنفي أي تبرير لإرسال الرسل والأنبياء ووجود الدعاة ورجال الدين ، فلدى الانسان كل شيء مما سيقولونه – فهو مفطور عليه منذ مولده ، وهو هبة من الله - وما وهبه الله للبشر في عقولهم ، فلا داعي لسماعه من داعية أو غيره !! واذا كان الله يعطي البشر العقل ومحتوياته الادراكية ، كهبة ومنحة ، فلا داعي لتغييرها حسب أقوال بشر !! اللاديني والأخلاق : اللادينية هي اتجاه فكري يرفض مرجعية الدين في حياة الإنسان ، ويؤمن بحق الإنسان في رسم حاضره ومستقبله ، واختيار مصيره بنفسه دون وصاية من دين أو الالتزام بشريعة دينية ، وترى أن النص الديني هو مجرد نص بشري محض لا ينطوي على قداسة خاصة ، ولا يعبر عن الحقيقة المطلقة. . والسؤال هنا ، هل هناك أخلاق عند الانسان الذي يقول أنه لا ديني ؟ الجواب : نعم ، فكل انسان لديه نوازع تدفعه نحو الفضيلة ، وتجعله يفعل الفعل الحميد والحسن ولديه نوازع وقيَم تمنعه أن يفعل الأفعال الرذيلة . إن الأخلاق من عادات وأعراف اجتماعية والتي تدفع الفرد لاحترام الآخر ، كان لها أسباب تختلف عن الأسباب التي على أساسها وُجد التفكير في الغيب وملحقاته . لقد ارتبطت الأعراف الاجتماعية بظروف كل شعب الحياتية ومتطلباته للمحافظة على حياته أمام أهوال الطبيعة ، في حين كان الدين نتيجة للخوف من أهوال الطبيعة . فإن اللاديني لديه أخلاق انسانية غير مقيده بدين أو فرقة أو قومية أو بجغرافيا أو بلون أو بجنس ، انها أخلاق مبنية على " قيَم ومثل عليا " مثل الحق والخير والجمال والعدل والحرية والمساواة والصدق والصداقة ، والاحترام بوصفه كائن جدير بأن يحيا حياة تليق بكائن عاقل ، اجتماعي متجدد ومتطور باستمرار . من هنا فالأخلاق وُجدت منعزلة عن الدين ، ولكن نظرا لأصولها المعنوية والعاداتية ، فقد أصبح هناك تداخلا بينها لدرجة أن الناس وجدوا صعوبة في التفريق بينهما أو أيهما أسبق ؟ = وللتأكيد على هذا ، فإن الأخلاق ممكن أن تتغير ، بينما الدين يبقى على حاله لارتباطه بالمقدس من حيث هو كلام الله . من هنا فالاتهام بأن اللاديني هو بلا أخلاق سببه يعود إما لتبني الآخر لوجهة نظر دينية ، أو لأسباب تعود الى الاختلاف في الثقافة ، وطريقة تقييم الفعل بأنه ضمن الأخلاق الانسانية أو الأخلاق المتوحشة . -- حقيقة إن الأديان قد قزمت وحجمت هذه القيَمْ حيث قسمت المجتمع الى مسيحي ومسلم وبوذي ولاديني ، ويهودي ، وكافر ومؤمن ، واشتعلت صراعات بمبررات وفتاوي دينية ، وكانت هي الأشد تدميرا واشعالا للفُرقة بين بني الانسان . من هنا نصل أن الأخلاق غير مرتبطة بنمطية التدين ، فشعار أن اللاديني عديم الخلق شعار لا يتحلى بالمصداقية ، وكثير من أتباع الأديان لا تمنعهم مسمياتهم الدينية من ارتكاب الجرائم أو التصرفات الغير مقبولة اجتماعيا ، سواء داخل مجتمعاتهم ، أو حينما يسافرون خارج بلدانهم ويختلطون مع مجتمعات أخرى !!
#رمضان_عيسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طوفان نوح بين الحقيقة والمقدس !!
-
سفينة نوح بين الحقيقة والمقدس
-
الدعاء والاستخارة والنذور لا تحل المشاكل
-
= خمسون سؤالاً يجب أن يجيب عليها الاسلام :
-
جمعيات التعريف بالإسلام ودورها الارهابي !!
-
لماذا تتحمل البشرية خطأ آدم ؟
-
ثالثاً : الأيديولوجيا الدينية
-
ثانيا : الأيديولوجيا الماركسية
-
أيديولوجيات باقية -- 1 - الأيديولوجيا البرجوازية
-
المسلم بين التوحش والأنسنة !!
-
ماذا تعني الانتخابات ؟
-
لانتخابات على الأبواب !!! احذروا : الشعب صاحي وجوعان !!!
-
من يصنع التاريخ ؟
-
حماس ولعبة التحالفات
-
القيَّمْ بين الدين والعولمة
-
أوراق فسبوكية
-
ما هي الحقيقة ؟
-
لماذا لا ثورة ضد حماس ؟
-
هل أصبحت حماس برجماتية ؟
-
أهم صفات الانسان
المزيد.....
-
السعودية تعلن ضبط أكثر من 25 شركة وهمية تسوق للحج التجاري با
...
-
اسبانيا تعلن إرسال صواريخ باتريوت إلى كييف ومركبات مدرعة ودب
...
-
السعودية.. إغلاق مطعم شهير في الرياض بعد تسمم 15 شخصا (فيديو
...
-
حادث جديد يضرب طائرة من طراز -بوينغ- أثناء تحليقها في السماء
...
-
كندا تخصص أكثر من مليوني دولار لصناعة المسيرات الأوكرانية
-
مجلس جامعة كولومبيا الأمريكية يدعو للتحقيق مع الإدارة بعد اس
...
-
عاجل | خليل الحية: تسلمنا في حركة حماس رد الاحتلال على موقف
...
-
الحوثيون يعلنون استهداف سفينة نفط بريطانية وإسقاط مسيّرة أمي
...
-
بعد الإعلان التركي عن تأجيلها.. البيت الأبيض يعلق على -زيارة
...
-
ما الذي يحمله الوفد المصري إلى إسرائيل؟
المزيد.....
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
-
آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس
...
/ سجاد حسن عواد
-
معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة
/ حسني البشبيشي
-
علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|