أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شكيب كاظم - الزانية .. رواية البرازيلي الصوفي باولو كويلو...تصوير رائع للحياة في سويسرة















المزيد.....


الزانية .. رواية البرازيلي الصوفي باولو كويلو...تصوير رائع للحياة في سويسرة


شكيب كاظم

الحوار المتمدن-العدد: 5476 - 2017 / 3 / 30 - 12:22
المحور: الادب والفن
    


هذه هي الرواية الثانية التي أقرؤها من إبداعات الروائي البرازيلي المتصوف، والقارئ لثقافة العرب والمسلمين، وهو حال أغلب روائيي أمريكة اللاتينية، الناطقة شعوبها بالإسبانية، خلا البرازيل الناطقة بالبرتغالية، بسبب حملات الاستكشاف التي قادتها اسبانية في اصقاع هذه البلدان، واضعين في الحسبان، اثار مكوث العرب المسلمين في ربوع الأندلس نحو سبعة قرون من الزمان، والتي نقلها البحارة المكتشفون معهم إلى هذه البلدان.

(الزانية) الصادرة عام 2015 عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر في بيروت لباولو كويلو، والذي قرأت سنة 2008، روايته (الخيميائي )الصادرة في مدينة سلمية بسورية عام 1997، هذه الرواية الفلسفية التي مزجت بين ما هو واقعي ومتخيل وغرائبي وسحري، وعلى الرغم من جنسية الرواية في مواطن عديدة، فأن باولو كويلو، الذي نشر حتى العام 2015 – أربع عشرة رواية، نقلت إلى العربية، يواصل درب الروحانيات والتصوف، الذي أفصح عنه في روايته المدوية (الخيميائي) التي نقلته إلى عوالم المجد والشهرة والثراء، فهو يرى أن القصص المقتبسة من موروث التصوف في الإسلام، كانت إحدى أقدم الطرق التقليدية، التي أعتمدها.الإنسان لنقل معرفة جيله (….) كانت الثقافة العربية إلى جانبي خلال معظم أيام حياتي تبين لي أموراً لم يستطع العالم الذي أعيش فيه، أن يفقه معناها..

رنا الصيفي، ترجمة أنيقة

رواية (الزانية) بترجمة أنيقة تولتها رنا الصيفي، فضلاً على مراجعة نحوية ولغوية رصينة تسرد علينا عن طريق الراوي كلي العلم، الذي تتولاه (ليندا) الشخصية المركزية في الرواية ، الصحفية الناجحة في إحدى صحف العاصمة السويسرية (جنيف) جيدة التوزيع، والتي تحيا حياة ناعمة إلى جانب زوجها الثري والرجل العملي، الذي يغدق عليها صادقاً حبه وحنانه، فضلاً عن ولدين، يحاولان شق دربهما في الحياة الهانئة في تلك الدول التي تحترم آدمية الإنسان وحقوقه وكرامته، لكن هذه السعادة الغامرة ما كانت مانعةً من تهويمات أو أفكار شياطنية وخيانات زوجية، التي تشعرها بتأنيب الضمير، لكنها ما تلبث أن تعود إلى ما سبق أن وطدت العزم على تركه، منساقةً وراء نفسها الأمارة بالسوء، وأراها إشارةً إلى القرين المتلبس بكل واحد منا، والروائي دارس للتصوف الإسلامي، ومتأثر به.

الزوج الحارب، كان يحس بما طرأ على سلوك زوجته، يُلّمح لها، وهي تفهم تلميحاته، لكن روح (ليندا) السكرى بالأثم، تطارح زميلها في الدراسة الثانوية (جاكوب) الذي غدا وجهاً سياسياً لامعاً، ولعله سيتولى رئاسة الاتحاد السويسري، في سنوات لاحقة تطارحه الجنس المحرم، خارج نطاق الرابطة الزوجية، وتقبل أن تمارس معه حتى الجنس غير الطبيعي في إشارة من الروائي باولو كويلو، إلى انغماس الأرواح الخاطئة في وحل الرذيلة، لكنها بعد لقاء عاصف مع (ماريان كونيش ) زوجة (جاكوب) وبحضور زوجيهما، تحصل الانتقالة الروحية ، تبكي مدراراً، فالدموع غاسلة لأوضار الخطيئة وآثام الإنسان، حتى إنها ما عادت تستطيع قيادة سيارتها وهي ذاهبة إلى عملها بالصحيفة، فتضطر إلى ركنها جانباً، ريثما تهدأ سورة البكاء هذه أو تتلاشى، تعود إلى ذاتها الطيبة، مُقصيةً القرين السيء، الذي احال حياتها دماراً وعذاباً وأرقاً.

إن استقراءاً متمهلاً لهذه الرواية، التي تجبرك أجواؤها الملتبسة، ولغة مؤلفها كويلو والنقل الباذخ الأنيق للمترجمة رنا الصيفي، ليدلنا على وقائع حياة هذا البلد الراقي الهادئ الذي ظل يلتزم الحياد حقيقة إزاء مشاكل العالم الصاخب والصاخبة، إذ شاء باولو كويلو أن يُجري حوادث روايته هذه في عاصمة الاتحاد السويسري، جنيف، الذي يذهلني العدد القليل لسكانها، مما يدل على أن هذه البلدان تُحْسِن توزيع أسس الحياة ومرافقها على كل تراب البلد، بخلاف أكثر دول العالم، تركزها في العاصمة، وبعض المدن الكبرى، فتنشأ الهجرة إلى العاصمة، والعشوائيات، وازدحام الشوارع وتلوث الهواء الغازي والصوتي، وصعوبة ضبط الأمن في مدن الكثافة السكانية العالية إذ يسكن مدينة جنيف مئة وخمسة وتسعون ألف نسمة: – تراجع ص57 من الرواية

لكن على الرغم من رقي الحياة في هذا البلد، ودقتها ورصانتها ، نجد إشارةً واضحة إلى تخبط السياسيين فيه وتسويفاتهم، ترى ما حال السياسيين في دول القاع والفوضى وانعدام الفرض، وضياع القانون؟! ستكون الوطأة أشد وأقسى.

أقباس من الحياة السويسرية

تُجري (ليندا) الصحفية مقابلة مع السياسي الصاعد (جاكوب) حبيبها السابق من أيام الدراسة الثانوية، تستمع إليه وتدون ما يقول، من حقائق بشأن سياسة الحكومة تطرح بضعة أسئلة حرجة، ويتملص من الإجابة بلباقة، بعد قليل، اكف عن الاصغاء وادير في نفسي جهاز التشغيل الآلي، النصُ ذاته على الدوام، الوعود ذاتها: خفض الضرائب، مكافحة الجرائم، طرد الفرنسيين، وهم الذين يشغلون أعمالاً لا يمكن لعمالٍ سويسريين شَغْلها، سنة تلو سنة، تظل المسائل هي على حالها، والمشكلات بلا حلول لأن أحداً لا يهتم فعلاً – تراجع ص39 .

وإذا كانت هذه الملاحظة، ناتجة عن أن السويسريين يتوقون إلى بناء المجتمع الأمثل، القريب من عوالم اليوتوبيا التي بشر بها (توماس مور)، ومن قبله الفارابي في المدينة الفاضلة في مواجهة المدن الفاسقة الراذلة، ومن قبلهما أفلاطون في جمهوريته، فإني لالتقط في صفحات تالية إشارة إلى الحياة – بكل جوانبها – الراقية التي يحياها السويسريون، إذ تذهب مقالة (ليندا) ومقابلتها مع (جاكوب) أدراج الرياح، فأسس الحياة الدقيقة والصحيحة ما أبقت سَبْقاً صحفياً، تقول (ليندا): أرى مقالتي تذهب أدراج الرياح، ومعها فرحتي الكبرى في الارتقاء (….) لا جديد أكتب عنه، لا زنى، لا إبتزاز، لا فساد، كل شيء يتبع النمط السويسري القائم على الجودة والامتياز. تراجع ص69 .

وإذ تجد فوضى الاستيراد في بلادك، التي بدأت على استحياء منذ منتصف سنة 1991 إثر احتلال البلد العربي الشقيق الكويت، وفتح البلاد على مصاريعها لإدخال كل شيء كسراً للحصار، فدخل كل منتهي الصلاحية، وكل فاسد ومغشوش، وازداد الامر سوءاً بعد 2003، وسقوط آخر ما تبقى من الدولة العراقية، تقارن هذه الفوضى حتى لكأنك تحيا في غابة، بالذي تقرأه في هذه الرواية المستوحاة من الأجواء السويسرية، تصرخ للسماء: أواه ربي، يحدث أن يعثر صحفي على أحد المخازن في محلة قريبة من جنيف، تعد مدينة وفيها محافظ، ولنقف عند هذه العبارة، حيث ضبط محل بقالة فيها يبيع طعاماً انتهت صلاحيته. محل واحد، وليس كل المحال وليس كل الاسواق، شكل الأمر البسيط هذا مقالةً أثارت اهتمام القراء، أكثر من فضيحة سياسية، كما أن الخبر البسيط هذا، أخذ مكانه على الصفحة الأولى من الجريدة، ولأنهم يحترمون إنسانية الإنسان، فلا يرغبون بالتشهير بهذا البقال، نُشِرَ الخبر على الصفحة الأولى، لكن من غير إبراز العنوان: تغريم محل بقالة ولا بلاغات عن تسمم بالطعام. ص82

زمان مضى

يوم كانت الأسرة، في زمان مضى، تجتمع ولا سيما في أوقات الشتاء، وليله القارس الطويل، على مائدة العشاء، بعد عودة رب الأسرة من العمل، أو من المقهى، حيث الأحاديث، ولا بأس من قراءة في كتاب أو مجلة أو صحيفة، كان التواصل الاجتماعي والتزاور سمة تلك العقود، لكن مع تعقد الحياة، وتحولها إلى حياة استهلاكية مظهرية خاوية المَخْبَر، ودخول الأجهزة الحديثة، بدايةً بالتلفاز، ضعفت رويداً رويداً تلك الحميمية حتى تلاشت، فكنت تجد كل فرد من الأسرة مسمراً أمام جهاز التلفاز يتابع الفلم أو المسلسل، وزادت الطفرة التكنلوجية من غربة الإنسان ووحدته، ولا سيما مع الأجهزة اللوحية، فالكل منكس الرأس نحو هذا الجهاز، والكل يحيا عالمه الخاص به، بعيداُ عن الأخرين، تجدهم في السيارة العامة، وفي الحدائق، وحتى في الشارع العام وينقل لنا (باولو كويلو) في روايته هذه، تأثيرات الأجهزة اللوحية على حياة الصبيان في سويسرة، مقترحاً منعها عن من هم أقل من الخامسة عشرة سنة، تجتمع الاسرة، ليندا وزوجها، الذي لم يسمه، طوال الرواية، كان زوجاً فقط، ترى هل كان (كويلو) إذ لم يطلق عليه اسماً، يعني قلة تأثيره في مسيرة حياة أسرته، زوج منهمك بالعمل، والبحث عن الثراء، مع إنه وَرِثَ مالاً كثيراً؟ قليل البوح بمكنونات نفسه، حتى عواطفه وغزله؟ تراه حتى وهو على فراش الزوجية منشغلاً بجهازه اللوحي، يتابع الأخبار، مما دفع بزوجته إلى طلب الحنان والغزل من (جاكوب) صديق الدراسة الثانوية

اقول: تجتمع الأسرة على طعام العشاء، إنها لفرصة أن يجتمعوا الليلة عند العشاء تناولنا الجبنة المذَوَّبة، التي نسميها نحن السويسريين، راكليت (….) سألتْ عائلتي إن كنا نحتفي بأمر مميز، وقُلت: إن هذا صحيح، فمجرد أن نكون معاً، ويمكننا أن نستمتع بعشاء هادئ، والواحد منا بصحبة الأخر فهذا احتفال، ثم استحممتُ مرةً ثانية اليوم، وسمحت للماء بأن يغسل قلقي، ويؤكد (كويلو) في مواقع عديدة من روايته أن الاستحمام يغسل الروح من عذاباتها وقلقها في اقتراب واضح من روحانيات الشرق والإسلام (…) ثم توجهت إلى غرفة ولديها كي تقرأ لهما حكايةً، وجدتهما ملتصقين بجهازيهما اللوحيين، وأرى من الضروري منع اقتناء هذا الجهاز لمن هم دون الخامسة عشرة من العمر- تراجع ص123 –

إذا كان الصيفُ في بلادي يصهر حتى الحديد، حينما تتجاوز درجات الحرارة الخمسين مئوية، ولا سيما إذا رافقتها أيامُ رمضان والصوم، ولطالما ناجيت نفسي، إن كان بإمكان الحياة، تجاوز شهرَيْ تموز وآب والتبرع بأيامهما، وإنقاصها من أعمارنا، لقساوتهما، ونظل ننتظر أيلول لندخل اروع شهور السنة اعتدالاً، تشرين الأول، الذي استمتع به أيتما متعة، ولطالما ناجيت ربي أن لا يقطف روحي في هذا الشهر لإستمتع ببهجته وإعتداله، لكننا نجد الشعور مختلفاً تماماً في هذا البلد، القريب من القطب الشمالي، فالشجن هو الشعور السائد حينما يطل عليهم الخريف، الذي ننتظره نحن.

تقول (ليندا) الشجن، هو أول كلمة تخطر لي عندما يحل الخريف لمعرفتي أن الصيف قد انقضى، ستصبح الأيام أقصر(…) ما من وقت أفضل من الخريف، لنبدأ بنسيان الأمور التي تكدرنا، لندع أنفسنا تتساقط مثل ورق الشجر الجاف (….) لنستفيد ما امكن من كل ذرة من شعاع الشمس، وندفئ الروح والجسم بشعاعاتها قبل أن تغيب وتصبح مجرد بصيص في السماوات. تراجع ص127.

لقد كنت أظن أن تبادل القبلات على الوجه، من طقوس العرب والشرقيين ، ففي الغرب يقبل الرجل يد المرأة، لكني وجدت أن القبلة الثلاثية طقساً سويسرياً، وعلامة سويسرية مسجلة، تلتقي (ليندا) بـ (جاكوب) وتتبادل قبلات التحية الثلاث المعهودة، الخد الأيمن، الخد الأيسر، الخد الأيمن، كما تقتضي التقاليد السويسرية، مع أنني كلما سافرت إلى الخارج أتفاجأ بهذه القبلة الثالثة – تراجع ص130

في دول النفط، حيث الثراء الزائد عن الحد، والتبذير غير المعقول وشراء الاسلحة وافتعال الأزمات والحروب بَطَراً وعنجهية، السائرة على مقولة بليدة، اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب، لكن في دول الرصانة والجدية، تختفي كل هذه السخافات، انتقلت من جمهورية معمر القذافي وانا في طريق العودة إلى العراق نحو تونس لأجد البونَ شاسعاً، دولة نفطية ثرية ولا طاولة لدى موظف الجوازات الحدودي تليق به وبالمراجعين، طاولة قديمة وكرسي مكسور، أمتار ودخلت جوازات تونس فماذا وجدت؟! ماء القذافي من البحر مالح، يعمي العيون، إذا غسلت به وجهك، وماء تونس غير النفطية طيب وزلال، وكلاهما يجلبان الماء من البحر، وظل يصرف المليارات على مشروع النهر العظيم، الذي كان من المؤمل أن يسحب الماء من بحيرات في اقصى الجنوب، وكنت أشاهد مراحل هذا المشروع العملاق المكلف مادياً، يوم ذهبت للتدريس في ذلك البلد 1995-1996، والذي قرأت عنه أنه كان فاشلاً، لكن من يستطيع أن يفتح فمه أمام الأخ القائد؟!

لكن في دول الرصانة، حيث يحسب للفلس الواحد، الذي اسقط من التداول في بلدنا منذ عقود، يحسب هنا للمبلغ مهما ضؤل حسابه، يناقش موضوع الاحتفال برأس السنة الميلادية، أو تأجيله، بسبب كلفته ، التي هي في الحسابات الدقيقة، بسيطة جداً، إنها تكلف مئة وخمس عشر الف فرنك سويسري أي بعبارة أخرى ما يدفعه مواطنان سويسريان يجنيان راتبا معقولاً، لكن مع ذلك يؤجل الاحتفال للاحتفاظ بالمبلغ لأمور أهم، لأن لا أحد يعلم ما يخبئه المستقبل لنا، (….) قد ينفد الملح الذي علينا أن نَرشُه على الطرقات هذا الشتاء، لكي نحول دون تحول الثلج إلى جليد، والتسبب بحوادث سير، أو الارصفة التي تحتاج إلى ترميم بشكل دائم، حينما يقع نظرك، ترى اشغالا على الطرقات وأعمال بناء، لا يمكن لأي أن يفسرها، ومع كل هذا الخير العميم، يقرر المجلس البلدي إلغاء الاحتفال توفيراً للمبلغ البسيط، إذ يمكن للسعادة ان تنتظر، لكن سلامة الناس لا يمكن الانتظار فيها؟! – تراجع ص153-

في دول التدافع بالمناكب، واقتناص الفرص، والتفاخر بحرمانك منها، تتهاوى القيم وتتفشى الرشا، كي تأخذ ما لا تستحقه، أو ما يستحقه غيرك أكثر منك، لكن في سويسرة، حيث القانون، لا يوجد وجود لهذه الانتهاكات، (ليندا) في أزمتها النفسية التي أراها بَطِرَة، فلو عاشت يوماً في دول التدافع بالمناكب لنسيت ازمتها النفسية البطرة، تقرر مراجعة طبيب نفسي، لكن جابهتها في مراجعتها لأطباء النفس، أن هناك من يسبقها في معاينة الطبيب، تخبر السكرتيرات في عيادات الأطباء التي راجعتها (ليندا) بأن حالتها طارئة، لكن يأتيها الجواب الحضاري الأنيق، بخلاف السكرتيرات في دول التدافع بالمناكب اللواتي يؤدين وظيفة السمسرة، إضافة لوظائفهن ! السكرتيرات يجبنها إن كل شيء طارئ، ويشكرنها على اهتمامها، ويعتذرن لا يستطعن إلغاء مواعيد مرضى آخرين. – تراجع ص167-

يحدث أن تسافر، يظل يُحدق ضابط الجوازات في عينيك فأنك متهم حتى تثبت التهم عليك، لكن في دول الاتحاد الأوروبي، التي طبخت اتفاقياته تدريجياً وعلى مدى عقود، تستطيع الإنتقال بَين دوله من غير جواز، سوى بطاقة الهوية الشخصية، رأيت صورةً في إحدى المجلات للحدود بين هولندة وبلد مجاور، كانت الحدود تمر فوق مقهىً، نصفها في هولندة والآخر في البلد المجاور، ولقد أذهلني ما اقرأ في هذه الرواية، تلتقي (ليندا) بـ (جاكوب) في قرية (كولونك سوساليف) قرية على الحدود السويسرية مع فرنسة، تبعد ربع ساعة عن مكان عملها، في آخر اللقاء يدفع (جاكوب) قيمة الحساب باليورو، وهذه إشارة إلى أن القرية التي جلسا في أحد مقاهيها تعود لفرنسة لأن سويسرة تتعامل بالفرنك،” نعبر الحدود مشياً ونسير باتجاه سيارتينا المركونتين في الطرف الآخر من الشارع، أي سويسرة” تراجع ص185

لقد شربا الكحول في مقهى بفرنسة، ودفعا الحساب باليورو وعادا مشياً على الاقدام عادا إلى بلدهما سويسرة ولا أحد طالبهما بتأشيرة الدخول وإبراز جواز السفر، ولم يتعرضا لنظرات ضابط الجوازات المرتابة والمفترسة! في دول الراديكاليات، ودول الفرص المضاعة، لا قيمة للوقت والمواعيد، ومقولة : قتل الوقت هي السائدة، لكن في دولة يحسب لكل دقيقة حسابها تختلف الأمور، إنها تفتخر بدقتها فهي سويسرية، وكفاها بذلك فخراً، يحدث أن يرسلها رئيس تحرير الصحيفة التي تعمل بها إلى إضاءة ندوةٍ مهمة تقام في أحد الفنادق، وإذ أخذت طريقها، يهاتفها مُديرها، فتُضطر إلى مغادرة خط المصطفين، وإذ يطيل مُديرها المكالمة، تعتذر منه قائلة له: إنني لا أريد أن أكونَ أخرَ الواصلين إلى الحفل، أنا متأخرة عن الموعد دقيقتين، فنحن في سويسرة، حيث الساعات فائقة الدقة دوماً. – تراجع ص229

نحن في الشرق، مولعون بالحديث عن حياتنا الشخصية للأخرين، وإذا لم تحدثهم بكل شيء عددت كتوماً، وبينك وبين التلقائية فرق شاسع، حتى وإن لم يتكلم هو عن خصوصياته، يريد منك أن تشبع نهمه إلى خصوصياتك، في حين لا يتحدث الأوروبيون والغربيون عن خصوصياتهم، ولقد لمستُ ذلك من خلال قراءة مذكرات أو مشاهدات عرب عاشوا في الغرب، ومن ذلك ما يسرده الشاعر صلاح نيازي في كتابه الجميل (غصن مطعم في شجرةٍ غريبة) أو الشاعرة فدوى طوقان (1917-2003) في الجزء الاول من مذكراتها وسيرتها الذاتية (رحلة جبلية … رحلة صعبة) ولقد لمست هذه الظاهرة، وأنا أجوس في رواية (الزانية) رائعة (باولو كويلو)، إذ تطلق (ماريان كونيش) زوجة (جاكوب كونيش)، في جلسة جمعت الأسرتين، تطلقُ سؤالاً ماكراً عن الغيرة، فيتولى الجواب زوج (ليندا)الإنسان البسيط، الأقرب إلى السذاجة قائلاً: نشأت وأنا أشهد عروض غيرة رهيبة في المنزل، ويعني منزل ابويه لكن جوابه هذا يصعق زوجته، التي لا تريد أن يتحدث عن خصوصياته، ولا سيما أمام امرأة ماكرة حاقدة، محدثةً ذاتها – ماذا؟ هو يتحدث عن حياته الخاصة؟ وإلى غريبة؟ – ص136

هي، زوجته، لا تريد أن يتحدث عن أموره الخاصة، وستكون القضية أفجع أن يتحدث إلى امرأة غريبة تكرهها (ليندا) أشد الكره، وتحاول تدمير حياتها، مما يشير إلى تساوي الناس في هذه المشاعر، فلا فرق بين خوالج الناس في مجتمع متقدم عنه في مجتمعات متأخرة، كما أنها متوارثة، إذ اقرأ في التاريخ القديم، فأعثر على مثل هذه الخوالج، فالإنسان لم يتغير أبداً في أخلاقه، بل الذي تغير طرز الحياة وأساليبها، وهو ما أكده علماء الانثرولوجيا في العالم، فالناس البدائيون يشبهون أو يقتربون من طقوس وعادات الشعوب المتقدمة، فالجنس واحد والمورثات الجينية واحدة.

إنهم لا يكذبون!

ونطلع من خلال سرد باولو كويلو الجميل في روايته هذه (الزانية) على خصيصة من خصائص هذا الشعب، فالسويسريون – كما تفخر ليندا – لا يكذبون، يحدث أن تمر ( ليندا) بأزمة نفسية صاعقة، إزاء اللقاء الاسري العاصف، الذي جمعها بغريمتها (ماريان كونيش) جعلتها تغرق ببحر دموعها ، كانت تقود سيارتها نحو عملها بالصحيفة، دموعها المنهمرة ، شوشت عليها رؤية الطريق، فتقرر ركن سيارتها في شارع فرعي وتنخرط في بكاء مدمر، حتى إذا نفست عن نفسها بعض عذاباتها، ولأنها في وضع نفسي لا يسمح لها بالعمل، تقرر مهاتفة مديرها لطلب إجازة مدعية أنها بصدد اصطحاب أحد ابنيها الذي أصيب بإسهال إلى الطبيب. ” يصدقني مديري، ففي النهاية ” السويسريون لا يكذبون. ص245

لكنها وهي تؤكد أن السويسريين لا يكذبون، كانت تكذب على مديرها! كما وقفت عند قولها إنها تصطحب ابنها إلى الطبيب. ولم تقل إلى المستشفى، مما يشير إلى عدم وجود ظاهرة المشافي، كما هي في دول الشرق.

وأخيراً ومن خلال استقرائي لهذه الرواية، لمست حظر التدخين في الاماكن العامة في الاتحاد السويسري، ففي ختام اللقاء الأول بين (ليندا) و (جاكوب) يتوقفان على الرصيف، خارج المطعم، ينظر جاكوب من حوله كما لو أننا نشكل ثنائيا يثير اكبر الشبهات، ثم عندما يتأكد أن أحداً لا ينظر إليه، يشعل سيجارة إذا هذا ما خاف ان يراه الناس: السيجارة – ص53 –

وكما كانت (ليندا) تكذب، فإن جاكوب في مواطن عديدة كان يدخن في الأماكن الممنوع فيها التدخين، في الفندق، حتى إنه دخن في مكتبه الرسمي، اثناء اللقاء العاصف الذي جمعه بـ (ليندا)! وفي هذا الامر تقترب أخلاق الناس، الذي يجعلهم القانون يسيرون على المحجة

وإذا كان رئيس الوزراء الياباني يتغير كل عامين، فان رئيس سويسرة يتغير كل عام (نعم كل عام) ويختاره المجلس الاتحادي، وليس الشعب، وهو هيئة تتألف من سبعة وزراء يعملون مجتمعين بوصفهم رئيس دولة سويسرة؟!

فليسمع الزعيم الأوحد، وليسمع القائد الضرورة، فضلاً عن الرؤساء مدى الحياة، أو الذين حولوا الجمهوريات إلى ملكيات، أو جمهوريات وراثية كيف تكون الحياة في دول الناس الآدميين؟!



#شكيب_كاظم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العفيف الأخضر في هذيانه... حين تلوى النصوص وتُكسر أعناقُها
- رسائل انسي الحاج الى غادة السمان ..ليس من حقنا أن نصادر رغبت ...
- من حديث أبي‮ ‬الندى للفهامة إبراهيم السامرائي ...
- سيرة ذاتية ولمحات حياتية.. عالم اللغة إبراهيم السامرائي في ( ...
- محسن حسين في أوراقه الصحفية .. سياحة استذكارية لعقود ستة من ...
- انور عبد العزيز ذاكرة المدينة الصاحية ومبدعها الكبير
- من أوزار الثقافة في العراق وأرزائها.. هل كان طه باقر مقتنعا ...
- فدوى طوقان في رحلتها الجبلية الصعبة
- قبس من سيرة صلاح نيازي‮ الذاتية
- الباحث الكبير الدكتور صفاء خلوصي القائل بعروبة شكسبير
- الياس خوري في مملكة الغرباء ...رواية الحكايا المتداخلة
- النثر الفني في القرن الرابع الهجري من أروع ما كتب ... حديث ع ...
- الباحث عن جذور السنديانة الحمراء ... محمد دكروب ينذر نفسه لم ...
- جورج طرابيشي في الجزء الثاني من كتابه (هرطقات)..مناقشة عبد ا ...
- مهدي شاكر العبيدي في منجزه (الجواهري شاعر وناثر)
- بين طه حسين وعلي جواد الطاهر
- الذي ألزم نفسه بما لا يلزم...حسن عبد راضي يدرس المفارقة في ش ...
- نظرة إلى منجز الفكيكي الثقافي.. عبد الهادي شاعر وباحث ومحقق
- موسوعي بأسلوب في الكتابة مميز مثابات شاخصة تخلّد اسم حميد ال ...
- عبد الحميد حمودي يطوف بشخصيات وكتب ودراسات في التراث الشعبي


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شكيب كاظم - الزانية .. رواية البرازيلي الصوفي باولو كويلو...تصوير رائع للحياة في سويسرة