ِيوم في حياة وزير الموارد المائية العراقي

نعيم عبد مهلهل

الحوار المتمدن-العدد: 1435 - 2006 / 1 / 19 - 08:17
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    

تحمل الحياة في رؤى تجاربها عالما من سيرة ذاتية يحسبها القدر وجدانا أزليا لما يمكن أن نولد لأجله في فصول طويلة من تربية البيت والوطن والمنفى .
أولئك الذين يدركون قدرهم بهكذا شاكله يتبعهم طيف أيمانهم في فلوات الرغبة ليكونوا وفق صيرورة أحلامهم عبر منطق الرغبة في تكوين ذلك الحلم أيا كان الثمن .
واحد من أولئك الذين دفعني قدر لقيا لمعرفة مايدركون هو الدكتور عبد اللطيف جمال رشيد وزير الموارد المائية العراقي .
كان يوما حافلا بالكلام وتبادل الرؤية ، وفي مكتبه الوزاري . حيث يصبح للحديث طعم التجربة ودفئ عاطفته الشمالية تعود به ذكريات أزمنة المكان الذي تكشفت فيه طفولته وصيرورته بين عاطفة البيت وطقوسه الوجدانية المتدينة حد عطر التصوف . المكان الذي أشعرني الوزير أنه كان في طبيعته الباردة وجمال روحه المعطرة بشذى قمم كردستان وتلك السهوب التي رسمت تضاريس الطبيعة التي أنتمى إليها أزل آباؤه وأجداده وكانت عبر كل سني حياته هاجسا يغذي فيه روح التوثب والإصرار لما يكون أو قد يكون .
لم يكن الحوار مع وزير الموارد المائية عبد اللطيف جمال رشيد مبني على أساس أسئلة وأجوبة. لقد أقترحت على السيد الوزير تأجيل كل هذا والبدء في الحديث عن رؤى مكان اشتغل عليه منذ زمن بعيد .
مكان تغيبَ بسبب عملية قسر قاسية لطمس هويته وأزاحت عصور تاريخه حيث مثلت الآهوار واحدة من طقوس الانبعاث إلى الحياة من جديد بعد عهد من الحروب والتجفيف وكان الوزير احد رجالات عودة الحياة إلى هذا العالم من خلال حلم يتصل بسني الغربة والمنفى .
أذن مشاغل الوزير تجاه الأهوار مكان لطبوغرافيا شعب بكل رؤاه وميثولوجياته تبدأ من مشاهدة لمعاناة ذاقها ورائها في وطنه ( كردستان ) حين حملت الرياح الكيماوية رائحة الخراب إلى الورد والبشر ودمى الأطفال .
قال : أن صورة حلبجة هي في معادل ألتأريخي صورة ما حدث في الأهوار ، لهذا كنت ومنذ سنين طويلة أسعى للوصول إلى مكان من خلال ما تعلمته وخبرتهُ أكاديميا بعد أن صبغت معاناتي الروحية تلك الرغبة ليتوالد في هاجس توحيد المكانين بذاكرة واحدة حرصت فيها عند تسلمي منصبي الوزاري أن أكون وفيا إلى عهد من العمل والكد والأجتهاد في هذا الاتجاه . فكانت الأهوار جزء من حاضرة رسالة العمل وربما جعلها الوزير واجهة أولى لقسمهُ الوزاري على أساس إن الأهوار قدر ما هي خزين للمياه العراقية فهي تمثل مكملا لهوية الطبيعة العراقية حين تكون الجبال الممتدة على خاصرة الخارطة الكردستانية بدءا لوطن يتكامل بحلم المواطنة المتجانسة من سامية وآرية لتنتهي عند جنوب العراق ومصب نهريه دجلة والفرات ومن غرينهما وفيضانهما السنوي ولدت الأهوار التي يقول الدكتور عبد اللطيف جمال رشيد إنها مثلت لديه رغبة روحية تفاعلت مع المكان ومعاناته حيث أحس بأن التجفيف وذلك القسر الذي مورس على شعب المكان وأغلبهم من العرب الأهوار ( المعدان ) رسالة أخرى طوقت عنقه كدين عليه أن يؤديه هو أن يعمل ويناضل أن يرفع الحيف عن المكان وكان أول الغيث في هذا الاتجاه هو نشاطه وعمله في منظمة ( إيندايت ) التي سعت في جهدها الأممي والإنساني إلى كشف معاناة المكان وشعبه وتسليط الضوء على ما يحدث من جرف وقتل لكل مظاهر الطبيعة ومفاصلها ( الماء ، النبات ، الحيوان ، التأريخ ، الإنسان ) ..وكان من ضمن من ساهم في العمل في هذه المنظمة النائبة البريطانية آن كلود ، والسيد أدور مورتمر والدكتور أحمد الجلبي نائب رئيس الوزراء الحالي ،واللبناني وشبلي ملاط ، والسيد حامد البياتي وكيل وزير الخارجية العراقية ..
كان نشاط المنظمة يتركز والذي تصاعد أداؤه بعد وقائع حرب الخليج الثانية على محاكمة المجرمين الذين عزلوا المكان وقتلوا الحياة فيه والذين يتحملون مسؤولية ما تعرض له سكان الأهوار وبيئتهم من خلال الحملات الدوبلماسية والإعلانية في كل المحافل والمنابر ومنها مؤسسات الأمم المتحدة والهيئات المستقلة واللجان البرلمانية التي تعتني بحقوق الإنسان وبيئته .
يقول السيد الوزير: كانت سنين صعبة من العمل ، لم تهدا لنا فيها ذاكرة أو مكان . لقد كان الشغل الشاغل لنا أن نكون واجهة للتصدي لكل تلك الممارسات المجنونة التي أرادت أن تستلب من المكان حقوقه التاريخية والوطنية والتضاريسية وكان لهذه الأنشطة الدور الكبير في جلب الانتباه إلى معاناة سكان الأهوار ورغبتهم بعودة الحياة إلى طبيعتها كما كانت منذ قديم الزمان . وهذا دافعا ليكون أملي بعد سقوط النظام أن أكون بمنصب يجعلني أكمل مسيرة ما جاهدت لأجله منذ سنين طوال . ورغم إنني لاانتمي للمكان بدافعه القومي أو السكن ولكنه منتم إلي بدافع الوطنية والتذكر بأني في وطني عشت ذات المعاناة من القسر والترهيب والمصادرة .
لهذا كان من أولى مهامي أن أضع خطة إستراتيجية ورؤيا لما يمكن أن اعمله في وزارة حملت أرثا ثقيلا من المهام الجسام والخطيرة وتدني مستويات الأداء وتقادم ومجوداتها بسبب الحصار . فسعيت إلى زيارة المكان والاقتراب من حاجته على شتى المستويات ..
ووقتها طلبت من الحاكم المدني لسلطة الائتلاف المؤقت بول بريمر أن يمدني بأكثر العون لأنني وضعت في حساباتي تصورا بعيد المدى يعيد للمكان هويته فبادرنا إلى تأسيس مركز إنعاش الأهوار ومن خلاله مددنا خيوط التواصل والتنسيق مع كل المؤسسات الساندة . فانا أؤمن إن المكان لايعود كما كان ويطمئن أهله بالعودة إليه إلى حين نوفر الخدمات الضرورية بعد أن فقدها على أديم هذا الجفاف القاحل مثل الطرق المعبدة والمدارس والمركز الصحية والمياه الصالحة للشرب وغيرها من المؤسسات التي تنعش الحياة وتديم الوجود الحضاري للإنسان وبالتالي يمكننا أن نكسر سواتر العزلة عن هذا العالم ونعيد شيئا فشيئا مجرى الماء إليه وحد اللحظة أعدنا من 50 إلى 40 % تحت الغمر وهي نسبة جديدة بالمقارنة مع حجم ما مورس على المكان من تجفيف ومحاولة هائلة لطمس معالمه التضاريسية والاجتماعية والبيئية .
وفوق ما منحنا من سلطة الائتلاف طلبنا ميزانية ثانية لإننا كنا نعتقد أن أعادة حياة بكامل وجودها لاتكفيه بضع مئات الملايين من الدولارات ، فنحن نحتاج إلى مشاريع هائلة تجعل الحياة ممكنة لما لخصوصية المكان في أرثه الحضاري كونه كان حاضنة لواحدة من اعرق الحضارات وهي حضارة سومر وفيها مدينة أور التي ولد بها النبي إبراهيم الخليل واحد مدن الأهوار ( المدينة ) فيها ارث مقدس وهو ما ينسب إلى آدم ( شجرة آدم ) التي تم تحويله بجهودنا من مكان خرب إلى مكان سياحي وترفيهي وهو اليوم عبارة عن حديقة غناء ومتنفس لأهل المدينة وزوار المكان .
كما كنا نرى إن المكان وقدسيته يمكن أن يكون استثمارا سياحيا لأن طبيعة الأهوار تمتاز بسحر خاص حيث الموجدات الطبيعية التي تمتاز بها هذه المناطق ولإدراكنا إن المكان يمكن أن يكون سلة غذائية عراقية من خلال ثروتها السمكية الهائلة وكونها مشتى لعدد لايحصى من الطيور التي تأتي إليه مهاجرة من أماكن عديدة . لهذا كنت أصر على زيادة ميزانية أحياء منطقة الأهوار لأجل رفع مستوى الحياة وممكناتها وأنا أرى بنفسي أطفال تلك المناطق حفاة ويجرون وراء السيارة الحوضية للماء الصافي طلبا له بعد أن ظلو يعانون لعقود من شحة الماء وعدم توفر مضخات الماء الصالح للشرب .
ظل الوزير يتحدث . بدا الصدق والاهتمام يملأ وجهه برغبة عجيبة لجلب الموارد كي يعمر الأهوار ويحيي فيها حياتها التي تعودت عليها وكان دائما يبحث عن تجارب عالمية في مثل هذا المجال وأشار إلى انه طالما درس التجربة الأمريكية للتعامل مع تضاريس مشابهة لأهوارنا حيث يملكون أمكنة ( الويت لاند ) في ولاية فلوريدا والمسيسبي ويمكننا أن نستفيد من خبراتهم . ثم تحدث عن هواجسه وأماله الكبيرة وبعض معاناة العمل جراء بعض الممارسات التي تنشط في المكان كالدراسات والمسوحات المكررة وغير المجدية التي تقوم بها بعض المؤسسات الدولية دون الرجوع إلى الوزارة والاستفادة من خبراتها . كما كان من دعاة أن نستفيد من تجربة سكان المنطقة ونصحهم لشعور الوزير بأن أهل مكة أدرى بشعابها وقال :
علينا أن نفهم معاناة الناس ، وان نجاري متطلبات ، فهم بسبب ما حدث يشعرون بحيف كبير ، لهذا هم يطلبون كثرا ، ويريدون لهذه المطالب أن تنفذ . ونحن نعمل جهد الإمكان لكي ننفذها .
تلك بعضا من هموم الوزير إزاء الأهوار ومحنتها . وهي منضدة بمكتبه بملفات كثيرة . دراسات ، إحصائيات ، استبيانات . دائرة معلومات كاملة تحدثك عن مدى عشق الوزير وتعلقه بهذه الحياة ورغبته بتحسين مستوى الوجود الحضاري فيها ورغم أن هذا العمل لاينسيه مهامه الأخرى في عمله الوزاري ولكنه ينظر إلى الأهوار نظرة خاصة كما ينظر الأب إلى عائلته حتى أنك تجد بجوار مكتبه تماما كاليريا جميلا للوحات زيتية عن طبيعة الأهوار بشتى صورها وهذا لم أعهده عند أي وزير أن يضع أرشيفا فنيا لمشاغل وزارته وعملها ومع اللوحات يحتفظ الوزير بجدار القاعة بصور نادرة لمدينة البصرة القديمة وهو يدلل بذلك على وحدة روحه في انتمائه الوطني ورغم أن الدكتور عبد اللطيف جمال رشيد من القومية الكردية إلا أن انتماءه العراقي والوطني يكاد ينسيه هذه الروح التي تربت في فسحة الجمال الطبيعي لعطر سهول شهرزور وجبال بنجوين وسهوب حلبجة التي عانت من الخردل معناة خمسة ألاف جثة بريئة توسدت شوارع المدينة الحزينة .
يتحدث الوزير رغم شهادته العلمية وخبرته بكلام بسيط . تدرك فيه جزء مضيئا من أخلاق الرجل ومهنيته . وهو يبقى في مكتبه متأخرا حتى بعد أن تفرغ الوزارة من موظفيها ليبقى مع ( استاف ) بسيط يدقق في عمل الوزارة بكافة مديرياتها العامة بمختلف اختصاصاتها وهو يشعر بذلك بروح رضا كبيرة تدرك فيها أن وزير موارد ماء العراق . وزيرا جاء المنصب إليه ولم يجيئ هو للمنصب .

#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات