أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يعقوب زامل الربيعي - المخفوق بالطين قصة قصيرة















المزيد.....

المخفوق بالطين قصة قصيرة


يعقوب زامل الربيعي

الحوار المتمدن-العدد: 5406 - 2017 / 1 / 18 - 22:39
المحور: الادب والفن
    


ا
يوم أخبروه، بأن مسؤوليته ما تزال عظيمة، وأنهم لا يرونها جديرة بغيره، مضى به الفرح حد الانتشاء. على أنه تشبث بتلابيب الفرح كي لا يفلت منه ولا يبين على وجهه كذلك.
لم يكن يكره الاطراء أو المديح، لكنه لا يستسيغ أن يجد نفسه متلبسا بهما. فالإطراء شبيه بأصباغ زينة النساء، يخجله أن تَزيّن وجهه. غير أن قدراً من الاعتداد بالنفس كان غامرا في تلك اللحظة، لم يستطع مداراته عنهم حين لاح في عينيه. ( العاصفة لابد أن تترك بعضا من فوضى ). وقتها لاحت في عينيه بعض من تلك الفوضى.
عندما أشعل لفاقة تبغ، لم يكن بحاجة حقيقية لها. غير أن محاولة الاختباء بوجهه خلف كثيف دخانها، هو ما دفعه لإشعالها. ومع ذلك، لحظتها، شعر بضيق شديد داخل قفص صدره عندما تذكر حجم المسؤولية ومخاطر حملها. في تلك اللحظة، فقط، شعر بالخوف يتملك روحه. فشحب لون وجهه.
ويوم ألقوه في زاوية مظلمة، أحس ان الهواء ثقيلا، ومثانته كانت مثقلة، لذا شعر بألم قاس.
الخوف يومها، كان كما نديف النفاش، يتطاير داخل نفسه وعلى امتداد الفضاء الاسود. أيقن وقتها بأن ساعته قريبة، وأنها أقرب من رئتيه إليه، فمال مهشما على الجانب الهش من روحه، وبكى.
ــ " النفس مريضة يا عالم ! ".
لم يصدقوه.
ــ سيفسدونني بشيش حديد، وقد يصلونني بالماء الحار مثل جرذ وقع في مصيدة. وأنا الذي لم يأكل من الدنيا زبيب، ولا تمطقت يوما بلذيذ العيش.
عندها لاموه على جبنه وسقوطه في مستنقع الخوف، قائلين:
ــ " أستح يا رجل. لا تكن جبانا. هي مجرد ساعة، فتحملها. وستغدو بطلاً".
ــ " لا أستطيع.. لا أريد ".
ــ " من العار أن تنزوي. تذكر أهمية البطولة ".
ــ " لا أريد.. لا أريد ".
اعترته رعشة ارتباك صغيرة عندما تمدد تحت شجرة دفلى لينام.
الشجرة الوارفة بالورق المر وبالورد الزهري، غالبا استظل تحتها. وكما لم يشعر يوماً، بلذيذ النوم إلا تحت ظلالها. هناك زاره الحلم الوحيد المتكرر.
( مصطفا، كان مع شلة جنود في ساحة عرضات فسيحة. ومثل تمثال من الحجر الصوان، كان واقفا في حالة الاستعداد. لم يبد عليه أنه أهتز أو تحرك. الدنيا تحركت بمن فيها، إلا هو، فلم يتحرك قيد شعرة. مع ذلك لم يبد حراكا عندما لوى عريف الفصيل أذنه أمام جميع الجنود، قائلا:
ــ " قرد. تعلم الطاعة، لتصبح ملتزما بالقوانين "
يافطة روحه التي أُهملت سنيناً وعلاها الصدأ، ما تزال معلقة على جدار الماضي العريق، تثير النخوة فيه بين أوان وآخر، على أن كل ما فعله، في تلك اللحظة، أنه أشتعل غيظا، وكاد الرماد أن يضطرم، لكنه ولحكمة تجلت، كظم غيظه. وتجمل بالصبر. وفي زاوية من زوايا تعسف المذلة، أختلى بنفسه، وانتحب ببكاء أخرس.
في اليوم الثاني. وأمام جمع الجنود المصطفين صباحاً، قدمَ قدمه اليسرى على قدمه اليمنى. كان ثابتاً. لم ينظر لأي ناحية سوى ناحية الأمام. سار بانتظام. مخلفاً رهط الفصيل بحالة من الذهول. متساوقاً مع حركة الضمير المعلول باتجاه الاسلاك الشائكة التي تحيط بالمعسكر.
صوت العريف ظل يطارده:
ــ " أنت أيها القرد، عد للصف. عد سريعاً وإلا قدمناك للمحاكمة العسكرية.. أنتبه للإيعاز... إلى الوراء در ".
لم يستدر. ولم يعد للصف. كل ما حوله غدا أخرسا ما عدا زعيق بثلاث أشرطة يحثه على العودة مهدداً. على أنه ظل مع تناسق خاص متجها صوب الاسلاك الشائكة ).ٍ
جسده متصلب، منذ ليلة أمس. ولم يكن غاضبا. فقط كان على السرير يحاول التحرك ليجد له وضعا مريحا، لكنه وبرغم الهموم التي ناء بوزرها، كان يشعر بنوع من الراحة والهدوء، فكر أن يأتي زوجته المنداة بالنوم الثقيل. لكنه ولسبب لا يدركه، قرر أن يراجعها سريعا ثم يدعها تأخذ قسطها من النوم، لكثرة ما شاركته أرق الليالي الماضية. فاستسلم بعد تلك المباشرة اللذيذة للنوم. الاحباط ظل يأخذ مكانا في داخله. وكان يشعره بأنه يسيح كالصديد خارج ارادته وبعيدا عن متناول الرؤية دون تبرير أو استحواذ، ولا حتى بتوافق مع أي منطقة في شرنقة الاحاسيس. جميعنا نصاب به دون أن نتدبر بشيء لمنع حدوثه . هو أشبه بما يحدث في اليوم والشهر وفي الفصل من حياتنا. أو كما يحدث لنا عندما تتوقف حياتنا على خط النهاية غفلة.
( مبرودك ميلادك يا فتى. ستصبح رجلاً لبضعة أيام، وربما لثوان معدودة. وستسقط بعدها في المصيدة مثل فأر ). ورغم ادراكه للحقيقة المرّة، كابر مثل ديك قتال يتخايل مزهواً فوق مزبلة.
ــ " كفى سخفاً.. فأنا أبن أمي وأبي. ـ صرخ فيهم ـ
ــ " سلام عليك يوم ولدت، ويوم تموت حيا، ويوم ...."
ــ " موتوا بغيظكم. لم ولن يسعفكم مصيري. أنا ملك اللحظة".
زوجته ما تزال مرتمية على الفراش مثل عقب سيجارة. لم تتحرك مكانها قيد شعرة.
صوت حذائه يجوب الطريق وحيداً، بلا صاحب، لا يلوي على شيء. كهل متروك مثل طين بارد.
......
......
كما نصبوه أول مرة، كان الجسر الحديدي، ما يزال ينحني على نهر شح عنه الماء، واهناً خفيفا، رغم عوارضه وقوائمه الحديدية الضخمة، بلا صاحب يعينه.
مسه احساس، بأن تلك العوارض ستتطاير يوما ما مثل النفاش، بمجرد تعرضها لريح غشوم. كانت الحكمة تنسل من بيت عقله انسلالا طرياً. تسقط أمامه على عرض الطريق وكأنها قطع من طين مخفوق بالماء. كان يراها أمامه على تباعد تحت اضواء المصابيح الواهنة. وحتى من خلال الظلمة، كان يحسها مجرد يقظة عابرة. ولأنه يخشى تحللها، كان يحاول شرنقتها في رأسه على هيئة مزججات مقاومة للحرارة.
عظامه كباقي الاشياء حوله، أحس بها خفيفة وهشة ومجوفة أكثر من المعتاد، فرغة من مشاجها.
أستغرقه صوت الماء المتقطع. كان رخيما وهو ينزلق تحت الجسر، يهدهده في الخيال مثل رضيع أرخى جسده لبلل السلام ولرقة الليل.
( ــ " سيان عندي أن تكونوا معي، أو البقاء وحيداً ".
ــ "سنكون معك. أقسمنا ألا نخذلك".
ــ " لا أمنعكم. مع أني أشك بصدق نواياكم ".
ــ " سر .. لا تستدر للوراء. نحن جميعا سنكون خلفك ماضون ".
تبسم دون رضى، وبلا تودد قال:
ــ " آمين ".
ــ " آمين ... ومأمون ظهرك ". قالوا بلا بحماسة.
باتجاه الاسلاك الشائكة، صوّب ناظريه، وشطرها يمم وجهه ومشى. مفعم كان بالغيظ النبيل وعناد اللحظة.. متسلحا بالصبر الجميل. وموقنا من أن الله قاب قوسين أو أدنى له. ردد قائلا:
" .. أستعذ بك يا مولاي وبالحكمة العظيمة. ألتجئ إليك ".
سمع بعضا من ضحك يأتيه من خلف. كما سمع أحدهم ينهر الجمع.
ــ " لا تضحكوا من أبن عقيل ".
همس آخر، ساخرا:
ــ " أشياء مشخوطة، يرددها البؤساء واليتامى ".
ــ " لا تضحكوا عاليا كالسفهاء. تذكروا أننا بايعناه قبل دقائق ".
ــ " أنت يا مجنون، أستدر. عد للرهط ".
كان صوت العريف يتابعه حتى ساحة المدينة التي خلت إلا منه.
زبد وردي حائل اللون، متسخ بالأقذار والنفايات، تناثر على قدميه. وكان الماء مخفوقا بالطين.
( تقول النبوءة: أنك تستطيع أن تعبر الماء على قدميك مثل موسى. وستمشي مثل الآخر على وجه الماء. فلا يأخذك لغو الأتباع، ولا خوف من فرعون.
ــ " إن كانت حقيقة صادقة، أو محض خيال، فأنك ملاقيها يا ولدي ". قالتها امرأة عجوز).
أقتعدَ صخرة توسدت الماء قرب الجرف. حاول أن يخلد لبعض سكينة.
صوت الماء كان رخيما. رائبا، مثل الطين الذي تملج به أمه وجه وظهر تنور خبزها.
( رمقه بطرف من عينيه الحمراوين، سياف مخبول. لكز خاصرته بمدق كوعه الغليظة، قال محذرا:
ــ " لا تتبعها. امرأة خرفة ".
طفق يحدثه بصرامة عن مساوئ الرذيلة، وعن خطورة الخوض في مجاهل مستنقعها. قال في نفسه من تحت شفرة السيف والكوع " لو تبقر بطني ما تركتها".
ومثل كلب جائع راح يتعقبها.. تفرست المرأة التي تناغمت تفاصيل هيئتها بوجهه مليا بعلائم الدهشة والشبق والمواساة. قالت:
ــ " مبروك ميلادك يا شيخ.. ميت لا يخذلك الموت ".
ــ " وما في ذلك "؟!
ــ " أشياء كثيرة. أن كنت مصراً، أتبعني ".
لحق السياف برأس الشيخ الطافح بالعناد والمخاطرة، وبه تعثر، ليقول:
ــ " أما تخجل على شيبتك؟.. أين الحكمة "؟.
تبسم ضاحكا بوجه السياف ساخرا. حاول أن يقول بعض كلام. ولأن الماء كان مخفوقا بالطين، فضل السكوت. في تلك اللحظة، شد السياف رداء الشيخ صارخا بوجهه:
ــ " أسمع. ما يدعوك للضحك. أتراني مخبولا مثلك"؟
ــ " بل بغيضا. بغيضا لكثرة تطاولك على الله. فضحكت من حلمه عليك".
أمام جمع غفير من الناس، استرخى. لم يكن جاحدا، ولا مصغرا خديه عنهم. بل متساوقا مع حركته. مأخوذا بعزة الإثم. داس على الاسلاك الشائكة كومة إثر كومة. ومثل شاهدة قبر كان وحيدا.
هبت ريح دافئة. نتنة. كانت تأتيه من الازبال. وبعض نثار رغوة من زبد الطين المخفوق بالماء، لطخت وجهه.
في الساحة الخالية، أسند ظهره على جدار خاوٍ. وفي ركن مهمل، قرب شاطئ مهمل، كان وحيدا مهملا.).
قطع الطريق ثمة شيخ، متوجها نحوه على وقع عصا، حين دنى منه سأله.
لم يكن ينتظر ردا على سؤاله كأنه غير معني بسماع شيء:
ــ " ما الذي جرى لعقلك "؟
عينا الشيخ كانتا بيضاوين. تتعامد فيهما خطوط حمراء دقيقة. صاح بالشيخ عندما ولاه ظهرا ومضى:
ــ " هل تراني ممسوسا "؟.
ــ " لا . بل ميتا ".
ــ " وما العيب أن مت "؟
ــ " بل العيب أن تُهمل ".
برتابة ، صرّ صرصار في زاوية الغرفة. ومن خلف مكتبة عامرة بالكتب والمخطوطات خربشت فارة. ربما كانت تقضم شيئا.
زوجته ما تزال على همودها. مذ ضاجعها قبل ساعة. لم تكن مترهلة ولا بدينة. لكنها لم تكن منتظمة في داخلها. قضت نهارها بكاءة لأنها تعرضت لخلل في استجاباتها العاطفية.
وتحت نظره، سقطت يده ميتة في قعر حضنه. تابعها طويلا دون أن يتحرك فيها أي شيء.
....................
بغداد 2/2/2003



#يعقوب_زامل_الربيعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زيارة حلم....
- سَرَيان بلا تؤدة..
- الاردية الزيتونية قصة قصيرة
- إلى كل هذا...
- يا قوى الخير أتحدي..
- أكثر من رغبة...
- هل هو ما نسميه -.... -؟..
- لا خوف إذاً !...
- لكِ، وللبلور الأزق..
- خرف الأتجاه !..
- تَوّغل...
- عش لحزن البلابل...
- حالة تشفير...
- حسبُكَ أنك الفرقدين..
- الشيء، ودفء الفضة...
- رهان ...
- شيء من - الحب في زمن الحرب -.
- نهاية الذروة..
- لابداية أبداً !.
- رسو الأنواء..


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يعقوب زامل الربيعي - المخفوق بالطين قصة قصيرة