|
نقطةُ ضوء واحدةٌ من التماعات بدر
نمر سعدي
الحوار المتمدن-العدد: 5387 - 2016 / 12 / 30 - 13:13
المحور:
الادب والفن
نقطةُ ضوءٍ واحدةٌ من التماعات بدر
(تداعيات في الذكرى الثانية والخمسين لرحيل الشاعر بدر شاكر السيَّاب)
نمر سعدي/ فلسطين
في ربيع عام 1997 همس شاعرٌ يكبرني بعشرين عاماً في أذني: عليكَ بالسيَّاب.. لا أظن أنه سيجيء شاعرٌ مثلهُ حتى نهايات القرن الواحد والعشرين، فيما بعد ابتلعت الوظائف الحكومية هذا الشاعر الصديق وربما اعتزلَ الشعرَ الى غير رجعةٍ وبقيتُ أنا على شغفي الأزليِّ بهذا الطائرِ الشعريِّ النادر والمشتعلِ حساسيَّةً ورهافةً. كان عليَّ أن أكتب شيئاً عن السيَّاب في ذكراه الثانية والخمسين رغمَ مشاغل الحياةِ التي تبعدني أحيانا عن الكتابة ونادراً ما كانَ يشغلني عن بدر شاغلٌ، لكني ولحسن الحظِّ أعدتُ قراءةَ دواوينهِ وقراءة الدراسات الهامة التي كتبت عنهُ مؤخراً وأتاحها محرِّك البحث جوجل لي.. بدءاً بمقالات الناقد العراقي الدكتور عبد الواحد لؤلؤة عن السيابِ وتأثرهِ بالشاعر الانجليزي المثير للجدل ت س اليوت وايديث ستويل وانتهاء بعدد الآداب المخصَّص عن السيَّابِ في فبراير 1965 وفيهِ مقالٌ مهم للشاعر اللبناني خليل حاوي وعثرتُ فيما بعد على كتاب (بدر شاكر السيَّاب في أيامهِ الأخيرة) للشاعر العراقي عبد اللطيف أطيمش منشوراً كملفٍ في أحدِ المنتديات على الشبكة العنكبوتية وهو من الكتب التي تلقي ضوءاً ضافياً على حياة هذا الشاعر الفذ في أيامهِ الأخيرة في الكويت، عندما كانَ يتعالجُ من مرضهِ في المستشفى الأميري. كانَ عليَّ أن أقولَ شيئاً عن الذي حملَ الشعلة المقدَّسة واحترقَ بأُوارها، عن الصوتِ المتشظِّي في كلِّ ترجيعات أوركسترا حركة الشعر العربي منذ أواسطِ الخمسينيَّات الى الآن، عن معاناتهِ ومرضهِ وفقرهِ، عن عبقريَّتهِ وأسطورتهِ الخالدة، فكَّرتُ أن أسلِّط الضوء على طريقةِ توظيفهِ المفردة الشعريَّة في السطر الشعريِّ الموزون بفنيَّة وذكاء ومهارةٍ خارقة، عن اختيارهِ للكلمةِ المناسبة لضبط إيقاعِ القصيدةِ، وكمن أراد أن يقتصَّ لهُ من حياةٍ ظالمةٍ أو زمانٍ حجود استمعتُ اليهِ أكثرَ عبر يوتيوب وقرأتُ قصائده بكثيرٍ من التأنِّي والتأنُّق، وتعزَّيتُ بكمِّ الدراساتِ والأبحاث الأدبيَّةِ الهائلِ الذي استفردَ بهِ بدر دونَ سواهُ من روَّاد حركةِ الشعر الحر. لا يعنيني إن كان بدر هو الرائد الأوَّل لقصيدة الشعر الحرِّ أو لم يكن فالهوَّةُ واسعةٌ بين قصيدتهِ بتنوِّعها المذهل واختلافها الواضح وتجارب ومحاولات نازك الملائكة الشعريَّة البسيطة جدَّاً والتي تميل الى الموَّشح العادي. قصيدةُ السيَّاب بالنسبةِ لي ورغم عشرات القراءات تبدو وكأنها طازجةٌ وجديدةٌ في كل آن، شعريَّةُ السيَّاب هي شعريةٌ متجدِّدةٌ برأيي رغم اختلاف وجهات نظر النقدِ الذي جاء فيما بعد ليفكِّكَ تحوُّلات قصيدة التفعيلة، وأنا قارئٌ للتجارب الشعرية الثرَّة والمختلفة التي تلتْ تجربة السيَّاب وكانت تنويعاً طبيعيَّاً عليها وأغلبها لشعراء قصيدةِ التفعيلة، ولا أريد الخوض في غمارِ قصيدةِ النثر لضيق المجال، هناك إدِّعاءٌ يقول بأنَّ الحداثة الشعريَّة العربيَّة قد تجاوزت السيَّاب، طبعاً أنا أحترم هذا الرأي جدا وأشدِّد على خصوصيَّة قصيدة بدر التي تبدو لي حتى هذهِ اللحظة غيرَ متجاوزة، ولنبتعد عن قصائدهِ ذائعة الصيت ولنأخذ قصيدة (حفار القبور) على سبيل المثال، سنرى مقدرة السيَّاب في تلوين الجوِّ الشعريِّ العام فيها بالإضافة الى جمال التصاوير وفتنة اللغة الشعريَّة ونبرةِ القصيدة التي تدخل النفس بلا استئذان، نستطيع أن نقول أن بعض الشعراء حاولوا أن يطوِّروا في قصيدةِ التفعيلةِ أكثر من السيَّاب ولكننا لكي نثبتَ ذلك بحاجةٍ لدراسات كثيرةٍ تبرزُ براءةَ الجملةِ الشعريَّةِ الأولى والذكاءَ الشعريَّ اللمَّاحَ في قصيدة السيَّاب وعلاقتها بدهشة الشعر الطفوليَّة وبمنابع الشعر الحقيقي الصافي، السيَّاب كان واضحاً في عبارتهِ الشعريَّة لكنهُ كانَ عميقاً في الوقتِ ذاتهِ، كم كنتُ أتمنَّى لو امتدَّ بهِ العمرُ عشرينَ عاماً أخرى أو ثلاثين.. لو عاش حتى الثمانينيَّات أو التسعينيَّات، كنتُ أريد أن أرى كيفَ سيطوِّرُ قصيدتهُ العذبة التي اجترحها هو. كانَ بدر باباً للحداثة الأولى دخل منهُ شعراء لا يحصون شكلَّوا كورس الحداثة الثانية، كانَ رافداً عذباً لمن جاء بعدهُ، وهو بجملتهِ العصيَّةِ العميقةِ وبطريقتهِ الاستثنائيَّة في المسكِ بخيوط قصيدتهِ الصعبةِ كان متجاوزاً أصوات جيلهِ مثل خليل حاوي وأدونيس وعبد الصبور وحجازي غيرهم... وهنا يقولُ قائلٌ: هل جيل ما بعد السيَّاب أهم منه شعريَّاً؟ الإجابة هي لا فأنا لا أعتقد أن شعراء النصف الثاني من القرن العشرين قد تجاوزوهُ شعريَّاً، مع أنه أستاذهم وتلميذ أحمد شوقي وأبي تمام وت س اليوت وشلي وستويل، فشعراء الحداثةِ الثانية حاولوا أن يطوِّروا وأن يذهبوا الى فضاءات أبعد وأعلى ولكن قصيدةَ بدر لا تزال تشعُّ حتى الآن.. مع احترامي لعشرات التجارب المتميِّزة وللأصوات الأخرى فإنَّ أهميةَ السيَّاب لا تزالُ محيِّرة ولا يزالُ الاهتمام بهِ يزداد رغم مضيِّ أكثر من نصف قرنٍ على رحيله، ولا تزال تجربتهُ موضوع جدل وبحاجةٍ للكلام الكثير وللدرس والاستقصاء.. أظنُّ أن أعظم موهبة شعرية في الأدب العربي الحديث امتلكها السياب.. أتكلم عن موهبة وليس عن ثقافة.. وطبعا أتحدث بالنسبة لجيله وسنهِ وأعتبرُ هذا رأياً شخصيَّاً قد أخطئُ وقد أصيبُ فيه. وأنا أعيدُ قراءةَ منجز بدر الخالد وسيرتهُ الذاتيَّة كنتُ أختبرُ القلبَ بالغصص والعذاباتِ فعندما حملَ الشاعر الكويتي علي السبتي جثمان الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السيَّاب في يومٍ ماطر من أواخر ديسمبر عام 1964 وانطلقَ بهِ لتسليمهِ إلى أهلهِ في العراق ليتمَّ دفنهُ في مقبرة مدينة الزبير، اعترضتهُ السلطاتُ العراقية يومها وأبت عليهِ أن يعيدَ جسدَ الشاعرِ إلى الأرضِ التي أحب.. عندها أخذ السبتي بالصراخِ: يا ناس يا عالم هذا شاعركم خذوه.. وعندما سمحوا لهُ بالدخول وسلَّم جثمانَ الشاعر لذويهِ كانت السلطاتُ العراقيَّة قد طردتْ أهل بدر من البيت الذي استجأرتهُ لهم مصلحةُ الموانئ في البصرة، حيثُ كانوا مع عفش البيتِ تحت المطر الذي كانَ يهطلُ بغزارةٍ يومها، تذكَّرتُ جملةً قالها بدر ذات يوم ومعناها أنهُ عاشَ طوالَ حياتهِ القصيرة وهو يحلمُ بالأمانِ وبالبيتِ الذي يؤويهِ، محنةُ السيَّاب إذن لم تكن مع المرضِ والفقرِ وسوءِ الطالعِ فحسب، كانت مع اللصوص والخونة والسفلة والأوغاد والقائمة طويلة جدا.. الغصَّةُ وحدها هي التي كانت تمنعني أحياناً من أن أقرأ وجعَ الحقيقة، أو اكتبهُ بأصابعَ مرتعشة.
#نمر_سعدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مرايا نثرية 4
-
فاروق شوشة.. آخرُ الرومانسيِّين
-
حلمُ نوبل للأدب.. هل يتحقَّق عربيَّاً مرَّةً أخرى؟
-
ثعلبٌ ينامُ في حدائقِ السرياليِّين
-
نمر سعدي: الشعراء فوضويون وقصائدهم رسائل شخصية
-
نقوشٌ بريشةِ الضوء
-
جميل الدويهي.. شاعرُ اللحظةِ المفخَّخةِ بالجمال
-
ديوان (تقاسيم على مقام الندم) الصادر هذا العام عن دار توتيل
...
-
رسائلُ حُبٍّ في عُلبةِ صفيح
-
بينَ الحيرةِ والشغف (نصوص نثريَّة)
-
قيثارةُ الوجعِ الإنساني (عن محمود درويش في ذكرى رحيلهِ الثام
...
-
كتاب الغوايات/ مطوَّلة شعرية
-
خفقُ الأنفاس(نصوص نثرية)
-
سطوٌ أدبي
-
عبد الوهاب البياتي.. أثرٌ شعريٌّ لا يزول
-
فتنةُ العزلة/ شهادة إبداعية
-
الفلسطيني نمر سعدي في «وقتٌ لأنسَنةِ الذئب»/ قصائد تحمل روح
...
-
حبقٌ لظلالِ القصيدة/ نصوص قصيرة
-
كانَ صديقاً للفراشاتِ (عن أميرِ القصيدةِ التونسيَّة أولاد أح
...
-
هواجس على طريقِ القصيدة
المزيد.....
-
“استقبلها لعيالك” .. تردد قناة ماجد الجديد 2024 لمتابعة أفلا
...
-
عالم آثار مصري يطالب بإعادة رأس نفرتيتي من متحف ببرلين
-
-والغناء لم يتوقف-.. ثور يقتحم حفل عرس يمني وسط صدمة وهلع ال
...
-
-أبجد- ترعى المكفوفين من خلال فريق -أُوْل-
-
مخرجة أميركية يهودية ووجوه سينمائية لامعة تتضامن مع الفلسطين
...
-
حماس: تحقيق صحيفة ABC News يؤكد أن الرواية الصهيونية الكاذبة
...
-
بعد طول انتظار...مهرجان البندقية ينصف المخرج الإسباني ألمودو
...
-
هل تزيد أفلام هوليود خوفنا من أسماك القرش؟ وهل تستحق هذا الر
...
-
شوي تشينغ قوه بسام: الأدب العربي في الصين
-
نصوص في الذاكرة .. وصف لندرة و-كشف المُخبَّا عن فنون أوروبا-
...
المزيد.....
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
-
البنية الدراميــة في مســرح الطفل مسرحية الأميرة حب الرمان
...
/ زوليخة بساعد - هاجر عبدي
-
التحليل السردي في رواية " شط الإسكندرية يا شط الهوى
/ نسرين بوشناقة - آمنة خناش
-
تعال معي نطور فن الكره رواية كاملة
/ كاظم حسن سعيد
-
خصوصية الكتابة الروائية لدى السيد حافظ مسافرون بلا هوي
...
/ أمينة بوسيف - سعاد بن حميدة
-
آليات التجريب في رواية "لو لم أعشقها" عند السيد حافظ
/ الربيع سعدون - حسان بن الصيد
-
رنين المعول رؤى نقدية لافاق متنوعة ج1 كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
القناع في مسرحيتي الإعصار وكلكامش لطلال حسن -مقاربة في المكو
...
/ طلال حسن عبد الرحمن
المزيد.....
|