عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5329 - 2016 / 10 / 31 - 20:54
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ضاءات العقل الإنساني بين المتخيل والواقعي
من الثابت أن العقل البشري حينما يتعامل مع المعرفة والعالم كمعطى تحصيلي أو كتجربة أو تفاعل مع الما حول، إنما يمارس بشكل أولي عملية جمع وتخزين لهذه المعرفة وحفظها بشكل مصفوفات مرمزة في وعيه القريب، هذا في الغالب عند العقول التي تعمل وفق نظام مبسط أعتيادي يحمل الصفة الطبيعية لغالبية الناس، في مراحل تالية وليس كقانون عام هناك بعض العقول التي ترتق في هضم المعرفة وأستهلاكها وإعادة تدويرها في منطقة أو دائرة الفهم، تخضع هذه المعرفة لسلسلة من المقاربات والمقارنات والتعيير والتمييز كي تستخرج منها القدر الذي يمكن أن يتحول لقناعات أو متبنيات في دائرة القبول.
البعض يقسم العقل البشري لقسمين أو لفضائيين أفتراضيين ثم يتحول من الأفتراض إلى التجسيد اليقيني بدون دليل، الفضاء الأول هو منطقة الفراغ اللا معرفي التي تتركز فيه كموجودات المعارف اللا تجريبية أو اللا علمية مثل الدين والخرافة والأساطير والمتخيل والأوهام، في حين أن الجزء الأخر م فضاء العقل هو الذي يسمى بالفضاء الوجودي وهو يشمل الحقائق المتيقن منها والقوانين والعلوم وغيرها من المعارف الثابتة، ويستمر في تقسيم المعرفة بناء على ذلك ليستنتج في الأخر الحقائق التالية:
• الجزء الأكبر هو الجزء المسمى الفراغ المعرفي لأنه في الأصل التطوري للعقلنة والمعرفة الإنسانية يبدو فارغا ثم يتطور بالتناقص مع التجربة والتلقي والأشتغال، فهو الجزء الأصلي من الحالة الطبيعية عند الإنسان.
• طالما أن الجزء المسمى الفراغ اللا معرفي كان هو الأصلي فمن الطبيعي أن تتركز فيه نتاج التأثر الأولي بشكل عام، من الدين والخرافة والوهم والخيال والأسطورة وإلى أخره، لأن المعرفة تبدأ من هنا وتتضخم مع الإثراء بالتعلم والتلقي الممنهج والذي يهدف إلى محاكمة المعرفة الأبتدائية ليحول منها ما ينجح في البرهان إلى الفضاء الأخر، وتبقى المعارف الغير محسومة جدليتها بالبرهان متراكمة وفاعلة في الفراغ الى معرفي.
• الإقرار بهذا التقسيم وحسب نوع المعرفة قائم على أفتراض أن هناك معيار موحد في كل العقول البشرية طبيعيا، أي أن هذا الحال التكيفي تكويني بالفطرة، ومن ضمن عمليات التكوين البدوي فيه، وهذا الزعم يفترض أن العقل أساسا يحتوي مؤشرات عملية تتطور مع تطور المعرفة، هذه المؤشرات هي التي تصنف منطقة الفراغ واللا فراغ، وبالتالي وبالنتيجة العامة أن العقل البشري عقل عملي وعلمي ومعرفي بالأصل قادر على الفرز والتصنيف أبتدأ وبالقوة، وبهذه النتيجة نكون قد نسفنا أصل النظرية التي تقسم العقل إلى جزئيين طالما أنه وبالقوة يبدأ علميا وليس طبيعيا بمعنى أنه يستقبل ويخزن ويعتقد بكل مكتسب ومحمول ومنقول.
هنا يمكننا أن نستنتج مما تقدم أن العقل البشري والمنظومة المرتبطة به من فهم وإدراك ووعي أيضا نقسم بحسب النظرية إلى عالمين أو فضائيين مختلفين ولا يشترط أن يكونا متناقضين، بل أن لكل عالم منهما خصوصية موضوعية تتعلق بذاتية الأكتشاف لا بذاتية العقل فحسب، مثلا الفيلسوف كيركجارد وابن عربي يعتقدون بقصور دور العقل على المرحلتين الحسية والأخلاقية المعرفية، أما المرحلة الإيمانية أو كونية الإيمان مجردا فهي خارج إطار العقل بشقه المعرفي، ذلك أن الإيمان ليس معرفة وبالتالي فوجوده الطبيعي بالفضاء اللا معرفي، وأيضا لا يصنفه كفلسفة ولا منطقا، ولا علما، وإنما هو أمر وجودي عميق لا يتأتى بالمعرفة ويسبقها في الوجود، إذن عندهما الإيمان ليس إلا جوهرة نفيسة أسمى من العقل وأبقى منه، ولا يمكن تقييمها بمقاييس العقل الطبيعي.
عند التمعن بهذه النظرية وما تحمل من معتقدات تنتج عن فصل الإيمان كونه أقدم وأسمى من العقل إنما يشير فيها إلى نتيجتين مترابطتين وهما:
1. أن الإيمان الديني ليس خيارا عقليا ولا خيار حر بل هو مفترض وجودي يتساوى فيه الإنسان العاقل والواعي المدرك مع فاقد الأهلية العقلية طالما أن لا دور للعقل في خلقه أو تبنية أو الأقرار به.
2. عدم قدرة الإنسان الطبيعي على التخلي عن الإيمان الديني ولو قرر ذلك، لأن قرار التخلي قرار عقلي وبما أن الإيمان لا يخضع للعقل فهو أيضا لا يخضع للقرار العقلي، ويبقى الإنسان مؤمنا وإن تظاهر بغير ذلك.
الذي لا يمكن الإقرار به من خلال تأثير نتائج النظرية هذه هو، أن الإيمان نتاج لا عقلي ولا حسي ولا إداركي وبالتالي الأعتماد على هذه المقولة تخرج الإنسان من طبيعته التكوينية الباحثة عن جواب لتساؤل أزلي عن سر وجوده في هذا العالم، وعن الطريقة الأفضل التي يمكن أن يعيشها ويمارسها للخروج بأقل الخسائر وأكثر المنافع، بالتجربة الإنسانية ومنذ وعي الخليقة عرف الإنسان أنه كائن ضيف في مدة ما لكنه ليس مخلدا، وبالتالي فكان سعيه الدائم أن يربح أن يفوز أن يكسب الجولة من خلال وسيلة ما، قد يكون الإيمان بالدين أقدم وأهم الوسائل المتاحة أو التي جربها.
فهو لا يتعامل مع الحياة من باب الأفتراضات الفلسفية التي لم يكن أكتشافه لها إلا متأخرا جدا وبعد أن أوغل في الإيمان والدين، بل أن الكثير من مؤرخي الفلسفة يوعزون نشؤها لوجود الدين، تبنيا أو رفضا له أو تبريرا أو تفسيرا، لذلك كانت المعرفة الفلسفية هي اللصيق دوما بالمعرفة الدينية، وتعد إنعكاسا للكثير من المفاهيم الدينية التي تشغل العقل، لم يكن الإيمان إلا واحدا من أهم مدارك العقل الواع وأهم تفاعلاته في فضاء واحد، صحيح أن العقل يمكنه أن يقبل كل شيء يدركه في مرحلة من حياته أو أنماط تطوره أو ما يسمى بمرحلة طفولة العقل، لكنه في مراحل أعلى يخضع الدين والإيمان به إلى الأمتحان والمقارنة وحتى الرفض طالما أنه لا يمكنه أن يسلم بما يخالف المتيقن منه معرفيا.
لم يسبح الدين والإيمان ولا الإيمان بالإيمان في فضاء اللا معرفة لأنه خارجها أبدا، وإلا لم يكن من حقنا أن نؤمن بعقل وليس من المقبول أن نترك اللا متعقل من البشر أن يترك خارج دائرة الدين وما يستلزم لذلك من وجوبيات، وأيضا لعد الإنسان حيوانا متدينا أو حيوانا مؤمنا طبيعيا وإن لم يكتشف أو يعرف الإيمان، الفضاء اللا معرفي هنا مجرد تخريج وتبرير لعجز النظرية في الفصل بين المعرفة الإيمانية وبين حقيقة الواقع المادي، ومحاولة لتصوير أن الإيمان بأي شكل كان هو قدر لا مفر منه سواء أرد الإنسان كذلك أو حاول الفرار منه.
بهذه النظرية وبهذا الطرح الذي بدأ به أبن عربي إسلاميا والفيلسوف الدنماركي كيركجارد لاحقا تجرد الإنسان من خياره الذي يعتمد الوعي والحرية، وتعتمد الفطرية التكوينية لتثبت أن الإيمان فعل لا إرادي وغير مكتسب وبالتالي فعلاقة الإنسان الروحية هي علاقة أستعباد وخضوع لا يقاومها العقل، ولا يمكن لأي عقل مهما بلغ من قدرة في التحرر من الواقع أن يتحرر من الإيمان وشروطه، الصحيح أن الإنسان فطريا له ميول إيمانية لكنها ميول مشوشة وبدائية تنتج عن كونية البيئة وتأثيراتها على واقع ما قبل وجود كفرد، ونعم أيضا أن الحس الإيماني حس فطري في الإنسان ينحاز له طبيعيا، ولكن في كلا الحالتين يعود السبب لوجود عقل مطبوع هو الذي يثير هذه الفطرية في الإنسان ويفعلها لاحقا مع العقل المطبوع طبقل لتجربة الأخير وفاعليته الذاتية.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟