وليد الأسطل
الحوار المتمدن-العدد: 5321 - 2016 / 10 / 22 - 00:04
المحور:
الادب والفن
هناك أعمال أدبيّة كثيرة تكشف الوجه الأسود أو القاتم على أقلّ تقدير، للحضارة الغربيّة في تعاملها مع الآخر، و تُبرز مدى الهوّة الشاسعة بين الإدّعاء و الممارسة، من بين هذه الأعمال مسرحيّة (مونسيرا) للكاتب و الشاعرالفرنسي ، الإسبانيّ الأصل،الجزائريّ المولد (إيمانويل روبليس) المولود بوهران سنة 1914 و المتوَفَّى بفرنسا عام 2008.
يقدّم (إيمانويل روبليس) في مسرحيّته المُشار إليها، حجم الوحشيّة و التنكيل الّذي مارسه الغزاة(الكونتيستادور)، في حقّ السكّان الأصليّين لأمريكا الجنوبيّة، فالقسّ في المسرحيّة يُبرِّر سَفك دماء الأبرياء مستخدماً نصوصاً إنجيليّة، فيدعو المُمثّل المسكين أن يُقبِل على مصرعه هادئاً مطمئنّاً، فيجيبه الممثّل(و لكنّني بريء) فيردّ عليه القسّ(و مَن هو البريء؟) إنّ القسّ لا يهتزّ له طَرْف إذا ما قُتِل الملايين من غير المسيحيّين(ليس بوسعي أن أُكِنّ أيَّ شفقةٍ لهذه الكائنات، التي تصرّ على إقامة أصنامها و عبادتها في الخفاء، هؤلاء المتعصّبين الّذين يرفضون الإعتراف صراحةً بعظمةِ الله و مجده)، و ما أجمل ردّ (مونسيرا) على جملة القسّ الحمقاء هذه(أمّا أنا فلا أدري إن كان اللّه غيوراً، غَيرَةَ عباده عليه بهذه الصّورة الفظّة). إنّ أشدّ أنواع الإرهاب فتكاً هو الإرهاب الدّينيّ قبل العرقيّ، و إن كان الإرهاب العرقيّ أيضاً لا يقلّ عن الأوّل هَوَساً و جنوناً، يورد الأديب الجزائري الرّائع (محمّد ديب)في روايته الباهرة(الحريق)تعبيراً مُقَزِّزاً ينطِق به أحد المعَمّرِين الفرنسيّين مُحذِّراً ابنهُ الصغير(نَمْ و إلّا أَحضَرتُ لك العَرَبِيّ).
لقد وقفتُ على تسجيلٍ للبابا شنودة من سلسلة تسجيلات، أحسب أنّ اسمها إن لم تخُنّي الذّاكرة( سنون أو سنين مع أسئلة النّاس)يردّ فيه على سؤال أحدهم، عن تفسير(مَنْ لَطَمَكَ على خدِّك الأيمَن، فأَدِر له خَدَّك الأيسر)(إنّ هذا يَخُصُّ المسيحيّين فيما بينهم فقط). إنّ هذه الإجابة القروسطيّة لا تضاهيها في همجيّتها سوى عقيدة الولاء و البراء عند مَن يرى بها من المسلمين، الّذين يدينون الله بها، بل يزيدون الأمر ضِغثاً على إبّالة عندما يقولون أنّه لا يتمّ إيمان المرء إلّا إذا تَحَقَّق بهذه العقيدة، و الأصحّ هو أنّه لا يتمّ توحّش الإنسان إلّا بهذا الإعتقاد. إنّ خطر جملة شنودة العنصريّة وعقيدة المجانين الخَطِرِين من جماعة الولاء و البراء، يتمثّل في ما يتفصّد عن مثل هذه الطريقة في التفكير من دمار.
و بعد كلّ هذا العَتَه الّذي لا يصدر إلّا عن نفسيّة إقصائيّة و استِئصالِّيَّة هستيريّة، يقول القسّ في المسرحيّة(كان المسيحُ حُبّاً كُلَّه). أَلَم يكَن الأجدى بالقسّ أن يعظ نفسه قبل الآخَرِين، و لكن أنّى له أن يفعل ذلك، فما هو و (إسكياردو) الضّابط السفّاح، إلّا كما قال شوقي(و لكن كلّنا في الهمّ شَرقُ)، إذن (إسكياردو) و (القسّ) وجهان لحثالَةٍ بشريّةٍ واحدة، يصيح (إسكياردو) معترضاً(ماذا كُنتَ تقول يا موراليس؟ أنا أصفَح! أَتَبدو عليَّ بلاهةُ رجُلٍ يُمكِن أن يتعطّف و يصفح؟ أبداً)، (إسكياردو) تجسيد مثالي لعجرفة و حقد نوع من الغربيّين السّخيفين الهايفين الشرّيرين، الّذين تسكن أجسادهم أرواح سوداء يملؤها الحقد و الغضب، يُصَرّح (مونسيرا) في المسرحيّة(لا أظنّ إسكياردو بالرّجل الذي ينسى إخفاقاً ما و لو بعد عشرين سنة)، هذا يعيد إلى أذهاننا صورة (الكابتن آهاك) في رواية (موبيديك)الّتي تتكلّم عن روح الثّأر المخيفة الّتي يعاني منها الرجل الأمريكيّ الأبيض(لا تَد ْعُنِي آهاك، و لكن اُدعُنِي المُنتَقِم). في مكالمة جَرَت بين الأحمق المُطاع(جورج بوش الابن) و(جاك شيراك) تمّت قرصنتها، و عرضتها الجزيرة،يقول جورج بوش لجاك شيراك(تعال و انضمّ إلى جيش الصّليب المُقَدّس، إنّ صدّام حسين هذا، حفيد نبوخذ نصّر)، (إسكياردو) المُخفق في الحبّ، فقد رُفِض من قِبَل كونتيسة شابّة، في إسبانيا قبل أن يَقدُم إلى فنزويلّا، من هنا يمكنني القول، إنّ الفشل في الحبّ يُوَلِّدُ حِدَّةً و شراسة في الطّباع.
ليس (إيمانويل روبليس) بِدعاً من الأدباء، الّذين أشاروا إلى وحشيّة الرّجل الأبيض، كما ذكرت في طُرَّة مقالي هذا، هناك أيضاً (جون شتاينبك) في روايته (اللّؤلؤة) و كيف طارد الرّجال البيض ذلك الهنديّ الأحمر بِغَرضِ سلبِهِ لؤلؤتِه الثمينة، فكانوا سبباً في موت ابنِهِ الرضيع، إلى أن يُلقي الهندي في ساعة يأسٍ و قنوط باللّؤلؤة في النّهر، و رواية (رحلة إلى الهند) ل(فوستر)، و (مشهد من الجسر) ل(آرثر ميللر) الّتي تظهر تتكلّم عن العداء المستشري بين شريحة مهمّة و قطاع واسع من الأمريكان للأمم الأقلّ تحضّراً(إنّنا كلّنا بشر، فلماذا يتكبّر بعضنا على بعض)، و زَيف الشعارات الّتي يُرَوِّج الأمريكان أنّهم يدعون إليها، فها هو(إيدي كاربون) يقول ل(كاثرين)(إنّ لَكِ جَمال العذراء و طهرها يا كيتي، لهذا يجبُ عليكِ أن لا تَتَبَهرَجِي، هذا لا يليق بكِ، أنتِ أقرب ما تكونين إلى العذراء) في حين أنّه كان يريدها لنفسه، بل وصل به الأمر إلى محاولة اِغتصابها لو لا تدَخُّل(رودولفو).
صفوة القول، إنّ (مونسيرا) بطل (روبليس) هو صوت من هذه الأصوات المؤمنة بالإنسان، الّتي لا تملك أيّ تأثيرٍ في صناعة القرار الغربي تجاه الدول المتخلّفة و الضعيفة، إنّها أصوات باهتة خارج السّرب، لا تستمع إليها الشعوب الغربِيّة المُجَهّلَة، الّتي أطلقَ عليها عَرَّاب الصّحافة الأمريكيّة لقب(القطيع التّائه).
إنّ صرخات الحقيقة التي يُرسِلُها رجالٌ عظماء أمثال (تشومسكي)، و (خوسيه ساراماغو)، و (تزيفيتان تودوروف) الفيلسوف و النحوي البلغاري الحاصل على الجنسيّة الفرنسيّة، الّذي اعتبره (بونيفاس) بالمفكّر الأكثر احتراماً. تودوروف الّذي يتكلّم عن نهاية الدّيمقراطيّة الغربيّة، إنّ هذه الأصوات تُشبِه كلام والدة الحدّاد، في مسرحيّة (زواج الحدّاد) للأديب الإيرلندي (جون سينج)(ما جدوى الحكايات الرّائعة الّتي أعرفها، إذا لم أجد أحداً يُنصِتُ إلى عجوزٍ مثلي، اللّهمّ إلّا فتاة خائفة من دُنُوِّ أجلها، أو طفلاً صغيراً لا يواتيه النّوم، لأنّه جائِعٌ في ليلةٍ باردة).
#وليد_الأسطل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟