أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - فرحة صغيرة















المزيد.....

فرحة صغيرة


أحمد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 5244 - 2016 / 8 / 4 - 04:06
المحور: الادب والفن
    


نحيفا، طويلا، هشا، يرتقي الدرج. يتطاير الشعر الأبيض الخفيف على جانبي رأسه الأصلع. يتأرجح بين الجدار وسور السلم فيستند إلي السور بيده اليمنى ويحكم بوعي قبضته الأخرى على علبة "آيس كريم". في سن السبعين يصبح صعود أربعة طوابق مرهقا. يلهث. يتمهل قليلا. تهون المشقة حينما يتخيل وجه حاتم حفيده متهللا بالنظر إلي "آيس كريم". بعد خروجه إلي المعاش ووفاة زوجته قضى عشر سنوات وحده إلي أن طلقت ابنته وأقامت معه هي وطفلها. بعد عامين لم يعد يتصور حياته من دون ذلك الطفل القزعة، بسنواته الخمس، ومن دون ركضه بين الحجرات، وهو يلاحقه ببصره فيشعر بنفسه مثل شجرة عجوز جف ماؤها وفجأة مدت فرعا أخضر.

أدار المفتاح في باب الشقة. الصمت يعم المكان. أيكون نائما؟ حين يكون نائما فإنه يتجه إلي حجرته بهدوء، يجلس على حافة السرير، يوقظه، يغمغم له: "قم. قم. جدك جاءك بآيس كريم". يعتدل الولد جالسا على سريره على الفور كأنه لم يكن نائما. يمد ذراعيه إلي الجد يضمه إلي صدره بقوة، يغرز أصابعه في رقبة الجد متشبثا بها إلي أن يتألم جده من العناق. سار إلي حجرة الصغير ورأى السرير خاليا. عاد إلي الصالة. وقف في منتصفها يدير رقبته وهو يتطلع لأعلى، يتجنب النظر ناحية منضدة الطعام، يسأل بصوت مرتفع:" فين حاتم؟ يا تُرى فين حاتم؟". كعادته مختبيء تحت فراغ المنضدة، صامتا، عيناه مفتوحتان إلي آخرهما. يعيد الجد استفساره "يا ترى فين حاتم؟". يجيبه صوت رفيع "حاتم ليس هنا"، يقولها من أسفل المنضدة ويخرج رقبته يستوثق أنه غير مرئي:"أنت شايفني؟" يقول الجد متظاهرا بالحيرة:" لا. لا. أنت فين ياترى؟". يشعر الجد بفرحة حاتم الصغيرة في الاختباء وفي أن يفتش عنه الجد ولا يعثر عليه. تمتم الجد:"خسارة أن حاتم ليس هنا لأن جده جاءه بآيس كريم". فورا يندفع الولد خارجا مخاطرا بارتطام رأسه بحافة المنضدة. يهجم على" آيس كريم" بيديه الاثنتين، ينتزع العلبة ويعافر ليفتح غطاءها. يرتمي الجد على مقعد مجاور للشباك. يسرح في حياته التي تبدو له بعد انقضاء معظم سنواتها لحظة قصيرة، يستغرب أحداثها وأناسها وأزمنتها كأنها هي حياة شخص آخر. من النافذة يتناهى إليه نداء ممطوط "أي حاجة قديمة للبيع.. بيكيا. روبابيكيا". تذكر المجلات والصحف الموضوعة على رف في الطرقة. نهض. فتح الشباك. دلى نصف جسمه إلي الخارج:"يا روبابيكيا. بيكيا". يبرز من وراء جدار العمارة المقابلة رجل بجلباب مع صبي في نحو العاشرة يمسك بحمار يجر عربة يد. يرفع الرجل رأسه لأعلى ليعرف من أين جاءه النداء. يلمح الجد في الشباك، تظهرعلى وجهه ابتسامة خفيفة، يصيح: "حالا". هتف الجد: "الطابق الرابع. الرابع". يقول الرجل: "أيوه. الرابع. أيوه". بعد قليل فتح الجد باب الشقة ورأى الرجل واقفا مبتسما بأدب. لم يفهم سبب ابتسامته. "تفضل". طأطأ الرجل رأسه ودخل والصبي من خلفه. قاده الجد إلي الرف المكدسة عليه الأوراق القديمة. نظر الرجل إلى كومة الصحف يزن قدرها كأنها مجوهرات. سأل:"هم دول؟". أجاب الجد: "أيوه". استفسر:"وحضرتك عاوز كم فيهم؟". قال الجد: "أنت عاوز تدفع كم؟ بس خلي بالك الكمية كبيرة". هز الرجل رأسه: "خمسة جنيه". في هذه اللحظة برز حاتم من حلق الطرقة المفضية إلى الصالة. توقف وهو يرفع بنطلوناً قصيراً لأعلى وسطه، ويهزه لأعلى وأسفل، شاكياٍ: "يا جدو.. البنطلون مش عاوز يلبسني". ثم نظر إلي الصبي الآخر وسأله:"أنت ما عندكش بنطلون ليه؟". ابتسم الصبي ولم يجب. اندفع حاتم يجري إلي الداخل. التفت الجد إلي الرجل يتابع الفصال: "خمسة جنيه إيه بس؟! الورق غال دلوقت. قل كلمة حلوة لأجل نخلص البيعة". قال الرجل متأسيا: "والله خمسة جنيه كويس يابيه. الورق راحت عليه. اللي شغال دلوقت الأكياس البلاستيك". قال الجد: "لاء. الورق بياخدوه يفرموه للمطابع. قلت إيه؟". قال الرجل كأنه يعاني من ألم شديد:"طيب عشان خاطر حضرتك بس سبعة جنيه". صاح الجد: "خليها عشرة جنيه ونخلص". قال الرجل بأسف: "عشرة كتير". لبث الجد لحظة صامتا يمصمص شفتيه، ويبدي استياءه بينما تتجمع في صدره فرحته وهو يتصور كيف سيتهلل وجه الرجل الصعيدي حين يفاجئه بأنه سيعطيه الورق كله لا بخمسة جنيه ولا بعشرة.. لكن مجانا ولن يأخذ منه مليما واحدا! فتلمع عينا الرجل المسكين من فرح غير متوقع! هي اللحظة التي سيصل فيها المشهد لذروته. ابتسم الجد وربت على كتف الرجل: "طيب يا الله يا عم.. خدهم ببلاش". قالها وقهقه بقوة :"مبسوط بقى؟!". حدق بالرجل يتلمس في ملامحه أثر ما قاله، وراه مبتسما يدور بعينيه مدهوشا بسرور، ثم يقول: " معقول يا بيه؟ ربنا يخليك لنا"، ثم انحنى يطوق بذراعيه كومة الورق، يرفعها إلى أعلى. ابتسم الصبي ابن الرجل وأطلق ضحكة: "ما احنا عارفين إن حضرتك كنت ح تقول خدوهم ببلاش". هبط الجد ببصره إلى الصبي مستغربا :"عارفين إزاي يعني؟". قهقه الصبي:"يا بيه احنا جئنا لك قبل كده كثير وكل مرة تعمل الحكاية دي وفي الآخر تعطينا الجرايد ببلاش. هيء. هيء". ظهر الحنق على وجه الجد والتفت إلي الرجل بغضب: "الله! أنت جئتني قبل كده؟". ارتبك الرجل ناظرا بسخط لابنه: "أيوه جينا". كز الجد على ضروسه محدثا نفسه: "يعني أنا أقول له سأعطيك الورق مجانا وهو يتظاهر بالفرح مع أنه يعلم منذ البداية أنه سيأخذه مجانا؟! لئيم يسايرني كأنني طفل صغير!". تحرك الرجل بحمولته على كتفه نحو باب الشقة قائلا بخفوت: "سلام عليكم". وما إن خرج حتى صفع ابنه على قفاه: "بوختها مع الرجل الطيب. بتتكلم ليه ياحمار؟". زام الصبي:"ما هو كل مرة يعمل الحدوته دي. الله". زغده الرجل يدفعه على السلالم وهو يقول له: "كلامك ماسخ يا ابن الماسخة. هو مبسوط كده. أنت مال أمك؟". أغلق الجد باب الشقة بصفعة قوية. وظل واقفا لحظة بخيبة أمل. قال لنفسه: " كان يعلم منذ البداية! والله لأجعله يدفع الثمن مضاعفا المرة القادمة. المهم أن أتذكر وجهه". استدار متجها إلي المطبخ فجاءه صوت حاتم ورأسه بارز من تحت المنضدة "أنا مش هنا يا جدو. شوف أنا مستخبى فين. بس ما تلقانيش بسرعة". توقف الجد مكانه. عليه الآن أن يذرع الصالة ذهابا وإيابا، يروح ويجيء مدة طويلة، وعليه أن يضرب كفا بكف، متعجبا مستفسرا " ياترى حاتم فين؟".

*****

د. أحمد الخميسي. كاتب مصري



#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ناجي العلي .. انتظار الوطن
- البحث عن بلادنا
- اسطنبول والموت حسب الأصول !
- الكتابة إلي المستقبل
- الإعلان الأساسي .. يا للي عطشان وناسي !
- لن أكتب هذا المقال !
- جو كوكس .. اقتلاع الزهرة
- كله جايز .. في ثقافة الجوايز !
- عن العلم والأدب مجددا
- جراحة - قصة قصيرة
- رحلة للحكومة للتعرف إلي الشعب
- لغة الجرائد
- تفاصيل الموت والحياة
- - اتصال - قصة قصيرة
- تيران وصنافير .. وحرية التعبير
- صحافتنا المصرية تاريخ من الحرية
- صياد الأرواح
- عدمية وخراب الأدب الصهيوني
- لحظات لن يغغر فيها الوطن الصمت .. حول جزيرتي صنافير وتيران
- تمثال للأم الشجاعة


المزيد.....




- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - فرحة صغيرة