أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - جدلية الهوية والمواطنة في مجتمع متعدد الثقافات















المزيد.....



جدلية الهوية والمواطنة في مجتمع متعدد الثقافات


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 5220 - 2016 / 7 / 11 - 17:21
المحور: الادب والفن
    


جدلية الهوّية والمواطنة !
في مجتمع متعدّد الثقافات(*)

د.عبد الحسين شعبان(**)
المقدّمة
يشغل موضوع الهوّية والمواطنة حيّزاً غير قليل في الثقافة والفكر وفي دراسات علوم السياسة والقانون والاجتماع، خصوصاً في ظل الجدل الذي ارتفعت وتيرته منذ ما يزيد على ربع قرن من الزمان، سواءً على المستوى الداخلي أو الدولي، في إطار مجتمعات متعدّدة التكوينات والهوّيات أو في إطار احتدامات لمصالح دولية وإقليمية.
وكان لانهيار الأنظمة الشمولية، وبخاصة في أوروبا الشرقية أثره الكبير في احتدام الصراع بين "هوّيات كبرى وصغرى"، وهوّيات "تابعة ومتبوعة" وهوّيات "عليا ودنيا"، وهوّيات "قوية وضعيفة"، رغم ميلي إلى تسميتها "هوّيات فرعية" أي خاصة، وهوّيات "كلية" بمعنى عامة أو شاملة، الأمر الذي عرّض بعض الكيانات الكبرى (الدول المتعدّدة التكوينات) إلى التصدّع والتآكل، خصوصاً بتبلور بعض خصوصيات الهوّيات الفرعية، التي وجدت الفرصة مناسبة للتعبير عن كيانياتها بعد طول انتظار وكبت وشعور بالغبن والحرمان، ناهيك عن ضعف المواطنة بسبب سياسات الإقصاء والتمييز والتهميش.
وأدّى هذا المتغيَّر إلى انقسام دول وانفصال كيانات ظلّت " متّحدة" لسنوات طويلة أو هكذا بدت الصورة، ولعبت العولمة دوراً مهماً في تشجيع ذلك، وبخاصة إذا كانت الكيانات الكبرى عامل تحدٍّ للقوى المتنفذة والمتسيّدة في العلاقات الدولية، وهو ما وفّر ظروفاً موضوعية، وإنْ كانت لأغراض خاصة، لبروز الهوّيات الفرعية، وخصوصاً في ظل ارتفاع رصيد فكرة حقوق الإنسان ومبادئ المواطنة والمساواة، وهو ما كان غائباً في ظل الأنظمة الشمولية والاستبدادية.
وأصبح الإقرار بالتعددية والتنوّع الثقافي والقومي والديني واحترام حقوق الهوّيات الفرعية وخصوصياتها مسألة كونية، شجّعت "الأقليات" ونقصد بذلك المجموعات الثقافية في مجتمعات متعددة التكوينات الدينية والإثنية، على المطالبة بحقوقها وكيانياتها الخاصة، من خلال بيئة دولية داعمة وظروف مناسبة موضوعياً وذاتياً، ولذلك فإن جدل الهوّيات وصراعها أحياناً، ارتقى إلى مصاف نزاعات كبرى وحروب أهلية، وترك ندوباً وجراحات وحواجز تاريخية ونفسية، ازدادت حدّة وتنافراً في السنوات الأخيرة، على الرغم من وجودها في السابق، إلاّ أنها كانت غير منظورة في ظل الدولة المركزية "الصارمة" والنظام الشمولي، العمودي، ذو الصلاحيات التي تكاد تكون مطلقة، فالاتحاد السوفييتي السابق وحده إنقسم إلى 15 جمهورية لا تزال تداعياتها وآثارها تبرز بين الحين والآخر، ولعل الأزمة الأوكرانية حالياً ومشكلة جزيرة القرم ذات الكثافة السكانية من أصول روسية، ليست بعيدة عنها، إضافة إلى حروب جورجيا وجمهوريات آسيا السوفيتية السابقة.
أما يوغسلافيا السابقة فقد تمزّقت إلى 6 كيانات وجرت بينها حروب وصراعات وعمليات إبادة بعضها لم يندمل على صعيد العلاقات التاريخية بين مكوّناتها الدينية والإثنية والاجتماعية، أو تداخلاتها الدولية، ناهيك عن هدر حقوق الإنسان كما حصل في كوسوفو، إضافة إلى البوسنة والهرسك. وانقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى كيانين بطريقة مخملية، هما جمهورية التشيك (تشيخيا) وجمهورية سلوفاكيا)، والسودان انفصل جنوبه باستفتاء شعبي العام 2010 بعد احترابات طويلة استنزفت موارد البلد وطاقاته منذ العام 1956 حين نال السودان استقلاله، وتشكّل إقليم تيمور الشرقية بقرار دولي بانفصاله عن أندونيسيا لاعتبارات تتعلق بالهوّية أيضاً وارتباطها بالمواطنة وهكذا .
ولعلّ الحديث عن أكثر من "عراق" أصبح مبحثاً يكاد يكون دائماً على طاولة التشريح الدولي منذ عقود من الزمان، سواءً بحكم الأمر الواقع في إطار مشاريع جديدة، كان قد جرى تسويقها تحت عناوين مختلفة، أو امتداداً لمشاريع قديمة، وهذه وتلك اتخذت مبرّرات جديدة باسم " الواقعية السياسية" أو لإنهاء العنف، أو مبرّرات سياسية قومية أو طائفية.
وتستهدف جميع تلك المشاريع إلى تقريب فكرة التقسيم حتى من خلال رسم صورة متخيّلة عن الوضع العراقي أمنياً، سواءً للتخلص من النظام السابق أو ما بعد الإطاحة به، مثل مشروع جوزيف بايدن، (نائب الرئيس الأمريكي باراك أوباما) أو قبله تساؤل غراهام فولر (من مؤسسة راند Rand الأمريكية المقرّبة من الـCIA) حول: هل يبقى العراق موحداً حتى العام 2002؟ أو قبلها ما تم ترويجه خلال الحرب العراقية- الإيرانية، لاسيّما في سنواتها الأخيرة حول تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات شيعية وسنية وكردية، وهو ما راود بعض السياسيين الطموحين، ولكن القصيري النظر لاحقاً، والذي جاء دور الحديث عنها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003 ويتجدد الأمر على نحو كثيف منذ احتلال تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" للموصل في 10 حزيران (يونيو) 2014 وتمدّدها لعدد من المحافظات، بحيث سيطرت على نحو ثلث الأراضي العراقية، إضافة إلى ما يزيد عن ثلث الأراضي السورية.
إن ما طرحه فولر من تساؤل بعد غزو الكويت وفرض الحصار الدولي على العراق منذ العام 1992 له أكثر من دلالة، لاسيّما بعد احتلال العراق، ومن ثم انفجار العنف والتطهير الطائفي والمذهبي والإثني، الأمر الذي انعكس على الهوّية والمواطنة في العراق، خصوصاً بعد احتدام المشهد السياسي عقب تفجيرات مرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء العام 2006.
والأمر مطروح اليوم بحدّة في سوريا من جانب الأوساط الدولية المتنفّذة بغض النظر عن أهداف حركة الاحتجاج والمطالب الشعبية العادلة والمشروعة التي ابتدأت سلمية في 15 آذار (مارس) العام 2011، والتي دخلت عليها عناصر مختلفة، بما فيها قوى إرهابية مثل "تنظيم القاعدة" وأخواتها، سواءً تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بحيث تحوّل الصراع عنفياً ودموياً، وبدت الحرب التي تستمر منذ ذلك التاريخ وحتى كتابة هذا البحث وكأنها مصارعة على الطريقة الرومانية، لا تنتهي الاّ بمقتل أحد الفريقين المتصارعين، ووصل الآخر درجة من الإعياء تقترب من الموت.
يستهدف الباحث من مناقشة هذه الإشكاليات الفكرية والسياسية تقريبها إلى الواقع، بعيداً عن الأدلجة والنظرة المسبقة، وسيقسّم البحث إلى قسمين الأول يبحث في الهوّية والثاني سيبحث في المواطنة.
القسم الأول – في الهوّية
1- الهوّية والثقافة
تعتبر الهوّية موضوع جدل في الأدب السياسي، خصوصاً بجانبه الفكري والاجتماعي والثقافي ، وقد احتدم هذا الجدل إلى حدود كبيرة بعد انهيار النظام الاشتراكي العالمي وتحلّل المنظومة السوفيتية، الأمر الذي دفع شعوباً وأمما وجماعات لتخوض صراعاً حاداً باسم الدين أحياناً وباسم القومية أو اللغة في أحيان أخرى، وفي كل الأحوال كانت الخصوصية أمراً ملازماً لكل حديث عن الهوّية، إذْ سرعان ما طفحت كيانات وكتل على السطح بعد طول كبت وشعور بالتمييز، في مجتمعات كانت الصورة الواحدية تطغى عليها.
لعلّ واحداً من أسباب "انتعاش" مسألة الهوّية إذا جاز التعبير هو تفكّك الأنظمة الشمولية، وشعور بعض الكيانات الخاصة "بالانعتاق" وتطلّعها ليكون لها شكلاً من أشكال الاستقلالية والخصوصية التي تجمعها وتعطيها كيانها الخاص، لاسيّما بعد تهميش وإلغاء ومحاولات صهر بمزاعم شتى، الأمر الذي قد يكون وراء اندفاع الكيانات والهوّيات الفرعية، الجزئية، في البحث عن طريق جديدة لتحقيق ذاتها والتشبّث بخصوصياتها بعد طول "عداء" أو شعور "بالاستصغار" أو "فوقية" و"استعلاء" عانت منه، وقد تسبّب الفعل ومن ثم ردّ الفعل، في خلق فتن ونشوب حروب أهلية وتهجير قسري وإبادات، تارة بحجة الحفاظ على الهوّية التي يُراد اختراقها، لاسيّما الهوّيات الكبرى، وتارة بزعم تحقيق الهوّية والتمسّك بها، لاسيّما للهوّيات الفرعية، التي يراد تذويبها أو إخضاعها!
وإذا كانت تحدّيات الهوّية داخلياً أساساً مستمراً لاحتدام الجدال والسجال والصراع، فإن التحدّيات الخارجية لم تكن بعيدة عن ذلك، خصوصاً تداخلاتها وتأثيراتها المختلفة، حيث ظلّ الموقف من الحقوق والحريات، وبخاصة من مبدأ المساواة التامة والمواطنة الكاملة، وهما ركنان أساسيان من أركان الدولة العصرية، هو العامل الحاسم في الاحتدام والصراع والتناحر أحياناً، وذلك ما استثمره العنصر الخارجي في إثارة النعرات وتأليب البعض على البعض الآخر، والتدخّل بحجة حماية هذا الفريق أو ذاك، لاسيّما للكيانات الفرعية، خصوصاً إذا شكّلت الكيانات الأساسية ذات الصفات العامة، عنصر تحدٍّ للقوى المتنفّذة والمتسيّدة في العلاقات الدولية، التي بإمكانها التأثير عليها، وذلك بالعزف على هذا الوتر الحسّاس للهوّيات الفرعية، التي ستضعف الكيانات الكبرى، وهو ما يمكن أن نطلق عليه " كلام حق يراد به باطل"!، لاسيّما إذا تعرّضت وحدة الدولة للتمزّق والمجتمع للتشظي!.
ولكن هل يمكن الحديث عن هوية ثابتة أو متكاملة أو دون تغيير، باعتبارها معطىً ساكناً وسرمدياً، حتى وإن كانت بعض عناصر الهوّية قابلة للثبات مثل الدين أو اللغة؟ أم أن الهوّية بشكل عام تخضع لنوع من التغيير في الفهم أولاً وفي التفسير ثانياً، وحتى لو بقيت الأصول قائمة، فان بعض عناصر الهوّية مثل العادات والفنون، فإنها تتطوّر وتكون أكثر عرضة للتغيير حذفاً أو إضافة، لاسيّما علاقتها مع الثقافات والهوّيات الأخرى، تأصيلاً أو استعارة، وهذه لا تأتي دفعة واحدة بالطبع، بل تتم عملية التحوّل بصورة تدرّجية، تراكمية، طويلة الأمد، والأمر ينطبق على تفاعل وتداخل الهوّيات، خصوصاً من خلال عناصر التأثير القوية سياسياً وثقافياً واقتصادياً.
لقد ازداد جدل وصراع الهوّيات، في زمن العولمة، لاسيّما بعد انتهاء الحرب الباردة وهيمنة لاعب أساسي في العلاقات الدولية، ولعلّ الشعور بالاستهداف كان فادحاً، من جانب الهوّيات الفرعية أو الصغرى، في حين شعرت بعض الهوّيات الكبرى، العامة، وكأن هيبتها بدأت تتصدع بحكم الثقافة الاستعلائية السائدة، أو من حاول توظيفها لخدمة أغراضه السياسية الفوقية، سواءً كانت دينية أو اثنية أو طائفية أو غير ذلك، الأمر الذي ساعد على الانكفاء من جهة والتشرنق أو التعصب والانغلاق وضيق الأفق من جهة أخرى، إزاء الآخر، خصوصاً بتفكك الدولة أو هشاشة وحدتها الوطنية في ظل المعادلات الجديدة، وبخاصة للتكوينات المختلفة.
وبدلاً من طلب الاستكانة أو الخضوع أو محاولة التسيّد من جانب الهوّيات الكبرى أو من يدعي تمثيلها من الفئات المهيمنة على الهوّيات الفرعية، الذي كان ناجماً عن الشعور بالتفوق أو الأغلبية أو ادعاء الأفضليات، فإن نزعات رفض التعايش وعدم الرغبة في التواصل كانت قد تمت بالمقابل، جرّاء سياسة عدم الإقرار بالتنوّع والتعددية والحق في الاختلاف، وتتجه مثل هذه السياسة وردود أفعالها صوب العزلة والقطيعة، بدلاً من التعايش والمشترك الإنساني.
الثقافة هي الوعاء الذي يستوعب ويجسّد الهوّية، وهي التي تعبّر عن الشعور بالانتماء، فالثقافة هي توالف بين القيم المتراكبة والمتفاعلة مع الآخر أيضاً، لاسيّما إنسانياً، ومع التقاليد والعادات، التي تعكس سلوك وحياة الناس،
كما أنها مثل الكائن الحي الذي يخضع لقوانين التطوّر الحياتية ذاتها، وهي تمثّل رؤية شاملة للعالم تتجلى أو تتجسّد فردياً أو مجتمعياً في المفاهيم والقيم وظواهر السلوك والممارسات المعنوية والعملية والحياتية، توحّدها اللغة، وإن تنوّعت تنوّع فئات المجتمع من حيث مواقفها الاجتماعية والفكرية، بما يشكل الخصوصية الثقافية والقومية العامة في المجتمع .
بهذا المعنى فالثقافة هي مجمل أساليب المعيشة في حياة الشعب اليومية، التي تشمل عناصرها المترابطة في نسيج متكامل، الرؤية العامة، والقيم والمبادئ، والمفاهيم، والتقاليد، والعادات، والمعتقدات، والمقاييس والمعايير، والممارسات ، والأعراف، والقوانين، والأمثال، والمروّيات، والمناقب الأخلاقية، والقواعد السلوكية اليومية .
قد يكون الاهتمام بالهوّية في ربع القرن الماضي ناجماً من تراجع دور الآيديولوجيات، لاسيّما بعد انخفاض منسوب الصراع الآيديولوجي منذ نهاية عهد الحرب الباردة في أواخر الثمانينيات، أو تحوّله من شكل إلى شكل آخر، خصوصاً بعد انهيار الكتلة الاشتراكية، وصعود الإسلام كعدو تقليدي للغرب بعد سيادة عهد "الليبرالية" الجديدة سياسياً واقتصادياً، التي ارتبطت موجتها الجديدة بظاهرة العولمة، لاسيّما في ظل الثورة العلمية- التقنية، خصوصاً في مجال تقنيات الاتصال والمعلومات، وسعت للهيمنة على السوق الدولية على مستوى الكرة الأرضية.
ولعلّ هذا التوّجه ارتبط بفكرة النظام العالمي الجديد، الذي اتّسم بمنطق السوق وتسليع مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية ، وإزالة الحواجز أمام انتقال رؤوس الأموال والسلع وخصخصة المؤسسات الاقتصادية وإلغاء ملكية الدولة لها، وتحكّم الشركات " فوق القومية" في السياسة الاقتصادية الدولية، وسعي المحافظون الجدد في الولايات المتحدة إلى جعل سلطة السوق مقدسة، وتحطيم كل العوائق التي تعترض طريقها، سواء كانت دولاً أم حكومات، مجتمعاً مدنياً ومنظمات غير حكومية، أو غيرها .
وهكذا أخذ دور الثقافة يتعاظم سواءً على الفرد أو الشعب أو الأمة أو الدولة، ويزداد تأثيرها على السياسة والاقتصاد على حد سواء، خصوصاً بعد أن سعت العولمة لتسليع الثقافة بهدف تحطيم منظومة القيم الخاصة ب الهوّيات الأصغر الفرعية، بعد سيادة الهوّيات الكبرى أو الهوّية الأكبر من خلال تعميم نمط الاستهلاك والفردانية، خصوصاً العلاقة بين القوى المتسيّدة والنافذة في العلاقات الدولية وبين الأمم والشعوب والدول الصغيرة.

2- الهوّية والعولمة!

ربّ سائل يسأل، كيف تتشكّل الهوّية؟ هل هي ثابتة وكاملة وبالتالي مقفلة غير قابلة للتطور أم متغيّرة ومتحوّلة ومفتوحة وقابلة للإضافة والحذف!؟ واستكمالاً لهذا السؤال يلوح دور الارادة للفعل أو للمعطى التاريخي الذي يقبل التطور والتراكم والتفاعل مع غيره، حيث تتمثل الهوّية في عناصر معرفية ونسق معتقدات وقيم ومعايير، وعلى الرغم من محاولات العولمة تحويل الثقافة إلى سلعة يتم تداولها على نطاق واسع، وخاضعة لسوق العرض والطلب والاحتكار، فإنه يمكن القول أن هناك ثلاث مستويات لتشكيل الهوّية، فهناك المستوى الأول- الفردي، فلكل فرد هوّيته وخصوصيته، وهناك المستوى الثاني- الجماعي أو المجتمعي أو الجمعي "الجمعوي" كما تسمى مغاربياً، وهي تمثّل المشترك للجماعة الإنسانية، أما على المستوى الثالث فهو المستوى الوطني والقومي، وفي كل الأحوال فان هذه المستويات الثلاث تتحدّد بنوع المواجهة، اتفاقا أو اختلافاً مع الآخر، لاسيّما الذي تواجهه قرباً أو بعداً، وهو ما يذهب إليه محمد عابد الجابري .
نجم صراع الهوّيات عن نزاعات اجتماعية- اقتصادية، لاسيّما في إطار العلاقات الدولية، خصوصاً علاقة البلدان المتقدمة صناعياً بالدول النامية، حيث تحاول الأولى ترويضها وتطويعها ونهب مواردها، وأحياناً يتخذ احتدام الهوّيات شكل صراع متنوّع، فيما يتعلق بنمط الحياة والسلوك ومنظومة القيم، حتى وإنْ اتّخذ شكلاً دينياً أو لغوياً أو قومياً، لكنه يُمثّل من حيث الجوهر محاولات لفرض الاستتباع وإملاء الإرادة من جانب القوى الكبرى، ومقاومة وممانعة من القوى الصغرى.
وهناك نوع آخر من الاحتدام في الهوّيات، ينجم عن نزاعات إثنية أو دينية، وأحياناً تتداخل هذه النزاعات التي تكاد تكون سائدة حالياً في المجتمعات المتخلفة أو البلدان النامية أو ما يمكن أن يطلق عليه مجتمعات الأطراف أو بلدان الجنوب الفقير، بسبب ضعف الدولة المركزية من جهة وشحّ الحقوق والحريات وعدم تحقيق المساواة التامة والمواطنة الكاملة من جهة أخرى، لاسيّما في دول متعددة الأعراق والقوميات والإثنيات والأديان والطوائف، فسرعان ما تندلع الصراعات بين من يدعي تمثيل القومية الكبرى أو الدين السائد أو النافذ أو الطائفة الأكبر من موقع السلطة ومن خارجها أحياناً، وبين أقليات أو فئات مُستبعدة أو مهمّشة، فيستعين كل طرف بثقافته السائدة، عندها يندلع العنف ويحتدم الصراع وتتباعد الكيانات وتكبر الهوّيات.
يمكن القول بأن الصراع بين الهوّيات يكاد يختفي في المجتمعات المتقدمة، وخصوصاً الذي اتّخذ بُعداً (استئصالياً واقصائياً) عنفياً وعسكرياً ومسلحاً، حتى لو بقيت بعض ظلاله أو استحضر تاريخه، فإنما يتم ذلك على صعيد الفكرة والسياسة والتاريخ والمصالح الاقتصادية، لاسيّما بعد إسدال الستار على جوانبه المأسوية، حيث شهدت أوروبا، اتحاداً متميزاً ونافذاً أساسه المصالح الاقتصادية والمنافع المتبادلة وثقافة التسامح والتعايش والتعاون، بعد اعتماد مبادئ المواطنة واحترام حقوق الإنسان، لكن هذا الصراع ما زال مستمراً ومتصاعداً في البلدان النامية، وبعض بلدان الكتلة الاشتراكية سابقاً، دون أن يعني إلغاء أشكال جديدة له في الدول الرأسمالية المتقدّمة.
إن المجتمعات اللاّديمقراطية وبخاصة في البلدان النامية شهدت احتدامات حادة ومعارك كبرى تحت راية الهوّية وهو ما حدث في أمريكا اللاتينية ويحدث في آسيا وأفريقيا، واستمر على نحو حاد في العراق والسودان والصومال وأفغانستان ولبنان حيث تتقدم الهوّيات الفرعية على الهوّية الجامعة، وقد استشرى الأمر في العراق بعد الاحتلال، رغم الدثار السميك من القوة والقمع الذي تغلّف به في السابق، لكنه سرعان ما انفجر، وبخاصة عند إقرار القسمة الطائفية- الإثنية التي كرّسها بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق بعد أيار (مايو) 2003.
وباستثناء ما حصل من معارك البوسنة والهرسك والصراع بين الصرب والكروات والمسلمين والمسيحيين، وما حصل بين روسيا والشيشان وفي جورجيا وألبانيا وهي كلها خرجت من عباءة الأنظمة الشمولية، فإن تعايش الهوّيات أمرٌ معترف به ومصان قانوناً وممارسة، وأخذ يشكل جزءًا من الثقافة المشتركة ذات الأبعاد الإنسانية، وبخاصة فيما بينها، حتى أن انفصالاً مخملياً كان قد حصل بين التشيك والسلوفاك، بعد وحدة أو اتحاد دام عقوداً من الزمان، وذلك باتفاق الطرفين في 1 كانون الثاني (يناير) العام 1993 بعد أكثر من 3 سنوات من انهيار النظام الشمولي الاشتراكي السابق.
الهوّية إذاً وعي الإنسان وإحساسه بذاته وانتمائه إلى جماعة بشرية قومية أو دينية، مجتمعاً أو أمة أو طائفة أو جماعة في إطار الانتماء الإنساني العام، وحسب حليم بركات "إنها معرفتنا.. بما ، وأين، ونحن، ومن أين أتينا، وإلى أين نمضي، وبما نريد لأنفسنا وللآخرين، وبموقفنا في خريطة العلاقات والتناقضات والصراعات القائمة"!؟ .
الهوّية بهذا المعنى هي مجموعة السمات الثقافية التي تمثّل الحد الأدنى المشترك بين جميع الذين ينتمون إليها، والتي تجعلهم يُعرفون ويتميّزون بصفاتهم تلك عما سواهم من أفراد الأمم والجماعات الأخرى. وقد تتطور الهوّية بالانفتاح على الغير، وقد تنكمش، تتحدد أو تتقلص، تنحصر أو تنتشر، لكنها دون أدنى شك تغتني بتجارب الناس ومعاناتهم وانتصاراتهم وآمالهم، وهذه المسألة تتأثر سلباً وإيجاباً بالعلاقة مع الآخر .
الهوّية بهذا المعنى ليست معطىً جاهزاً ونهائياً، وإنما هي عمل يجب إكماله دائماً ، والتغيير هو الذي يطبع الهوّية وليس الثبات، والتفاعل بحكم علاقة الإنسان بالآخر، وليس الانعزال، ولا يتعلّق الأمر بالقضايا السياسية حسب، بما فيها المواطنة وحقوقها، بل إن المسألة تمسّ بالصميم الجانب الثقافي، وهذا الأخير بقدر كونه معطىً مرتبطاً بالماضي والمستقبل، فإن الجانب السياسي له علاقة بالحاضر، الراهن، القائم، أما جوانب الهوّية الخصوصية الثلاث فلها علاقة بالأرض والتاريخ والجغرافيا (الزمان والمكان) مثل علاقتها بالثقافة المشتركة السائدة في الأمة، وأخيراً علاقتها بالكيان القانوني لوحدة الوطن والأمة (اتحادهما في دولة مثلاً).
وفي كتابه" الثقافة العربية والعولمة" يعرض الدكتور محمد البرغثي تعريفات وتفصيلات عن الهوّية والعولمة والثقافة، فيتوصل إلى أن الهوّية لا تعدّ منجزاً مكتملاً، أي أنه ينزع عنها صفة التقديس، لاسيّما حين يضعها في حالة من التطوّر والتغيير، خصوصاً بالتفاعل مع الآخر، معتبراً مثل تلك العلاقة التفاعلية – التبادلية مع الغير إثراءً للهوية، وليس إلغاءً لها. وهو ما يذهب إليه هول ستيوارت الذي يعتبر الهوّية في حالة تحوّل دائم، فهي ليست معطىً منجزاً متكاملاً لا ينتهي .
إن جدل الهوّيات لا يعني بالضرورة الصراع بينها، بقدر ما هو حالة صراع واتحاد، احتدام واحتواء، وعلاقة تمثل وتعلّم، رغم المغايرة وعدم التجانس والاختلاف، إنها حالة نفور وتكامل أحياناً، ومثل هذا التنوّع في العلاقة، لاسيّما الاختلاف، يؤكد التلازم بين الثقافة من جهة، والتعددية والتنوّع من جهة أخرى. فهوّية طالبان مثلاً وفقاً لمنطقه حسب أدونيس: ليس إمكاناً وإنّما هي المتحقق، وهي جاهزة مسبقاً، مكتملة، ومغلقة، كأنها شيء بين الأشياء: حجر، أو فأس أو سيف ... هكذا تريد القوى المتعصّبة أن تضع هوّية الإنسان وراءه وليس أمامه، هوّية مغلقة وليست مفتوحة، متكوّنة وكاملة، وليست قابلة للإضافة والحذف، أي أنها أقرب إلى الثبات وعدم التغيير، فلا وجود للتراكم والتطور ووفقاً لهذا المنطق، فإن الآخر لا وجود له، غائب، عدو .
لعلّ السؤال الذي يواجه البشر منذ الخليقة فردياً وجماعياً: من أنا أو من نحن؟ ثم يستكمل هذا السؤال من خلال أسئلة أخرى تتعلق بالعمل والمشروع، الذي يمثله الإنسان، نشأة وانتماءً كمعطى أول، وفيما بعد عملاً وصيرورة، كمعطىً ثاني الأول سيكون معطىً دون خيار، أما الثاني فهو خيار أي أنه تفضيل بين خيارات، وبالتالي سيكون خياراً واعياً ومكتسباً، من خلال وعي وعملية خلق. وإذا كان الأول طبيعياً، فإن الثاني يعبّر عن الإرادة البشرية والتدخّل الإنساني لإكساب الهوّية شكلاً جديداً مفتوحاً قابلاً للتطور .
وبهذا المعنى فالهوّية لا تتكون بمجرد النشأة والانتماء، وهما موروثان طبيعيان، بل تتكون من خلال عملية الخلق والعمل والصيرورة، وهي عملية إبداعية مستمرة ومفتوحة.
وكلّما كانت هوّية " الأنا" غير ملتبسة، كلما استطاع الدخول في حوار متكافئ مع الآخر على المستوى الثقافي، أما إذا كانت الهوّية محطّ إشكاليات، فإنها ستكون معلّقة أو مرجأة أو متأرجحة حسب تعبير أدونيس الذي يقول: إنه لا يستطيع أن يعطيها وصفاً: الولادة، المواطنة، الجنسية، اللغة، الإبداع والتميّز، فردياً أو جماعياً.
الهوّية الفردانية حتى وان كان يُنظر إليها بارتياب في عالمنا العربي باعتبارها مصدر شك، حيث يتقدم عليها ويلغيها أحياناً الهوّية الأساس، كما تسمّى ونعني بها "هوّية الأمة" كما يقال، وعلى هذا المعيار الكلاّني الشمولي، يُنظر إلى "الأقليات" في دولة متعدّدة القوميات أو الأديان، بتخطّي وتجاوز أي حديث عن الخصوصية، التي ستعني حسب هذا المنطق، المساس بهوّية الأمة، الجماعة البشرية السائدة.
وقد تختلف أولويات هذه الجماعة باختلاف الآيديولوجيات والأفضليات، فتارة باسم القومية وأخرى باسم الدين وثالثة باسم المذهب ورابعة باسم الآيديولوجيا، وهكذا، فالمختلف لا يستحق سوى الإبعاد والإقصاء والنبذ، وما عليه الاّ الرضوخ والاستكانة وقبول حكم الأغلبية أو الجهة المهيمنة، وحسب أدونيس، فالأمر ليس نفياً للآخر بقدر ما هو نفي للذات في الآن، وبقدر انفتاح الذات على الآخر، فإن الهوّية تزداد غنىً، وبقدر ما تنكمش الذات وتتقلص في انتمائيتها، نشأة ومواطنة، تزداد فقراً، ولا يمكن طمس التغاير والتنوّع والتعدّد جزئياً أو كلياً.
يمكن القول إن لا ذات بلا آخر، فلا ذات دون تأثير وتأثّر، وحين تكون الهوّية من القوة والفاعلية تكون أكثر ثقة بالنفس، وأكثر استعداداً للانفتاح على الآخر وأكثر حيوية في التعاطي والتلاقح معه .
الثقافة تشمل طريقة حياتنا كلّها، وأخلاقنا، ومؤسساتنا، وأساليب عيشنا، وتقاليدنا، حيث لا حدود لتفسير العالم، وإنما سعي لإعطائه شكلاً خاصاً به .
العالم، لاسيّما في ظل العولمة أرخبيل مفتوح تتلاقى فيه الشعوب وتتمازج، فمثلاً رغم السمة الغالبة للمجتمع العربي لغوياً وإثنياً ودينياً (العربية- الإسلامية) لكنه كان ملتقى القوميات والإثنيات والثقافات مثل: البابلية، والأشورية، والفينيقية، والفارسية، والهندية، والتركية، والكردية والزنجية، وإضافة إلى الإسلام هناك المسيحية واليهودية، وتمازجت هذه الثقافات والأديان المتنوّعة في كلِّ إنساني وثقافي واحد، لكنه متعدّد، وتآخت اللغة العربية مع اللغات الأخرى وتفاعلت واقتبست منها، فناً وأدباً وفكراً، إذ كان " العقل اليوناني" أحد مرتكزات الفكر الفلسفي العربي زائداً "النقل الإسلامي"، ولعبت الترجمة دوراً مهماً في توسيع دائرة الثقافة العربية، المتعدّدة، محل الواحدية، وكانت الأندلس امتداداً خلاّقاً لبغداد .
لقد تغيّرت خصائص الثقافة اليوم بفعل المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، خصوصاً في ظل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، فالتلفزيون والكومبيوتر والإنترنيت ساهمت مساهمة كبيرة في هذا التغيير، ولعلّه بقدر التقارب الذي أحدثه، فقد جعلت التمايز والخصوصيات، سمة مميزة للهوّيات والثقافات المختلفة، حيث تسعى الشعوب لاكتشاف أساطيرها ورموزها وترسيخ ذاكرتها وتعزيز لغتها الخاصة، وبالخصوص عندما تخشى من التذويب أو الإقصاء، وقد حفّزت العولمة مثل هذا التهديد، خصوصاً عندما جعلت العالم كله "قرية واحدة" هي أقرب إلى "سوق" واحدة، فالهوّيات الطرفية (العالمثالثية) وقفت ضد هوّيات الهيمنة، والهوّيات الفرعية في الدولة الواحدة، سعت للتشبّث بخصوصياتها إزاء محاولات الإقصاء والتهميش.
يتعذّر الحفاظ على الهوّية بأساليب القمع والطغيان والانعزال، فهذه الممارسات تؤدي إلى تصحير الهوّيات، وبدلاً من الانفتاح والتواصل والتعدّد، تؤدي إلى الانغلاق والانكفاء والتقوقع، ومثلما لكل إنسان لغته، فله هوّيته التي تتعزّز بالانفتاح مع الآخر، فرداً أو جماعة، وقد يكون الإنسان يحمل أكثر من هوّية، بمعنى أنه عربي أو كردي أو تركماني ، مسلم أو مسيحي أو غير ذلك، لكن هوّيته العامة عراقية، وكذا الحال لمن عاش في المنفى، فرغم احتفاظه بهوّيته، فقد يكون قد أضاف إليها هوّية مكتسبة.
وكنت قد أجبت على سؤال بخصوص الهوّية الذي كان محاوري قد وجّهه إليّ عندما قال: إن سؤال الهوّية يلحّ عليك دائماً.. أين أنت؟ فأجبت: هل يكفي رفع شعار الحفاظ على الهوّية في المنفى لكي نتمسك بالهوّية؟ أليس ثمة همّ إنساني يتشكّل بمعزل عن الإرادة وبخاصة للجيل الثاني؟؟ ونقلتُ حواراً أداره المنتدى الأورومتوسطي حول الشمال والجنوب في الرباط، في أكتوبر (تشرين الأول) العام 2000 وحضرته نخبة متميزة من المثقفين، حين قال أسامة الشربيني في معرض معالجته لظاهرة الازدواجية في الهوّية: حين أكون في المغرب أشعر بأنني مغربي عربي ومسلم، وحين أكون في بلجيكا أشعر بأنني بلجيكي وجزء من المجتمع الأوروبي، وهنا يُثار تساؤل مشروع: وهل المكان هو الذي يحدد الهوّية؟ أم أن الهوّية التي تكوّنت وترسّخت واكتسبت كيانية مستقرة تظهر على نحو جلي في بيئتها الحقيقية، حيث المكان والاستمرار والتفاعل حيث اللغة والدين وغيرها من العناصر التي هي أقرب إلى الثبات، في حين أن العناصر الأخرى تتعزز وتغتني باستمرار بالإضافة والحذف والتواصل بين الحضارات والتلاقح بين الثقافات فردياً أو مجتمعياً!
وإذا كان مثل هذا الأمر يواجه النخبة، خصوصاً من تكوّن وترعرع ثم انتقل ليواصل ويندمج في مجتمع جديد، فالأمر مختلف باختلاف درجة الوعي والنضج والمعرفة والاستعداد للتكيّف والاندماج وبالتالي حمل الثقافتين ومواصلة الاستفادة من النبع الأول، بالقدر الذي تتم فيه الاستفادة من المصادر الجديدة، المضافة.
وإذا أردت أن أتحدث عن تجربتي الشخصية، فأنني كنت أواجه بشكل شبه يومي ومنذ ما يزيد عن ربع قرن حالات تعدّ بالآلآف بخصوص المهاجرين والمنفيين واللاجئين العراقيين والعرب، ناهيكم عن ذلك فقد عشت تجربة النفي لعقدين كاملين من الزمان وإنْ كنتُ على اتصال مستمر بالوطن وضمن الفسح والمساحات المتاحة سواءً في الماضي أو الحاضر، فإنني أدرك إشكاليات الهوّية، وبخاصة في أوضاع المنفى واضطرابها فيما يتعلّق بالأسباب السياسية أو الآيديولوجية أو الإثنية أو الدينية أو المذهبية أو الاجتماعية أو غيرها، التي تكاد تطغى أحياناً، مسببة نوعاً من الالتباس.
الثقافة العليا التي تمحو الثقافات الأدنى أو تهّمشها هي ثقافات غير إنسانية، ولا هوّية خارج الإنسان، حيث يتحدّد أفق الهوّية بالانفتاح والتقدّم بلا حدود أو نهايات، وهو أفقٌ مفتوح للتحرّر من قيود الواقع، وهو أفقٌ رمزي، يوحّد بين البشر، على أساس المشترك الإنساني.
وإذا كان الإلحاح على الهوّية العمودية في ظروف تاريخية معيّنة أمراً مشروعاً، وضمن حدود التحرّر من الإستعمار والهمينة الخارجية، إلاّ أن الاستمرار في هذا الإلحاح خارج تلك الظروف، يصبح خطراً على الهوّية ذاتها، حيث يؤدي إلى الانكماش والانكفاء والانزواء، فالتعدّدية والتآلف من سمات الهوّيات المفتوحة التي ترفض الصهر والاستتباع مثلما ترفض الهيمنة والتسيّد، وتتشبث بالمعرفة وليس الهيمنة، بالموضوعية والعقلانية ، وليس الانعزالية والانغلاقية، هي التي ينبغي أن تطبع سجال الهوّيات وهو ما استهدفه الباحث عندما شرع بكتابة كتابه " جدل الهوّيات في العراق" ، حيث وضع الواقع أمامه وحاول نقدياً ومن خلال قراءة جدلية للمكوّنات والكيانات الموحدة، المتعددة، العامة والفرعية، صياغة علاقة أساسها المشترك الإنساني، باقتراح حلول حقوقية- إنسانية، من خلال فكرة المواطنة ونبذ الطائفية .

3- الهوّية: بعيداً عن التبشير!

في كتابه " موسيقى الحوت الأزرق" يناقش أدونيس فكرة الهوّية ويستهل حديثه بالعبارة القرآنية التي تضيء بقِدَمِها نفسه، حداثتنا نفسها على حد تعبيره، وأعني بها "التعارف"، أي الحركة بين الإنفصال والإتصال في آن، من خلال " روية الذات، خارج الأهواء" وبخاصة الآيديولوجية، ويمكن أن نضيف الدينية والقومية وغيرها، بمعايشة الآخر داخل حركته العقلية ذاتها، في لغته وإبداعاته وحياته اليومية.
وبعد أن يستعرض أدونيس آركيولوجية الغياب المعرفي العربي على خارطة المعرفة الإنسانية، وهو ما أشارت إليه على نحو صارخ تقارير التنمية البشرية في العقد الماضي، لاسيّما شحّ المعارف ونقص الحرّيات واستمرار الموقف السلبي من حقوق الإنسان وبخاصة حقوق المرأة والمجاميع الثقافي، الدينية واللغوية والسلالية والإثنية وغيرها، يطرح سؤالاً حول سبل الخروج من هذا الغياب، ويسأل أيضاً ولِمَ هذا الغياب؟ لاسيّما بتمثّل ذلك نقدياً ومعرفياً، من خلال معرفة الآخر بمعرفة ذاتنا معرفة حقيقية، ولعلّ الخطوة الأولى التي ظل يركّز عليها في كتابه الممتع والعميق، هو كيف يمكن أن يصغي بعضنا إلى بعض!؟
هذه الرؤية تستند إلى إحلال الفكر النقدي التساؤلي، محل الفكر التبشيري- الدعائي، حيث يصبح الوصول إلى الحقيقة التي هي على طول الخط تاريخية ونسبية، وصولاً يشارك فيها الجميع رغم تبايناتهم إلى درجة التناقض أحياناً، وهذا يعمّق الخروج إلى فضاء الإنسان بوصفه أولاً، إنساناً، ويدفع الذات إلى ابتكار أشكال جديدة لفهم الآخر ثانياً، وثالثاً يكشف لنا إنّ الهوّية ليست معطى جاهزاً ونهائياً، وإنما هي تحمل عناصر بعضها متحرّكة ومتحوّلة على الصعيد الفردي والعام، وهو ما يجب إكماله واستكماله دائماً في إطار منفتح بقبول التفاعل مع الآخر.
هل الهوّية جوهر قائم بذاته، لا يتغيّر أو يتحوّل؟ أم هي علاقة تجمعها مواصفات بحيث تكوّن معناها وشكلها؟ وبالتالي لا بدّ من تنميتها وتعزيزها وتفعيلها في إطار المشترك الإنساني، الأمر الذي يتخطّى بعض المفاهيم السائدة، ذات المسلّمات السرمدية السكونية لدرجة التقوقع، وينطلق إلى خارج الأنساق والاصطفافات الحتمية، من خلال قراءات مفتوحة تأخذ التطور بنظر الاعتبار عناصر تفعيل وتعزيز وتحوّل في الهوّيات الخاصة والعامة.
بهذا المعنى لا يكون اختلاف الهوّيات أمر مفتعل حتى داخل الوطن الواحد، إذا كان ثمة تكوينات مختلفة دينية أو إثنية أو لغوية أو سلالية، ناهيكم اختلاف الهوّيات الخاصة للفرد عن غيره وعن الجماعة البشرية.
ولعلّ هناك علاقة بين الشكل والمعنى التي تتكوّن منها الهوّيات الفرعية – الجزئية الخاصة وبين الهوّيات الجماعية العامة ذات المشتركات التي تتلاقى عندها الهوّيات الفرعية للجماعات والأفراد، حيث تكون الهوّية العامة أشبه بإطار قابل للتنوّع والتعددية، جامعاً لخصوصيات في نسق عام موحد، ولكنه متعدّد وليس آحادي، فمن جهة يمثل هوّية جامعة ومن جهة أخرى يؤلف هوّيات متعدّدة ذات طبيعة خاصة بتكوينات متميّزة، أما دينياً أو لغوياً أو إثنياً أو غير ذلك، فالشكل ليس مسألة تقنية، حسب أدونيس، وإنّما هو مسألة رؤية.
إن الحديث عن هوّيات فرعية، أو خصوصيات قومية أو دينية، لأقليات أو تكوينات، يستفز أحياناً بعض الاتجاهات المتعصبة دينياً أو قومياً، فهي لا ترى في مجتمعاتنا سوى هوّية واحدة إسلامية أو إسلاموية حسب تفسيراتها وقومية أو قوموية حسب أصولها العرقية ونمط تفكيرها واصطفافات طبقية كادحيّة حسب آيديولوجياتها الماركسية أو الماركسيوية، أما الحديث عن حقوق وواجبات ومواطنة كاملة ومساواة تامة وحق الجميع في المشاركة وتولّي المناصب العليا دون تمييز بما فيها حقوق المرأة وحقوق متساوية للأديان والقوميات، فهي تصبح في الواقع العملي "مؤامرة" ضد الأمة والدين، تقف خلفها جهات إمبريالية- استكبارية تضمر الشرور للمجتمعات العربية – الإسلامية، وبهذا المعنى لم تسلم حتى حقوق بعض المبدعين في التميّز والاستقلالية والتفكير الحر، واعتبرت بمثابة "انشقاق" وخروج على الجماعة، أما في معارضة تفكيرها، فالأمر قد يستحق العقاب والتحريم والتجريم.
ولعلّ مثل هذه الممارسات، لاسيّما بحق الجماعات القومية أو الدينية دفعها للانغلاق وضيق الأفق القومي، وبخاصة إذا تعرّضت للاضطهاد الطويل الأمد وشعرت بالتهديد لهوّيتها، وهو الأمر الذي كان أحد نقاط ضعف الدولة القطرية العربية تاريخياً، خصوصاً في مرحلة ما بعد الاستقلالات.
وقد تجد هناك من يدعو لعدم نشر الكلام الذي ينتقد أوضاعنا العربية، لأنه يتحدّث عن المساوئ لكي لا يستفاد منها العدو، تحت مبرّر عدم نشر الغسيل الوسخ، ولكي لا نسيء إلى صورتنا أمام الآخرين، وينسى هؤلاء المبشّرون أن إخفاء المرض لا يشعر المرء بالطمأنينة على صحته ولا يعيد له العافية، كما أن التغلّب على العدو يحتاج إلى تشخيص لنقاط ضعفنا والتخلص من بعض النزعات العنصرية إزاء الآخر في داخلنا بل إزاء بعضنا البعض كما يتطلّب قراءة واقعنا موضوعياً بروح النقد والنقد الذاتي والاعتراف بحقوق المجموعات الثقافية وبالهوّيات المتعدّدة في مجتمعاتنا المتنوّعة، وعدم تجميل صورتنا أمام أنفسنا، خصوصاً إذا كانت صورة البعض كالحة.
وما زال الموقف من المجموعات القومية والدينية قاصراً في الكثير من الأحيان، وحتى الاعتراف ببعض الحقوق يأتي كمنّة أو مكرمة أو هبة أو حسنة، حيث تسود تصوّرات مخطوءة عنها، بل إن الكثير من السائد الثقافي يعتبرها، خصماً أو "عدواً " محتملاً أو أن ولاءها هشاً وقلقاً وسرعان ما يتحوّل إلى الخارج، دون أن نعي أن هضم حقوقها، تارة باسم مصلحة الإسلام وأخرى مصلحة العروبة والوحدة وأحياناً بزعم الدفاع عن مصلحة الكادحين، والقوى العلمانية والمدنية وقيم النضال المشترك وغير ذلك، هو السبب الأساسي في مشكلة المجموعات الثقافية وليس نقصاً في ولائها أو خروجها على الهوّية الوطنية العامة التي تصبح لا معنى لها بسبب معاناتها، وبسبب نقص المواطنة الفادح والنظر إلى أفرادها كرعايا لا مواطنين من الدرجة الأدنى، وإنْ كان المواطنون ككل مهضومي الحقوق، فإن العبء الذي سيقع على كاهل المجموعات الثقافية سيكون مركباً ومزدوجاً ومعاناتها كذلك.
إن الموقف من المجموعات الثقافية ودلالاتها لا يقوّم الإنسان بوصفه إنساناً، له حقوق وواجبات معروفة في الدولة العصرية، بحقوق المواطنة، وإنما يقيّمه بوصفه "انتماءً "، أي هو يحوّل الإنسان إلى سياسي برأس إثني أو قومي أو ديني أو مذهبي، وهكذا يتحوّل الإنساني إلى سياسي، وهذا الأخير إلى حقل من الحروب تبعاً للمصالح السياسية والمادية، فتهيمن الأهواء والنزعات على العقول وتظهر الوحشية عند الممارسة، ويغيب كل ما هو إنساني، وأحياناً كثيرة تستخدم القوى الخارجية هذه الثغرات والعيوب والنظرة الاستعلائية القاصرة للنفاذ منها لتشتيت الهوّية الجامعة، والعزف على الهوّيات الخاصة لدرجة التعارض والتصارع مع المشترك الإنساني.
ولنتأمل الحرب الأهلية اللبنانية، فبعد دماء غزيرة وخراب استمر 15 عاماً، غسل الجميع أيديهم وتعانقوا وكأن شيئاً لم يكن، وظلّت الهوّيات الصغرى طاغية، والهوّية الجامعة هشّة، قلقة، مقصاة وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق، اندلع العنف والإرهاب على نحو لم يسبق له مثيل ليحصد أرواح عشرات ومئات الآلاف من العراقيين من جميع الطوائف والقوميات والاتجاهات، تحت شعارات التفوق الطائفي والإثني أحياناً، وهو ما كانت له بعض الأسباب في التاريخ، لاسيّما المعاصر وبخاصة الاتجاهات التمييزية السائدة، رغم إن المحاصصة والتقاسم المذهبي والإثني كانتا تشكلان أساساً قام عليه مجلس الحكم الانتقالي وما بعده، ولكن ظل جميع الفرقاء والفاعلين السياسيين من جميع الاتجاهات، يعلنون أن لا علاقة لهم بالطائفية والمذهبية، بل هم يستنكرونها ويعلنون البراءة منها، لكنهم عند اقتسام المقاعد والوظائف يتشبّثون بها، ويحاولون الظهور بمظهر المعبّر وربما الوحيد عنها، دون تخويل من أحد.
إن مثل هذه الاعتبارات هي التي دفعت الباحث لاقتراح مشروع لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة في العراق وهو إذّ يعرضه على جميع الفرقاء، يأمل أن يثير نقاشاً وحواراً واسعاً لدى الجميع، آملاً أن تتبنّاه القوى السياسية الوطنية وفاعليات المجتمع المدني، التي لا تؤمن بالطائفية وتدعو إلى تحريمها ومحاسبة كل من يمارسها أو يدعو ويروّج لها أو يتستر عليها، واعتماد مبادئ المساواة التامة والمواطنة الكاملة، فذلك هو السبيل لتعزيز الهوّية الوطنية العراقية وتأمين حقوق الهوّيات الفرعية القومية والدينية وغيرها. وبقدر ما يصلح القانون عراقياً، فإنه يتضمن خطوطاً عريضة لمبادئ تحريم الطائفية عربياً.
ولا بدّ من إقرار ذلك دستورياً، خصوصاً إذا تمكّن البرلمان، لاسيّما في ظروف سلمية وطبيعية من اعتماد مشروع القانون، الذي لن يكون بالإمكان التخلص من المحاصصات والتقسيمات الطائفية، دون إقرار ذلك قانونياً وعملياً. وبدلاً من التبصّر والتعامل مع المشكلة بالتحليل والبحث والتساؤل، يتم إلقاء الخطابات الرنانة والكلمات الحماسية والعناقات الفارغة والحديث عن مصالحات سميّت "وطنية" وهي مصالحات سياسية محدودة جداً في ظل نزعات الهيمنة وادعاء الأفضليات وإقصاء الآخر أو الانتقاص من دوره، دون نسيان توزيع الاتهامات وتحميل الآخر المسؤولية كلّها، سواءً الآخر الخصم والعدو أو الآخر التكفيري، الإجرامي.
إن الفكر اليقيني المطلق، هو فكر إمحائي لا يؤمن بالآخر، ويريد إلغاء الفروق داخل المجتمع بكياناته ومكوّناته وأفراده وسجن التعددية وإقصاء الخصوصيات وتطويق ومحاصرة التنوّع، والأكثر من ذلك يريد إلغاء تاريخ مكوّنات بحيث يلعب فيها مثل كرة عمياء تتدحرج في طريق أعمى وبأيد عمياء.
إن التعصّب والعصبية هما اتجاهان إلغائيان لمن لا يتعصّب لهما، ولعلّ جدل الهوّيات يكشف إن اختيار الصراع بدل التعايش، والصدام بدل الحلول الإنسانية، سيكون ضاراً وخطيراً على الهوّيات الكبرى مثل الهوّيات الصغرى، وهذه الأخيرة إنْ لم يتم احترامها وتأمين حقوقها المتساوية ستكون عنصر ضعف كبير ويتّسع باستمرار على مستوى الهوّية والدولة العراقية، إذ لا بدّ من اتباع طريق المعرفة وشراكة الناس في المسؤولية والبحث عن الحقيقة وعن المعنى، سواءً عبر الهوّيات الفرعية- الجزئية أو من خلال الهوّيات الأوسع والأكبر، ولكن بانسجام مع الهوّية العامة التي لا تستقيم كينونتها وحقوقها الاّ باحترام الهوّيات الفرعية وخصوصيتها على مستوى الجماعات أو الأفراد .


القسم الثاني- في المواطنة

1- المواطنة العضوية
لم تترسّخ، فكرة المواطنة في الدولة العربية الحديثة بعد، سواءً على الصعيدين النظري والعملي، فهي تحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ على صعيد الدولة والحكم (السلطة والمعارضة)، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني على حدٍ سواء، نظراً لغياب ثقافة المواطنة وضعف الهياكل والتراكيب والمؤسسات الناظمة للاجتماع السياسي الحكومي وغير الحكومي، بما فيه فكرة الدولة المدنية وسياقاتها!
وإذا كان بالإمكان اعتبار فكرة الدولة كأعظم منجز بشري، لاسيّما في إطار المنتظم الاجتماعي لحماية أرواح وممتلكات المواطنين وحفظ النظام والأمن العام، فإن فكرة المواطنة ارتبطت بالدولة الحديثة أو أخذت أبعادها الفكرية والحقوقية منها، ناهيك عن أساسها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الراهن.
اعتمدت فكرة المواطنة في القرن الثامن عشر بالدرجة الأساس على بناء الدولة، لاسيّما بأفقها الليبرالي الذي بشّر بإعلاء قيمة الفرد والحرية والسوق في إطار سيادة القانون، وشهد القرن التاسع عشر تطوراً في فكرة المواطنة بتعزيز الحقوق السياسية بعد إقرار الحد الأدنى من الحقوق المدنية، وبشكل خاص عند تطوّر مفهوم الديمقراطية الناشئ وقبول مبدأ الاقتراع العام.
أما في القرن العشرين فقد توسّعت فكرة المواطنة لتشمل مبادئ حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بعد التطور الذي حصل بإقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، لاسيّما الحقوق المدنية والسياسية، ولهذا حظيت فكرة المواطنة باهتمام أكبر خصوصاً بانتقالها من فكرة تأسيس دولة الحماية إلى تعزيز دولة الرعاية.
وقد خطت بعض البلدان خطواتٍ مهمةٍ في طريق تأمين الحقوق والحرّيات المدنية والسياسية وسارت شوطاً بعيداً في تعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتأكيد حيوية وديناميكية فكرة المواطنة بمزاوجة الحقوق والحرّيات بالعدالة، وهو الأمر الذي نطلق عليه " المواطنة العضويّة "، أي المواطنة التي تقوم على قاعدة المساواة أولاً في الحقوق والواجبات، وأمام القانون ودون تمييز بسبب الدين أو اللون أو اللغة أو الجنس أو العرق أو المنشأ الاجتماعي أو لأي سبب آخر.
وثانياً ، قاعدة الحرّية كقيمة عليا لا يمكن تحقيق الحقوق الإنسانية الأخرى بدونها، فهي المدخل والبوّابة الضرورية للحقوق الديمقراطية السياسية، بما فيها حق التعبير وحق تأسيس الجمعيات والأحزاب وحق الاعتقاد وحق المشاركة السياسية في إدارة الشؤون العامة وتولّي المناصب العليا، وإجراء انتخابات دورية، إلى حق التملك والتنقل وعدم التعرّض إلى التعذيب ... الخ .
أما القاعدة الثالثة فهي تستند إلى فكرة العدالة بجميع صنوفها وأشكالها، وفي جوانبها القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فمع الفقر لا تستقيم العدالة، ومع هضم حقوق المرأة ستبقى ناقصة ومبتورة، ومع التجاوز على حقوق المجاميع الثقافية الإثنية والدينية وغيرها، ستكون العدالة مشوّهة، ولعلّ مقاربة فكرة العدالة يمكن أن تتحقق من خلال التنمية، وهو ما أُطلق عليه التنمية المستدامة: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المستندة إلى قاعدة الحريات والحقوق المدنية والسياسية، التي تغتني بالمعرفة وتنمية القدرات، لاسيّما التعليمية وتأمين حقوق المرأة والمجموعات الثقافية وتقليص الفوارق الطبقية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وتقوم القاعدة الرابعة على الحق في المشاركة دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو اللغة أو اللون أو المنشأ الاجتماعي، إذ لا مواطنة حقيقية دون الحق في المشاركة والحق في تولّي المناصب العليا دون تمييز لأي اعتبار كان.
وتتشكّل الهوّية الوطنية العامة من خلال القواعد الأربعة المشار إليها، وعلى أساسها يمكن أن تتعايش هوّيات مصغرة (فرعية) في إطار من المساواة والحرية واحترام حقوق "الأغلبية" من جهة، وتأمين حقوق "الأقلية" من جهة أخرى على أساس التكامل والتكافؤ والتكافل والمساواة، أي التنوّع في إطار الوحدة، وليس التنافر والاحتراب، فقد ظلّ الإتجاه السائد في الثقافة المهيمنة يميل إلى عدم احترام الخصوصيات أو التقليل من شأنها ومن حقوق المجموعات الثقافية، سواءً كانت قومية أو دينية أو لغوية أو غير ذلك .
تعتبر الحرية قاعدة أساسية للجيل الاول لحقوق الانسان، لاسيّما اقترانها بفكرة المساواة في الكرامة والحقوق، وبخاصة الحق في الحياة وعدم التعرّض للتعذيب وحق اللجوء وحق التمتع بجنسية ما وعدم نزعها تعسفاً، وحق الملكية إضافة إلى الحقوق والحريات الأساسية.
وارتبط الجيل الثاني لحقوق الإنسان بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لاسيّما المنصوص عليها في العهد الدولي الخاص عام 1966 التي شملت حقوق العمل والضمان الاجتماعي والتعليم وحقوق المرأة والطفل والمشاركة في الحياة الثقافية والاستفادة من منجزاتها وغيرها .
أما الجيل الثالث لحقوق الإنسان فهو يستند إلى الحق في التنمية والحق في السلام والحق في بيئة نظيفة والحق في الاستفادة من الثورة العلمية – التقنية .
ويمكن اعتبار الجيل الرابع ممثلاً بالحق في الديمقراطية، والحق في التعددية والتنوّع الثقافي، لاسيّما بعد انتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الآيديولوجي من شكل إلى شكل آخر بانهيار الكتلة الاشتراكية وتفكيك دولها وبخاصة الاتحاد السوفيتي. وكان مؤتمر باريس المنعقد في تشرين الثاني (نوفمبر) 1990، قد وضع أساساً جديداً لشكل العلاقات الدولية ورسّخ هذا الاتجاه مؤتمر برلين (حزيران – يونيو) 1991 بعد حرب الخليج الثانية، بتأكيد: التعدّدية والتداولية وتشكيل مركز دائم لمراقبة الانتخابات وحرّية السوق، رغم أن القوى المتنفذة حاولت توظيف هذا التوجه العالمي الايجابي لمصالحها الأنانية الضيقة.
ولعلّ انكسار رياح التغيير التي هبّت على أوروبا في أواخر الثمانينيات عند شواطئ البحر المتوسط، كان بسبب سعي القوى الدولية المتسيّدة في توجيه الأحداث طبقاً لمآربها السياسية ومصالحها الاقتصادية دون مراعاة لحقوق شعوب ودول المنطقة، الأمر الذي عطّل عملية التغيير، تلك التي جرت محاولات لفرضها من الخارج، ولكن على نحو مشوّه، خصوصاً بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية، ونجم عنها احتلال أفغانستان والعراق والحرب على لبنان بحجة مكافحة الإرهاب الدولي العام 2006 وكذلك الحرب على غزة بعد حصارها منذ العام 2007.
مثل هذا الأمر يطرح فكرة العلاقة الجدلية بين المواطنة وحقوق الإنسان، وبقدر تحقيق هذه المقاربة، تكون فكرة المواطنة ببعدها الكوني وأساسها الحقوقي الإنساني قد اقتربت من المشترك الإنساني، مع مراعاة الخصوصيات الدينية والإثنية واللغوية، أي بتفاعل وتداخل الحضارات والثقافات، لاسيّما باحتفاظها بكينونتها الخاصة في إطار علاقتها العضوية بالأبعاد الكونية الانسانية .
المواطنة تقوم وتستند إلى قاعدة المواطن – الفرد الذي ينبغي مراعاة فردانيته من جهة، ومن جهة أخرى حرّيته الأساس في مساواته مع الآخر تساوقاً في البحث عن العدالة، وتتعزز مبادئ المساواة والحرّية في إطار المنتظم الاجتماعي الوطني والائتلاف والانسجام من جهة، وتغتنيان بالتنوّع والتعددية من جهة أخرى ، وذلك من خلال الوحدة والاشتراك الإنساني والحقوق والواجبات وليس الانقسام أو التشظي أو التمييز.
وإذا كانت فكرة المواطنة تتعزز من خلال الدولة ، فإنها تغتني وتتعمق بوجود مجتمع مدني حيوي وناشط، بحيث يكون قوة رصد من جهة للإنتهاكات المتعلقة بالحرّية والمساواة والحقوق، ومن جهة أخرى قوة اقتراح وليس احتجاج حسب، بحيث يصبح شريكاً فعالاً للدولة في توسيع وتعزيز دائرة المواطنة العضوية وتأمين شروط استمرارها، لاسيّما إذا تحولّت الدولة من حامية إلى راعية ، مرتقية لتعزيز السلم المجتمعي والأمن الإنساني، لاسيّما بوجود مؤسسات ترعى المواطنة كإطار والمواطن كإنسان في ظل الحق والعدل.

2- الدولة العربية والمواطنة!
مثلما هي فكرة الدولة حديثة جداً في المنطقة العربية، فإن فكرة المواطنة تعتبر أكثر حداثة منها وجاءت انبثاقاً عنها. ورغم وجود تجارب " دولتية " أو ما يشابهها في العهد الراشدي الأول وما بعده أو عند تأسيس الدولة الأموية بدواوينها ومراتبيتها التي توسعت وتطورت في ظل الدولة العباسية، وفيما بعد الدولة العثمانية، خصوصاً في الفترة الأخيرة من تاريخها، حيث تأثرت بمفهوم الدولة المعاصرة في أوروبا وبالأفكار الدستورية والقانونية الحديثة، لاسيّما فكرة المواطنة التي اغتنت في القرن العشرين، باعتبارها "حقاً" من الحقوق الأساسية للإنسان.
وإذا كان مفهوم المواطنة جنينياً في الدولة العربية -الإسلامية، لاسيّما فيما يتعلق بتحديد مسألة الهوّية، ناهيك عن الحقوق الإنسانية، فإن هذا الحق، تساوقاً مع التطور الفقهي على المستوى الدولي، اكتسب بعداً جديداً في الدولة العصرية ومنها الدولة العربية، رغم النواقص والثغرات التي ما تزال تعاني منها قياساً للتطور الدولي. وقد تكرّس مبدأ الحق في المواطنة في أواسط القرن العشرين خصوصاً بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية العام 1966 والعديد من الوثائق الدولية ، التي أكدت : أن لكل فرد في أي مكان من العالم الحق في أن تكون له صلة قانونية بدولة من الدول .
ويستخدم في القانون الدولي، مصطلح المواطنة الذي يوازيه مصطلح الجنسية بالتبادل فيما بينهما، حين يتم الحديث عن منح الأشخاص الحق في حماية دولةٍ ما إلى جانب حقوقٍ سياسيةٍ ومدنية ، تلك التي تشكل ركناً أساسياً في هوّية الفرد – الإنسان، ويمكن تعريف المواطنة الحيوية أو العضوية بأنها " الحق في الحصول والتمتع بالحقوق بصورةٍ عادلة ".
وإذا كان الحق في المواطنة قد ضمنه القانون الدولي ، الذي حظر حرمان أي شخصٍ من مواطنته أو جنسيته التي أكّدتها المادة 15من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي نصت على أن: لكل إنسان الحق في الحصول على جنسية ولا يجوز حرمان إنسان بصورةٍ تعسفيةٍ من جنسيته ولا من حقه في تغييرها، إلاّ أن ذلك لم يمنع من بقاء ملايين البشر في جميع أنحاء العالم بدون جنسية، الأمر الذي ينتقص من مبدأ الحق في المواطنة ، بغض النظر عن أن حالات إنعدام الجنسية قد تنشأ من التعارض في القوانين ونقل تبعية الإقليم أو حالات الزواج أو وجود تمييز أو عدم تسجيل المواليد أو إسقاط الجنسية .
ولعلّ المثل الأكثر سفوراً في العالم العربي، هو تهجير الفلسطينيين منذ العام 1948 وإسقاط حقهم في وطنهم وبالتالي جعلهم عرضةً لحالات إنعدام الجنسية. ولا شكّ أن اتساع وانتشار حالات اللاجئين وأوضاعهم هي التي دفعت الأمم المتحدة إلى إنشاء مكتب للمفوضية السامية للاجئين كإحدى وكالات الأمم المتحدة المسؤولة عنهم وللحد من ظاهرة إنعدام الجنسية.
وقد عرف الوطن العربي حالات كثيرة من المواطنة المنقوصة، سواءً من أفراد أو مجموعات بشرية وبهضم حقوقها أو انتزاع أو عدم حصولها على الحق في الجنسية، كما حصل للمهجرين العراقيين، لاسيّما عشية وخلال الحرب العراقية - الإيرانية ومعظمهم من الأكراد الفيليين، إذْ انتزعت منهم جنسيتهم وصودرت أملاكهم في العراق بحجة التبعية الإيرانية، ولم يعترف بهم في إيران أيضاً، فعاشوا بدون جنسية وبدون وطن ومواطنة، وكذلك حالات ما سمّي بالمكتومين من الأكراد السوريين الذين لم يحصلوا على الجنسية وبالتالي على حقوق المواطنة، وحالات البدون في الكويت وبعض دول الخليج التي حرمت عشرات الآلاف من حقوق المواطنة، إضافةً إلى الكثير من الحالات والإشكالات بسبب الزواج من فلسطينيين أو أشخاص بلا جنسية أو من جنسيات أخرى وحصول حالات طلاق، الأمر الذي جعل الأبناء بلا جنسية، إذْ أن الغالبية الساحقة من قوانين البلدان العربية لا تسمح بالحصول على الجنسية عن طريق الأم، الأمر الذي خلق مشاكل لا تتعلّق بالحقوق المدنية والسياسية حسب، بل بالحق في التعليم والتطبيب والعمل وغير ذلك.
وقد أدركت العديد من الحكومات أنه لم يعد بإمكانها اليوم التملّص من حالات المساءلة بموجب القانون الدولي بإلغاء أو سحب أو حجب حق المواطنة عن الأفراد والجماعات الذين يمكنهم إثبات وجود علاقة حقيقية وفعالة بينهم وبين بلدهم، سواءً عن طريق رابطة الدم "البنوّة " للآباء رغم ان العديد من البلدان العربية ما زالت تحجب هذا الحق عن الانتساب إلى جنسية الأم، في حين إن القانون الدولي لحقوق الإنسان يعطي مثل هذا الحق، أو " طريق الأرض "، أي الولادة في الإقليم أو الحصول على جنسيته ومواطنته أو اكتساب الجنسية نظراً للإقامة الطويلة والمستمرة والتقدم بطلب إلى السلطات المسؤولة عن ذلك.

3- النخب العربية وفكرة المواطنة
وإذا كان انشغال النخب العربية بفكرة "الأمة الإسلامية" أو "الجامعة الإسلامية" في القرن التاسع عشر وربما في بدايات القرن العشرين، فإن الانبعاث القومي العربي بدأ يتعزز لاحقاً، حيث بدأت النخبة الثقافية والتنويرية الاسلامية والعلمانية، الاهتمام بالفكرة الحديثة عن الدولة التي تعتبر المواطنة أحد مظاهرها الأساسية، فالشعب والحكومة والارض والسيادة أركان الدولة وعناصر وجودها، التي تستقيم وتتعزز في ظل احترام الحقوق والحريات وتكريس مبدأ المساواة الكاملة والمواطنة التامة في إطار سيادة القانون.
وبالإمكان القول إن الموقف الذي حكم الدولة العربية الحديثة ومجتمعها الأبوي التقليدي كان قاصراً واستعلائياً في نظرته إلى المواطنة والأقلية، وهذه النظرة أعاقت ترسيخ سلطة الدولة، فالأقلية قومية أو دينية حسب وجهة النظر هذه، قد تكون "متآمرة" أو "انفصالية" أو تاريخها غير "مشرّف" أو " مسؤولة عن كوارث الأمة" أو غير ذلك من الأفكار السائدة التي تأخذ الامور بالجملة وعلى نحو سطحي، دون الحديث عن جوهرها لاسيّما : الحقوق والمساواة والحرية وتكافؤ الفرص والمواطنة العضوية القائمة على قاعدة العدل. وقد أضعفت هذه النظرة من التوجّه نحو المجتمع المدني ابتداءً بالانتقاص من مفهوم المواطنة إلى الضغوط الاجتماعية المسنودة بالمؤسسة التقليدية العشائرية والدينية في الكثير من الأحيان.
واستندت الدولة العربية الحديثة على بعض النخب "الأقلوية" على حساب الأغلبية الساحقة من الشعب، ولذلك أصبحت دولاً "سلطوية" أو " تسلطية"، لاسيّما بغياب مبادئ المساواة وتهميش "المجموعات الثقافية الأخرى" وحجبها عن حق المشاركة، والهيمنة على "الأغلبية" وإبعادها عن الحكم، والإستعاضة عن ذلك بأقلوية ضئيلة، على حساب مبدأ المواطنة!
وظلّ المجتمع العربي يعاني من الموروث السلبي بما فيه الديني الذي جرت محاولات لتوظيفه سياسياً بالضد من تطوّر فكرة المساواة والحرية والعدالة، وصولاً للمواطنة الكاملة والتامة باتجاه المواطنة العضوية أو الديناميكية، خصوصاً في النظرة الدونية إلى المرأة، وعدم الإقرار بالتعددية السياسية والفكرية والاجتماعية والقومية والدينية، الأمر الذي ينتقص من مبدأ المواطنة !!
في الثقافة والأدب، مثلما في علوم السياسة والاجتماع ثمت دلالات، وهذه لا تأتي الاّ بعد دراسة وتأمّل لتجارب وممارسات، وصولاً إلى نتائج، ولهذه الأخيرة معاني إيجابية وسلبية، لأنها تعتمد على مدى التحقّق، وهذا الأخير يكون مقاربة من الهدف ذاته، الذي يعني القدرة على الامتلاء، أي مدى التوازي بين الهدف والوسيلة، من خلال معيار، لا يأخذ بالتطابق بقدر سير التطبيق بموازاة النظرية، وكلّما اقتربت من ذلك، كلّما يمكن القول أن الدلالة تعني النجاح أو الفشل.
منذ العام 2011 كان الربيع العربي وتفرعاته هو الشغل الشاغل للحوار: الدولة المدنية وعلاقة الإسلام بالدولة، ودور الحركات الإسلامية والإسلام السياسي في مشروع الثورات وبرامجها ونتائجها الانتخابية، والإسلامفوبيا (الرهاب من الإسلام)، والإسلاملوجيا (استخدام الإسلام بالضد من تعاليمه السمحاء)، والأمن القومي العربي والسياسة الدولية والعامل الاقليمي، لاسيّما الصراع العربي- الإسرائيلي ودول الجوار الإيراني والتركي ومشروعيهما الإقليميين في ظل غياب أو ضعف المشروع العربي، وأمن الخليج وما يهدّده والمخاوف من الملف النووي الإيراني، والثقافة واللغة ودور التكنولوجيا والعلوم ووسائل التنمية والهوّية ومستجداتها والمواطنة وإشكالاتها.
ما دفعني لاستعراض ذلك هو النقاش الذي دار في إحدى حلقات البحث في مهرجان الجنادرية (الثقافي)، التي ضمّت المفكرين أبو يعرب المرزوقي ويوسف مكي وجمال سلطان وآخرين، وشارك في التعقيب والحوار عدد من الباحثين، لاسيّما وأن فكرة المواطنة حديثة في الأدب السياسي والقانوني، مثلما حداثة فكرة الدولة ذاتها، وإنْ كان للمسألتين علاقة بتاريخنا، لكن الفكرة المعاصرة وتجلّياتها تختلف عن إدارة اجتماع سياسي لمجموعة من البشر، ضمن المفاهيم التي جاءت بها الثورة الفرنسية وما تعمّق بعد الثورة الصناعية، وصعود الطبقة الوسطى، من تداولية السلطة سلمياً وإجراء انتخابات دورية وفصل السلطات وسيادة القانون وإطلاق الحريات واحترام حقوق الإنسان.
وإذا كان ثمت واقعية في موضوع المواطنة، باعتبارها ركناً أساسياُ للدولة العصرية، لا غنى عنه لتقدّمها ورفاه شعبها، فإن هناك من يدعو لنموذج آخر " لمواطنة افتراضية"، أساسها آيديولوجي يقوم على الهوّية الدينية أو الطائفية أو القومية أو الأممية بحسب مصدر التوجه، فالإسلاميون بمختلف تياراتهم سواءً جزؤهم الحركي أو الساكن، قدّموا نموذجاً لمواطنة إفتراضية حين دعوا إلى "دار الإسلام" و"دار الشرك"، وهم وفقاً لهذا التقسيم افترضوا مواطنة عابرة للحدود والجنسيات والقوميات والطوائف، وذلك بتجاوز مشروع "الدولة الوطنية"، لاسيّما عندما يتم الحديث عن مواطنة إسلامية.
ومثله التيار القومي العربي، فإنه لا يعترف بالحدود والكيانات التجزيئية، التي فرضها المستعمِر، ويتحدّث عن فكرة مواطنة عربية، وقد نجد هذه الفكرة الجنينية قد أخذت طريقها إلى التطبيق التمهيدي، مثل الحديث عن المواطنة المغاربية والمواطنة الخليجية، على الرغم مما حقق مجلس التعاون الخليجي من بعض النجاحات في التقارب والتنسيق، لكن ثمت عوائق أمام فكرة مواطنة خليجية أو كونفدرالية على هذا الصعيد، سواء تم توحيد العملة أو الاحتفاظ بها لحين، على طريقة الاتحاد الأوروبي. والماركسيون أيضاً يتجاوزون على فكرة "الدولة الوطنية"، وكان كارل ماركس هو الذي قال "ليس للعمال من وطن"، بمعنى تجاوز الطبقة العاملة لما هو قائم باتجاه مواطنة أممية لشغيلة العالم.
وسواءً كانت المواطنة الإسلامية أو المواطنة العروبية وربما الكردية غداً أو غيرها، أو المواطنة الأممية بنموذجها السوفييتي أو الكوبي الأمريكي اللاتيني، فإنها جميعها صيغ لمواطنة افتراضية، تقوم على الموقف السلبي من فكرة الدولة الوطنية، فهو الجامع بينها، علماً بأن الكثير من المشكلات القانونية والسياسية، تواجه مثل هذه الأفكار في ظل غياب صيغة قانونية مثل صيغة الاتحاد الأوروبي مثلاً، لكن هذه الصيغ ذات الطبعة الآيديولوجية الملوّنة، التي تأخذ اسماً دينياً (المواطنة الإسلامية) وإسما قومياً (المواطنة العروبية أو العربية) واسماً أممياً (المواطنة الأممية)، فإنها ترضع من ثدي واحد، فالأولى تسعى لقيام نظام إسلامي، والثانية تستهدف قيام نظام وحدوي قومي، والثالثة تريد بناء الاشتراكية، وفقاً لوحدة الطبقة العاملة على أساس مركز أممي وفروع مرتبطة به.
لعلّ الفكرة النظرية التي تروّج لها التيارات المختلفة تصطدم بعدد من الجوانب العملية، فيما يخص الدولة الوطنية وهويّتها، ناهيك عن عدد من الأسئلة الشائكة التي تواجهها مثل: تنازع القوانين، كيف السبيل للانتقال من دائرة المواطنة الوطنية إلى دائرة المواطنة الأوسع الإسلامية والعروبية والأممية؟ هل بإسقاط الرغبات على الواقع؟ علماً بأن ما طرحته موجة ما يسمى "الربيع العربي" وعموم موجات التغيير التي حصلت في أوروبا الشرقية وبعض دول أمريكا اللاتينية، أدّت إلى انبعاث الهوّيات الفرعية، وقادت إلى حروب وانقسامات وتشكيل دول أو حتى دويلات.
أفكار من هذا النوع كانت محطّ نقاش وجدل لتيارات فكرية وسياسية خلال العقود الماضية، خصوصاً علاقة الدين كعقيدة، بالسياسة كممارسة ومساومة ومصالح، ومن جهة أخرى كانت فكرة الدولة المدنية حاضرة، لاسيّما باعتبارها "الكفيل بوضع حدّ لنزاعات القوة والهيمنة وتنظيم حياة الناس" بعيداً عن دينهم ولغتهم وعرقهم ولونهم وجنسهم ومعتقدهم وأصلهم الاجتماعي، وذلك بوجود مؤسسات ضامنة لحقوقهم في إطار سيادة القانون، وربّما هذا ما كانت تسعى إليه بعض حركات التغيير، حتى وإن هناك من حاول وضع العقبات في طريقها أو واجهها بتحدّيات، ناهيك عن المنعرجات التي صادفتها والخيبات التي اعترضتها، لكن ذلك هو الواقع بكل تعقيداته، وهو واقع وليس افتراضاً بكل الأحوال!!.

4- المواطنة تاريخياً!
يعود جذر كلمة المواطنة إلى الوطن، وهذا الأخير يكاد يكون ملتبساً أو متماهياً مع مفهوم الدولة، فالدولة هي الإطار التنفيذي والمؤسساتي للوطن، وبالطبع فهي تختلف عن نظام الحكم أو الحكومة بمعنى السلطة.
الوطن هو " المتّحد" الجغرافي الذي تعيش فيه مجموعات بشرية، قومية ودينية وسلالية ولغوية متنوعة أحياناً ومختلفة، أي (شعباً) يسكن في أرض (الإقليم) ولديه سلطة أي (حكومة) ويتمتع بالسيادة أي بحقه في تقرير مصيره دون تسلّط، وهذا المفهوم أقرب إلى فكرة الدولة العصرية. والوطن ليس علاقة عابرة أو ظرفية أو مؤقتة، بل هو مجموعة العلاقات الإنسانية والعاطفية والثقافية والمادية المتحددة في إطار هوّية معينة عمودياً وأفقياً وكل إنسان يوجد في وطن أو يكون منتمياً إلى وطن، ولكن لا يولد المرء مواطناً، بل يكتسب هذه الصفة داخل مجتمعه، لاسيّما من خلال مشاركته واعتماداً على مبادئ الحرية والمساواة والعدالة، والمواطنة في نهاية المطاف هي مجموع المعايير الحقوقية والقانونية المدنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، التي تمكّن الفرد من الانخراط في مجتمع والتفاعل معه إيجاباً والمشاركة في إدارة شؤونه، وهو ما نطلق عليه مصطلح المواطنة العضويّة!
لم يظهر مفهوم الجنسية بوصفها رابطة قانونية وسياسية وأداة للتمييز بين الوطني والأجنبي إلا في وقت متأخر ويرجعه البعض إلى بداية القرن التاسع عشر وقد تعاظم الاهتمام بذلك بتوفير الحماية الفعالة للأفراد.
وإذا كانت الرابطة بين الفرد والجماعة سابقاً تقوم على اعتبارات دينية أو تاريخية "انحدار من أصول معينة" أو الإقامة في رقعة جغرافية بصورة استقرار دائم، فإن العلاقة اتخذت شكلاً آخر في الدولة الحديثة، لاسيّما في إطار فكرة المواطنة.
ففي العهود القديمة كانت الأسرة هي التي تمثل الخلية أو الوحدة التي يجتمع في نطاقها الأفراد، وعن طريق تجمع الأسر تنشأ العشيرة أو القبيلة التي تجمع الأصول العائلية والديانة والاستقرار.
أما مفهوم الأجنبي سابقاً فهو يختلف عن مفهوم الأجنبي حالياً، ففي تلك العهود كان مفهوم الاجنبي هو كل من لا يرتبط مع أفراد القبيلة أو العشيرة بالعوامل المذكورة، مما كان يمكن اعتباره عدواً يستحق القتل أو خصماً يستوجب ابعاده، وظلّت العوامل والأسس العرقية سائدة حتى بعد اجتماع العشائر أو القبائل في مدينة واحدة يحكمها شخص او مجموعة أشخاص كما هو شأن أثينا وسبارطة.
في كتاب " القوانين" يخضع أفلاطون القانون لصالح المجتمع أكثر مما يخضع للأخلاق السامية المجردة. أما أرسطو ففي كتابه " السياسة" يؤكد على ضرورة أن تكون القوانين رشيدة وتلائم "مجتمع الدولة" .
كان المواطنون في بعض المدن اليونانية يتمتعون بحقوق المساواة أمام القانون Isnomia واحترام متعادل للجميع Isotimia وحقوق متساوية في التغيير Isogoria، وتلكم هي الحقوق الاساسية التي أصبحت معروفة في عالمنا المعاصر .
لكن ذلك لم يمنع التمييز بين السادة (النبلاء) وهم المواطنون والعبيد وفئة ثالثة هي المحاربون أو الجند. إعتقد اليونانيون بتفوقهم على سائر الشعوب لذلك كانت الحروب والفتوحات هي أساس العلاقة مع الغير، الآخر، الاجنبي.
حاول الرواقيون الذين اهتموا بالكون والأخوة العالمية أن يربطوا هذه "الحقوق" بالعقل للكائن البشري، في محاولة لتحجيم التمييز.
أما في العهد الروماني فقد كان التمييز بين ثلاثة طوائف:
1- المواطنون، وهم الرومان من سكان عاصمة الامبراطورية.
2- الرومان خارج مدينة روما، ويطلق عليهم اللاتينيون، وإن كان لهم حق التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، الآّ أن الأمر يتوقف على تجنيسهم.
3- البرابرة أو طائفة الأجانب، وهم سكان المناطق المحتلة الذين يخضعون للامبراطورية الرومانية، فهؤلاء يتبعون لقانون خاص بهم يسمى قانون الشعوب Jus Gentium وهو يعتبر استمراراً لفكرة القانون الطبيعي اليونانية التي اقتبسها شيشرون من الفلسفة الرواقية، بالتأكيد على مبدأ العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه وفي الواقع فلم يكن رعايا الشعوب يتمتعون بأية حماية قانونية.
أما في القرون الوسطى وتفتّت المجتمع اليوناني- الروماني فقد لعبت الكنيسة بامكانياتها وتنظيمها دوراً كبيراً في تنظيم المجتمع، فقد قال القديس أوغسطين الذي عاش في القرن الخامس، وأنتج أعمالاً متميزة أن "العدالة الحقة" لا توجد في دولة ملحدة، مميزاً بين Concordia و Justicia أي بين " العدالة والحق".
خلال فترة هيمنة الاقطاع ازداد ارتباط الفرد بالارض بحيث أصبح الشخص تابعاً للاقطاعية التي يحكمها أمير أو سيد اقطاعي يملك الارض ومن عليها. ففي هذه الحالة اختفى التمييز الذي كان سائداً بين المواطن أو الوطني والاجنبي، حيث كانت سلطة الاقطاعي تنسحب على سكان المقاطعة بكاملها، وكان حكم كل أجنبي أن يغادرها خلال فترة محددة بموجب أمر من الاقطاعي، لكن الأمر اتخذ منحىً آخر بصعود الأنظمة الملكية التي ألغت النظام الاقطاعي وأصبح الأشخاص يرتبطون بالملك الذي يعتبر حاميهم والمدافع عنهم، في حين كانوا يدفعون له الضرائب ويؤدون الفروض العامة، مرتبطين بشخصه على نحو دائم وأبدي لا انفصام فيه. وقد اتسم عصر النهضة وبخاصة القرنين السادس عشر والسابع عشر باتساع ساحة الفكر السياسي والقانوني لمفكرين كبار مثل جان بودان في فرنسا وهوغو غروشيوس في هولندا وهوبز ولوك في انكلترا وغيرهم.
فقد اهتم بودان بفكرة السيادة في حين أعار غروشيوس اهتمامه للقانون الدولي ولفكرة الدولة والقانون، مؤكداً أن القانون الوضعي يخضع للقانون الطبيعي، أما هوبز فقد أكد على تلازم الحرية والضرورة وعلى الحاكم أن يسد احتياجات الرعية.
أما جان جاك روسو الذي هيأت أفكاره للثورة الفرنسية وبخاصة كتابه " العقد الاجتماعي" ومونتسكيو وكتابه " روح القوانين" فقد اتخذ اتجاهاً آخر، فحسب روسو في نظرية العقد الاجتماعي، أن للأفراد حقوق قبل أن يكونوا في مجتمع منظم، وأن بعض هذه الحقوق غير قابلة للتصرف وعلى الدولة مراعاتها ليس بسبب شروط العقد حسب، بل بسبب طبيعة الإنسان.
أما مونتيسكيو فقد دعا إلى فصل السلطات باعتباره حجر الزاوية في توفير الحرية مؤكداً على الرقابة على السلطات، في حين أكد روسو على مفهوم سيادة الشعب، وإذا كان الناس يولدون غير متساوين، فإنه بموجب العقد الاجتماعي يصبحون متساوين. وقد ذهب الفيلسوف الألماني كانت إلى تأكيد مفهوم الحرية الأخلاقية للإنسان ودور العقل مشيراً إلى إلزام الفرد ببعض التقييدات على حريته تامينا لحرية الغير .

5- المواطنة في الإسلام
إذا كانت هذه المقدّمات ضرورية للتفريق بين حقوق المواطن وحقوق الأجنبي في موضوع الجنسية والمواطنة، فلا بدّ من وقفة سريعة عند تطور مفهوم المواطنة في الإسلام، خصوصاً في إطار الدولة العربية - الإسلامية، فالدولة في عهد النبي محمد (ص) بلورت وبخاصة عبر القرآن الكريم قواعد جنينية سياسية ودينية وقضائية لتنظيم المجتمع في عهد وساهمت السنّة أي أحاديث الرسول (ص) في الإجابة على الكثير من الأسئلة التي كان يطرحها المجتمع الإسلامي.
وتطوّر الأمر في عهد الخلافة الراشدية وبخاصة في عهد الخليفة أبو بكر(رض) التي دامت نحو سنتين. وترسّخت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض)، سواءً ما يتعلق بقضية العطاء في الغنائم وامتيازات المواطنة، وبخاصة المحاربين حيث اعتمد الخليفة الاول مبدأ المساواة دون اعتبار للقدم إلى الدخول في الإسلام أو القرابة من النبي (ص) أو البلاء في الحرب من أجل الإسلام، الأمر الذي خلق إحساساً اسمياً بالمساواة، شجع العديد من العرب على الالتحاق بالجيش الإسلامي .
أما أمور القضاء فقد جرى تقاسمها مع الخليفة عمر بن الخطاب (رض) واستحدث منصب مسؤول بيت المال، وسن عمر (رض) في عهده عدة قرارات منها مراتبية إعطيات وإيجاد ديوان للجند مشدّداً على مبدأ القدم في الإسلام والبلاء في خدمته والإنتماء العربي كمعيار للمواطنة أو لمفهوم الجنسية المعاصر.
واتّخذ الخليفة الثالث عثمان بن عفان (رض) التصنيف الذي اتبعه عمر بن الخطاب (رض) دليلاً للانتماء والمواطنة، بل زاد في تضييقه خصوصاً بشأن دور قريش التي نالت حصة الأسد في إعادة التعيينات السياسية والعسكرية، وهو النهج الذي حاول الإمام علي (رض) التوقف عنده، إلاّ أن اندلاع الحرب الأهلية بينه وبين معاوية قد أثر في عناصر الاستقطاب والولاء، وقد شعر بعض الموالين بالغبن الشديد بالرغم مما قدّموه للإسلام فقد جرى " التمييز" في حقهم، في حين دعا الإسلام ويدعو إلى المساواة وفقاً لقول الرسول (ص) " لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى" و" الناس سواسيه كأسنان المشط"، فرغم " إسلامهم وإسهامهم في دفع الديات والمشاركة في القتال وفي الأمور العامة فقد أغلقت دونهم في القرن الأول للإسلام على الأقل الوظائف، التي تعني الولاية على الغير كالامارة والقيادة والقضاء، وأن تولّى بعضهم القضاء، فقد ندر من تولّى مناصب إدارية وعسكرية هامة" .
وإذا كان الإسلام ديناً عالمياً يسعى لبسط نفوذه على العالم أجمع، الآّ أنه رغم نزعته الإنسانية فقد كان ينظر إلى العالم في علاقاته الدولية إنه منقسم إلى قسمين، الأول دار الإسلام والثاني دار الحرب، فالدار الأولى تعني الأقاليم التي يبسط المسلمون عليها ولايتهم، وتضم إلى جانب المسلمين أشخاصاً من غير المسلمين، وهم الذميون والمستأمنون. الذميون هم أهل الكتاب، فضلوا الاحتفاظ بديانتهم الأصلية مقابل دفع الجزية، ولذلك فهم مواطنون يتمتعون بالحماية والعيش بأمان، ولكن بشروط في كنف الدولة الإسلامية.
أما المستأمنون، فهم القادمون من دار الحرب إلى دار الإسلام أي انهم "أجانب" دخلوا إلى دار الإسلام بإذن من الدولة الإسلامية سواءً كان لغرض التجارة أو غيرها . أي ان هناك فرقاً بين الذمي والمستأمن، فالذمي من رعايا الدولة الإسلامية، احتفظ بدينه مقابل الجزية والأمان، أما المستأمن فهو الذي جاء من دار الحرب لظرف خاص أو طارئ او مؤقت، والمستأمنون ليسوا مواطنين أو من رعايا الدولة الإسلامية.
أما دار الحرب فهي التي لا تمتد إليها الولاية الإسلامية، ولا تُطبق فيها الشريعة الإسلامية، بل لها نظامها الخاص وقد انعقدت بين دار الإسلام ودار الحرب معاهدات سلام أو هدنات وأطلق عليها (متعاهدة) أو تكون في حالة حرب مع الدولة الإسلامية.
وإذا كانت هذه المقاربة لمفهوم وتطور الجنسية كوجهة نظر معاصرة لفكرة المواطنة أو الرعوية أو غيرها، فإن المفهوم الحديث للجنسية في العالم العربي، لم يظهر الاّ في سنوات متأخرة بفعل الاحتكاك مع اوروبا وبقصد التمييز بين مواطني الدولة الإسلامية وغيرهم من الاجانب. وإذا كان مصطلح " المواطنة" و" المواطن" citizen ( أي الفرد المشارك في الشؤون المدنية والسياسية بحرية) غريباً تماماً في الإسلام على حد تعبير برنارد لويس فلم تعرفه اللغات العربية والفارسية والتركية، حيث يرجع ذلك إلى غياب فكرة المشاركة للمواطنة، وفكرة المشارك للمواطن، فإن الباحث السوداني عبد الوهاب الأفندي يعتبر وجود المسلم رديفاً لكلمة المواطن الحديث، وهو المصطلح الإسلامي الذي يعني انتماء الفرد في بدايات المجتمع الإسلامي والتمتّع بعضوية كاملة وفورية في المجتمع السياسي بالمعنى الايجابي للمواطنة النشطة على كونه مسلماً . وكان الإسلام الأول وبخاصة في عهد النبي (ص) يولي اهتماماً كبيراً لرأي المسلمين، الذين كانوا يعبّرون في لقاءاتهم اليومية لخمس مرّات (أوقات الصلاة) في مقر الحكومة أو البرلمان في الجامع (بمشاركة نسوية ملحوظة) عن تبادل الرأي والاستماع إلى رأي المسلمين والرد على تساؤلاتهم.
وكان بمقدور أي فرد إثارة أية قضية يرغب فيها، لكن توسع وانتشار الدولة الإسلامية وامتداد سلطانها إلى أقاليم بعيدة وبخاصة العراق ومصر، اضطر هؤلاء إلى تصريف أمورهم بأيديهم بعيداً عن الرأي اليومي والحوار المستمر بين مركز الدولة وقيادتها العليا وبين المواطن، وتدريجياً بدأت البيروقراطية والمؤامرات السياسية تبعد المواطن (المسلم) عن المشاركة في تصريف أمور الدولة .
وظلت فكرة التمييز بين حقوق " المسلم" و" الغريب" أو " المقيم" من غير المسلمين مستمرة حتى العصر الحديث حيث تداخلت ايجابيا لصالح الاخير بفعل ضغوط غربية للحصول على ما يسمى بنظام الامتيازات Capitulation من الدولة العثمانية للاجانب وبخاصة للمسيحيين، الذين كان الغرب يعلن الرغبة في توفير حماية خاصة لهم ورعاية مصالحهم الدينية والسياسية، وهو ما أعطى انطباعاً أحياناً بأن غير المسلمين الذين حظوا بدعم الغرب تجاوزوا خط الدفاع عن مبدأ المواطنة الكاملة أو المتساوية مع غير المسلمين، إلى الحصول على امتيازات تحت حماية القوى الأجنبية.
ربما يعود جزء من ذلك إلى أن بعض المواقف الإسلامية لم تكن " توافق" أو تؤيد فكرة إقرار مبدأ المواطنة الكاملة صراحة لغير المسلمين، وهو الموقف الذي انعكس لدى البعض من موضوع القوميات و"الأقليات" الدينية والإثنية واللغوية والمذهبية أحياناً، ولعلّ موقف بعض القوى التقليدية المتشدّدة كان الأقرب إلى هذه المواقف، ونعني بها الموقف الملتبس والذي لا يقر مبدأ المساواة التامة والاعتراف بحقوق الغير وحقهم في المواطنة الكاملة ضمن القواعد المعترف بها في القانون الدولي ولوائح ومواثيق حقوق الإنسان .
حدث تطور بطيء باتجاه إقرار حق المواطنة الكاملة لدى بعض المفكرين الإسلاميين، رغم أن المسألة لا ترتقي إلى الحق الدولي المنصوص عليه في لوائح حقوق الإنسان، يمكن على هذا لصعيد الإشارة إلى المفكرين الإسلاميين مثل فهمي هويدي وطارق البشري وسليم العوّا وأحمد كمال أبو المجد وراشد الغنوشي ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله وغيرهم.
ورغم محاولات التجديد فإن الاتجاه الإسلامي السائد ما زال ينتقص من مبدأ المواطنة الكاملة،التي يقصرها على الانتساب الديني والإقامة، فالمسلمون غير المقيمين في الدولة الإسلامية وغير المسلمين المقيمين فيها لا يحق لهم التمتع بحقوق المواطنة الكاملة، وربما يصبحون مواطنين في حالة قبولهم بشرعية الدولة الإسلامية، لكنهم لا يصبحون مواطنين بالكامل ولا يحق لهم تسلم مناصب رئيسية في الدولة مثل رئاسة الدولة ورئاسة القضاء ورئاسة البرلمان وقيادة الجيش وغيرها .
أما التجربة الإسلامية، فقد حققت الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 انعطافاً جديداً في الفكر الإسلامي، وأنشأت مؤسسات تساوقاً مع الموجة "الديمقراطية": برلمان وانتخابات رئاسة ومنذ انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية خرجت من مرحلة الثورة، لتدخل مرحلة الدولة، ولم يكن ذلك بمعزل عن صراع سياسي وفكري حاد داخل أوساط التيار الديني، وقوفاً ضد التيار الإصلاحي الذي قاده السيد محمد خاتمي، في ظل تصاعد موجة شديدة للتيار المحافظ الذي يحاول إحباط خطط التغيير والإصلاح...الخ، لكن شرط الدستور على التحدّر الفارسي واجه انتقاداً شديداً لاستثنائه المسلمين غير الفرس في الترشّح لرئاسة الجمهورية، ناهيكم عن الشروط الخاصة بولاية الفقيه أو حكم العلماء، وهو ما ينتقص من مبدأ المواطنة والمساواة.
أما التجربة الثانية فهي التجربة السودانية التي جاءت إلى الحكم عام 1989 وقد سارت نحو تقليص التعدّدية السياسية والفكرية والدينية واللغوية عملياً، لكن الدستور الجديد نظر للمشاركة من زاوية أخرى، منذ العام 1998 في محاولة انفتاحية باتجاه اقرار مبدأ المواطنة، بغض النظر عن الدين، لكنه ظل محافظاً من حيث الجوهر على الخصائص العامة لتوجهات الحكم الإسلامي، وهو على غرار دستور إيران يحتوي على بعض الشروط الإسلامية التي تقر بصيغة للمساواة النظرية دون أن ترتقي إليها فعلياً أو تقاربها (18).
ويمكن القول: إن المحاولات الإسلامية في إعادة تعريف المواطنة ما زالت لم تبلغ حتى الآن المدى المقبول، فهي في بداية الطريق ويلزم مبدأ المشاركة منح المواطنين غير المسلمين الحقوق نفسها التي يتوقع منحها من قبل المواطنين في الجانب الآخر، وهذا يعني عدم أخذ الانتساب الديني كلياً عند التفكير بهذه القضية.

1- المواطنة والتربية
يعتبر موضوع التربية على المواطنة موضوعاً جديداً في الفكر العربي المعاصر، خصوصاً بضعف أو شحّ وجود حركة مواطنة في العالم العربي وإنْ وجدت فما تزال جنينية أو هي أقرب إلى الارهاص منه إلى تأسيس " كيانية حقوقية" ذات أهداف محددة وواضحة في إطار آليات معلومة، بحيث تتحوّل المفاهيم إلى حقوق، وهذه الأخيرة إلى تشريعات وقوانين في إطار مؤسسات وبرلمانات، مثلما يتطلّب الأمر وجود قضاء عادل ومستقل يحميها من التجاوز والانتهاك، في ظل تطبيقات وممارسات بحاجة إلى نقد وتطوير مستمرين، لاسيّما في ظل دور متميز للمجتمع المدني!!
إن فكرة التربية على المواطنة، هي جزء من فلسفة تربوية سسيو ثقافية حقوقية عقلانية مدنية عابرة للأديان والطوائف والتكوينات القومية والإثنية واللغوية والسلالية وغيرها، وهي مسألة حديثة في عالمنا العربي، حداثة فكرة المواطنة، وحداثة فكرة الدولة.
ولذلك فإن التربية على المواطنة له دلالات كثيرة:
فالدلالة الاولى أن عالمنا العربي ما زال في أول السلّم على الصعيد العالمي إزاء المفهوم السليم للمواطنة وحقوقها، حيث تزداد الحاجة لإثارة حوار وجدل حول الفكرة وأبعادها وغاياتها وسياقاتها، وحشد قوى وطاقات حكومية وغير حكومية، سياسية وفكرية وثقافية ودينية واجتماعية، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني لمقاربة للمفهوم الذي ارتبط بفكرة الدول العصرية الحديثة، وبالتقدّم الذي حصل في هذا الميدان، لاسيّما في الدول الغربية المتقدمة، حيث هناك تصالحاً بين الدولة والمواطن، سواءً في نظرة الدولة إلى المواطن أو في نظرة الأخير إلى الدولة، فمسؤولية الدولة لم تعد الحماية حسب، بل أصبحت الدولة "دولة رعاية" واجبها ووظيفتها الأساسية خدمة المواطن وتحسين ظروف عيشه وتوفير مستلزمات حريته ورفاهه، وبالمقابل فإن نظرة المواطن للدولة أصبحت إيجابية هي الأخرى، من حيث احترامه للقوانين والأنظمة وعلاقته بالمرافق العامة وحفاظه على البيئة وواجبه في دفع الضرائب وغير ذلك.
أما في البلدان العربية فإن نظرة السلطات إلى المواطن ظلّت نظرة تشكيكية ارتيابية في الغالب، إنْ لم تكن عدائية، وبالمقابل فإن نظرة الفرد للدولة استمرت نظرة سلبية، متربصة، تعارضية، بما فيها إزاء الخدمات والمرافق العامة، خصوصاً في ظل ضعف الحرية والتمييز وعدم المساواة وعدم تكافؤ الفرص وعدم احترام الحق في المشاركة.
الدلالة الثانية تكمن بانشغال بعض المهتمين على صعيد الفكر وحقوقيين وناشطين بفكرة حركة للمواطنة، باعتبارها فكرة راهنية ومطروحة على صعيد البحث من جهة، وعلى صعيد الواقع العملي من جهة أخرى، خصوصاً الأسئلة الشائكة التي تواجهها والتطبيقات المختلفة التي تقف أمامها في مفترق طرق عديدة وخيارات بين مرحلتين:
المرحلة الاولى ونموذجها الأنظمة الشمولية التي تكاد تكون انتهت أو تلاشت على الصعيد العالمي، خصوصاً التشبث باحتكار الحقيقة والدين والسلطة والمال والاعلام، لكنها ما تزال قوية ومؤثرة في مجتمعاتنا العربية بأنظمته المختلفة.
أما المرحلة الثانية، فنحن ما زلنا عند بواباتها وكثيراً ما تحدثنا عنها وبصوت عال أحياناً، لكننا ما زلنا متردّدين من الدخول في صومعتها، خصوصاً إن حركة الإصلاح والدمقرطة في العالم العربي ما تزال تتقدم خطوة وتتأخر خطوتين، ناهيك عمّا تركته حركة الاحتجاج والتغيير التي ابتدأت في العالم العربي منذ العام 2011، من بعض المخاوف إزاء انفلات العنف واستشراء الفوضى وزعزعة أركان الدولة الوطنية لتيار الإسلام السياسي، لاسيّما وأن الكثير من الكوابح تعترض طريقها، سواءً كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، فضلاً عن ذلك تواجه تحديات مختلفة خارجية وداخلية، مثل الاحتلال والحصار والعدوان، إضافة الموروث الاجتماعي والاستخدام والتوظيف السلبي للتعاليم الدينية على نحو متعصّب ومتزمّت ومغالي، ناهيكم عن الفقر والجهل والمرض والتوزيع غير العادل للثروة.
وما تزال فكرة المواطنة في عالمنا العربي تتعرض إلى تجاذبات داخلية وخارجية، خصوصاً ارتباطها على نحو وثيق بمسألة الهوّية ومستقبلها، لذلك فإن الحوار والجدل بقدر إجلائهما بعض التشوش والغموض إزاء مستقبل بلداننا، فهما يساعدان في الوقت نفسه في نشر ثقافة المواطنة ويعمقان الوعي الحقوقي بأهميتها وضرورتها وفداحة نكرانها أو الانتقاص منها أو تعطيلها أو تعليقها تحت أية حجة أو ذريعة، وهو بالقدر نفسه يطرح أسئلة ساخنة حول سبل التربية على المواطنة، بما يثير من اختلاف وصراع.
الدلالة الثالثة تتعلق بالالتباس النظري والعملي بشأن فكرة المواطنة، ولاسيّما في مواقف الجماعات والتيارات الفكرية والسياسية والقومية المختلفة، الأمر الذي يضع تكوين تصوّرِ مشترك حولها من جهة وحول الطريق التربوية القويمة والأساليب التعليمية الصحيحة لتعميق فكرة المواطنة، في إطار المبادئ الدستورية للدولة العصرية التي تستند على سيادة القانون ومبدأ المساواة، مسألة ملّحة وضرورة حيوية، لا يمكن اليوم احراز التقدم والتنمية المنشودتان بدونها، وهو الأمر الذي يغتني بمساحة الحرية والمشاركة والعدالة، باعتبارها متلازمات ضرورية للمواطنة.
الدلالة الرابعة ترتبط باشكالات المواطنة والهوّية، والتحدّيات التي تواجههما، فقد بدأت تحفر في أساسات الدولة والهوّية، بحيث يجعل من الواجب إدارة حوار فكري ومعرفي حولها، طالما أنها تدخل في صلب المشكلات التي تواجه المصير العربي، ومعها يصبح جدل الهوّيات أساساً للتعايش والتكامل والتطور السلمي للمكوّنات المختلفة، بدلاً من أن يكون مادة للتناحر والانغلاق والتعصب، وهذه المسألة تتطلّب الإقرار بالتنوّع والتعددية والمشترك الإنساني كشرط لا غنى عنه للهوّية الجامعة، مع تأكيد الحق في الاحتفاظ بالهوّيات الفرعية الجزئية، الدينية أو القومية أو الثقافية أو غيرها!
الدلالة الخامسة تتعلق بالعلاقة الجدلية بين فكرة المواطنة وحقوق الإنسان، خصوصاً بمبدأ المساواة في الحقوق، وبالأخص حق المشاركة في إدارة الشؤون العامة وحق تقلّد الوظائف العليا دون تمييز لأي سبب كان سواءً التمييز الديني أو القومي أو المذهبي أو الاجتماعي أو اللغوي أو الجنسي أو بسبب اللون أو غير ذلك. ويأتي حق المشاركة، في إطار الحقوق الأساسية ونعني بها حق التعبير وحق الاعتقاد وحق التنظيم، ولعلّ هذه الإشكالية هي التي تشكل جوهر فكرة المواطنة، خصوصاً إذا ما اقترنت بالعدل، إذ أن غيابه سيؤول إلى الانتقاص من حقوق المواطنة، ولا تستقيم مواطنة كاملة مع الفقر ومع الأمية والتخلف وعدم التمتع بمنجزات الثقافة والعلم والتكنولوجيا وغيرها.
ليس تجنّياً إذا قلنا أن الفكر العربي ما يزال يعاني من نقص فادح فيما يتعلق بثقافة المواطنة، وتستمر النظرة الخاطئة أو القاصرة إلى مبدأ المساواة قائمة، إضافة إلى الموقف السلبي من حقوق "الأقليات" على الرغم من أنني أفضل استخدام مصطلح التنوّع الثقافي والتعددية الدينية والقومية والسلالية واللغوية والفكرية والاجتماعية وغيرها كما تمت الإشارة إليه، فهي عندي أكثر تعبيراً عن حقوق ما قصدته الأمم المتحدة في اعلانها العام 1992 الخاص بحقوق "الاقليات"، وأجد في تعبير " الأقليات "إحراجاً" أو "انتقاصاً " من حقوق أديان أو قوميات، يفترض أن يكون لها القدر نفسه من الحقوق استناداً إلى مبادئ المساواة، وكذا الحال يشمل حقوق المرأة التي ما تزال الثقافة السائدة، إضافة إلى منظومة القوانين النافذة بما فيها قوانين الأحوال الشخصية في الغالبية الساحقة من البلدان العربية، تنتقص منها.
وما يزال الكثير من التيارات والاتجاهات السائدة في السلطة والمجتمع تتمسك بالنظرة التسلّطية لعلاقة الدولة بالمواطن، الفرد، الإنسان، الذي هو شخص وكيان له أهلية قانونية، ففي الكثير من الأحيان يُنظر إلى حقوق المواطنة، أما باعتبارها هبة أو منّة أو مكرمة من الحاكم، يكون الأفراد عنده هم رعايا لا مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات. ومثل هذه المسألة ترتبط بأفكار ماضوية لعلاقة الحاكم بالمحكوم، تلك التي تم تبريرها تارة على أساس نظرية التفويض الإلهي وأخرى على أساس وراثي كما هي الأنظمة الملكية لاسيّما المطلقة وثالثة باسم الشرعية الثورية المستندة إلى الدين أو الطبقة أو القومية والدفاع عن مصالح الثورة والأمة بوجه أعدائهما، على حساب الشرعية الدستورية وسيادة القانون ومبدأ المساواة.
الدلالة السادسة إرتباط فكرة المواطنة ارتباطاً عضوياً بالمفهوم الحديث للتنمية، ولعل أحد الأركان الأساسية للتنمية يقوم على نشر التعليم وثقافة المساواة وعدم التمييز والقضاء على الفقر وغيرها من الحقوق، ولذلك تصبح التربية جزءًا لا غنى للمواطنة من جهة مثلما هي عنصر حيوي للتنمية من جهة أخرى، الأمر الذي يحتاج إلى مفاهيم تربوية جديدة وأساليب حديثة، لاسيّما في ظل قيم المواطنة.
إن الحوار والجدل حول فكرة التربية على المواطنة لا ينبغي أن يقتصر على محافل فكرية محدودة، ولهذا ينبغي أن ينتقل إلى منابر متنوعة لاسيّما الجامعات ومراكز الأبحاث وإقامة منتديات فكرية وثقافية وإشراك أوساط من النخب والمختصين، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني والبرلمانات والحكومات في الآن ذاته، ناهيكم عن قطاعات شعبية وخصوصاً من النساء ومن التكوينات الثقافية، وبمساهمة حيوية من جانب الإعلام، لاسيّما الفضائيات في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات وبفضل الانترنت والكومبيوتر، يمكن أن يلعب دوراً كبيراً في زيادة الاهتمام بفكرة المواطنة أولاً، ومن ثم كيف يمكن تنمية قدرات الأفراد والمجتمع عبر التربية وقيمها الجديدة وتعزيز أركانها وصولاً إلى ما نطلق عليه مفهوم المواطنة العضوية الذي يقوم على أربعة أركان أساسية هي: الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة كما تمت الإشارة إليه، في إطار تفاعل ديناميكي لا انفكاك بين عناصره ومكوناته أو انتقاص من أحدها لهوّيات متعدّدة ومتعايشة فرعية وعامة.
______________
(*) بحث قدّمه د. شعبان في مؤتمر منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) والمركز الدولي لعلوم الإنسان – بيبلوس، جبيل – 3-5/9/2015، وهو المؤتمر العلمي الذي انعقد تحت عنوان: "المجتمعات المتعدّدة اللّغة والديمقراطية من خلال تاريخ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". وقد نُشر هذا البحث في كتاب أصدرته منظمة اليونيسكو بالتعاون مع المركز الدولي لعلوم الإنسان تحت عنوان: "حضارات في طور الانتقال"، بيروت، 2016.
(**) أكاديمي ومفكّر عراقي، له أكثر من 50 كتاباً في قضايا الفكر والقانون والاجتماع السياسي والأديان والعلاقات الدولية، إضافة إلى مساهمات متميّزة في الثقافة الحقوقية، ولا سيّما في تطوير الفهم المتجدد لثقافة حقوق الإنسان والمجتمع المدني والحداثة، واللاّعنف والتسامح .
عضو المكتب الدائم لاتحاد الحقوقيين العرب.
المدير العام للمركز الوثائقي للقانون الدولي الإنساني (عمان – بيروت).
مستشار في مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية (بغداد).
عضو المجلس العلمي الاستشاري لدار الخبرة (بغداد).
عضو مجلس أمناء المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة (بيروت).
نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان "أونور" (بيروت).
رئيس المعهد العربي للديمقراطية (تونس).



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- داعش والفلوجة ودلالات الهزيمة
- ماذا بعد نشوة النصر في الفلوجة؟
- الوجه الآخر لبريطانيا -الأوروبية-؟
- تيسير قبعة: غيمة فضية في فضاء الذاكرة
- الاتجار بالبشر.. والأمن الإنساني
- الفساد والوجه الآخر لمعركة الفلوجة..!
- الأزمة العراقية الراهنة: الطائفية، الأقاليم، الدولة
- زيد الحلي: حين يغمّس يراعه بحبر المودة
- اسرائيل والخطيئة الجديدة
- الموصل وبعض تداعيات معركة الفلوجة..!
- هل يبقى العراق موحداً؟
- أي مخاض جديد بعد الفلوجة؟
- أي ثمن لتحرير الفلوجة؟
- حوار ومثقفون وأمم!
- حوار الفكر والثقافة -رذيلتان لا تنجبان فضيلة-
- ماذا وراء غبار الحرب في الفلوجة؟
- انطولوجيا الصحافة ومرآة الحياة ونبضها - أوراق من ذاكرة ليث ا ...
- حقوق المدن
- القوة الناعمة: جدل في المفهوم والسياسة
- مأساة الفلّوجة وملهاتها


المزيد.....




- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحسين شعبان - جدلية الهوية والمواطنة في مجتمع متعدد الثقافات