جواد كاظم غلوم
الحوار المتمدن-العدد: 5177 - 2016 / 5 / 29 - 16:52
المحور:
الادب والفن
" خطىً تتجه وئيدةً نحو الماضي ؛ من حكايا الزمن الجميل "
أحيانا ألجأ لِلاستماع الى نخبة من الأغاني المنتقاة المحفوظة في مكتبتي الحاسوبية بعد ان يملّني الكتاب وأملّه فلا عجب ان يدخل الملل بين اثنين تحابّا وتعلّقا ببعضهما أمَدا طويلا ولو كان بين صديقين أثيرين مثل مالك وعقيل الذي يضرب بهما المَثل في الصداقة الحقيقية الخالصة من شوائب الطمع او بين حبيبة وحبيبها ولو كانا جميلا وبثينة ، ألوذ لصدى الماضي الجميل وفنّه وتتجه خطاي اليه وأدنو بأذني لصداح ألحانه ؛ وهذه المرّة انتقيت بعضا من القصائد المغناة بصوت عبد الحليم حافظ الذي كان وسيبقى حاضرا كلما اختليا حبيبان معاً ليكون ثالثهما ، فجاءني صوته غاضبا مزمجرا وكأن الطرب في ثناياه بدأ يخفت ثم يتعالى طربا في توازن صوتي مدروس ، كنت اسمع صيحات التحدّي ومخاطبة الغريم بقسوة :
حبيبها ، لست وحدكْ
حبيبها انا قبلك
وربما جئت بعدك
وربما كنت مثلكْ
ما ان انتهى حليم من غنائها حتى رحت انبش في حيثيات القصيدة وسبب كتابتها لأني اعرف الشقاء الذي عاناه شاعرها الموجوع كامل الشناوي بسبب الجفاء والصدّ الذي كان يلاقيه ممن كان يعشقهن ؛ وكلنا يعرف قصة قصيدة / لاتكذبي التي نظمها عام / 1962وهو يبكي ويهطل دموعا حرّى كما قال صديقه الصحفي مصطفى امين في كتابه " شخصيات لاتُنسى " ، وسعي نجاة الصغيرة راكضة الى محمد عبد الوهاب كي يقوم بتلحينها بعد ان سمعت القصيدة من فم الشاعر الشناوي عن طريق سماعة التلفون وكتبتها بأناةٍ وهي تصغي الى القصيدة
شاعرنا الشناوي هذا استغلّ يوم عيد ميلاد مَن تخيّلها حبيبته من طرف واحد كما يقول العشاق ودعاها الى بيته مع نخبة من الاصدقاء كان من بينهم الروائي المصري المعروف يوسف ادريس بعد ان اشترى الشناوي لها اغلى الهدايا ووزع النشرات الضوئية في ارجاء مكان الحفل ونشر الالوان الجميلة والبالونات الزاهية ؛ تتوسط المكان كعكة عيد الميلاد باسم نجاة البارز وسط الكعكة
المدهش ان نجاة مدت يدها الى يوسف ادريس تدعوه ليشاركها قطع الكعكة وإطفاء الشموع ولم تعبأ بصاحب الدعوة الذي كان يأمل ان تدعوه ؛ وتخيّل السكين في يدها وكأنها تقطع الحب إربا إربا
ويحفر الحب قلبي
بالنار ، بالسكين
وهاتف يهتف بي
حذارِ يا مسكين
وما ان انتهى الحفل وتوزع المدعوون للاستراحة خارج الغرفة خرج شاعرنا بحثا عن نجاة ليقدم لها ماانتقاه من هدايا جميلة ؛ فاذا به يصدم مرة اخرى وهو يرى حبيبته في أحضان صديقه وغريمه يوسف ادريس وقد انعزلا في مكان بعيد عن الانظار ويتبادلان القبل
ايّ هلع ورعدة واختلال قد هزّ هذا الشاعر ، ودون يمسك رباطة جأشه ويسيطر على توازنه ، ومن شدّة غِيرته ؛ صاح بوجه غريمه مرتجلا مطلع قصيدته " حبيبها لست وحدك حبيبها " ، وما ان انهاها الشناوي حتى سارع حليم الى صديقه الملحن محمد الموجي لأجل تلحينها ورغم قصر القصيدة لكن الموجي برع في تلحينها فأشبعها بالموسيقى والمقاطع السمعية الساحرة حقا ، وطمع عبد الحليم أكثر بعد نجاح الأغنية فطلب منه قصيدة اخرى فأعطاه " لست قلبي " التي بدورها بقيت في درج محمد عبد الوهاب مايزيد على السنة بعد ان عانى من تلحينها ؛ فالمعروف ان عبد الوهاب شديد التأنِّي في صياغة ألحانهِ وتأخذ القصيدة وقتا طويلا حتى يُلبسها ثوب لحنها اللائق لها كثيرا فظهرت أغنية غاضبة عاتبة ولائمة مع جزالة سبكها وقوة لحنها
هذا الشناوي الشاعر قد ابتلاه الله بالبدانة المفرطة إضافة الى طلعته التي طغت عليها الدمامة بدل الوسامة فترهلت أخاديد وجهه في سحنته السمراء وأنفه العريض ... ولأن عدالة السماء لاتحدّها حدود فقد عوّضه الله بقريحة شعرية قلما حظي بها شاعر من معاصريه في ارض الكنانة فكان يعتاش على ماتجود به شاعريته من قصائد رائقة لأهل الفن والغناء ويكافأ عليها مالا كافيا موسّرا لتغطية نفقات خمرته ومصاريف السهر والليالي الملاح التي أدمن عليها اذ كان يفرط بالشراب الى حدّ كبير في حانات مصر وفنادقها الكثيرة ويقضي لياليه فيها حتى انه كان له مقعد مخصص شبه دائم في فندق الهيلتون المطلّ على نهر النيل
والغريب في طباعهِ انه كان يخشى الموت جدا وهاجسه الدائم ان عزرائيل ملك الموت ينشط دائما في الليل قابضا أرواح الناس النيام وبقي على هذا المنوال دائم السهر حتى يعود أول الفجر الى شقته في الزمالك فينام ساعات طويلة في النهار وحيدا في مسكنه حيث لا زوجة تنتظره ولا عيال تثير الهياج وسط البيت ؛ إذ فضّل ان يعيش طوال عمره أعزب هادرا أمواله خمرا ولهواً دائما فعاش على حافة الفقر في اواخر حياته حتى مات العام / 1965
يكاد يكون كل المطربين والمطربات من الطراز الرفيع والبارز يطمعون في قصائد كامل الشناوي ، وكثيرا ما كان الموسيقار فريد الاطرش الذي أغرم بشعره جدا يطلب منه أجمل مايكتب ويغدق عليه مالا وفيرا وخصوصا انه ينتقي القصائد ذات المسحة الحزينة المليئة باللوعة والأسى فبعث اليه الشناوي مرة قصيدة مطلعها :
لا وعينيك يا حبيبة روحي ---- لم أعدْ فيكِ هائماً فاستريحي
ثمّ تبعها بقصيدة حزينة غاية في التشاؤم والأسى :
عدت يا يوم مولدي ----- عدتَ يا أيّها الشقي
الصِّبا ضاع من يدي ----- وغزا الشيبُ مفرقي
ليتَ يا يوم مــولدي ------ كنـتَ يـوما بلا غــدِ
بعدها ذاع صيته أكثر فأكثر لمّا غنت له ام كلثوم مقاطع من قصيدة وطنية له ومنها " انا الشعب لا أعرف المستحيلا "
فمن يقرأ شعره ويتأمل معناه ومبناه يهجس بانه من خيرة شعراء عصره وأوسعهم إبداعا وابتكارا وكان بإمكانه ان يكون علما شعريا بارزا يُجاري احمد شوقي وحافظ ابراهيم وشعراء ابوللو في منزلته الادبية لولا انه عبثَ بحياته وانصاع لسلوكه البوهيميّ الغريب الأطوار ، ولا اغالي لو قلت انه كان بإمكانه ان يرقى في الصفوف الاولى من شعرائنا الكبار لو نظّم طرائق عيشهِ واهتم بموهبته الشعرية الخارقة واتّزنَ في مسلكهِ وترتيب نفسهِ بدلا من انغماسهِ في حياة المجون المفرط التي أفقدته من ان يراعي دفقه الشعري ، وقد أعزو تلك الحياة التي اختارها الى القدَر والحرمان من الحب الذي جفاه ولم يظفر بشريكة حياة تتحمل نزقه وبوهيميته وترضى بشكله الفاقد للوسامة فلا حبيبة ارتضت ان يكون الشاعر الشناوي فارس أحلامها ، فعاش الشقاء والعذاب والجفاء بكل صوره المؤلمة ، عزوبية دائمة ولا زوجة مؤنسة تشاركه حياته فلجأ إلى الخمرة والحانات والسهر الطويل تعويضا عن شدة الحرمان وهول الوحدة وهذا في تصوّرنا هو الشقاء الكبير بعينه
ولنعد في الختام الى قصيدة " لا تكذبي " والتي مطلعها :
لا تـكـذبـي إنـي رأيـتـكـما مـعـا---- ودَعي البكاء فقد كرهتُ الأدمعا
ما أهون الدمعَ الجسور إذا جرى ---- من عين كاذبةٍ فأنكرَ وادّعى
وسواء كثرت الأقاويل والمبالغات بشأن ولادة قصيدة " لا تكذبي " فإن هناك الكثير من أصدقائه من ينكر تلك العلاقة العشقية الجارفة بين نجاة الصغيرة والشناوي وقد أضفى عليها المقربون والرواة الكثير من الكلام غير الحقيقي والتخيّلات والاستنتاجات غير الدقيقة وخاصةً ما ادّعاه مصطفى امين من اضافات قد تكون لصقت بالشاعر لمجرد الإثارة والتشويق ليس الاّ ؛ لكن سمة الحب الطاغي والشقاء الواضح بين أبياتها توحي بانها تجربة جدّ مريرة من العنت وفقدان الحبّ والجفاء والصدّ والشقاء الذي لا حدود له قد رسخ في أعماق كامل الشناوي فظهرت قصيدة صادقة في آلامها وشدة معاناتها
جواد غلوم
[email protected]
#جواد_كاظم_غلوم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟