عدنان غازي الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 5120 - 2016 / 4 / 1 - 03:09
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
.. سنقف اليوم عند قوله تعالى :
(( فبظلمٍ من الذين هادوا حرَّمنا عليهم طيبات أُحلَّت لهم وبصدِّهم عن سبيل الله كثيراً (160) وأخذهم الربا وقد نُهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليما (161) لكنِ الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً )) [ النساء : 160 – 162 ]
.. هذا النصُّ الكريم يصوِّرُ مسائل تتعلَّق بالذين هادوا ، وبدايته : (( فبظلمٍ من الذين هادوا )) تؤكِّدُ ذلك ، ولا خلاف في ذلك .. ومطلع الآية ( 162 ) يصوِّر الراسخين في العلم منهم ، والمؤمنين : (( لكنِ الراسخون في العلم منهم والمؤمنون )) .. ولا شكَّ أنَّ كلمة (( منهم )) تعود إلى الذين هادوا خاصّة .. وهؤلاء ( والمؤمنون ) يتَّصفون بأنّهم (( يؤمنون )) بالأمور التالية :
1 – (( بما أُنزل إليك )) .. يعني : الراسخون في العلم من الذين هادوا ، والمؤمنون ، يؤمنون بما أُنزل في منهج الرسالة الخاتمة ..
2 – (( وما أُنزل من قبلك )) بمعنى : والراسخون في العلم من الذين هادوا ، والمؤمنون ، يؤمنون بما أُنزل من قَبْل الرسالة الخاتمة ..
3 – (( والمقيمين الصلاة )) بمعنى : والراسخون في العلم من الذين هادوا ، والمؤمنون ، يؤمنون بالمقيمين الصلاة .. بمعنى : ويطمئنون للمقيمين الصلاة ويثقون بهم ، ليس لشخصهم أو لأمرٍ دنيويٍّ ، وإنّما لكونهم يقيمون الصلات التي أنزلها الله تعالى ، والمشار إليها في العبارتين السابقتين (( يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك )) ، وذلك كعملٍ يُجسِّدُ أحكام ما أنزله الله تعالى (( بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك )) ، على أرض الواقع ..
.. إذاً .. هذه الصفات الثلاث : (( يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك والمقيمين الصلاة )) ، تتعلَّق بالعبارة : (( لكنِ الراسخون في العلم منهم والمؤمنون )) ، حيث الراسخون في العلم من الذين هادوا والمؤمنون ، يطمئنون بما أُنزل في الرسالة الخاتمة ، ويطمئنون بما أنزل من قَبْلها ، ويطمئنون بالمقيمين الصلاة ..
(( لكنِ الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة ))
.. وهكذا .. تكون العبارة (( يؤمنون بما أُنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة )) خبراً للعبارة (( الراسخون في العلم منهم والمؤمنون )) ..
.. وتكون العبارات القرآنيّة التالية (( والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر )) ، إمّا معطوفة على العبارة (( الراسخون في العلم منهم والمؤمنون )) ، وهذا ما أرجحه ، وإمّا ابتداء جديداً .. وتكون نهاية الآية الكريمة (( أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً )) خبراً لها ، في حال اعتبارها ابتداءً جديداً ، وخبراً لها ولكلِّ العبارات السابقة ، في حال اعتبارها معطوفة على العبارات السابقة ..
.. هنا ربّما يستغرب بعض الناس كيف يؤمن هؤلاء بالمقيمين الصلاة ... الإيمان بالمقيمين الصلاة هو الاطمئنان بهم ، ومدُّ جسور الثقة معهم ، كونهم يعملون بحيثيّات ما أنزله الله تعالى : (( بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك )) ، فتعلُّق الإيمان بهم لأنَّهم عاملون بالصلات التي أنزلها الله تعالى .. وقد ورد في كتاب الله تعالى الإيمان بمخلوق .. بمعنى الثقة به والاطمئنان إليه .. يقول تعالى واصفاً إيمانَ أهلِ الكتاب بعيسى عليه السلام في عودته في نهايةِ الزمان ..
(( وإن من أهل الكتاب إلاَّ ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً )) [ النساء : 159 ]
.. فالعبارة القرآنيّة (( ليؤمنن به )) تصوِّر لنا الإيمان بحقيقة مخلوق ، هو عيسى عليه السلام ، كونه عبداً لله تعالى ، حاملاً لرسالةٍ من الله تعالى إلى البشر .. بمعنى : يعرفون حقيقتَه ويطمئنون بها ، كرسولٍ حاملٍ لمنهج الله تعالى ، فينتهون عن قولهم ثالث ثلاثة ، وبأنَّه إله ، وبأنَّه ابنُ الله تعالى ، تعالى الله عن كلِّ ذلك علواً كبيراً ..
.. ويقول تعالى واصفاً إيمان سحرة فرعون بموسى عليه السلام ..
(( قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إنَّ هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون )) [ الأعراف : 123 ]
فالعبارة القرآنيّة (( آمنتم به )) تصوِّر لنا الإيمان بمخلوق ، هو موسى عليه السلام ، وذلك عبر الاطمئنان إليه ، والثقة به ، وتصديق عملِه ، وليس الإيمان به كشخصٍ مجرَّدٍ عمّا قام به من عمل .. فالاطمئنان والثقة والتصديق هو للعمل ( المعجزة ) الذي فتحه الله تعالى على يده ..
.. إذاً .. العبارة القرآنيّة (( يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة )) .. تعني يطمئنون بثلاثة أمور ، هي : بما أُنزل في منهج الرسالة الخاتمة ، وبما أُنزل من قَبْلها ، وبالمقيمين الصلاة .. يعني : ويطمئنون بالمقيمين الصلاة ويثقون بهم ويميلون إليهم تصديقاً وثقةً واطمئناناً ، لأنَّهم عاملون بحيثات الصلات التي أنزلها الله تعالى : ((بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك )) ..
.. وممَّا يؤكّد صحَّةَ ما نذهب إليه ، هو تكرار مسألة الإيمان في ذات الآية ، وفي ذات السياق : (( يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر )) ..... فالدلالة المعنيّة بالعبارة : (( والمؤمنون بالله واليوم الاخر )) ، لها حيثياتها المستقلّة تماماً عن الدلالة المحمولة بالعبارة : (( يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة )) ..
.. العبارة القرآنيّة (( يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة )) ، تتعلَّق بحالة فعليّة تصف فعل الراسخين في العلم من الذين هادوا والمؤمنين ، والفعل المضارع (( يؤمنون )) يبيّنُ ذلك .. وإيمانهم بهذه الأمور الثلاثة هو ضمن إطارٍ واحد ، يعني هو إيمان بما أنزله الله تعالى في الرسالة الخاتمة وما قَبْلها وبمقيمي الصلة مع الله تعالى ضمن إطار ما أنزله الله تعالى ، ولذلك نرى الأمور الثلاثة التي يؤمنون بها تتعلَّق بباء واحدة ، فالله تعالى لم يقل : (( يؤمنون بما أُنزل إليك وبما أُنزل من قبلِك وبالمقيمين الصلاة )) ، فلم يتكرَّر حرف الباء ما بين الأمور الثلاثة ، إنّما تأتي هذه الأمور الثلاثة ضمن إطار مسألة واحدة يؤمن بها الراسخون في العلم من الذين هادوا والمؤمنون ، كمسألة واحدة : (( يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة )) .... وهذا يؤكِّد ما بيَّناه ، أنَّ إيمانهم بالمقيمين الصلاة (( والمقيمين الصلاة )) هو لأنَّهم عاملون بالصلات التي بيَّنها الله تعالى إنزالاً من عنده ، والمحمولة بالعبارتين السابقتين : (( بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك )) .. فإيمانهم بالمقيمين الصلاة متعلُّقٌ بإيمانهم بما أنزله الله تعالى .. وهذا ما نراه بجر المسائل الثلاث : [[ (( بما أنزل إليك )) ،، (( وما أنزل من قبلك )) ،، (( والمقيمين الصلاة )) ]] بباءٍ واحدة ..
.. بينما العبارة القرآنيّة (( والمؤمنون بالله واليوم الآخر )) تصوِّرُ صفتَهم كحالة يتَّصفون بها ..... وهنا سواء كانت العبارات (( والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر )) ، ابتداءً ، أم عطفاً على العبارة (( الراسخون في العلم منهم والمؤمنون )) ، فكلُّ عبارات هذه الآية الكريمة ، لا يمكن فصلها عن الراسخين في العلم من الذين هادوا والمؤمنين ..
.. في الموروث قال بعضهم عن كلمة (( والمقيمين )) بأنّها منصوبة بكلمة أخصّ وأمدح ، ونرى أنَّه في الآية ( 177 ) في سورة البقرة ، جعلوا كلمة (( والصابرين )) هي المنصوبة على الاختصاص وليس إقامة الصلاة .. فالقضية ليست مبنية على قواعد ثابتة ، إنّما هي مسألة تخريج دون النظر في ماهيّة صياغة العبارات القرآنيّة ..
أخوكم
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟