أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - حدث في قطار آخن -43-















المزيد.....

حدث في قطار آخن -43-


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 5109 - 2016 / 3 / 20 - 19:11
المحور: الادب والفن
    


لعلهم لم يفهموا ما أرادت كلماتي الخائفة قوله!
لا بأس، سأعيد عليهم التحية من جديد.

الشرطة هنا لا ترد على التحية بلغةِ الكلمات إنما بلغةِ العيون!
الشرطة هنا تُصْغِي أكثر مما تتكلم، لعلها درست جيداً رواية رسول حمزاتوف "داغستان بلدي". الإصغاء فنٌ قوامه احتراف المهنة.

الشرطة في الشرق في خدمة الشعب، الشعب عبيد العَصَا، الشرطة ترد على التحية بالعصا، هناك تتحول العصا إلى سلاح للزجر وللترويض، بلاء الإنسان يكمن في اللِّسَان، منْ طالَ لِّسَانُه عَظُمَ بَلاؤُهُ، اللِّسَانُ هناك ليس للنطق بل للبلع!

الشرطة في الشرق تستجوب ولا تسمع، لعلها لا تقرأ كتب رسول حمزاتوف، بل فقط أحاديث رسول الله. عذراً يا رسول حمزاتوف، فإنهم لم يفهموا شيئاً عن أخلاقك!
على ذكور الشرطة أن يدخلوا مدرسة حمزاتوف، ليتعلموا شيئاً مهماً، ألا وهو فن الإصغاء!

ذكور الشرطة في الشرق هم الأكثر ديمقراطية في العالم... إنهم يهاجمونك، يضربونك، يكسرون رأسك، يهشمون عظامك، يدوسون على كرامتك دون تمييز أو عنصرية ضد أي شخص فقير على أسسٍ إثنية أو ثقافية أو لغوية أو دينية أو حتى جنسية.

***** *****
"نجحنا في امتحان البكالوريا، قرر صديقي السفر إلى تشيكوسلوفاكيا، بعد أن استطاع والده تأمين منحة له على نفقة الحزب الشيوعي. اِلتقينا معاً في المساء، آخر أيام الصيف، كنا أصدقاء خمسة، أردنا أن نمشي معه مشواره الأخير، أردنا أن نودِّعه كي نبقى في ذاكرته، مشينا في الشارع الرئيسي للضاحية التي بناها الرئيس لأبنائه، مشينا فخورين بأنفسنا، بقاماتنا، بأفكارنا، مشينا نحلم بالمستقبل الذي يسبقنا، في المساءات الصيفية يجلس أبناء الرئيس القادمين من العاصمة على البالكونات، إحداهن تضحك لصديقي بشامته الحلوة، صديقي الرياضي يغمزها، بالكاد نطق صديقي لها بكلمة مساء الخير حتى جنَّ جنون أولاد الرئيس، خرج أحد أبناء العاهرة من غرفة مجاورة يحمل الكلاشينكوف الروسي، وقف ابن الكلب على البالكون في الطابق الأول، أطلق ابن الكلب النار علينا كأننا في حرب، ركضنا إلى الرصيف الآخر، قفز ابن الكلب إلى الشارع والكلاشينكوف بين يديه، قفز أبناء عمه يحملون مسدسات قتل وحقد، ركضوا خلفنا، ركضنا، أمسكوا بي، قاومتهم، حاولتُ التَّخَلُّصَ منهم، نجحتُ، ركضتُ بسرعة، شعرتُ بأَزِيز الرصاص من حولي، ساعدني القدر، لمحت سيارة شرطة، اِختبأتُ، هربتُ إلى البيت، ظننتُ أن المسألة قد انتهت، لم تمضِ دقائق إلّا والشرطة تخبط الباب، تطلبني، الشرطة تستجوبني بدلاً من استجواب مَنْيُوك الكلاشينكوف، تهددني بدلاً من تهديد ابن العرصة... تُريد معرفة أين يسكن صديقي، أذكر أني قلت لهم والخوف من وجوههم الصحراوية المُقرفة ينهشني: لا أعرفه جيداً، اِلتقيته بالصدفة، لعله يسكن على حدود القرية..."
***** *****

لقد قلتُ لكم: صباح الخير أيها السيدات والسادة!
أنا أتكلم لغتكم بشكلٍ مقبول، ألا تلاحظون؟ ألا تفهمونني؟
أستغرب صمتكم! أستغرب حياديتكم! أستغرب عدم فهمكم للكلمات البسيطة التي تَلَفّظتُ بها بكامل الوضوح! هل تظنون أني نطقتها بلغةٍ شرقية؟
أتنتظرون أن يصل كلامي إلى قلوبكم كي تردوا التحية!؟ ألا يكفي أنه قد وصل إلى عقولكم!؟ هل ينبغي أن أُذكِّركم بالرفيق نيلسون مانديلا: "إذا حدّثت الإنسان بلغةٍ يفهمها، يذهب كلامك إلى عقله، إذا حدّثته بلغته الأم، يذهب كلامك إلى قلبه".

***** *****
أعلم أنّ الألمان يتكلمون فقط اللغة الألمانية... أعلم أنّ لغتكم هي من أصعب لغات العالم، أنتم أنفسكم تستصعبونها، لا عجب في ذلك! لعل السبب يكمن في اختلافاتها الهيكلية الجوهرية بالقياس مع اللغات الرومانسية كالفرنسية... اللغة الألمانية مُعَقَّدة! الشيء الذي يَتَطَلَّب من الراغبين تعلمها طريقة تفكير مختلفة، مُنَظَّمة ومُمَنْهجة. قليلون هم في الشرق من يتمتعون بهذه الكفاءة! تعلم الألمانية يطيل العمر، يقوّي الصحة الجسدية والفكرية .. يقلل من تشكل تجاعيد الوجه والجبين. حياتك بعد تعلم الألمانية ليست كما قبلها. لهذا السبب ينبغي عليك إتقانها كي تعيد لك البهاء الضائع!

تستطيع باللغة الألمانية أن تعبّر عن فكرتك مهما بلغت من التعقيد بكلمات قليلة. تستطيع أن تترجم كتاباً شرقياً من خمسمئة صفحة إلى كتابٍ ألماني من مئة صفحة وبدقة عالية. تستطيع مثلاً أن تترجم جملة "إدخال الخيط في ثقب إبرة" إلى كلمة واحدة لا غير وهي: "أينفيديلن".

الألمانية هي اللغة العالمية الأولى للثقافة، لغة المفكرين والموسيقيين، لغة الفلاسفة والصحفيين العظام، الألمانية هي محرك الذكاء والتفكير... الإِتْقَان الجيد للألمانية يشجِّع الارتقاء في الحياة المهنية ويساهم في بناء الشخصية والنهوض... تعلمها وممارستها في سن ما بعد المراهقة هو عمل شائك، ليس بالبساطة والسذاجة التي قد يتخيلها الناس، عمل يتطلّب منك قبل كل شيء الجرأة والفضولية وأن تكون قارئاً جيداً لمواضيع متنوعة لعدة ساعات يومياً ولمدة زمنية تقارب خمسة وعشرين عاماً.

أعتقد أن الوافد إلى ألمانيا بهدف الدراسة يحتاج حوالي سنة مكثفة كي يتعلم النطق بالألمانية، حوالي سنوات خمس مكثفة كي يبدأ بتعلم الكتابة، حوالي عشر سنوات كي يشعر بالألمانية، حوالي خمسة عشر عاماً كي يلقي بها محاضرة قصيرة بأخطاءٍ قليلة، حوالي عشرين عاماً كي يحلم بعض الأحيان بها، حوالي خمسة وعشرين عاماً كي يتقنها بنسبة 75%... هذا يعني إذا دخلت إلى ألمانيا في عمر العشرين وعملت يومياً بجهد ستتقنها في الخامسة والأربعين من العمر...

لعلّ ما أقوله هنا يُقال عن اللغات الأجنبية الأخرى أيضاً، لكل لغة في العالم سماتها الأساسية، اِكتشاف الأبعاد الجمالية لأية لغة يتطلّـب إجادتها وتلقي ما فيها من روائع أدبية وفنية وثقافية. تعلمُ لغةٍ أجنبية يجعلكَ حراً، ولكلٍ حسبَ مقدرته ونشاطه ما يستحقه. كل اللغات الأجنبية نبيلة، بالإضافة إلى اللغة الأم... ما الذي أعاقنا، كشرقيين عن تعلم اللغة الكردية والتركية والسريانة والعبرية؟

والدة صديقي، التي لم تتعلم القراءة والكتابة، مثل أمي، وملايين النساء في الشرق، فهمت بعض الكلمات الغريبة التي نطقها ولدها ذات يوم بالألمانية، بل أعادت نطقها، بينما أنتم تنظرون إلى وجهي الخائب المُلاحق بنشوةِ من وجد عملاً ينشغل به! هل ماتت أحاسيسكم يا سادة؟
***** *****

"كان تعلم اللغة الأجنبية نقطة هامة من نقاط ضعف صديقي التي لا عد لها ولا حصر. بقي ما يقارب السنوات العشر في ألمانيا، نجح في مهمته العلمية النهائية بقليل من اللغة وبكثير من التأوه، وعاد إلى الوطن...

من أكثر الكلمات والجمل الأولى انتشاراً والتي يتقنها من لا يتقن اللغة الألمانية: كلمة "زوْ-زوْ" وتعني تقريباً "هيك لكن!"... ثم كلمة "أَخْ- زوْ" وتعني تقريباً "أيوا!"... وأيضاً جملة "إِشْ سوخي أَينْ تسيمر" وتعني تقريباً "أنا أبحث عن غرفة".

كلما سافر صديقي القديم بالباص إلى معهد تعليم اللغات في الصباح، يلتقي كما العادة بتلاميذ اللغة من مختلف أنحاء العالم. تراه يجلس بشكل عشوائي بجانب أحدهم ، شارداً... وإذْ يتكلم الأجنبي معه بغية التدريب اليومي بجمل بسيطة، يبتسم ابتسامة فقيرة! يهز رأسه دون أن يفهم المعنى ويقول للمتكلم: "زو-زو"... "زو-زو"... "زو-زو"... "زو-زو"... هكذا إلى أن يصل الباص إلى محطة معهد اللغات...

ذات يوم، ولم يكن قد مضى على وجوده في ألمانيا أكثر من أشهرٍ قليلة، كان لا يزال يعاني من تعلم اللغة وآلامها الحيضية، هاتفَ والدته المحترمة.
سألته بلهفة أمٍ: لقد تأخرت يا ولدي بالاتصال بنا، اِنشغل بالنا عليك، كيف حالك؟
أجابها: مشغول يا أمي، مشغول!... أنسى أحياناً، حتى أن أمشّط شعري!.
الأم: خير يا ولدي، ما الأمر؟... ما الذي يشغلك كل هذا الوقت؟
أجابها كمغترب: "إش سوخي تسيمر" (طبعاً بدون أداة التنكير "أَينْ")
هزّت الأم رأسها باستنكارٍ، رَجّته التوضيح: ماذا تعني يا ولدي؟ والله لم أفهم عليك ولا حرف!

ردّ عليها بفخرٍ، إذْ أنّه قد أوقع الوالدة بالفخ، فخ المعرفة والقدرة اللغوية، فخ تأثير الغربة: لا تؤاخذينني يا أمي من فضلك، والله لم أعد أستطيع التفكير والتعامل باللغة العربية، الألمانية أخذت كل وقتي، حتى أن أحلامي أصبحت بالألمانية!

حَلقّت الوالدة على أجنحة الفرح منبهرة لنجاحات ولدها... سألته من جديد: قل لي: ماذا تعني "إش سوخي تسيمر"؟
أجابها على الفور: غرفة، إني أبحث عن غرفة، يا أمي...
فرحت السيدة الوالدة و نطقت بطريقةٍ غارحرائية: "أَخْ- زوْ".
خاطب نفسه: أَنا يُوسف الألماني يا أمي!"
***** *****

- صباح الخير أيها السيدات والسادة!
- قل ما لديك، كلّنا آذان مُصغية!
- هل ترغبون رؤية بطاقتي الشخصية؟
- تكلم أيها السيد!
- .......



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حدث في قطار آخن -42-
- حدث في قطار آخن -41-
- حدث في قطار آخن -40-
- حدث في قطار آخن -39-
- حدث في قطار آخن -38-
- حدث في قطار آخن -37-
- حدث في قطار آخن -36-
- حدث في قطار آخن -35-
- حدث في قطار آخن -34-
- حدث في قطار آخن -33-
- حدث في قطار آخن -32-
- حدث في قطار آخن -31-
- حدث في قطار آخن -30-
- حدث في قطار آخن -29-
- حدث في قطار آخن -28-
- حدث في قطار آخن -27-
- حدث في قطار آخن -26-
- حدث في قطار آخن -25-
- حدث في قطار آخن -24-
- حدث في قطار آخن -23-


المزيد.....




- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - حدث في قطار آخن -43-