أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمانة القروي - قصة قصيرة عناقيد العنب















المزيد.....

قصة قصيرة عناقيد العنب


جمانة القروي

الحوار المتمدن-العدد: 5014 - 2015 / 12 / 15 - 00:51
المحور: الادب والفن
    


مازال الوادي الفسيح مستمتعاً باشعة الشمس التي بدات تتخلى رويدا رويدا عن سكب حرارتها،واخذت تستعد للرحيل وراء الجبال الشاهقة وقد لبست حلتها الارجوانية،كانت مفرزتنا تقصد احدى قرى الزيبار التي تكمن بين جبال وعرة وقطوع صخرية شاهقة، وارض سهلية تكثر فيها مزارع العنب والتفاح .
لم نكن قد دخلنا هذه القرية من قبل،ولم نكن نعرف اهلها او اي شئ عنها،فهي تبعد مسيرة ساعات طويلة عن مكان استراحتنا الاخير. كنا نحث الخطى لبلوغها قبل حلول الظلام حيث سنقضي ليلتنا فيها، وبالرغم من التعب والاجهاد اللذين اضنيانا جميعا واصلنا المشي إليها.
بدأ الالم يشتد على قدميّ فاصبحت اجرهما جرا، ومع كل خطوة اخطوها اعدهما بالراحة من ضغط الحذاء الذي سجنتا فيه منذ ساعات طويلة، وبانهما سيتحرران قريبا من ضيقه المزعج. اجتاحني الاحساس ببلوغ الراحة التي باتت وشيكة مما كان يهون عليّ وعورة وخطورة وطول الطريق. ملأت انفي رائحة الخبز الطازج الخارج تواً من التنور، ولامست حرارته اصابعي، وانا اقطع منه الجزء المحمص الذي شوته النار، فصبغته بلونٍ بني شهي، فاضعه في فمي وامضغه على مهل.انعكست ظلال الاشجار الساكنة على السفوح الرمادية،تذوقت الشاي الدافئ ببطئ وروية، ورايت امامي صحن الطعام المسكوب تواً، ورب البيت يدعونا للاكل بكل ود. اخذ التعب والجوع ماخذهما منــي، ولم تعد احلامي التي حاولت بها تبديد طريق المسير الطويل من تخفيف الم قدمي،وكتفي الذي ينوء تحت ثقل السلاح،ورغم ذلك شعرت بان همتي ولهفتي للوصول والراحة تزداد كلما اقتربنا من القرية.
من بعيد لاحت الاكواخ الطينية وقد اكتست سطوحها بلون قرص الشمس الاحمر، احسست بفيض من النشوة والفرح، فقد كانت لحظات الوصول الى القرية بالنسبة لي تضاهي سعادتي وانا التقي حبيبتي، اين هي الان ياترى..؟ أمازالت تذكرني ؟ ام ان رجلاً اخر قد استحوذ على قلبها ولم يعد حبنا سوى شئ انزوى في اغوار الماضي؟.
ها نحن اخيرا نقف عند اعتاب القرية بانتظار مختارها الذي سيوزعنا على بيوتها. أحقا بعد هنيهات قليلة ساخلع عن كتفي البندقية، وانزع حذائي اللعين، اجل سأفك لجامه حينما اطأ باب الدار فاستريح منه،وساغمر قدميّ بالماء البارد واتركه ينساب عليهما فيخفف بعضا من ألمهما، ساجلس على السجادة اليدوية التي تحيط اركان الغرفة، وسأترك ظهري يتكيْ على الحائط الطيني، ثم افرد رجلي امامي وادخن بهدوء ودون ازعاج من اي نوع كان، حدثت نفسي ومنيتها بالراحة.
لم اعِ إلا وآمر مفرزتنا يتوجه صوبي وهو يقول:" ستكون معهم ومن يقودهم الى جحر الدببة" لم افهم عن ماذا يتكلم، كنت كمن صفع على وجهه وهو مستمتع بغفوةٍ لذيذة! ماذا يقصد وأي جحر هذا؟ انه يمزح حتما، حدثت نفسي إلا ان عيناي مكثتا تتنقلان بين وجهي امر المفرزة والمختار الذي كان يهذي طوال الوقت بكلمات سريعة مبهمة لها طابع التذمر والاشمئزازا لم اعرف سببهما. قد لا يعني ما طلبه مني قبل لحظات، او ربما اراد ان يحوَّل القلق الذي شاب كلام المختار الى هدوء وراحة، لذلك قال ما قاله لي! كنت مازلت اطمئن نفسي حينما رأيت آمر المفرزة يوزع السلاح على ثلاثة من رجال القرية ويقول لي بصوت حازم لا لبس فيه :"رفيق ستصعد مع الفلاحين الى جحر الدببة وتصطادهم "! وقفت مذهولاً، لا اصدق ما سمعته.! لكنه كرر ذات الكلمات مرة اخرى وبصوت سمعه كل الرفاق. انتحيت به جانبا لأسأله "إي دببة التي ساقتحم جحرهــا مع الفلاحين"؟ لم تتغير ملامحه بل ظلت راكدة كما هي دائمــا واجــاب باقتضاب "الفلاحون يشكون من الدببة الذين يتسللون ليلاً ويهاجمون مزارع العنب وياكلون عناقيده، مما يؤثر كثيرا على محاصيلهم"! سكت آمر المفرزة وهو يمط شفتيه بكلمة المحصول.. كنت ما ازال تحت تاثيرالاجهاد والخدر الذي استبد بي ولم ادرك تماما لماذا اختارني انا بالذات.اقترب مني وعيناه مصوبتان لوجهي الذي احتقن بالغيظ وعدم التصديق وهو يقول:" لذلك اعطيت البنادق الرشاشة لهؤلاء الرجال، عسى ان تتمكنوا من قتل الدب او الدببة وتخليص القرية مما يؤرقهم "!
لم انبس ببنت شفة، اذهلني طلبه هذا، وانا في حيرة من امري وبين الحقيقة والخيال، اخترق صوت امر المفرزة العالي اذنيّ وهو يوضح لباقي الرفاق، مشكلة اهل القرية فكان يلوح بيمينه نحو الجبل تارة وبيساره نحو الحقل تارة اخرى إلا اني سمعت جملته الاخيرة وهو يقول "يشتكى المختار من ان هناك مجموعة من الدببة تأكل عناقيد العنب الناضجة من أشجارها، مما سبب لهم خسارة كبيرة!" حدثت نفسي ساخرا، وماذا عساي ان افعل للدببة، هل امنعهم من السير ليلاً ؟ وافرض عليهم حضر التجول؟ ام اثقفهم بمضار اكل العنب بكثرة، لانه قد يسبب لها مرض السكري؟ ام احذرهم من ان غزوهم الليلي على عناقيد العنب سيؤدي الى ما لا تحمد عقباه،أو اني اهددهم بفرض ضريبة الضرر بالمحاصيل! ضحكت بمرارة لما راودني من افكار وتساءلت مع نفسي لماذا انا؟ ربما لاني وقفت خلف امر المفرزة مباشرةً، واول شخص وقعت عيناه عليه؟ كتمت غضبي ما ان رايته يشير الي، ولعنت حظي وسوء طالعي الذي سيجعلني بمواجهة آكلي العنب !
لا اعرف من اين شحذت الهمة، ولا كيف تقدمت الرجال لنسلك الطريق الذي كان يتلوى كافعى فيخفي عن بصري على الاقل اثنين منهم خلف الصخور الكبيرة التي كنا نتسلقها. كثيراً ما تغلبنا حسن نيتنا، وربما سذاجتنا في بعض الاحيان، فلا نتبصر بالعواقب التي قد تترتب على اعطاء السلاح لرجال لم نخبرهم سابقا، وبدون اي تخطيط او تريث أمرني القائد العسكري بالتوجه نحو الجبل معهم، حدثت نفسي بامتعاض. نفذت الأمر على الرغم من الالم والارهاق اللذين المّا بي، وبقيت الاحق الرجال بنظراتي المنتبهة والمتفحصة طوال الوقت حذرا ويقظة، فمسكت بندقيتي بيدي، وتركت سبابتي تلامس قفل الزناد مهيئة لاطلاق الرصاص.
واصلنا السير في مسارات ضيقة ومنحنيات قصيرة لاتستوعب اكثر من جسم انسان واحد، كنا مانزال نصعد برؤوس منحنية وظهور مقوسة واصابع مستعدة لاطلاق النار في اية لحظة تحسباً لظهور الدببة . فجأة داهمتني وساوس وهواجس شريرة، وانا اضع بندقيتي على كتفي لامسك بيدي الحجر الاعلى من راسي، واثبت قدمي على الحجر الاسفل الذي تحتهما، حتى لا اسقط في الهاوية التي كان مداها يتسع كلما تسلقنا القطوع. ماذا لو كان هذا كمين لتسليمي الى جحوش* السلطة وقبض الثمن؟ وما ادراني ان هؤلاء الرجال ليسوا عملاء للاعداء ؟ في كل دقيقة كنت اتوقع ان تخترق قلبي او راسي رصاصة من احدهم، فاراني اتدحرج من هذا العلو الى الوادي ومازالت اصابع يدي الاثنتين تحتضنان الحجارة تلو الاخرى حينما باغتتني كلمات ابي" كان يا ما كان في قديم الزمان، كانت هناك دبة تعيش في احد الجحور بين جبال عالية وعرة "! من عمق روحي سمعت صوته ينساب الي عبر الزمان والمكان اللذين يفصلانه عني"في احد الايام تاه احد الجنود عن زملائه ولم يعد يعرف طريق رفاقه الاخرين، ظل يبحث عنهم دون جدوى!" التفت خلفي فوجدت الرجال الثلاثة مازالوا يمشون ويتسلقون الواحد بعد الاخر وبنفس الهمة التي بدأنا بها طريقنا. ماذا سافعل اذا صوب الرجال بنادقهم نحوي؟ ورايتني مقيداً مسحوبا الى ما وراء الجبل! اشتدت بي الظنون تجاه الرجال الذين معي دون ما سبب، فقد توقعت الغدر والخيانة منهم،رغم ان شيئاً سيئا لم يبدر منهم! كنت اسمعهم يتكلمون فيما بينهم،حاولت الاصغاء علني استشف ما يضمرونه لي، لكني لم افهم من حديثهم، الذي بقيت اذاني تبتلع كلماته دون جدوى،شيئاً. عاد اليّ صوت والدي وهو يكمل حكايته الليلية "جلس الجندي عند نبع ماء صافٍ يتدفق من باطن الارض واخذ يشرب منه، وهو كذلك راى امامــه دبة كبيرة بنية اللون شعثاء الشـــعر !" التفت ورائي كان الرجال الثلاثة ما انفكوا يتسلقون الصخور." حملت الدبة الجندي المسكين واخفته في كهف بعيد، ولكي لا يهرب منها اخذت تلعق باطن قدمه حتى تسيل الدماء منهما"! لم يخفف المشي الطويل والارهاق من صفعات ذاكرتي بحكايات الطفولة، واصلنا الصعود الى القمة ونحن نفتش في طريقنا عن جحور الدببة دون ان نعثر على اثرهم. رنت طقطقة حبات سبحة والدي في صدى عقلي وهو يحكي لي حكاية الجندي التائه. بضيق واستياء تسالت مع نفسي، اين نحن ذاهبون؟ لقد قاربنا الوصول للسماء، ماذا لو خرجت لنا الدبة من بين المنحنيات والاحراش وخطفتني فاتحول الى عشيق لها؟ ثم ماذا لو لم ارُق لها او اعجبها فقد تغرز مخالبها في عنقي وتتركني لحتفي؟ رغما عني ضحكت من تساؤلاتي وهواجسي، هل ساعتبر شهيداً اذا سرقتني الدبة؟؟هناك حتما من سيعترض على ذلك. وسيحسدني البعض لاني سانعم بدفئها،وربما قد يتهمني البعض الاخر بالتواطؤ معها لسرقة عناقيد العنب؟؟ افكار مشوشة اختلطت بمختلف الاحاسيس، ونحن مازلنا مستمرين بالصعود وتسلق الصخور لبلوغ القمة التي لم يكن احداً منا يعلم ان كانت الدببة تسكنها فعلاً ام انها اختارت مكانا اخر.
اصبح الامر سيان عندي وباغتني شعور بالامبالاة ولم اعد اهتم او افكر بالعواقب. تناهى الي مرة اخرى صوت ابي وهو يقول:"عند الغسق كانت الدبة تنزل الى القرية كي تسرق الطعام للجندي الذي احتفظت به ودللته "! اتراها حقيقية تلك القصة ام انها من وحي الخيال لا احد يدري؟ لقد مر اكثر من عقدين على سماعي لتلك الحكاية الغريبة، التي حضرت الان في ذهني، وكما سمعتها عشرات المرات من والدي.
صوت احد الرجال قطع علىىّ استغراقي حينما قال "لقد وصلنا للقمة ولا اثر لهم هنا "! مكان موحش يخيم السكون والصمت عليه، لا يخرقه سوى خرير الماء وحفيف الاشجار. اكتست ارضه بخضرة مائلة الى السواد، وتناثرت الاشجار القصيرة غير المثمرة التي لاتفقد لونها ولا اوراقها على مدار السنة، وعند اقدام احدى الصخور الكبيرة تفجر ينبوع ماء رقراق، انساب في جدول تملأه الاحجار التي تضفي على تموجاته ألواناً غريبة، حيث اخترق الارض لعمق لم نتبينه. وقفنا هناك وكتمنا انفاسنا كما اللصوص محاذرين من صدور اي صوت يثير الدببة، واخذنا بالبحث في كل الاماكن المحتملة لاختبائها سواء كانت ذكر ام أنثى او دياسم*. فتشنا عن اي شئ يدلنا على وجودها دون جدوى، وما ان فقدنا الامل بذلك حتى رغبت بتخفيف بعضا من التوتر الذي اصابنا جميعا ونحن نبحث عنهم، فخلقت جوا من المرح والمزاح استعنا به على النزول.

*الجحوش .. هم الكوردالذين كانوا يتعاونون مع السلط .
*دياسم : صغار الدب



#جمانة_القروي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قمقم الذكريات
- الاقحوان الحزين
- شبح الغربة
- الضرس
- الغول الاحمق
- من لايعرف ماذا يريد ( رؤيا نقدية حول رواية سميرة المانع الاخ ...
- قصة قصيرة بعنوان الزنابق البيضاء
- قصة قصيرة - القرار..
- مبدعون عراقيون في المنافي ( 5 ) [ الدكتور رشيد الخيون ]
- الفنانة ناهدة الرماح - حب الناس هو النور لعيونها .. وبذاك تل ...
- السمفونية الأخيرة
- مبدعون عراقيون في المنافي الدكتور صلاح نيازي
- مبدعون عراقيون في المنافي ...الحلقة 2
- مبدعون عراقيون في المنافي
- زينب .. رائدة المسرح العراقي
- سنبقى نذكرك يا أرضا رويت بدمائنا وحبنا
- من زوايا الذاكرة ...القميص


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمانة القروي - قصة قصيرة عناقيد العنب