أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - جمانة القروي - الفنانة ناهدة الرماح - حب الناس هو النور لعيونها .. وبذاك تلاشى الظلام الذي عاشت فيه -















المزيد.....


الفنانة ناهدة الرماح - حب الناس هو النور لعيونها .. وبذاك تلاشى الظلام الذي عاشت فيه -


جمانة القروي

الحوار المتمدن-العدد: 1362 - 2005 / 10 / 29 - 12:04
المحور: مقابلات و حوارات
    


" حب الناس هو النور لعيونها .. وبذاك تلاشى الظلام الذي عاشت فيه "


الفنانة ناهدة الرماح

قبل آلاف السنين ابتدع الإنسان المسرح ، عندما احتاج إليه، وكانت المسارح الرومانية والإغريقية المكشوفة تعرض كل ليلة لألوف من مواطني تلك الحضارات العريقة أعقد المشاكل السياسية وأدق المشاعر الإنسانية التي سجلتها آداب تلك الحضارات ، فالحب والغدر والخيانة والانتقام والبطولة والشهامة، تجسدت في ملاحم مكتوبة، وصلت نصوصها لعصرنا، ولا تزال تحتفظ بحيويتها، ويعاد تقديمها في اشهر المسارح العالمية ..
ورغم أن التاريخ لم يسجل إسهاما مسرحيا مبكرا في منطقتنا العربية، وفي العراق بشكل خاص، إلا أن تمثيل" فاجعة كر بلاء"، التي دأب الشيعة في العراق وغيره من المناطق الشيعية على تقديمها كل عام ، ومنذ قرون، يدخل في صلب هذه العملية الإبداعية المسرحية، وقد اعتبر الكاتب المصري " عبد الرحمن الشرقاوي" الذي عايش في النجف في الستينات هذه الطقوس، تمهيدا لكتابة مسرحيته الشعرية الشهيرة " الحسين ثائرا" و" الحسين شهيدا"، واعتبر إن ماراه يعتبر أصدق الأعمال المسرحية الملحمية ،التي سبقت نظرية " برخت" بقرون!!! إذ قال إنه لم ير في حياته تفاعلا حقيقيا ، بين الجمهور والممثلين كالذي شهده أثناء تمثيل تلك الطقوس!!
وإذا إستثنينا هذا المسرح الخاص بالطقس الكر بلائي، فان هناك محاولات مسرحية نشأت أصلا في المدارس الحكومية ومنذ أوائل القرن الماضي، وقد كانت أعمالا تأريخية واجتماعية ، متأثرة بالمسرح المصري، كمسرحيات( في سبيل التاج) و( كليوبترا ) و ( قيس وليلى ).. أما المسرح العراقي الحقيقي فلم يعرف إلا في أربعينيات القرن الماضي .. ومنذ ذلك الحين وقف على خشبته مئات من الممثلات والممثلين العراقيين المبدعيين ، الذين عشقوا التمثيل والمسرح ومازال حبه يجري في عروقهم..

ناهدة الرماح "هي ناهدة إسماعيل القريشي ".. أول فتاة عراقية تقف لتمثل بكل إبداع ولم تكن قد تجاوزت بعد سن السادسة عشر ربيعا . كان دورها الاول في فلم" من المسؤول" عام 1956-1957.. وبذلك نالت عن جدارة لقب رائدة السينما والمسرح العراقي ، ولدت وترعرعت في محلة " الحيدرخانة " في بغداد في بداية أربعينيات القرن الماضي في كنف عائلة سعيدة متكاتفة ،حيث يأتي ترتيبها الرابع بعد أخ واحد وثلاث أخوات قبلها،
عن طفولتها تتحدث وألم الشوق إلى تلك المرابع يجتاحها..إذ تعيش في غربة المنافي منذ 29 عاما!! تتحدث فيرسم الامل خطوطه على وجهها،تأخذ نفسا عميقا ملؤه الحسرة وتقول "كنت اختلف عن باقي أخواتي، كل شئ حولي كان يثيرني، لم اكن احب اللعب مع أقراني ولم يكن يستهويني ذلك،إلا أني كثيرا ما كنت أصغي إلى حديث الكبار ويعجبني متابعة نقا شاتهم التي لم اكن افقه منها شيئا،ومع هذا أتابعها بكل لهفة ، كانت تراودني أسئلة كثيرة، تدور في رأسي الصغير دون أن أجد لها إجابة، لم أستطع طرحها على أحد،لذلك كثيرا ما كنت أكلم نفسي فاخلق حكايات وشخصيات تدور في عالمي الخاص.. هذا العالم كان كله يتجسد في سطح الدار،فهو المكان الذي كنت اشعر فيه بالأمان والاطمئنان والحرية.. حينما أتألم أو احزن ألجأ إليه ، ليشاركني حزني ،وعندما افرح ويسعدني شئ ما اهرع إلى سطح الدار لتشاركني جدرانه فرحتي.. كنت ولا أزال اعشق ليل صيف بغداد، حيث يتسنى لي مراقبة النجوم وهي تتألق كأنها حبات لؤلؤ بصفاء لم أجد له مثيلا أبدا .. لاحقا ربطت بين حبي لسطح البيت وبين خشبه المسرح ..
لقد عشقت ناهدة الرماح منذ ذلك الحين التمثيل ،حيث كانت وضمن لعبها الطفولي تمثل أدوارا عديدة وتتقمص شخصيات مختلفة ، لم تكن تدرك حينئذ أن لها موهبة التمثيل والوقوف أمام الجمهور، فلم يكن هناك حركة فنية ولم يكن العراق قد عرف المسرح أو السينما.. لم يخطر ببالها يوما أنها ستكون ممثلة لا بل رائدة من رواد الفن السابع في العراق.. رغم كل الدلائل الكثيرة التي كانت تشير إلى أنه سيكون لها شأن في هذا المجال.. عن الأحداث المهمة في حياتها تبتسم وهي تتابع حديثها ،" اذكر أني كنت في الصف الرابع الابتدائي ، عندما جاء الموسيقي الراحل " جميل بشير " إلى مدرستنا لعمل نشاطات فنية فوقع اختياره عليَ مع مجموعة أخرى لتمثيل مسرحية بعنوان " رسول الملك " وقد دربنا عليها وقمنا بتمثيلها،وفي العرض الأول لها أشاد بي قائلا ،" أن لناهدة حس مسرحي كبير، كما لو أنها وقفت على خشبته مرات سابقة.. أثناء العطل المدرسية كنت اصب جل اهتمامي في متابعة أخبار الممثلين المصريين وأفلامهم من خلال مجلتي المصور و أخر ساعة.."بالإضافة إلى تعليقات مدرساتي عندما قالت إحداهن على سبيل المثال، يومها كنا في سفرة مدرسية "أنك تبرزين بين الطالبات بشكل ملفت للنظر كأنك ممثلة " ..
لقد نشأت ناهدة الرماح في بيت يعج بالحياة السياسية حيث كان أخوها أول نقيب لعمال المطابع في بغداد ،بالإضافة إلى زوج أختها الأكبر منها والتي كانت لصيقة بها دائما، لذلك كانت غير بعيدة عن الاضطهاد والتعسف الذي كان يجري في العهد المباد ، حيث ما تزال تذكر وبشكل واضح مذبحة سجن بغداد، عندما رأت بأم عينيها كيف كان السجناء المضربون عن الطعام يقتلون.. لقد اثر ذلك تأثيرا كبيرا على صقل شخصيتها.. تزوجت وهي ابنة الخامسة عشر ربيعا ، بناءا على رغبة أهلها في ذلك الوقت ، لكن الزواج لم يثنها عن إكمال دراستها الثانوية ثم الالتحاق بعد ذلك بالعمل الوظيفي ..عن هذه المرحلة من حياتها تتكلم بألم بالغ ، وبحسرة على أحلى سنوات العمر فتقول :"لم اكن اعرف ما معنى هذا الارتباط ، ولما سألوني عن رغبتي بالزواج أم لا.. لم أستطع إبداء رأي بذلك وتركت الآمر لأهلي ، لكني بعد حين أصبت بخيبة أمل فلم تكن هذه الحياة التي اطمح أن أعيشها، ولم يكن هذا ما تصبو إليه نفسي ، لكني لم اخبر أحدا بالإحباط الذي كاد أن يدمرني، وكثيرا ما كنت اطلب من والدتي العودة بي إلى دارنا، لأعيش بينهم من جديد..كنت شديدة التكتم على معاناتي الداخلية ، كنت رافضة تماما لتلك الحياة".
اغرورقت عينيها بالدموع ، وتحشرج صوتها ، فاختنقت العبرات والحسرات في صدرها ‘ فأخذت جرعة ماء ونفسا عميقا.. فما كان مني إلا الرحيل معها إلى شواطئها المفضلة، لنرسو هناك ولنبتعد ما استطعنا عن تلك الإحباطات التي مرت بها، فسألتها: كيف أصبحت ممثلة ؟؟ سرعان ما انقشعت أثار الألم عن وجهها، وانجلت عنه مسحة الحزن تلك وغمرته ابتسامتها الصافية ، لتقول:"تعرفت على صديقة اسمها ليلى تعمل في الفرقة الشعبية فكانت تدعوني لمرافقتها لحضور العروض المسرحية.. كنت اجلس في القاعة وأنا مبهورة .. بالناس ،بخشبه المسرح بالإنارة وألوانها.. كنت وقتها افقد الإحساس بمن حولي ، بمن في العالم... لكني لم أتخيل أبدا بأني سأقف هناك يوما ،أمام الجمهور .. مرة طلب مني بدري حسون فريد قراءة نص ما على المسرح .. أصبت برعب حقيقي ، واخذ جسمي يرتعش كأن حمى داهمتني.. فتركت النص وفررت هاربة.. لكني سمعت كلماته " لا يمكن أن تكون في يوم ما ممثلة "!!! بعد فترة التقيت صدفة بإبراهيم الهند اوي ، الذي تعرفت عليه من خلال ترددي الدائم تقريبا على المسرح ، واخبرني بان " عبد الجبار ولي" قد عاد لتوه من أمريكا وقد قام بتأسيس شركة أفلام .. وهم يطلبون وجوه جديدة من بنات العائلات الكريمة .. لم تسعني الدنيا من الفرحة ، ولكني لم أستطع الموافقة دون اخذ رأي عائلتي وزوجي ؟فلم يكن قد مضى على زواجي سوى فترة قصيرة .. عندما التقيت( بعبد الجبار ولي) تملكتني الحيرة وسيطر عليَ خوف لم اعرف مبعثه. وما أن سألني إذا كنت أريد أن اصبح ممثلة حتى أجبته دون أي تردد بنعم، فطلب مني عندها تأدية مشهد تمثيلي قصير أمامه كاختبار، الذي عرفت نتيجته بعد أيام عندما وصلتني رسالة تقول باني اخترت لتأدية الدور الرئيسي في الفلم العراقي الأول "من المسؤول.."
كان يجب عليَ مقاطعتها لكي اسألها عن المتاعب والمصاعب التي صادفتها عندما قررت أن تكون أول فتاة تنفض الغبار عن مهنة التمثيل مما كان يلفها آنذاك من ادران؟؟ سرحت بعيدا في متاهاتها.. لتغرق في الماضي ،فينعكس عليها وتظلل وجهها سحابة حزن صامتة فتقول"أثناء ذلك تراكمت المشاكل مع عائلتي بخصوص التمثيل ، فحينها كان التمثيل مقتصرا للأسف على فتيات الملاهي.. ولم يكن المجتمع العراقي يتقبل أن تخوض هذا المضمار فتاة من عائلة، لذلك لم يكن بالأمر الهين عليَ أو على أهلي تحمل أعباء ذلك .. فما كان من أخي إلا الطلب من المخرج أن يشارك عائلتي معي في تمثيل الفلم ، وفعلا مثلت أمي وأخي وزوجته فيه.. مما أضفى عليه مصداقية كبيرة جدا فالشخصيات معظمها حقيقية لناس من المجتمع نفسه ، كما أنه طرح قضية جريئة جدا،هي بكارة الفتاة ليلة الزفاف.. كان إحساسي بالشخصية عميقا جدا، لذلك مثلت بعفوية وصدق ..تواصل ناهدة الرماح ذكرياتها عن فلمها الأول فتقول " كانت أيام التصوير الذي استمر حوالي الشهرين متعبة جدا، فأستوديو بغداد لم يدخله أحد منذ سنوات طويلة، الأجهزة قديمة وأكثرها عاطل ، المبنى ذاته عبارة عن أكوام من ألازبال والأشواك ..وبعد جهود مضنية خرج الفلم إلى النور وعرض في سينما " دار السلام"..ذهبت للعرض الأول وأنا خائفة لا بل مرعوبة من ردة فعل الجمهور .. كانت قطرات العرق تبللني من رأسي حتى أخمص رجلي وما أن انتهى الفلم حتى زعزع كياني كله التصفيق الحار والمتواصل إذ أذاب كل خوفي وقلقي .. كنت استمع لكلمات الإطراء والإعجاب وأنا في قمة السعادة، التي كانت بمثابة حافز جديد للاستمرار بهذا الطريق الشائك والشاق والطويل ،والذي لم اندم يوماً أني مشيته أبدا ...
واصلت ناهدة الرماح حياتها كربة بيت وزوجة، وأم ، لكنها لم تتخلى عن أحلامها في أن تكون ممثلة، واستمرت على متابعة الأخبار الفنية ، وقراءة كل ما يخص المسرح والسينما من كتب ومجلات ..في عام 1957 دعيت لمشاهدة مسرحية بعنوان" أغنية الدم " .. فتجدد لديها الأمل بالعمل مرة أخرى عندما التقت بزميلها وأستاذها ورفيق دربها " سامي عبد الحميد " حين طلب منها أن تمثل معهم في الفرقة... ما أن عادت بذاكرتها إلى تلك الأيام حتى طفح وجهها بالسعادة، كأنما عادت بها عجلة الزمن إلى تلك اللحظات السعيدة بالذات،لتقول " ما أن نطقت أمام الزميل سامي بالموافقة ، حتى وجدت بين يدي أوراق لنصي مسرحيتين الأولى كانت مترجمة عن الفرنسية بعنوان " الرجل الذي تزوج امرأة خرساء " والأخرى شعبية بعنوان " ست دراهم".. في الأيام الأولى للتدريب ، كان القلق قد جعلني أتلعثم في الكلام ، وأتعثر في المشي عند تأدية مشهد ما.. إلا أن جهود المرحوم إبراهيم جلال وسامي عبد الحميد في جعلي ممثلة لم تذهب إدراج الرياح ، فتعلمت منهما ما هو الفن ، ما هو التمثيل .. ومعنى الوقوف على خشبه المسرح،وما معنى الفنان الملتزم الذي يحترم عمله ..لم ادخر جهدا في تعلم كل صغيرة وكبيرة فكنت شيئا فشيئا ارتقي إلى ما يصبون إليه ...في ليلة ربيعية لا تنسى كان الافتتاح.. انزويت في ركن ما من المسرح وأنا ارتجف ،لم استطع نطق حتى ولا حرف واحد، كانت مشاعري وأحاسيسي كلها منصبة على دوري وكيف سيتقبله الناس... كان لابد من سؤالها، أذن كيف تصفين لنا المرة الأولى التي واجهتِ الجمهور فيها؟ " لا .. لا يمكن نسيان ذلك أبدا، لحظات عصيبة ورهيبة .. ما أن رفعت الستارة حتى كاد قلبي يتوقف من شدة وسرعة ضرباته، أحسست به كما لو انه سيشق صدري ليخرج من بين أضلاعي.. تسمرت قدماي لا تريد أن تبرح مكانها، أصابني لحظتها ذهول وشرود ، لم اصحَ منه إلا على نداء يطلب مني التنفس بعمق، في تلك اللحظة بالذات سطعت أنوار المسرح فهزت كياني كله رعشة فرح أعاد شعوري بالمكان، كما لو أن المسرح فتح لي ذراعيه ليضمني إليه بحنان ويربت على رأسي قائلا لي .. انطلقي.. ولا تخافي شيئاً.. أخذت دموعها تنهمر مدرارا وتحشرج صوتها وكان التأثر قد تغلغل عميقا في قلبها فامتقع لونها ، ورغم ذلك واصلت حديثها قائلة:" عندما خرجنا لتحية الجمهور رفعت رأسي فرأيت أمي بينهم ، وهي تصفق وتبكي وتزغرد وهي في قمة السعادة، وتلتفت إلى الناس الذين حولها وتقول لهم .. هذه ابنتي ..!! تلك الفرحة التي رأيت أمي مزهوة بها، جعلتني أتمسك اكثر بهذه المهنة.. ومنذ ذلك الحين سرى حب التمثيل و المسرح في روحي ودمي وعقلي وضميري، واصبح كل شئ بالنسبة لي، لا أتمكن من وصف سعادتي عندما اقف على المسرح أو أمام عدسات التصوير، كأنما املك العالم في يدي ..
بعد ثورة 14 تموز نشط العمل المسرحي والتلفزيوني والإذاعي بشكل كبير،فكانت وزميلاتها الأخريات،زينب وازادوهي يعملن يداً بيد ويشدن أزر بعضهن البعض قدمن العديد من المسرحيات الهادفة والتمثيليات الإذاعية ..عن تلك المرحلة من حياتها تقول الفنانة ناهدة الرماح :" كنت مقسمة ما بين العمل الوظيفي،في مصرف الرافدين ،والبيت والأطفال وطبعا المسرح ،دوامة يومية شاقة وسعيدة في آن معا،أحيانا كثيرة كنت اذهب إلى المسرح مباشرة بعد انتهاء الدوام الرسمي .. في تلك السنوات الحافلة بالثقافة والإبداع لم يكن يفوتنا أن نحتفل بيوم المسرح العالمي ، ونقدم عروضا في تلك المناسبة ..
أدوار عديدة ومتنوعة تلك التي قمت بها سواء في التلفزيون، أو على المسرح ،فأيهم ترك بصمته عليك كناهدة الرماح؟؟ سرحت لبرهة من الوقت، تخللتها تنهدات متقطعة ثم حسرة عميقة وطويلة قبل أن تقول :" عام 1962 تأسست مصلحة السينما والمسرح بالعراق ،وقد عين الفنان يوسف العاني مديرا لها،ثم قررت المصلحة إنتاج مسرحيات للفرق الشعبية العراقية .. وقد اختارت فرقتنا ،مسرحية الخال فانيا، لتشيخوف.. مع قراءة أول سطر في النص جذبني إليه بشكل غريب ، لم اترك الأوراق من يدي إلا وقد أنهيت قراءتها..كان النص يختلف عن كل ما قرأته سابقا، فكانت المعاني بين السطور وخلف الكلمات، حتى النقاط كانت ذات مغزى.. أصابني كما الهوس بهذه المسرحية فكنت أتسائل عن كل جملة ترد فيها لم اترك شيئاً إلا واستفسرت عنه..سهدت ليالي طويلة وأنا أفكر بها، أراجع جملها وكلماتها.. لقد تملكتني شخصية سونيا بشكل غير معقول، ولهذه المسرحية الفضل في صقل شخصيتي كممثلة تفهم ما هو المسرح وما هي أبعاده الحقيقية ، ومعنى الوقوف المقدس على خشبته .." عندما كانت تتكلم تلمست الفنانة ناهدة المنضدة التي كانت أمامها، تناولت بيديها قدح الماء وشربت جرعة منه واصلت حديثها " بعد ذلك وقع انقلاب شباط الأسود عام 1963 في ذلك اليوم خرجت مع الناس إلى شارع الرشيد وجرفتنا الجموع إلى مبنى وزارة الدفاع لاشهد كيف كانت الجثث تتساقط كأوراق أشجار الخريف عندما فتحت الدبابات النار على المتظاهرين،.. ثم جرت ملاحقتي من قبل " ما يسمى بالحرس القومي" لذلك اضطررت لتسليم نفسي إلى إحد مراكز الشرطة ، التي كانت ارحم من الدخول إلى أقبية ومعتقلات الحرس القومي.. وهكذا مكثت في سجن النساء لمدة تزيد عن ثلاث اشهر بتهمة انتمائي إلى منظمة أنصار السلام ورابطة المرأة العراقية، أثناء وجودي خلف القضبان كنت امثل بعض المشاهد المسرحية،لزميلاتي للترفيه عنهن ..بعد خروجي من السجن كان قرار الفصل من الوظيفة بانتظاري..
الفن وبالذات المسرح هو أحد أهم انعكاسات اوجه حضارة وتقدم مجتمع ما،في تلك الفترة القاسية والمظلمة التي مرت على العراق، كان لابد أن يكون أثرها واضحا على المسرح،فكيف مرت تلك السنوات على الفنانة ناهدة الرماح ؟ خيم عليها صمت طويل مما جعلها تلوح اكثر ذبولا وتقدما في السن مما كانت عليه .."حقا تدهورت أوضاع المسرح والسينما بشكل كبير جدا، وساءت أوضاع الفنانين أيضا، مما دعا مصلحة السينما والمسرح لانشاء فرقة بدون ممثلين " أي يتم التعاقد مع الممثلين من مختلف الفرق المسرحية والتلفزيونية للقيام بتمثيل عمل ما" وقد دعيت للمشاركة معهم في مسرحية ..!! للأسف لم اعد أتذكر اسمها.. رغم وجود العديد من المضايقات ،لكن الأوضاع تحسنت بعض الشيء في منتصف عقد الستينات..في عام 1966 عدت إلى وظيفتي في المصلحة التي رأسها حقي الشبلي، بعد أن مكثت في البيت لمدة تزيد على السنتين، ثم واصلت العمل مع فرقة الفن الحديث وقمنا بتمثيل ثلاث مسرحيات خلال ذلك العام وهي "مسألة شرف، عقدة حمار، فوانيس " لم أشارك في الأخيرة".. في عام 1967 عرضنا مسرحية " صورة جديدة" على قاعة المسرح القومي.. في عام 1968 طلبت مني المصلحة التعاون معهم من خلال الفرقة القومية إلا أني اعتذرت عن ذلك لارتباطي مع فرقة الفن الحديث.. بين عامي 1969- 1970 وفي خضم تلك المشاكل التي طوقتني من كل الجهات عاد قاسم محمد من موسكو وبجعبته ثلاث مسرحيات للكاتب الأرجنتيني " ازفالدو أدرا كون"وهي " الرجل الذي صار كلباً.. مرض أسنان وصديقنا بانجيتو" بالإضافة إلى رائعة غائب طعمة فرمان، " النخلة والجيران " هذه الأعمال كانت قادرة على محو نظرة الحزن في عيني وغسل كل الآلام عن نفسي.. لقد كان لمسرحية النخلة والجيران الفضل الكبير على المسرح العراقي حيث دخله عامة الناس لمشاهدتها كما أستخدم فيها ولأول مرة المسرح الدوار ..تلتها مسرحية " المفتاح "وفيها أدخل لأول مرة على المسرح الغناء والرقص ضمن حوار المسرحية مع مؤثرات البرق والرعد والمطر.. استمرت محاربتي بأشكال عديدة ،فبعد عودتي من إجازتي السنوية صيف 1970وجدت آمرا إداريا بنقلي إلى الفرقة القومية، لم انفذ هذا القرار مما اضطرني على أثره ترك العمل في المصلحة .. لكني عدت إلى العمل بعد فترة وجيزة بسبب إلحاح بعض المسؤولين، ثم في عام 1971 نقلت إلى الإذاعة لتقديم برامج للأطفال..إلا أن النصوص كانت هزيلة جدا فرفضت الاستمرار بتقديمها، وأنيطت بي مهمة أعداد وتقديم هذه البرامج وقد واظبت على اختيار قصص مفيدة وذات مغزى للأطفال، وفي عام 1973اعددت 7 حلقات عن إحدى القصص الروسية لكي تذاع في يوم الطفل العالمي ،لكنها ألغيت بذريعة أن مستواها أعلى من مستوى الطفل.. سنوات عديدة وأنا أتحمل كل أشكال المراوغة والمحاربة بشكل علني أو مستتر وقد تعبت من ذلك فقررت أن أحيل نفسي على التقاعد حتى أتفرغ للتمثيل مع فرقتي " فرقة المسرح الفني الحديث "ولم احصل على مرادي إلا بشق الأنفس وبعد عناء طويل استهلكني تماما .. ألم بها التعب فطلبت منها أن ترتاح قليلا ، لكي نستطيع مواصلة الحديث ، وما أن أخذت نفسا عميقا حتى عادت لمواصلة سرد ما لحقها من مرارة وعذاب خلال تلك السنوات، فقالت "في نفس العام عرض عليَ التمثيل بفلم الضامئون ،وكانت فرصة جيدة بالنسبة لي، إلا أن أعداء النجاح دائما يقفون بالمرصاد، فعملوا المستحيل من اجل أن يقهروني ، ويجبروني على ترك العمل، لكني بقيت صامدة إلى أن ظهر الفلم إلى النور، وقد حضرت مع أسرة الفلم مهرجان موسكو، وهناك استقبلت بحفاوة ليس لها مثيل من قبل الحاضرين.. من هناك سافرت إلى برلين لحضور مهرجان الشبيبة العالمي .. في كل موسم كنا نقدم مسرحيتين على الأقل وقد شاركت في أكثرها ومنها ، الشريعة .. تموز يقرع الناقوس.. هاملت عربيا .. ولاية وبعير..ترددت كثيرا قبل أن أثير عندها ذكريات الماضي،الحاضر، لكن لا محال من فتح الجرح من جديد والذي لم يلتئم بعد فسألتها ، وماذا عن ما حدث لك ليلة 10/1/ 1976في مسرحية القربان ؟ شعرت بانقباض مؤلم أصابها، وان شيئا غامضا أوشك على خنقها، ثم مسحت دموعها بظاهر كفها لتقول " قبل الذهاب إلى المسرح أحسست بصداع شديد كاد أن يدمر رأسي، ذهبت إلى الطبيب قبل ذهابي لتقديم العرض،وقد نصحني بمراجعة اختصاصي العيون الذي بدوره اخبرني بان هناك انفصال في الشبكية، ويجب عليَ الراحة التامة، لكني ورغم كل تحذيراته ،قادتني قدماي إلى مسرح بغداد حيث عرض المسرحية ، مع كل مشهد كنت أحس بان النور يقل شيئا فشيئا.. وفي المشهد الأخير، حين أقول جملة ( صرت فانوس لكل اللي يعرسون) كنت لحظتها زنوبة التي أحرقت نفسها فداء للآخرين وبذات الوقت ناهدة التي ضحت بنور عيونها من اجل المسرح.. وأجهشت في بكاء متواصل، ولاح أنها قد أصيبت بقدر كبير من خيبة الأمل.. ومنذ ذلك الحين بدأت رحلتها المضنية مع المرض التي لم تنتهي لحد الآن .. ثم كان لابد من الوقوف معها عند أهم محطات الغربة والشتات والعذاب ..
" بدأت ملامح الغربة وأنا ما أزال في بغداد ومنذ اللحظة الأولى لإصابتي في عيني ،لكن قتامتها ازدادت عندما اضطررت كغيري من الوطنيين والديمقراطيين إلى الرحيل لبلدان أخرى كي نكون بعيدين عن القتل والإرهاب وشراء الذمم، سيما وأني تعرضت لاكثر من حادث قتل ..لقد منعت من السفر، لكني استطعت وبمساعدة بعض الخيرين الحصول على موافقة السفر.. حينما أقلتني الطائرة عام 1979إلى لندن مكثت فيها 6 اشهر غادرتها إلى رومانيا ثم جيكوسلفاكيا ثم إلى لبنان التي عشت فيها سنتين ،عانيت خلالها كل أصناف الفاقة والعوز والمرارة والآلم.. ثم غادرتها إلى دمشق لامكث هناك عاما أخر..في عام 1983 رحلت إلى لندن التي كنت فيها وحيدة وليس لديَ ما يسد رمقي، يأكلني المرض والآلام.استبد بي اليأس، وكم من مرة فكرت بالموت.. كان عليها كبح نفسها، كيلا يبدو عليها التأثر اللعين الذي يستعجل الدموع ،ورغم ما بذلته من جهد لكن دموعها أبت إلا أن تنهمر ساخنة على خدها ..ثم استدركت لتكمل حديثها،" ورغم ذلك لم أتوقف يوما عن أعداد محاضرات وأمسيات عن المسرح والسينما العراقية وفي العديد من بلدان العالم .. موسكو،براغ ،هنكاريا،السويد،الدانمارك،أمريكا، كندا وأبو ظبي وفي لندن عشرات الندوات والمشاهد المسرحية التي تعكس معاناة المرأة العراقية وبمفردي .. لم أتوانَ يوما عن تقديم أي شئ من اجل بلدي ..
غيرت دفة الحديث و سألتها عن الجوائز التي حصلت عليها .. فأجابتني " جائزة احسن ممثلة عن دوري في" النخلة والجيران" ..ثم في مهرجان دمشق الدولي عن دوري في " الضمير المتكلم"بالإضافة إلى أني حصلت على جائزتين أخريتين عن نفس الدور بمناسبة يوم المسرح العالمي ..ثم جائزة عن دوري في مسرحية " القربان ".. وفي عام 1976 منحت جائزة احسن ممثلة تلفزيونية عن دوري في تمثيلية " مسالة خاصة في مكتبة عامة ".. في عام 1977 قيمت كرائدة للسينما العراقية ومنحت جائزة أيضا..

وأخيرا هل تتحقق المعجزة ويعود للفنانة الكبيرة ناهدة الرماح بصيص من النورالذي حرمت منه كل هذه السنين، لترى بغدادها الحبيبة وتقف على مسارحها مرة أخرى .. ؟؟
وهل يسمع من يؤمنون بالتقدم والحضارة والحرية .. هذا النداء ..؟
امل ذلك .. فربما يتحقق هذا الامل !!!



#جمانة_القروي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السمفونية الأخيرة
- مبدعون عراقيون في المنافي الدكتور صلاح نيازي
- مبدعون عراقيون في المنافي ...الحلقة 2
- مبدعون عراقيون في المنافي
- زينب .. رائدة المسرح العراقي
- سنبقى نذكرك يا أرضا رويت بدمائنا وحبنا
- من زوايا الذاكرة ...القميص


المزيد.....




- صدمة في الولايات المتحدة.. رجل يضرم النار في جسده أمام محكمة ...
- صلاح السعدني .. رحيل -عمدة الفن المصري-
- وفاة مراسل حربي في دونيتسك متعاون مع وكالة -سبوتنيك- الروسية ...
- -بلومبيرغ-: ألمانيا تعتزم شراء 4 منظومات باتريوت إضافية مقاب ...
- قناة ABC الأمريكية تتحدث عن استهداف إسرائيل منشأة نووية إيرا ...
- بالفيديو.. مدافع -د-30- الروسية تدمر منظومة حرب إلكترونية في ...
- وزير خارجية إيران: المسيرات الإسرائيلية لم تسبب خسائر مادية ...
- هيئة رقابة بريطانية: بوريس جونسون ينتهك قواعد الحكومة
- غزيون يصفون الهجمات الإسرائيلية الإيرانية المتبادلة بأنها ضر ...
- أسطول الحرية يستعد للإبحار من تركيا إلى غزة


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - جمانة القروي - الفنانة ناهدة الرماح - حب الناس هو النور لعيونها .. وبذاك تلاشى الظلام الذي عاشت فيه -