أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد العليمى - موقف من مهمات النضال الفلسطينى - شيوعى مصرى - حزب العمال الشيوعى المصرى - كتابات القسم الثالث















المزيد.....



موقف من مهمات النضال الفلسطينى - شيوعى مصرى - حزب العمال الشيوعى المصرى - كتابات القسم الثالث


سعيد العليمى

الحوار المتمدن-العدد: 5012 - 2015 / 12 / 13 - 22:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


موقف
من مُهمّات النضال
الفلسطيني



بقلم : شيوعي مصري


صدر كراس موقف من مهمات النضال الفلسطينى لأول مرة عن دار الطليعة – بيروت – عام 1974 – باسم قلم : شيوعى مصرى ، وهو الاسم الذى اعتاد حزب العمال الشيوعى المصرى ان ينشر به وثائقه وكتاباته فى اطوار وجوده الاولى . كان قد مضى عام على حرب اكتوبر- تشرين اول 1973 ، وتباينت مواقف القوى السياسية منها منذ اللحظات الاولى . فبعضها اتخذ موقفا ذيليا من " السلطة الوطنية " بوصفها حربا عادلة واكتفى بذلك ، والبعض الآخر اتخذ موقفا عدميا انهزاميا بوصفها حربا " استسلامية " للامبريالية ، وظهرت جبهة الرفض بموقفها المبدئى –القاصر- الذى اكتفى بمعارضة الاستراتيجية بالتاكتيك . كان ح ع ش م . قد اصدر اولى بياناته عن الحرب فى التاسع من اكتوبر1973 تحت عنوان " لننهض بثبات بمهامنا من اجل حرب تحرير شعبية " وقد اشار البيان الى ان " هذه الحرب لايمكن ان تفهم الا كمسعى عسكرى من اجل التوصل االى التسوية السلمية " . واوضح " لقد اقدمت الطبقة الحاكمة على حرب 6 اكتوبر ، لاباعتبارها حرب تحرير وطنية ضد الامبريالية العالمية ، وانما كتحريك عسكرى للازمة " . كان كاتب الكراس واحدا من رفيقين صاغا هذا البيان . لم ترتبك وقتها قيادة الحزب الشابة امام هذا الحدث " الدرامى " الكبير الذى اتى فى لحظة صعبة غاب فيها الجزء الاكبر من دماغها السياسي والفكرى وراء اسوار السجون . لقد استطاع كاتب الكراس صلاح الدين حامد العمروسي ( سمير محمد كامل اسم القلم فيما بعد – والرفيق يوسف لدى المناضلين الفلسطينيين واللبنانيين والعرب عموما ) ان ينتقد النظرات المطروحة حول الحرب مبرزا طابعها الجدلى رافضا حصرها فى ثنائيات لاتسهم فى ادراك طبيعتها الطبقية ومضمونها ولاماتستهدفه وتتوخاه . كنا قد اقمنا صلة بالجبهة الديموقراطية ، والتقيت بترتيب من المناضل الفلسطينى رسمى ابوعلى واسماء الافغانى – بالرفيق نايف حواتمه فى منزلهما – وتباحثنا فى ضرورة تأسيس صلات دائمة بيننا متطلعين الى التبنى المتبادل لمواقفنا ورؤانا السياسية – تم ذلك فى غضون انعقاد اجتماع اول مجلس وطنى فلسطينى فى القاهرة – سبتمبر 1972 ان لم تخنى الذاكرة . ولكن وضع هذا الكراس نهاية لهذه الصلة خاصة بعد خطاب مشهور للرفيق نايف حواتمه فى الجامعة الامريكية ببيروت فى عام 1974 . لقد تناول الكراس بالنقد موقف الجبهة الديموقراطية ومنظمة العمل الشيوعى اللبنانى من حرب اكتوبر ، ومن التسوية السلمية ، ومن " المكاسب " المحتملة لها – ويتعين علينا الان ان نسأل على صواب اى من النظرات برهن التاريخ اللاحق على حرب اكتوبر حتى الوقت الراهن ؟ لم نحظ الا ب " كاريكاتور دولة فلسطينية " على حد تعبير الرفيق صلاح العمروسي . رغم ان الكراس يتناول حدثا مضت عدة عقود على حدوثه الا انه بكل آثاره ونتائجه مازال يؤثر على حياتنا السياسية فى المنطقة العربية باجمعها . ومن هنا ليس الكراس تاريخا مضى وانما واقع نعيش نتائجه . ولعل الاجيال الشابه توليه عنايتها وتحدثه وفق الاوضاع الجديدة .
لقد جمعتنى بالرفيق صلاح العمروسي – صداقة شخصية عميقة – وعضوية اللجنة المركزية ومكتبها السياسي لمدة عشر سنوات متصلة . كما تزاملنا فى اقلية اللجنة المركزية التى وقفت ضد مااسمته " الانحراف البيروقراطى التصفوى العزلوى " عام 1978 حتى 1983 وحيث تمكنا من اقناع الاغلبية بعقد مؤتمر عام 1983انتهى الى تبنى نظراتنا وتوجهاتنا فى المآل الاخير . كما تشاركنا فى اصدار مواقف مشتركة عقب اغتيال الرئيس السادات عام 1981 ، ثم بصدد الحصار الاسرائيلى للمقاومة فى بيروت . واننى لاستطيع ان ادعى بضمير مطمئن مقتنع ان مجرى الاحداث اللاحقة قد برهن على صواب نظرة وتقويم حزب العمال الشيوعى المصرى لحرب اكتوبروما ترتب عليها . يمكن لرفاقنا الفلسطينيون واللبنانيون ان يتحدثوا عن اهمية وقيمة هذا الموقف واثره لديهم . واننى اريد هنا ان اثبت شهادة مناضل فلسطينى عن صلاح العمروسي ومدى الاثر الذى تركه ، وقد كان وثيق الصلة بالمناضل الراحل القائد جورج حبش : (شهادة فلسطينية عن الراحل الكبير / تعرفت عليه عندما كنت طالبا في الجامعة . كنت ناشطا سياسيا في الجامعة، أشارك الزملاء والزميلات المصريين في نشاطهم. وقد تعززت العلاقة عندما تعرفت من خلالهم على الرفيق. اصبحنا نلتقي ضمن مواعيد خارج الجامعة مشيا على الاقدام. كان يمشي بسرعة وبحذر وينتقل من شارع لاخر يستمر اللقاء ساعتين وأكثر مشيا. دائما يسأل باهتمام لافت عن المقاومة الفلسطينية. كنت ازوده بمجلات تصلنا من بيروت بطريقة غير رسمية وكان يطلب مني إحضار كتب غير موجودة او ممنوعة من التداول في مصر. لاحظت انه قارىء نهم ومثقف ولديه من المعارف الشيء الكثير. طلب مني إحضار كتاب بعنوان ( موقف من مهمات النضال الفلسطيني ) صدر في العام 74 تبين في ما بعد انه مؤلف الكتاب. كان كتابا مهما بحق تحول الى أهم مرجع كنا نقرأه ونوزعه ونتناقش فيه.
ذات يوم عرفني على أكاديمي رفيع المستوى الذي واظب على نقاشي كنوع من الاهتمام الفكري الخاص بتوصية من الرفيق صلاح. وفي لقاء آخر قال لي سنزور صديقا احب أن أعرفك عليه. في هذه المرة سرنا مدة أطول وتنقلنا من منطقة لاخرى وصولا الى ما اسماه الرفيق صلاح (مصفى). الى ان دخلنا في شقة على روف عمارة . عرفني على ذلك الصديق المثير للاهتمام الذي سألني مطولا عن المقاومة الفلسطينية وتنظيمات اليسار وبعد ذلك عرض خطة الحزب لانجاز موضوعات فكرية نظرية، وكان ضمنها موضوعات فلسطينية، عرفت في ما بعد انه الرفيق خليل كلفت عدت من اللقاء وكأنني أحلق في السماء.
كان اسمه المتداول بيننا "يوسف" وكنت اسميه "شنار " نوع من الطيور يمشي بسرعة كبيرة قبل ان يطير ، ولأنه كان يمشي بنفس الطريقة أطلقت عليه اسم " شنار".
التقيته في بيروت ضمن وفد مصري من حزب العمال بقيادة يوسف في لقاء مع الجبهة الشعبية بقيادة القائد الفلسطيني جورج حبش الذي أعجب به وأحبه ووثق به. قال الرفيق صلاح موجها كلامه للحكيم. انتم حالة نضالية ثورية نتعلم منكم الاندفاع الثوري، لكن اهتمامكم بقضايا الفكر والنظرية لا يتناسب مع ثوريتكم. اجابه الحكيم نعم صحيح والسبب لأننا في حالة حرب وتهديد دائمين، وحبذا لو ساعدتمونا في هذا المجال . وتم الاتفاق على بروتوكول عمل مشترك.
كانت الحرب الاهلية في لبنان محتدمة، وقد عكف الرفيق يوسف على الكتابة فانجز في 50 يوما كتابا جديدا بعنوان موقف من مهام النضال الفلسطيني مرة أخرى. كنت ازوره بين فترة وأخرى اثناء اعتكافه. وكان يقرأ لي بعض ما كتب من نقد لقيادات فلسطينية ولبنانية بأسلوب ساخر يتبعه ضحكة عالية وحركات كوميدية شيقة. كم كان متألقا وعذبا وحميميا في اوج انتاجه الفكري. وكان اثناء كتابته يتناقش حول الأوضاع ويقدم أفكارا مهمة كان من بينها على سبيل المثال دعوتنا للكتابة الى الإذاعات المحلية وقد استجاب من اعتاد على الكتابة لكن احد الرفاق اللبنانيين قال له انا لم اكتب بعد المدرسة شيئا ولا استطيع كتابة تعليق او خاطرة في إذاعة. لكن الرفيق شنار اقنعه بالمحاولة وظل يشجعه الى ان اصبح في ما بعد كاتبا مرموقا في مجلة فلسطين الثورة
قال لي ذات يوم مازحا ايه حكايتكم مع الحشائش كل حاجة حشائش في الاكل، كان صديقنا المشترك هاني مندس يكثر من وضع أصناف عديدة منها في الوجبات.
التقيته في دمشق اثناء التدخل السوري في لبنان، اقام معي في شقة لمدة أسبوعين، تحولت الشقة اثنائها الى مكتبة من فرط شرائه للكتب. اعترضت علىه، قلت له كيف ستحمل كل هذه الكتب معك ضحك كالعادة وقال سأتركها هنا للتوزيع على الرفاق. كانت الأولوية في موازنته المالية للكتب أولا وعاشرا . هذه العادة الجميلة التي استعرتها منه.
والتقيته في لبنان في العام 1980، قال اريد ان اشتري بنطلونا بمعرفتك، ذهبنا الى منطقة الحمرا ، انتقلنا من نوفيتيه الى أخر ولم تعجبه كل العروض. استوضحت منه عن المواصفات قال لي أنا عايز بنطلون عريض من تحت يعني "موديل شارلستون" وكان هذا الموديل قد انتهى واستبدل بنقيضه. كان هذا يعني اعتكاف الرفيق شنار على البحث والكتابة وعدم التفاته لاي شيء دونها.
اعترف بأنني تعلمت من المفكر صلاح العمروسي حب القراءة والمعرفة والمثابرة على العمل الذهني والكتابي واهمية النقد الجريء . نعم كان استاذي الذي أدين له بالكثير. وداعا يا اعز الأصدقاء والرفاق، اعزي نفسي أولا وعائلته الكريمة وتلاميذه وكل الأصدقاء. ستبقى أفكاره وقيمه حاضرة .
مهند عبد الحميد / رام الله
LikeComment

واننى لاشكر الرفيق سامح نمر – والرفاق الذين اعدوا هذا النص للنشر – وقد قمت بمراجعته على نص – كان قد قام بتصحيحه هو بنفسه – تراثنا الثورى ثروة لابد ان نحفظها ونسلمها للاجيال اللاحقة ومنهجها وجذريتها اهم مافيها حتى لو انتهى الحدث التاريخى المتعلق بها .
- سعيد العليمى - عضو الجنة المركزية - والمكتب السياسي لحزب العمال الشيوعى المصرى .













موقف
من مهمّات النِضَالِ الفِلسْطيني

دراسة نقدية لاطروحات الجبهة الديمقراطيَّــــة
ومنظمة العمل الشيوعي في مجلة الحريّة البيروتية
حَول مَهَام النِضالِ الفِلسطيني بَعد اكتوبـر 1973
 -;---;--
مقدمــة

نتقدم بهذه الموضوعات، لتوضيح آرائنا في الحوار الدوائر الآن حول الموقف الذي يجب اتخاذه من الانعطافة التي يمر بها نضالنا الثوري المشترك ضد الامبريالية وإسرائيل، وضد الأعداء الطبقيين للثورة الاشتراكية بقيادة الطبقة العاملة، من أجل تحقيق الاشتراكية في النهاية.
وإننا إذ نقدّر موقف جبهة الرفض التي تقف الآن بحزم ضد المواقف اليمينية التي تتبنى "الحرية" الدعوة إليها، إلا أننا نرى أن مواقف جبهة الرفض غير كافية، ولم تستطع أن تبلور بعد برنامجنا وطنياً ديمقراطياً لنضال الشعب الفلسطيني الوطني من أجل حقه في تقرير مصيره؛ مما يدعونا إلى الاعتقاد أن مواقف جبهة الرفض لم تتجاوز الأساس النظري اليميني لاطروحات مجلة "الحرية".
ولقد اكتفينا بالرد على أطروحات مجلة "الحرية" حيث أننا نرى أن أطروحات "الحرية" تشكل الخطر الرئيسي داخل الثورة الفلسطينية، والذي يهدد بتصفية هذه الثورة من داخلها، وإننا إذ نخص "الحرية" بهذا الرد لا نقلل بالمرة من الدور النضالي العظيم الذي لعبته الجبهة الديمقراطية كغيرها من الفصائل الثورية للمقاومة الفلسطينية. ولكن حرصنا الثوري عليها وعلى الثورة الفلسطينية وحرصنا على التحالف الوطيد معها، يفرض علينا أن نعمل على توحيد القوى الثورية عبر الصراع المبدئي حول المسائل المصيرية في نضالنا المشترك.
لقد اطلعنا على معظم أطروحات "الحرية" ولكننا اكتفينا باستخدام النصوص الواردة في المقام الأول من مجموعة من المقالات المنشورة بقلم يساري فلسطيني، وخطاب الرفيق نايف حواتمة، وتقرير اللجنة المركزية لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان.
ولقد كان من الضروري لكي نوضح الجذور اليمينية لانحرافات "الحرية" أن نقوم بتحليل مختصر لتطور الحركة القومية البرجوازية للبرجوازيات العربية وعلاقتها باستراتيجية الثورة في البلاد العربية وعلاقتها بالثورة الفلسطينية. ذلك كان من الضروري للدخول إلى تحليل اللحظة الراهنة ومهام الثورة الفلسطينية فيها.
إن شروط نضالنا لا تقفز فوق الشروط الصعبة التي تضع فيها الامبريالية والبرجوازيات المستسلمة القوى الثورية ومصالح شعوبنا. ونحن بمحاولتنا المتواضعة تلك نستجيب لضرورة الإسهام المبدئي في القضايا المصيرية التي ستحدد مسار مجمل الحركة الثورية التحررية بالمنطقة التي لا انفصال بينها وبين قضية الصراع الطبقي للطبقة العاملة وحلفائها من أجل انتصار الاشتراكية في وطننا، وهزيمة الامبريالية عالمياً...
وإننا إذ نتجاوز الوضع البرجوازي (المضلل) بالطريقة الليبرالية الزائفة عن أن أمور الفلسطينيين يبحثها الفلسطينيون، بينما البرجوازية تعمل بنشاط في نفس اللحظة على تقويض النضال الثوري للشعب الفلسطيني... نعمل ضد الليبرالية مسهمين على الصعيد النظري والعملي بدعم الثورة الفلسطينية، شديدي الحماس للآراء الفلسطينية في المسألة من أجل تعديل أي تصور خاطئ لنا ولغيرنا من أجل مصلحة النضال المشترك لشعوبنا ضد أعدائنا التاريخيين...
ولا يبق إلا التنازل بادئ ذي بدء عن أية لفظة شكلية تمس فرداً أو جماعة، إذ نحن أبعد ما نكون عن الرغبة في الصياغة الدبلوماسية على حساب مضمون موقفنا ومبدئيته، في نفس الوقت الذي حرصنا فيه على الإمساك الجوهري ونقاش المنطق الخاطئ فادح الأضرار في تناول مسألة "الدولة الفلسطينية المطروحة" حرصاً منا على الالتزام الصارم الوضوح بالموقع الذي نقف فيه والخنادق المشتركة التي نرمي منها صوب الهدف الواحد، من أجل حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، ومواجهة الحلف الامبريالي الصهيوني الرجعي...

أولاً : المسألة االقومية والوضع الفلسطيني

1- الدعوة القومية والتناقضات الخاصة للبرجوازيات العربية التي تواجه صعودها:
لقد تبلورت التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية في البلدان العربية ضمن مستويات مختلفة من التطور في ظل السيطرة الامبريالية، وقد استطاعت البرجوازيات العربية في عدد من البلدان العربية، أن تنتزع لنفسها في البداية مكاناً، في إطار السوق القومي، ولكنها لم تستطع مع ذلك الافلات من أشكال من التبعية الامبريالية، فنمّت على هامش السوق الامبريالي، ينازعها داخل أسوار سوقها القومي الرأسمالي الاحتكاري الأجنبي. ولم يكن ذلك الوجود المباشر(للرأسمال الاحتكاري الامبريالي) عوضاً عن الروابط الشاملة التي تربط مجمل السوق القومي، بعملية الإنتاج الرأسمالي العالمية، في إطار الهيمنة الامبريالية وتقسيم العمل الدولي. ولقد تفاوتت في مختلف البلدان العربية، أشكال الوجود المباشر للرأسمال الاحتكاري الامبريالي، وكذلك أشكال الروابط والحلقات التي تحكم ربط هذه البرجوازيات بالامبريالية العالمية.
ولكن أهم ما يلاحظ فيما يختص بموضوعنا هو أنه قد بدأت في عدد من البلدان العربية تتبلور شعوب عربية متفاوتة النضج، مع نمو وتبلور البرجوازية القومية وسوقها القومي (في مواجهة الامبريالية من الزاوية الأساسية). ولقد تصدرت هذه البرجوازيات قيادة الكفاح الوطني لشعوبها، نظراً لعدم قدرة الطبقات الكادحة تشكيل حلف طبقي بقيادة الطبقة العاملة لقيادة هذا الكفاح، يلف حوله كل الطبقات المعادية للاستعمار. وذلك يرجع في الأساس إلى الخط اليميني الذيلي الذي انتهجته الأحزاب الشيوعية العربية، ساعد على ذلك جملة من الشروط الموضوعية يبرز من بينها تعاظم الحركة القومية التي وقفت خلفها البرجوازيات العربية القومية نسبياً، بكل تناقضاتها الخاصة، مستفيدة من تأثير الايديولوجيا القومية الناجم من خصوصية المسألة القومية في البلاد العربية.
ففي ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث شهد العالم بروز المعسكر الاشتراكي واحتدام حركة التحرر الوطني في العالم، وضعضعة المعسكر الامبريالي من الداخل حيث أخذت موازين القوى (داخل المعسكر الامبريالي نفسه) تتغير لصالح الامبريالية الأمريكية، والتي استهدفت احتلال مواقع الامبرياليتين الانجليزية والفرنسية في المنطقة.
ولقد استهدفت البرجوازية القومية – والقوية نسبياً في عدد من البلدان العربية- بعد تحقيق الاستقلال السياسي: الانفراد بالسلطة والسوق في بلادها. ولكن الطريقة التي أنجزت بها كل من هذه البرجوازيات مهامها الأساسية تلك، كانت مختلفة ومرت بظروف غير متشابهة. ولقد تفاوتت نسب الحيز الذي كانت ما تزال تشغله الطبقات السائدة القديمة، وأيضاً الروابط التي كانت تربطها بالحلف الطبقي الحاكم. ولقد كان ذلك يرجع في الأساس إلى أوضاع الصراع الطبقي المحلي والقوة النسبية لمختلف البرجوازيات العربية.. وقد انعكس ذلك على صراعها ضد الامبريالية من أجل تدعيم استقلالها السياسي، باستقلال سوقها القومي، وفي قدرتها على تطبيق الاصلاح الزراعي البرجوازي، وفي مدى قدرتها أيضاً على ضرب وشل الحركة الديمقراطية الشعبية بقيادة الطبقة العاملة.
ففي مصر تمت الحلقة الثانية من الثورة البرجوازية المصرية من فوق( من اعلى ) ، بوسطة انقلاب سنة 1952 العسكري، ودون اشتراك الطبقات الكادحة من العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة، بل العناصر الراديكالية ممثلي البرجوازية القومية المصرية الكبيرة (والتي ترجع أصولها الطبقية إلى البرجوازية الصغيرة والمتوسطة على الأغلب)، والتي شكلت قيادة انقلاب يوليو، تمكنت من فرض سيطرة البورجوازية القومية المصرية على الحلف الطبقي الحاكم. وقد استطاع ممثلو البرجوازية القومية هؤلاء، توجيه ضربات قوية إلى طبقة ملاّك الأراضي عن طريق قانون الاصلاح الزراعي، حيث استهدفت توسيع السوق الرأسمالي القومي، وإزالة أحد الحواجز الأساسية التي كانت تعوّق التطور الرأسمالي. وقد وقفت بنجاح ضد المحاولات الجديدة للامبريالية لوضع البلاد ضمن دائرة نفوذها السياسي والعسكري (الدعوة إلى الاحلاف لمواجهة ما يسمى بالخطر الشيوعي). ذلك في نفس الوقت الذي وجهت فيه نصلها الحاد إلى كفاح الجماهير الشعبية والطبقة العاملة المصرية على وجه الخصوص، منتزعة منها حقوقها الديمقراطية والنقابية والتي كانت قد حصلت عليها بنضال مرير قبل عام 1952. وقد تمكنت في غمار صراع دموي في السنوات الأولى للانقلاب من تصفية الحياة السياسية في مصر بشكل كامل. ونلاحظ أن هذه الفترة لم تشهد أي بروز أو تشجيع من السلطة للدعوة القومية. بل ان زعيمها كان قد وضع ثلاث دوائر تتحرك مصر في إطارها هي : الدائرة الإسلامية، والدائرة العربية، والدائرة الافريقية.
هذا في حين أن سوريا كانت تتخبط في انقلاب عسكري تلو الآخر، ولم تتمكن البورجوازية السورية من توجيه ضربات مماثلة- للضربات التي وجهها النظام المصري- إلى كبار ملاّك الأراضي، ولا إلى الحركة الشعبية الناهضة والتي كانت تهدد البرجوازية السورية، والتي أسمته وقتها "بالخطر الأحمر". وفي هذه الأوضاع لم تكن تستطيع الوقوف منفردة ضد محاولات الامبريالية لجر البلاد إلى نفوذها السياسي والعسكري عن طريق الأحلاف الامبريالية.
ولقد ارتكزت هذه الأحلاف على الحكم الملكي الاقطاعي وكسر الرجعية في العراق. ذلك الحكم الملكي الاقطاعي الذي كان يرتبط بأوثق روابط الاتحاد والتحالف مع الامبريالية الانجليزية التي كانت تمتد شباكها على المواقع الأساسية للثروة العراقية القومية، الممثلة في البترول، مما كان يشكل وضعاً خانقاً على البرجوازية العراقية، والتي كانت تواجه في نفس الوقت تزايد نفوذ الحركة الشعبية والحزب الشيوعي العراقي.
إلى جانب ذلك فقد كانت باقي النظم العربية تشكل حلفاً رجعياً مع الامبريالية: ففي لبنان يسيطر حكم يعكس البنية الكمبرادورية المهيمنة في البلاد، يتمتع بليبرالية زائفة، يموج بالتيارات الطائفية والدينية- وفي الأردن يسيطر كاريكاتور حكم رجعي يستند في وجوده أساساً على ما تقدمه له الامبريالية من فتات. وفي السعودية تسيطر الطفيلية القبلية والدينية المرتبطة بالاحتكارات البترولية الامبريالية والأمريكية منها بالذات، وتفسح بلادها للقواعد العسكرية الامبريالية. وإلى جانب ذلك أيضاً، يتربع إلى جوار المشرق العربي حكم الرجعية الإيرانية الاقطاعية ذات التحالف الوطيد مع الامبريالية، وحكم البرجوازية التركية المحافظة الخاضعة للسيطرة والنفوذ الامبريالي.
إزاء هذا الوضع شكّل النظام المصري، الذي أحرز انتصاراته على الامبريالية في الخمسينات، مستخدماً بمهارة طريقة اللعب على الحبال. حيث قام بتأميم قناة السويس، وحيث وفرت له أوضاع القوى العالمية، افشال عدوان 1956 الغادر. نقول شكل النظام المصري بالنسبة للبرجوازيتين السورية والعراقية، من جهة أولى: المنقذ من الخطر الامبريالي الذي يلوّح بالتحالفات العسكرية، والمدعوم بحلف مقدس من الأنظمة العربية الاقطاعية الرجعية. ومن جهة أخرى المنقذ مما يسمى "بالخطر الشيوعي" الذي كان يهدد مصالحها الطبقية.
ولقد شكّل بالنسبة للشعب الفلسطيني، حيث الوطن مغتصب، وحيث كان الحلف الرجعي قد قاده إلى الشتات واقتسام أرضه (بين العدو الصهيوني وبين الأسرة الهاشمية وقطاع غزة الصغير الذي كان من نصيب مصر التي لم تضمه إلى حدودها)، نقول شكّل له النظام المصري يد العناية الإلهية التي ستعيد له وطنه وكيانه في ظل وحدة "الأمة العربية"، وشكلت إسرائيل من جهة أخرى مخلب الامبريالية القوي الذي يهدد بالخطر هذه البرجوازيات التي تسعى للاستقلال بسوقها القومي. ونظراً لتقارب الشعوب العربية، فقد كان تحالف البرجوازيات العربية ضد الخطر الإمبريالي وفي المركز منه خطر إسرائيل، لا بد أن يأخذ صورة التضامن القومي.
أما في مصر فلقد أفسحت إجراءات سلطة يوليو الطريق أمام تطور ونمو البورجوازية القومية التي يدار الحكم لصالحها. التي انتعشت طموحاتها في أن تجد لنفسها موضع قدم في السوق العربية، حيث بدأت تنظر إليها باعتبارها مجالها الحيوي كما أن النظام المصري لم يكن ليستطيع أن ينأى بنفسه بعيداً عن الخطر الامبريالي، وخطر المد الشعبي التقدمي الذي يتزايد في المشرق العربي، ومن هنا كانت استجابة النظام المصري للدعوة القومية التي انطلقت من بلاد المشرق العربي.
لقد استندت هذ الدعوة القومية على تقارب الأقوام والشعوب العربية، التاريخي، في اللغة والثقافة، حيث أضاف الوضع السابق شرحه- الناجم من تناقضات البرجوازية القومية الخاصة- الأرض الموضوعية لتزايد أوهام الدعوة القومية، حيث نفخت فيها البرجوازيات القومية في سوريا ومصر والعراق.. الخ ووضعت ثقلها الكبير ورائها، مما أدى إلى تزايد وعظم شأن الحركة القومية... ولقد تفاوتت لدى الشعوب العربية، قوة استجابتها لهذه الدعوة. ولقد استند عمق الدعوة القومية في بلاد المشرق على البرجوازية الصغيرة الأقرب بأوهامها إلى الاستجابة لمغازلة البرجوازيات القومية لها، تلك التي تتمتع بحدود واسعة من البلدان المتخلفة، مما شكل أداة قوية بيد البرجوازيات العربية ساعدتها في ضرب الحركة الشيوعية في المشرق العربي.
ولقد كان النظام المصري يفقد مبرر وجوده في بلاد المشرق، كلما ساعد على تحقيق المهام التاريخية للبرجوازيات التي استدعته من أجلها. فلقد تم للبرجوازية السورية التخلص من "خطر الحزب الشيوعي السوري، عن طريق قبضة عبد الناصر القوية عام 1959، والذي مكنها أيضاً من إحباط محاولات الامبريالية لجر البلاد إلى الأحلاف الشائنة. وفي نفس الوقت الذي كانت تتمكن فيه البرجوازية السورية من تحطيم مقاومة أعدائها كانت تستشعر فيه بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من قبل البرجوازية المصرية. وكان أن قادت حلف الطبقات المالكة في حركة الانفصال لإخراج النظام المصري من سوريا، تمهيداً لانفرادها وحدها بالسلطة الطبقية في البلاد. لقد قادت الانقلاب مدعية أنه ضد حكم "الأجهزة"، تلك "الأجهزة" التي صنعت لها ما عجزت هي عن صنعه- ولم يكن الانقلاب في الحقيقة، ضد "حكم الأجهزة"، فقد صنعت هي بعد ذلك "الأجهزة" الخاصة بها، وإنما كان ضد خطر البرجوازية المصرية عليها.
ولقد ارتطم النظام المصري بصخرة البرجوازية العراقية القومية، تلك التي تعتبر نفسها نداً للبرجوازية المصرية. والتي استفادت من وجود النظام المصري إلى جوارها في سوريا وتمكنت من أن تجهز بضربة واحدة على النظام الملكي خلفه المفلس مع الامبريالية. وقد استطاع عبد الكريم قاسم أن يورط الحزب الشيوعي العراقي في معركة دموية مع القوميين، مستنداً على خوفهما من خطر عبد الناصر الذي اقترب وقبع في سوريا. وخرجت البورجوازية العراقية المستفيد الوحيد من هذه الصدامات الدموية، فلقد تمكنت عن طريق الحزب الشيوعي، من ضرب التنظيمات القومية، التي كانت ترى فيها البورجوازية العراقية اتجاهاً نحو "تسليم" العراق للبرجوازية المصرية وديكتاتورها، حيث كانت تريد لنفسها ديكتاتورها الخاص. وشجعت بعد ذلك القوميين في الإجهاز على الحزب الشيوعي بعد أن تم عزله.
ولقد سادت دراما الدعوة القومية في منعرجات شديدة، رافقها حركة شديدة على السطح، عبر الصراعات الدموية والانقلابات العسكرية. حيث أصبحت البرجوازية العربية تواجه تناقضات الدعوة القومية والتي كانت تعمل هي على تسعيرها، فأصبحت ترى يها خطراً على مصالحها. وتم لها في النهاية حصر الدعوة القومية في حدود حل مشكلاتها الخاصة وإزالة العوائق أمام نموها. ولقد أدت الدعوة القومية بالفعل، كما كانت تبتغي هذه البرجوازيات، إلى سير راسخ نحو تحقيق سيطرتها على السوق والسلطة. لقد ترسخت الأوضاع القطرية عن طريق الدعوة إلى "الأمة العربية" الواحدة. وضاعت أماني البورجوازية الصغيرة وأوهامها في الدعوة القومية والوحدة العربية، وتحرير فلسطين.
لقد ارتبطت انجازات الدعوة القومية المعادية للامبريالية والحركة الشيوعية معها، بصعود البرجوازيات العربية، وانفرادها بالسلطة والسوق. ولم يكن من الممكن لهذه البرجوازيات أن تتوحد في سوق "قومية عربية" واحدة، حيث تتضارب مصالحها، وحيث لا يتجه نموها إلى تحقيق اقتصاد "قومي عربي" واحد متوازن ومترابط، بل أن النمو المشوه وغير المتوازن لكل منها (بفعل السيطرة الامبريالية) قد ربطه في الأساس بدائرة الإنتاج الرأسمالي العالمي الامبريالي. لقد كانت محاولات الاستقلال بالسوق القومي لكل منها لا يمكن أن تؤدي، بسبب من ذلك، إلى استبدال هذا النمو المشوه وغير المتوازن لكل من هذ البرجوازيات، بنمو متوازن يستطيع إنشاء سوق "قومية عربية" موحدة. بل أن الهامش المستقل الذي استطاعت كل منها أن تنتزعه لنفسها لم يكن منسجماً بين هذه البورجوازيات، فقد كانت الفروع الجديدة الاستهلاكية في الأساس والتي سعت إلى إنشائها لسد متطلبات سوقها الداخلي، وكبديل للمستورد من الخارج متشابهة إلى حد كبير، مما يدفعها إلى إحكام السياج حول سوقها، لا أن تدمجه في سوق غيرها من البرجوازيات التي تفوقها قوة. في حين أن الفروع الأخرى لانتاج المواد الأولية (البترول، القطن... الخ) لم تكن تتطلبها الأسواق العربية، بل ظلت مرتبطة بمتطلبات الإنتاج الرأسمالي للدول الامبريالية. وباختصار فإن الإنتاج الرأسمالي لم يكن من الممكن أن يتجه نحو التوازن والترابط (في نهاية عصر الرأسمالية) في سوق "قومية عربية" موحدة، لأنه كان يفتقده في كل سوق على حدة. ولم تتعد نسبة التبادل التجاري بين البلاد العربية في معظم الأحوال نسبة 7 بالمئة من جملة التجارة الخارجية. لقد تحطمت الدعوة القومية للوحدة العربية وفي المركز منها قضية تحرير فلسطين، على صخرة المصالح الخاصة لكل بورجوازية عربية على حدة، لذلك فإن مرحلة النمو البرجوازي المستقل نسبياً عن السوق الامبريالي، لم تكن قادرة على صهر الشعوب العربية وأقطارها في أمة عربية واحدة. وبدلاً من ذلك تبلورت "شعوب عربية" متفاوتة النضج، حيث قد بلغت درجة كبيرة في مصر وسوريا والعراق ثم الجزائر... الخ ومع ذلك فإن التقارب بين هذه الشعوب العربية المتمثل في وحدة اللغة والثقافة والمصير المشترك... يشكل وضعاً حسناً يمكن من تمثلها وانصهارها في أمة واحدة في غمار النضال من أجل الاشتراكية.

2- مهام النضال ضد الامبريالية تنتقل من المحور البرجوازي الديمقراطي المعادي للإقطاع، إلى المحور الاشتراكي المعادي للرأسمالية:
إن البرجوازيات العربية، تلك التي أنجزت مهام الاستيلاء على السلطة والسوق، لا تستطيع أن تنجز ثورتها البورجوازية حتى النهاية، بل هي تترك الكثير من بقايا العلاقات الاقطاعية بالريف وانعكاساتها الأيديولوجية ومؤسساتها السياسية لتستخدمها في تكثيف استغلالها وإحكام قبضتها. كما انها لا تعرف التصفية النهائية للعلاقات مع السوق الاستعمارية، ولا تكف عن إقامة علاقات جديدة مع الاستعمار في علاقات القوى المتغيرة، وتتفاوت هذه الأشكال فيما بين الدول العربية المختلفة، باختلاف نسبة القوى الطبقية داخل كل منها، وأشكال ومدى التصفية التي ألحقت بالحركة الديمقراطية للجماهير الشعبية والطبقة العاملة على يد كل من هذه البرجوازيات، وأيضاً على نوع علاقات القوى داخل الحلف الطبقي الحاكم.
إن مهام استكمال الثورة البورجوازية، في تلك البلدان، تصبح مهمة تكتيكية ملقاة على عاتق الثورة الاشتراكية بقيادة الطبقة العاملة.
فبعد أن حققت البرجوازيات العربية أهدافها الرئيسة في السلطة والسوق، وأقامت الحد الأدنى من اقتصاد رأسمالي حديث، ضمن الآفاق المحدودة بأسواقها القومية، والخاضع لمقتضيات الإنتاج الرأسمالي العالمي والذي غدا شديد الترابط (في نهاية عصر الرأسمالية)، تحت هيمنة الامبريالية. بعد أن تحقق ذلك، نتيجة للتعامل مع السوق الامبريالية من جديد، لكن الامبريالية لن تترك لها موضع قدم في السوق العالمية إلا بثمن باهظ وعلى حساب استقلالها وبإقامة الروابط المباشرة مع الرأسمال الاحتكاري العالمي من جديد. وستكون أشكال هذه الروابط متفاوتة في البلدان العربية تبعاً لتفاوت أوضاع الحركة الثورية فيها، ودرجات النمو الرأسمالي، ونوع المشاكل التي تواجه هذا النمو، وأوضاع العلاقات داخل الحلف الرأسمالي الحاكم وتفاوت السلطان الذي يتمتع به الرجل الواحد كلي الجبروت والذي يصل إلى أعلى سلطان، كما في مصر مثلاً. أن ذلك سيؤثر بالتأكيد على أشكال النفوذ الامبريالي الاقتصادي والسياسي. وحيث أن الأوضاع العالمية تسمح بحيز واسع للمناورة، نظراً للوجود القوى للسوق الاشتراكية، والصراعات داخل السوق الامبريالي نفسه والذي تتزايد تكتلاته قوة في مواجهة الرأسمالية الاحتكارية الأمريكية، حيث تضع أمام البورجوازيات مجالاً للاختيار في التعامل. ومما سيدفع الرأسمال الاحتكاري الامبريالي إلى تقديم العروض المنافسة.
لذلك فإن مهام استكمال الثورة البورجوازية الديمقراطية المتمثلة في القضاء الجذري على السيطرة الامبريالية، وتحطيم بقايا العلاقات المتخلفة ما قبل الرأسمالية، التي لا تستطيع البورجوازيات العربية إنجازها في عصر اضمحلال الرأسمالية، تنتقل من المحور البورجوازي الديمقراطي المعادي للإقطاع إلى المحور الاشتراكي المعادي للرأسمالية. إن هذه المهمة التاكتيكية تتم عبر انتزاع الطبقات الكادحة والمعادية للرأسمالية- بقيادة الطبقة العاملة وحزبها- حرياتها الديمقراطية والأدوات التنظيمية والسياسية المعبرة عن مصالحها الطبقية، والتي تمكنها من إقصاء خط البرجوازيات المتهادن مع الامبريالية العالمية من تحريك مصائر البلاد, إن هذه العملية تقتضي تشكيل حلف طبقي نواته من العمال والفلاحين تتصدى لحل هذه المهام والسير بها إلى تحقيق الثورة الاشتراكية وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا.
إن هذه الحركة الثورية للطبقات الكادحة والمعادية للامبريالية بقيادة الطبقة العاملة في البلدان العربية، ستضع الشروط المادية لتحقيق وحدة عربية تؤدي إلى انصهار الشعوب العربية في أمة عربية واحدة، ولكنها ستكون أمة اشتراكية مهيأة للتمثل والانصهار في المجتمع الأممي الواحد.

3- القضية الفلسطينية ونضال الشعوب العربية المعادي للامبريالية :
وتحتل القضية الفلسطينية مكاناً مركزياً في نضال الطبقات الكادحة للشعوب العربية ضد الامبريالية، في غمار نضالها الثوري الموجه في نفس الوقت ضد البرجوازية من أجل إقامة الاشتراكية كمهمة استراتيجية ، ان النضال ضد الامبريالية لا يمكن فصله عن النضال ضد البرجوازية- في الظروف المحددة التي سبق شرحها- ولكن ارتباط التناقض الرئيس بين الجماهير الشعبية وبين الامبريالية، بالتناقض الرئيس بين هذه الجماهير والبرجوازيات السائدة والمسيطرة على السلطة والسوق، لا يجعلنا نضع في كل الأحوال هذين التناقضين في وزن واحد. ان هذين التناقضين ليسا نوعين مختلفين من التناقضات ولكنهما لا يأخذان أوزاناً نسبية واحدة، حيث ترتبط بصفة أساسية بموقع البرجوازية من علاقات النفوذ والسيطرة الامبريالية التي ستقبل بها في مقابل أن تسمح لها بموقع قدم في السوق الامبريالي، ومنذ سنوات كانت ما تزال هناك طاقة متفاوتة عند مختلف هذ البرجوازيات ضد الأعداء التاريخيين للشعوب العربية، لكنها تتجه باستمرار نحو مزيد من التهادن والمساومات مع الامبريالية . وهي في مصر مثلاً، كما هي في بعض الأقطار العربية الأخرى معادية لحركة الجماهير الشعبية وتخنق فكرها المستقل وتمنعها بالقمع والتصفية وتوجيه الضربات من تشكيل تنظيماتها المستقلة وترفض تسليحها من أجل المواجهة الحاسمة مع الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية. وأصبحت دعوتها إلى الوحدة القومية وقومية المعركة ضد الصهيونية تخرج من سياق النضال ضد الامبريالية حيث تضعها في إطار شركة مساهمة للبرجوازيات العربية في قمع الانتفاضة الشعبية، وذبح المقاومة الفلسطينية المسلحة، عند أي تجاوز لها عن أن تكون مجرد ورقة ضغط تساوم بها مع الامبريالية.
إن الوضع المركزي لقضية فلسطين في نضال الجماهير الشعبية المعادي للاستعمار، لا ينطلق من أي أوهام قومية، ولا هو من قبيل العطف والتبرع، بل هو ينطلق من التأثير الهام لهذه القضية على مجريات النضال الوطني الديمقراطي لهذه الشعوب. وحيث تحتل إسرائيل موقعاً مركزياً في هجوم الإمبريالية المباشر على هذه الجماهير الشعبية الكادحة، من أجل وضعها ضمن مناطق النفوذ الامبريالي ومن أجل نهب ثرواتها وقوة عملها، وحيث تتجه البرجوازيات إلى التحالف مع الرجعية العربية تحت مظلة النفوذ الامبريالي واستثماراته الامبريالية.
ومع ذلك فإن الدور الأساسي الذي يلعبه الشعب الفلسطيني هو الأمر الحاسم في النضال الوطني الفلسطيني من أجل انتزاع حق تقرير المصير، ويتوجب على قيادة الثورة الفلسطينية وضع استراتيجية النضال الوطني للشعب الفلسطيني من أجل انتزاع هذا الحق، بالترابط مع النضالات التي تخوضها الشعوب العربية من أجل تحقيق الاشتراكية. وبوضع الحدود الفاصلة بين هذه الاستراتيجية وبين خط البرجوازيات القومية، في حل المسألة الوطنية، وتصديها لحل قضية فلسطين، حيث ستقدمها قربانا لعلاقات جديدة مع الامبريالية.
إن هذه المقدمة المطولة نسبياً كانت ضرورية من أجل إزالة الكثير من الأوهام الأيديولوجية البورجوازية القومية [ التي يسعى الكثيرون للتخلص منها الآن]. ولنتوقف قليلاً عند أحد هذ المحاولات، في علاقتها بتحديد استراتيجية وتاكتيك النضال الوطني الفلسطيني.
يقول التقرير السياسي الصادر عن منظمة العمل الشيوعي بلبنان:
"لقد كانت وما تزال القضية الفلسطينية قضية قومية تعني الشعوب العربية بمجموعها. وكان الصراع مع الصهيونية وما يزال أحد وجوه التناقض الرئيسي الذي ينتظم في الأمة العربية بكاملها، ويتوقف على حله حق الأمة العربية في تقرير مصيرها، أي استكمال تحريرها من جميع أشكال السيطرة الامبريالية والقهر القومي، وبناء وحدتها".
وقبل أن نستمر في قراءة باقي الفقرة علينا أن نتوقف قليلاً لنتساءل هل هناك خطأ في الصياغة، مما يجعل كاتبي التقرير يعودون بكل البلدان العربية إلى ما قبل انتزاع حق تقرير المصير أي إلى ما قبل انتزاع الاستقلال السياسي. لقد أوضح لينين – منذ نصف قرن من الزمان- أن حق تقرير المصير بالنسبة للبلدان المستعمرة هو انتزاع استقلالها السياسي، وعارض الخلط بينه وبين القضاء على هيمنة الامبريالية الاقتصادية، التي لا يتم القضاء عليها، إلا بالقضاء على الرأسمالية في العالم. وفي عصرنا الراهن حيث انتصرت الاشتراكية في ثلث البشرية، فقد توفرت إمكانية القضاء على علاقة الهيمنة الامبريالية على الشعوب المستعمرة، بالقضاء على الرأسمالية فيها وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا.
لكن السبب في هذا الخلط لا يعود بالطبع إلى أخطاء في الصياغة أو إلى نسيان ما قاله لينين، فنحن نعتقد أن كاتبي التقرير ليسوا أقل اطلاعاً، بل أكثر اطلاعاً على كتابات لينين- ولكن الايديولوجيا البورجوازية القومية، التي ما زالت تحرك ذهنية البرجوازية الصغيرة في المشرق العربي، يرجع إليها وحدها هذا التصور الخاطئ. فطالما أن "الأمة" العربية لم تحقق بعد وحدتها فهي ما زالت بعد لم تنتزع حق تقرير المصير! ونفس هذه العقلية تقفز بخفة النمر من ما قبل انتزاع حق تقرير المصير، (=الاستقلال السياسي الحقيقي لا الشكلي والذي استندت عليه البرجوازيات العربية في تحقيق استقلال سوقها النسبي عن السوق الامبريالي)، إلى تصور نتائج حرب أكتوبر على أنها أحدثت توازناً في القوى بين العرب وإسرائيل!! وما علينا من هذه النقطة فسنتعرض إليها فيما بعد.
ولا حاجة بنا إلى القول بأن عدداً من البرجوازيات العربية (مصر- سوريا- العراق- الجزائر)، قد انتزعت لبلادها الاستقلال السياسي (= حق تقرير المصير) وقد ارتبط بتحقيق الاستقلال النسبي للسوق القومي لكل منها، وتحقيق دفعة للنمو البرجوازي، مترافقاً مع تزايد دور الدولة في عملية الإنتاج الرأسمالي، ثم هيمنتها عليه، حيث تحولت البيروقراطية التي تشكل جهاز الدولة من أداة في يد الطبقة السائدة، إلى وسيلة لإعداد سيطرة طبقة اجتماعية (بورجوازية بيروقراطية) يقوم كوادرها بدور المنظمين ورجال الأعمال في الشكل التقليدي للرأسمالية.
وتتفاوت هذه الدول فيما بينها فيما استطاعت تحقيقه من هذا النحو، وفي أشكال السياسة والتنظيم التي ارتبط بهذا الشكل غير التقليدي للنمو الرأسمالي، وفي علاقته بالهياكل الإنتاجية الأخرى..الخ.. في حين أنه قد ارتبط في بلاد أخرى بسيطرة عناصر البرجوازية المحافظة المتحالفة مع الطبقات المالكة القديمة، والمرتبطة بأواصر الصداقة والتحالف مع الامبريالية. وما زال الاستقلال السياسي شكلياً في عدد من البلدان العربية الأخرى (السعودية، ثم كاريكاتور الإمارات العربية..الخ) حيث تستعين الطبقات الاقطاعية والقبلية الطفيلية المسيطرة على هذه البلدان بالتدخل الامبريالي المباشر من أجل قمع الجماهير الشعبية، والتي لا تستطيع وحدها أن تقوم به. إن هذه الأوضاع تجعل القوى الثورية في كل من هذه البلدان تواجه أوضاعاً مختلفة ومتفاوتة لا يصح وضعها في سلة واحدة.
ولنتابع قراءة التقرير: "إذا كانت القضية الفلسطينية تشكل بالفعل قضية قومية تعني الشعوب العربية بمجملها، فليس صحيحاً التصور انطلاقاً من ذلك أن جميع الشعوب العربية تقف تاريخياً على مسافة واحدة من فلسطين. ان التأثير المباشر الذي تمارسه القضية الفلسطينية في عملية تحرر الشعوب العربية هو تأثير متفاوت، كما هي متفاوتة الأدوار المباشرة لهذه الشعوب في عملية تحرير فلسطين، ولسنا هنا في معرض رصد درجات التفاوت المذكور بما يخص جميع شعوب الأمة العربية من المغرب حتى المشرق، ولكننا نود التشديد على حقيقة أساسية في هذا المجال وهي أن القضية الفلسطينية ترتدي بالنسبة للشعب الفلسطيني- ومن دون الشعوب العربية- طابعاً مزدوجاً: انها بالنسبة له قضية تحرر عربي قومي شامل (وهو ما يضعه مع الشعوب العربية الأخرى على صعيد مشترك) وهي بالنسبة له أيضاً قضية تحرر وطني مباشر (وهو ما يعطيه موقعه الخاص ضمن تلك الشعوب".
إن الاستمرار في الوقوف على أرض الأيديولوجيا قبل العلمية، وفي وضعنا العربي المحدد، على أرض الأيديولوجيا القومية، يؤدي إلى الانطلاق من تحديات غامضة وعامة، لا تعمل على إرشادنا إلى المواقف الصحيحة بل تؤدي برؤيتها الضبابية إلى أشد المواقف انتهازية، خاصة عند المنعطفات الكبيرة التي تمر بها العملية الثورية. فما هي الفائدة من القول أن : القضية الفلسطينية ترتدي بالنسبة للشعب الفلسطيني طابعاً مزدوجاً؟ إلا تمرير الأوهام المتسترة بستار القومية... ما هو معنى هذا التعب الشديد في ولادة فكرة (عن طريق عملية قيصرية) وبعد أن تأخذ خاتم "المرور القومي" أولاً. ان قضية تحرير فلسطين هي بالنسبة للشعب الفلسطيني قضية تحرر وطني مباشر. وليس هذا بجديد على صعيد الفكر المتخلص من الأوهام. انه ليس جديداً إلا للفكر القومي، الذي خرج من كل التجربة التاريخية للدعوة القومية، باكتشاف هذه البديهية فقط، ومع ذلك لا تزال مملوءة بالأوهام القومية. تلك الدعوة التي طمست دور الشعب الفلسطيني الخاص في تحرير وطنه، انتظاراً للتحرر القومي الشامل بتحقيق الوحدة العربية ثم بعد ذلك تحرير فلسطين. ان هذا الفكر لم يربط الدعوة القومية بمشاكل وتناقضات البورجوازيات القومية الخاصة، وسعيها لترسيخ قوميتها الخاصة عن طريق الدعوة إلى القومية الواحدة، ولم يتوصل إلى النتيجة التي مؤداها أن هذا البرجوازيات التي حملت على عاتقها تحرير فلسطين ضمن ما حملت عند رفعها لواء الدعوة القومية، لم تكن قادرة على تحرير فلسطين أو تحقيق الوحدة العربية، حيث تعجز عن مواصلة طريق النضال ضد الاستعمار بعد أن تكون قد استطاعت حل قضاياها الرئيسية: السوق والسلطة، وبالتالي تظل ضمن إطارها القومي الخاص، وتضع مساعي الوحدة ضمن إطار التحالف الرجعي المقدس ضد الجماهير العربية كما سبق توضيح ذلك. وبالتالي تأخذ قضية فلسطين والنضال الوطني المستقل للشعب الفلسطيني، مكانها في إطار التضامن بين الطبقات الشعبية الكادحة، وفي حركتها نحو تحقيق الثورة الاشتراكية، عبر المهمة المرحلية وهي استكمال الثورة البورجوازية الديمقراطية، التي تستلزم نضالاً ضارياً ضد البورجوازيات الحاكمة. المهم الآن ليس اكتشاف تلك البديهة الصالحة في كل زمان ومكان، ولكن المهم هو مع من يتحالف الشعب الفلسطيني، مع الأنظمة، أو مع الجماهير الشعبية. فالمهام الديمقراطية الوطنية للطبقات الكادحة والمعادية للامبريالية، ومهام النضال الوطني للشعب الفلسطيني من أجل انتزاع حق تقرير المصير، لن تتحقق، إلا بوضع الحدود الفاصلة بين خط الطبقات الثورية الكادحة والمعادية للامبريالية بقيادة الطبقات العاملة، وبين خط البورجوازيات الذي يتصدى لحل هذه المهام انطلاقاً من مصالحها الأنانية الضيقة الأفق، وعلى حساب المصالح التاريخية للجماهير الشعبية للشعوب العربية والمطامح الوطنية للشعب الفلسطيني.
ان التأكيد على بديهية الدور الخاص للشعب الفلسطيني في النضال من أجل انتزاع حق تقرير المصير، يجب بالتالي أن لا ينطلق من التأكيد على عموميات أو بديهيات، قضية تحرير وطني مباشر، أو أوهام "تحرر قومي شامل". ان التأكيد على بديهية الدور المباشر للشعب الفلسطيني في تحرير أرضه، لا بد أن يرتبط بوضع الحدود الفاصلة بين الطريق البورجوازي الاستسلامي الذي يصفي قضية شعب فلسطين قرباناً لعلاقات جديدة مع الامبريالية، والذي ما يزال يستتر بالجمل القومية (الطنانة) وبين الطريق الوطني الديمقراطي للشعب الفلسطيني بقيادة طلائعه التقدمية المقاتلة، وحلفاء الشعب الفلسطيني الممثل في الحركة الوطنية الديمقراطية للطبقات الكادحة العربية بقيادة الطبقة العاملة وطلائعها الثورية.
ان وضع الحدود الفاصلة بين الطريقتين في الظروف المحددة تاريخياً، والمنطلقة من التحليل الدقيق لأوضاع الصراع الطبقي، والوطني، ومساره المحتمل عربياً في ظل الأوضاع المتغيرة للصراع الطبقي في العالم . ان هذا بالضبط هو نقيض ترديد الحكم العامة، المستندة على الأيديولوجيا والأوهام القومية. إننا سنجد دائماً من يعارض الحكمة العامة: الشخصية الفلسطينية، بالحكمة العامة، الشخصية القومية، ومن يعارض أيضاً الحكمة العامة الشخصية القومية، بالحكمة العامة: الشخصية الفلسطينية. وبالطبع سيكون أحكم الحكماء على الإطلاق هو من يتحدث عن الطابع المزدوج للحكمتين معاً. إن محاولة إأزالة الأوهام القومية، عن طريق ترديد الحكم العامة والقومية، لن يخرج أحداً من إطار هذه الأوهام إطلاقاً.
إن الوضع الخاص للشعب الفلسطيني، (الشتات واقتسام أرضه بين العدو وبين الدولة الهاشمية كاريكاتور الامبريالية)، لا يجعله يخرج الأنظمة من حسابه. وان تكن المسافة بين بعض الأنظمة وبين الامبريالية ما تزال يمكن استغلالها، فإن الحرص على هذه المسافة وتوسيعها رهن بنمو نسبة القوى لطبقية في هذه البلدان، والتي ستنمو بالضبط، عن طريق النضال ضد هذه الأنظمة وضد ميولها الاستسلامية والمتهادنة التي تقوي الجسور التي ترتبط بالامبريالية باستمرار، وليس بمجرد التصفيق. ان هذا يستوجب أيضاً عدم المراهنة على مواقف هذه الأنظمة، كما هو متصور مثلاً باحداث بعض التحالفات بين بعضها لاحباط الحل السلمي، ولا يجب إخراج المواقف من هذه الأنظمة، من نطاق التحالفات والاتفاقات المؤقتة والعارضة.
إن التأكيد على الدور الخاص للشعب الفلسطيني هو أمر بديهي ولا يمكن معارضته بتلك الحكمة القومية العامة "التحرر العربي الشامل" بدعوى أن الشعب الفلسطيني في الشتات ولا يملك سلطة وطنية على أرضه، بل عليه أن يشق طريقه نحو انتزاع حق تقرير المصير، ولو بانتزاع سلطته الوطنية المسلحة على أجزاء من وطنه مرحلياً، في طريق مسار ثورته الوطنية من أجل إقامة الدولة الوطنية الفلسطينية الديمقراطية على كامل ترابه الوطني. لا يمكن تأجيل هذه المسألة يوماً واحداً، سواء تحت دعوى "أما الكل وإلا فلا" أو سواء تحت دعوى عدم القدرة على تحقيق أي تقدم ملموس في طريق انتزاع حق تقرير المصير، إلا بعد "التحرير العربي الشامل". كما لا يمكن تحت دعوى المرحلية، خلط "الحل السلمي"- الذي تسعى إليه الأنظمة البرجوازية- أو أي شكل من أشكاله، بانتزاع حق تقرير المصير على جزء من الأرض. فتكون النتيجة الحصول على كاريكاتور دولة فلسطينية تقدمها الامبريالية تمهيداً لقبر الثورة الفلسطينية، إن عدم إدراك تعقد الواقع وترابط جوانبه، ومحاولة تبسيطه تقود إلى أشد المواقف انتقائية.

ثانياً : الهزيمة

1- الهزيمة والبرجوازيات العربية:
يقول "شيوعي مصري" عام 1970 عن علاقة التطور التاريخي للبرجوازية المصرية بالهزيمة التي لحقت بها عام 1967:
"لم تكن الهزيمة بالنسبة للطبقة، التي حاولنا أن نقدم الخطوط العريضة لملامحها، حدثاً مستغرباً، إن مصالحها المتناقضة مع الاستعمار، والتى تدفعها في نفس الوقت إلى قطع الطريق أمام القوى الشعبية والثورية، تضعها دائماً في مأزق، وأن التغيير في الوضع العالمي ببروز اتجاهات المراجعة في القيادة السوفياتية تسلب منها ورقة ضخمة من أوراق المناورة واللعب على الحبال. وهكذا وضعت الهزيمة هذه الطبقة عند منعطف جديد.
إنها لا تستطيع مواصلة السير بنفس الطريقة القديمة، وقد جاءت الهزيمة وهذه الطبقة على وشك تحقيق أهدافها الأساسية من الناحية الاقتصادية فقد كانت بصدد استكمال فترة الانتقال، فترة خلق الحد الأدنى من هيكل رأسمالي حديث، ورسوخ أقدامها وتبلورها كطبقة، وهي الآن قد أنجزت مهمة إرساء هذا الهيكل وبدأت أمامها مشكلات جديدة، مشكلات رأسمالية نامية.
إن عناصر الأزمة التي كانت مستترة في فترة البحث عن رؤوس أموال للتنمية، والوثوب الملائم إلى مواقع كان يحتلها رأس المال الأجنبي أو كبار الملاّك، أو الرأسمالية التقليدية، بدأت في البروز كمشكلات التسويق واختلال التوازن، وهي بعد أن أحكمت قبضتها على السلطة السياسية منفردة، وعلى الاقتصاد، لا بد أن تسعى جاهدة للبحث عن حرية الحركة في السوق الاستعمارية، وعن المشاركة بها.
فهي ليست على استعداد، في حل تناقضاتها مع الاستعمار، إلى اعطاء القوى الشعبية أي دور في المعركة. لأن معنى ذلك التنازل عن احتكارها للسلطة وانخفاض أرباحها. فهي بدلاً من ذلك، تبحث في شبكة العلاقات الميحطة بها عن تسويات وانصاف حلول مع القوى المعادية، فهي قد تهادنت مع الرجعية، وأطلقت يد فيصل في اليمن والخليج العربي، وتحمي ظهر حسين، وتعد العدة للاعتراف الفعلي بإسرائيل وبحدودها الآمنة مقابل الانسحاب، كما بدأت في توجيه الضربات للثورة الفلسطينية التي تشكل، بكل نواقصها، منطقاً جديداً في مواجهة الاستعمار والصهيونية، منطق الحرب الشعبية. انها تعتبر الاستعمار الأمريكي ليس العدو الأول في المنطقة، بل تعتبركل وزره، قاصراً على مساندة إسرائيل، وهي تصور تهادنها معه على أنه نوع من استخدام التناقض بينهما، انها تتعهد للاستعمار الأمريكي بالمحافظة على مصالحه في الوطن العربي، مقابل أن يضغط على إسرائيل للانسحاب، وأصبحت المعركة تعني الجيش النظامي فحسب، استيراد الأسلحة والتدريب عليها لإعطاء مركز أقوى في مفاوضات الحل السلمي.
لا يمكن الوصول مما سبق قوله، إلى أن البورجوازية البيروقراطية قد فقدت كل أساس للتناقضات مع الاستعمار الأمريكي، أو الاستعمار العالمي، فمصالحها ما زالت متناقضة مع الاستعمار. ولكن ما يبدو الآن جديداً، هو وزن هذا التناقض والطريقة التي تمارس بها البورجوازية المصرية حله. هل أصبح هذا التناقض هو العامل الحاسم في توجيه سياساتها، وهل طريقة حله في الوضع الحالي تدفع الثورة إلى الأمام، أو تضع أمامها العراقيل ؟
الواقع لقد أصبح العمل من أجل عزل الخط السياسي والفكري والتنظيمي لهذه الطبقة من قيادة الجماهير، شرطاً ضرورياً، لمواصلة المعركة ضد الاستعمار وضد إسرائيل"1-.
إن البورجوازيات العربية الأخرى التي تواجه نفس الهزيمة التي واجهتها البورجوازية المصرية تحل هي أيضاً تناقضاتها مع الامبريالية بنفس الطريقة التي تحل بها البورجوازية المصرية نفس التناقض من الناحية الجوهرية؛ وإن اختلفت في سرعة ومعدل سعيها للحل السلمي نظراً لاختلاف الظروف التاريخية والسياسية المحددة وتبعاً للطريقة التي تحكم بها ولمدى قوة السلطة التي تقرر أمور الطبقة، وحسب الأطماع الإسرائيلية الخاصة واحتلالها لمواقع استراتيجية من الأرض، وحيث ما تزال السلطة الحاكمة تخشى الحركة الجماهيرية التي لم تلحق بها الضربات المتتالية التصفية الكاملة، بالرغم من مساعدة بعض الأحزاب الشيوعية على تمويه وجهها الاستسلامي عن طريق طمس الصراع الطبقي ضدها.
هذا في حين أن البورجوازية المصرية لا تحكم بحزبها، بل بكاريكاتور تنظيم سياسي (الاتحاد الاشتراكي) ويتربع فوق السلطة رئيس يتمتع بصلاحية واسعةجداً مما يسمح له بحركة أوسع في اتجاه الامبريالية وقمع معارضيه في قمة السلطة وتوجيه أقصى الضربات للجماهير الشعبية.
إن البورجوازيات العربية الأخرى والقوية نسبياً لا تقف على نفلس المسافة التي تقفها البورجوازية في مصر، مثلاً، من الامبرالية لكونها تناقضاتها وأزماتها الخاصة بعيداً عن ضغوط الهزيمة الخانقة مضافاً إلى تفاوت أوضاعها الملموسة الأخرى. ولكن أي معارضة عالية لبحثها عن موضع أقدام في السوق الامبريالي، كما سيلقي عقاباً صارماً من الامبريالية وحلفائها مما يجعلها عاجزة، بحكم طبيعتها البورجوازية، عن مواجهته مواجهة فعالة.
إن البرجوازيات العربية، أدى نموها وبناؤها الحد الأدنى من اقتصاد رأسمالي حديث، إلى ميلها الموضوعي نحو السوق الامبريالية، نتيجة للمشكلات الناجمة من الآفاق المحدودة للنمو في إطار أسواقها القومية. فلقد تزايدت على سبيل المثال، كميات المخزون السلعي والطاقة العاطلة في الإنتاج الرأسمالي المصري بصورة مضاعفة، عقب الاتجاه الانكماشي في الاستثمار الرأسمالي في عام 1965. لذلك تتجه هذه البرجوازية إلى البحث لنفسها عن موضع قدم في السوق الامبريالي، حيث تريد أن تلعب دور الشريك الصغير والتابع. ان هذا الميل الموضوعي الذي يجعلها تبحث في شبكة العلاقات المحيطة بها في إطار السوق الامبريالي عن حل لمشكلات التسويق والاستثمار والإنتاج، سيؤدي بها إلى دفع ثمن باهظ من التبعية والارتباط المباشر من جديد، بشبكة الاحتكارات الامبريالية. إن نتائج هذا الميل الموضوعي ما كان يمكن أن يتم بنفس السرعة وبنفس الصورة التي تتم بها حالياً إلا ضمن شروط الهزيمة العسكرية التي لحقت بها. إن الهزيمة تسرّع هذا الميل الموضوعي، وتضعه في إطار أكثر ملاءمة للنفوذ الامبريالي في المنطقة: ولصالح تدعيم، وجود مركزها الامبريالي المتقدم "إسرائيل"، والاسراع بتوطيد الحلف الرجعي المقدس، ووضع نهاية أسرع للدور الذي يلعبه الاتحاد السوفييتي في المنطقة.
إن البرجوازيات العربية من جهة أخرى تسعى إلى تحسين الشروط التي توضع في إطارها تبعيتها للنفوذ الامبريالي، ولكنها لا يمكن أن تنتهج خطاً ديمقراطيا يسمح بأي دور للجماهير الشعبية، ولكنها تعتمد أساسًا على وسائل الضغط المختلفة، الدبلوماسية والعسكرية...الخ.. يقول "الشيوعي المصري" عام 1970 عن الطريقة التي تحل بها البورجوازية المصرية تناقضها مع الاستعمار:
"إن البورجوازية البيروقراطية التي تبني اقتصاداً رأسمالياً في عصر اضمحلال الرأسمالية العالمية، في مواجهة تناقضاتها القاتلة الناشئة عن أزمة نموها. لذلك فاحتمالات الردة الوطنية وظهور قنوات مختلفة للاتصال بهذه الكتلة أو تلك من الكتل المتناقضة تتزايد. وفي نهاية منعرجات السياسة التهادنية التي لا تستبعد حدوث مساومات عالية الصوت. ومناوشات نظامية مسلحة مع إسرائيل، وبيانات شديدة اللهجة موجهة ضد الاستعمار الأمريكي، يلوح الارتباط بالاستعمار العالمي نتيجة حتمية للنمو التلقائي للرأسمالية المصرية، وهو ارتباط يختلف عن العمالة القديمة.
ومن هنا يصبح التناقض بين الجماهير الشعبية والبيروقراطية الحاكمة على المدى الاستراتيجي، وثيق الاتصال بالتناقض بين الجماهير الشعبية والامبريالية العالمية، ولا يمكن القول بأننا ازاء نوعين مختلفين من التناقضات"1-.
إن البورجوازيات العربية المهزومة تحل تناقضاتها الخاصة وفق مصالحها الطبقية، وعلى حساب المصالح التاريخية لمجمل الشعوب العربية. ولكن الهزيمة فقط، وضعت هذه البرجوازيات في منعطف جديد مما ادى الى تغير في الطريقة التي تحل بها تناقضاتها، والمدى الذي كان يمكن ان تذهب اليه في تورطها في اطلر السيطرة والنفوذ الامبرياليين، انه لا يمكن النظر الى مطالب الطرف الامبريالي، في ضوء ما ينص عليه قرار مجلس الأمن او المبادرات الأخرى. ان هذه المطالب لا توضح الا الوجه المباشر للمسألة والذي يقتصر في الظاهر فقط على ضمان وجود اسرائيل وحدودها الآمنة والاعتراف بها. ان المطالب الامريكية تتعدى هذه المطالب المباشرة، وتذهب الى خلق الشروط، الموضوعية في الداخل، والتي تؤمن النفوذ الامبريالي في المنطقة، وتم لها ذلك بالتدريج خلال السنوات الست الماضية، حيث تمت التعديلات المناسبة في قمة سلظة الحلف الطبقي الحاكم، ابعد نتيجتها عن قمة السلطة الاجنحة الاقل تهادنا مع الامبريالية والأبطأ تلاؤما مع الوضع الجديد، وحيث تتم ايضا تصفية (وجود) الاتحاد السوفيتي في المنطقة، وخلق الصلات والروابط الاقتصادية والسياسية مع الامبريالية العالمية. وحيث يتم الانضمام الى الحلف الرجعي المقدس، وتصفية الحركة الشعبية في البلدان العربية( كما حدث في السودان)، وضرب وتصفية الحركة الديمقراطية الوطنية، وتصفية نضالات الطبقة العاملة المصرية.
إن التوصل إلى التسوية السياسية بين البرجوازيات العربية والامبريالية العالمية لن يفترض حجما من التنازلات فيما يختص بمطالب الدولة الاسرائيلية الخاصة. ولكن الضمانات العسكرية المحددة والتي تضمن وجود اسرائيل والتي تنسجم مع الاستراتيجية الامبريالية، بل والاساسية لوضع البلاد العربية تحت نفوذ وسيطرة الامبريالية، والتي تتطلب تهديدها الدائم بأداتها العسكرية، اسرائيل. ان هذه الضمانات لن تتنازل الامبريالية الامريكية عن الحد الادنى منها. ولكن وزن هذ التنازلات لحساب الامبريالية ولحساب المصالح الخاصة لإسرائيل، تختلف بالتالي حسب الأوضاع الملموسة للصراع القائم بين مجموع الأطراف الداخلة فيه. إن الانتكاسة الوطنية أي التسوية السياسية ستتم حتماً انسجاماً مع التطور الموضوعي للرأسمالية، والذي يشكل ميلاً موضوعياً تجاه الامبريالية العالمية، ذلك ما لم يتم قطع الطريق على سياساتها الرامية إلى تحقيق هذه التسوية. إن تأخير الحل السلمي كان مرهوناً بتحقيق الشروط الموضوعية السابق ذكرها، وساهم في هذا التأخير، الانتفاضات الشعبية الوطنية للطبقات الكادحة في مصر، وبروز دور النضال المسلح للثورة الوطنية للشعب الفلسطيني، والذي وجهت لهما الضربات تلو الضربات كخطوات عن طريق الحل السلمي.
إن قطع الطريق على خط البرجوازيات العربية الاستسلامي من "إزالة آثار العدوان" عن طريق "الحل السلمي"، هو التكتيك الصحيح لمواجهة خط الانتكاسة الوطنية التي تقود إليها هذه السياسات، ولكن قبل أن ندخل في توضيح هذه المسألة علينا أن نتوقف عند تحليل مجلة "الحرية" البيروتية لسياسات الاستسلام التي تنتهجها البرجوازيات العربية.

3- "الحرية" وتحليل سياسات البرجوازية الاستسلامية:
إن الأساس الذي تستند عليه "الحرية" في تحليل سياسات البرجوازيات العربية، وعلى الأخص البرجوازية المصرية، يدفع بسياسات "الجبهة الديمقراطية" إلى الوقوع أسيرة خط البورجوازيات الاستسلامي، سواء رضيت أم لم ترضى، برغم وضوح الحقائق كالشمس، وبرغم استنجادها هي في كل فقرة بكلمات "المادية". ذلك أنها توظف هذه الحقائق في إطار الأوهام التي تدفعها، بالحتم، إلى السير في أذيال الأنظمة البورجوازية، وستؤدي إلى عزلتها عن الجماهير، برغم استعظامها لدور الجماهير، وبرغم استنجادها بالجماهير في كل فقرة.
إن "الحرية" تستند في الأساس على تصور ميكانيكي للاستسلام الذي تسعى إليه الامبريالية وإسرائيل، وعلى تصور لمسار البرجوازيات في اتجاه التبعية الأميركية، خالٍ من أي تحليل طبقي لمسار التطور التاريخي لهذه البرجوازيات. انها تضع تصوراً غريباً لما تسميه "الاستسلام الكامل" والذي تسعى إلى تحقيقه الامبريالية الأمريكية عن طريق "استدراج" هذه البرجوازيات "المسكينة" إلى طريق خطر لا تعرف النتائج المؤدي إليها!.
هاتين الفكرتين الهزليتين لتصوير المسار الموضوعي للتاريخ الراهن في المنطقة، تشكلان أحجار الزاوية في تحليل "الحرية لميزان القوى القائم على أوهامها الخاصة، حيث تستند عليه في تحديد المهام المرحلية للكفاح الوطني الفلسطيني، ويرجع إلى هذا السبب ربط "الحرية" الهدف المرحلي للثورة الفلسطينية، بخط هذه البرجوازيات من أجل الحل السلمي أو ما تسميه هذه البرجوازيات بمرحلة "إزالة آثار العدوان". وسنتعرض لهاتين الفكرتين أولاً، لأن كل المسائل الباقية تتحدد على أساسها.
"فالحرية" تصور أن الامبريالية تسعى إلى ماتسميه "الاستسلام الكامل" في مقابل "الحلول الوسط"، مستعيضة بذلك عن المفاهيم الماركسية التي ترى حركة الواقع الموضوعية، خلف المظاهر المباشرة، والظاهرية للأحداث، بالمفاهيم الظاهرية نفسها، التي ينبغي تفسيرها، تلك المفاهيم المستقاة من دهاليز المفاوضات الديبلوماسية [لعل "الحرية" كانت تقوم بتمرينات من أجل مفاوضات جنيف، حيث أن: حرب أكتوبر ونضال الجماهير قبلها (لا تنسى الجماهير!) قد أحدثت، خصيصاً، تعديلاً مناسباً، في ميزان القوى، يليق باشتراك "الحرية" في مؤتمر "السلام"!].
إن الاستسلام الذي تجري صياغته الآن، هو وضع إطار جديد للنفوذ السياسي للامبريالية الأمريكية في المنطقة، حيث تريدها الامبريالية سوقاً أكثر انسجاماً مع متطلبات الإنتاج الرأسمالي. وحيث تكون مهيأة لأكثف استغلال ممكن للاستثمارات المباشرة للاحتكارات الأجنبية، سواء في مصر، أو باقي المنطقة، وحيث يصير أيضاً تأمين نهب ثروات المنطقة وعلى وجه الخصوص الثروة البترولية. إن ذلك هو ما كانت تسعى إليه الامبريالية دائماً. ولقد كانت تسعى دوماً لمحاصرة النظام المصري والنمو البرجوازي في مصر، الذي توطد في مواجهة الاستثمار الاحتكاري الامبريالي المباشر في سوقها، والذي كان يهدد بخطر محاكاته باقي المنطقة، وفي أكثر الدول العربية رجعية وارتباطاً بالاحتكارات الأجنبية والبترولية منها بالذات، وهي لا تسعى مع ذلك إلى تصفية هذه الأسواق التي تكونت في مواجهتها، ولكن تسعى إلى دمجها ضمن سوقها، بل أن هذه الأسواق التي اتسعت بفضل النمو البرجوازي المستقل نسبياً في هذه البلدان، توفر لها مجالاً أوسع لاستثماراتها وتجارتها.
إن الامبريالية- فقط، في هذه المرحلة، وليس قبلها- تلاقي النجاح، ذلك أن مسعى الامبريالية هذه المرحلة التقى بالميل الموضوعي للبرجوازيات، وبخاصة البرجوازية المصرية، بعد أن بلغت هذا الحد من النمو البورجوازي، كما سبق شرح ذلك. لقد واجهت الامبريالية برجوازية في مرحلة الهبوط، وليست في مرحلة الصعود. كما أن هذه الهجمة اتفقت مع بروز خطر السياسة التحريفية العالمية، والتي أفقدت البرجوازية ورقة هامة من أوراق المناورة واللعب على الحبال الذي اتقنته بمهارة طوال مرحلة الصعود، والتي كانت تستخدمه بديلاً عن الجماهير الشعبية والتي كانت تناصبها العداء، فاختصتها بالقمع والبطش والإرهاب، الأمر الذي كان يضاعف من أزمتها في مواجهة الامبريالية.
إن هذا الأساس الموضوعي هو الذي يضع الإطار لمسار حركة التناقضات بين البرجوازيات والامبريالية، والذي يدفع بحل هذا التناقض لصالح الامبريالية. انه ليس هناك ما يسمى "الاستسلام الكامل" إلا إذا أخذنا المظاهر الخارجية السياسية والعسكرية فقط، أساساً لفهم المسار الموضوعي للأحداث في السنوات الأخيرة. إن حل هذا التناقض، لا يسير نحو إزالة أحد أطراف التناقض للطرف الآخر، فالبورجوازية في صعودها لم تكن تعرف ولا تستطيع التصفية الجذرية لعلاقة التبعية للامبريالية، بحكم مصالحها الطبقية، التي لا تذهب بها إلى خارج عملية الإنتاج الرأسمالي العالمي المترابط في مرحلة الامبريالية وتحت هيمنتها. والامبريالية في مرحلة هبوط البرجوازية لا تسعى إلى تصفية هذه الطبقة ولا إلى تحويلها إلى عدم. إن المعارضين "التحليلات العدمية" لحرب 6 أكتوبر هم في الحقيقة يتبنون وجهة نظر عدمية غير موجودة في الواقع، ذلك أنهم يفسرون الواقع من خلال المظاهر العسكرية والسياسية، في حين كان يجب عليهم تفسير هذه المظاهر نفسها.
يقول التقرير السياسي الصادر عن اللجنة المركزية لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان:
"ما هو الحل الاستسلامي الذي تعمل الولايات المتحدة واسرائيل على فرضه في هذه المرحلة.
إن التحرك الهجومي باتجاه تثبيت وتجديد وتوسيع السيطرة الامبريالية على المنطقة العربية هو الاطار العام الذي تعمل الولايات المتحدة على إرسائه لتقرير مصير الصراع العربي الصهيوني من ضمنه، ففي إطار منطقة تخضع في مواقعها الرئيسية لهيمنة الاستعمار الأمريكي يصبح ممكناً فرض الحل الذي تلتقي عنده الستراتيجيتان الأمريكية والإسرائيلية: تثبيت الاغتصاب الصهيوني بمكتسباته القديمة والجديدة من ناحية، وتكريس دور إسرائيل كوكيل محلي رئيسي للمصالح الامبريالية يخضع له جميع الوكلاء الآخرين من الأنظمة العربية التابعة لأمريكا من ناحية ثانية. إن هذا الحل ليس في جوهره، سوى دعوة استسلام عربي يتيح إيصال الصراع في المنطقة إلى نتيجة يتحقق معها البرنامج الصهيوني بأهم بنوده المرحلية الراهنة:
أولاً : التوسع الاستيطاني الجغرافي بتكريس الحاق مناطق رئيسية من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 بالكيان الصهيوني.
ثانياً : فرض سلسلة من الاتفاقيات القهرية المباشرة على الدول العربية لا تقتصر على مجرد الاعتراف الرسمي، القانوني، أو الواقعي، بالكيان الصهيوني.
إن أهم ما تريده إسرائيل في هذا المجال ليس الحصول على وثيقة قانونية دولية تنطوي على الاعتراف بها، بل امتلاك وسائل القهر الفعلي المستمر للمنطقة العربية عسكرياً وسياسياً واقتصادياً....
ثالثاً: تجميد القضية الفلسطينية بما هي قضية تحرر وطني مباشر للشعب الفلسطيني".
وقبل حرب أكتوبر .... وفي العدد 634، تشير الحرية في مقال بقلم "يساري فلسطيني" إلى حقيقة الأهداف الإسرائيلية، والسياسية الأمريكية:
"إن إسرائيل:
1- لا ترفض فقط العودة إلى حدود التقسيم، وانما ترفض العودة أيضاً إلى حدود 5 يونيو...
2- إن اسرائيل لا ترفض : فقط، دولة فلسطين في حدود التقسيم، ولا ترفض فقط، دولة فلسطينية تقودها المقاومة، إنها ترفض أية دولة فسطينية على أراض فلسطين، مهما كانت طبيعتها وحدودها...
3- فيما يتعلق بتسوية النزاع مع الدول العربية المعنية، مصر، الأردن تحديداً، فإن إسرائيل لا تكتفي بمعاهدة "سلام" تتضمن أمنها وسلامة حدودها والاعتراف بها.... انها تسعى إلى تكريس نسب قوى مادية لصالحها، إلى فرض ظروف مادية تجبر العرب على القبول بوجودها...
4- بالإضافة إلى رفض الاكتفاء بمعاهدة السلام كضمانة، ترفض إسرائيل فكرة الضمانات الدولية، أو"الحلول المفروضة من خارج المنطقة" بمعنى آخر تشترط إسرائيل، من أجل "قبول السلام" إنهاء "الوجود" السوفييتي في المنطقة، كما تشترط المفاوضات المباشرة بين أطراف النزاع، الخ...

السياسة الأمريكية:
أما الولايات المتحدة الأمريكية فإن سياستها تجاه النزاع العربي الإسرائيلي تقوم على:
"1- الأخذ نظرياً بقرار مجلس الأمن، والأخذ عملياً بالتفسير الإسرائيلي للقرار المذكور...
2- الالتزام بالحفاظ على توازن القوى العسكرية القائم بما يضمن التفوق الإسرائيلي المطلق.
3- تأييد سياسة إسرائيل العدوانية طالما حافظت الدول العربية على دعمها، أو حتى تعايشها على مضض، مع المقاومة الفلسطينية، والضغط المستمر لتصفية المقاومة مادياً.
4- رفض ممارسة أي ضغط حقيقفي سياسي أو مادي على إسرائيل مع استمرار التلويح للأنظمة العريبة المعنية باحتمال ممارسة مثل هذا الضغط بهندف استدراجها إلى مزيد من التنازلات.
5- فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية: رفض الاعتراف بالمقاومة الفلسطينية ممثلاً للشعب الفلسطيني، مقترناً بالاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في "وطن ما"...الخ".
إن أهداف السياسة الأمريكية تحشر هنا في التحليل السياسي دون أي تفسير لها، [ناهيك أننا لن نتناول كل فقرة على حدة والتي تعكس منطق البرجوازية بصورة شبه كاملة والتي تضع أمريكا فوق الصراع الذي يوضع على أنه مجرد صراع عربي- إسرائيلي]، دون إيراد أي كلمة واحدة عن علاقة البرجوازيات العربية بالامبريالية- والحال أن الضمان الأساسي للنفوذ الامبريالي والوجود الإسرائيلي السابق سرده من قبل "الحرية" سيصبح حبراً على ورق لو لم يكن الاقتراب الموضوعي بين الامبريالية والبرجوازيات العربية، والبرجوازية المصرية على وجه الخصوص، قد وصل إلى الحد الذي تضمن به "حل" التناقض لصالحها. إن أي اشتراطات سواء قانونية أو مادية، عسكرية، لن تصبح ذات أثر "استراتيجي" بالنسبة لمنطق الامبريالية، لو أن الأنظمة ما زالت تناصبها العداء. ومن ثم فإن تفسير تأخر التوصل إلى التسوية إلى هذه السنوات الطويلة بـ :تأخر البرجوازيات العربية والمصرية خاص في "الاستدراج النهائي" لقبول هذه الشروط العسكرية التي تحمى وجود إسرائيل ومطالبها المتطرفة فيما يتعلق بالأرض، لهو تفسير ساذج لا يرى ما حدث في السنوات الست السابقة على حرب أكتوبر، حيث تم فيها نضح الشروط الموضوعية للتبعية (البرجوازية المصرية) الجديدة للامبريالية، وليس لكون أن البرجوازية قد صحا ضميرها فجأة، فكفت عن أن تستدرج، وحاربت الامبريالية وإسرائيل من أجل إزالة "آثار العدوان" بالقوة العسكرية. "فالحرية" تصور مواقف البرجوازيات العربية والبرجوازية المصرية كأسوأ ما يمكن أن يقال، ناهيك عن موقف البرجوازية السورية. "أما الموقف المصري: التراجع المبرر بالأوهام. إن السياسة المصرية ترتكز على مجموعة من الأوهام المنبثقة جميعاً من التعويل الوهمي على إمكانية التوصل إلى تسوية ما، دون الاستسلام الكامل، ضمن إطار ميزان القوى الراهن في المنطقة. ان وسائل السياسة المصرية هي دون أهدافها بكثير : الانفتاح على الرجعية السعودية والتحالف معها تحت شعار "حشد القوى العربية" الذي لا يعني في النتيجة العملية سوى الاستفادة من المساعي السعودية "الحميدة" لدى أمريكا، اللجوء إلى كافة أشكال الضغط الدبلوماسي الدولي الممكنة... الانفتاح على الولايات المتحدة والتحسين النسبي للعلاقة معها كوسيلة لإقناعها بممارسة الضغط على إسرائيل، التهديد بين الحين والحين الآخر باستخدام القوة العسكرية... في ظل هذه المحاولات لتعديل موازين القوى بالضغط الدبلوماسي، تتوالى التنازلات القطرية التي يقدمها النظام المصري (مشروع روجرز، الحل المنفرد، الحل الجزئي، فتح قناة السويس، مشروع الزيات) والأهم من ذلك التنازلات العملية التي قدمت لإقناع أمريكا بممارسة "الضغط":
1- الصمت العملي على خرق النظام الهاشمي لاتفاق القاهرة وتصفية المقاومة.
2- التمديد إلى أجل غير مسمى لوقف إطلاق النار.
3- إخراج الخبراء السوفييت من مصر. هذه التنازلات خلفت شروطاً مادية ساعدت على تعجيل تحول ميزان القوى السياسي العسكري لصالح الامبريالية وإسرائيل وعلى هامش هذه "السياسات فإن محاولات مصر لبناء قدرتها العسكرية النظامية لا يمكن أن تؤدي فعلاً إلى تغيير ميزان القوى العسكري".

لا شي يفسر مواقف البرجوازية المصرية. وتتحول التنازلات (طالما لم تجد تطبيقها الفوري) إلى تنازلات نظرية، ولا ندري لماذا هي تنازلات نظرية؟... إلا إذ كان الأمر هو مجرد الاستغراق في رؤية المسائل في إطار المناورات الدبلوماسية، ولا يرى فيها تمهيداً لنقطة أبعد في الاقتراب الموضوعي، والذي تتم شروطه تدريجياً بين البرجوازية المصرية والولايات المتحدة. والتنازلات العملية (المادية !!) لا تفسير لها سوى محاولة إقناع أمريكا بالضغط على إسرائيل...الخ. وأن سياسة البرجوازية المصرية هي مجرد سياسة تتعلق بالأوهام، فيما يختص بسعيها نحو التسوية السلمية دون الاستسلام الكامل.
لقد كان على "الحرية" أن تبدد أوهام البورجوازية، وتبين لها أن التسوية تعني الاستسلام الكامل، وأن التنازلات العملية (المادية !!) غير كافية كان على البرجوازية اما أن تتنازل عن الأوهام، أو تحوّل التنازلات النظرية إلى تنازلات عملية (مادية !) ... هذا هو الطريق الصحيح لحركة التاريخ! أو هكذا يجب أن يسير...
إن الحرية لا تفعل أكثر من سرد سطحي "لنيَّات" البورجوازية المصرية والامبريالية الأمريكية وإسرائيل دون أن تتقدم خطوة واحدة في تحليل المسار الموضوعي الذي تسير فيه البورجوازية وتسعى إليه الامبريالية وإسرائيل، مستخدمين الوسائل العكسرية والسياسية. لعل "الحرية" لا تريد أن تهبط بالتحليل الطبقي السياسي إلى مستوى التحيل الاقتصادي.. فنحّت الاقتصاد جانباً، وغرفت في تفاصيل الأحداث على السطح، مع أن شرط عدم الهبوط بالتحليل الطبقي السياسي، هو الاستناد على المسار الموضوعي والتحولات الموضوعية التي تجري بين الأطراف الداخلة في الصراع. إن السياسة، كما يقول لينين هي تكثيف للاقتصاد.
والحال أن الحركة الموضوعية للواقع المادي ( ليست النظريةالمادة الجدلية، تبنى فقط على ما تلمس باليد او يحس بواسطة الحواس الخمس... مثل المدافع التي لم تنطلق، والسكوت العملي.... الخ. ان هذا المنحنى في تأكيد التمسك بالمادية لاقناعنا بالتمسك بالماركسية، هو امر ساذج ومضحك لا تستنفذ النتاقضات على السطح: عسكريا وسياسيا...الخ، فالامبريالية كان لا بد لها ان تخضع البرجوازيات نحوها( والتي لا تعرف ان تتوصل الى كنهه، فقط يمكن ان تلمس بعض مظاهر ازمة البورجوازية فتستخدمها في تشديد ضغطها)، حتى تضع اطار التبعية الجديدة تحت اقصى شروط ممكنة، وحتى تضع حدا لخطر النمو البورجوازي، وتدفع ميلة الموضوعي في اتجاه الارتباط بها، بصورة اقوى، واسرع. لقد كان عليها ان تهزم خطا مناهضا لها، ويهدد مصالحها، وينسجم مع مكان متزايد للمعسكر الاشتراكي، ويهدد اداتها اسرائيل، والرجعية العربية التي تحمي مصالح الامبريالية... الخ ان اهداف السياسة الامبريالية المباشرة تتحدد على اساس ذلك بالضبط، وتشكل جزءا من حركه المسار الموضوعي للواقع.
كما أن البورجوازية حسب منطق "الحرية"، تظل كما هي لا تتغير، (ستظل وطنية للأبد، وتدخل كطرف وطني ضمن التناقض الرئيس "الذي ينتظم في المنطقة العربية"، وبالطبع فإن تحليلات "الحرية" لا تذكر اطلاقا ان هناك تناقضا رئيسيا آخر، هو التناقض بين البورجوازية والجماهير الشعبية، منكرة التاريخ الحي من القمع والتصفية الذي مارسته البورجوازية على حركة الجماهير الشعبية وطلائعها من الشيوعيين) ، وفقط تتغير سياساتها و قراراتها. البورجوازية وسائلها دون اهدافها بكثير. ذلك ما قيل قبل اكتوبر، ولكن حينما كان جيشها" منتصرا" في اكتوبر، هل اصبحت اهدافها دون وسائلها بكثير... فاتخذت قرار وقف اطلاق النار، ذلك القرار الذي لا تجد" الحرية" تفسيرا له غير ركض البورجوازية نحو الحل السلمي، وبالغباوة البرجوازية. اننا لا نستفيد من تحليلات" الحرية" للوضع الراهن سوى ان" نتعلم" ان الرجوازية غافلة او مغفلة، وأن الامبرالية مخادعة، او العكس حين تخادع البرجوازية الامبريالية بالتنازلات "النظرية" فقط ، ذلك في نفس الوقت الذي نتوهم فيه"اقناع امريكا بالضغظ على اسرائيل" عن طريق تنازلات عملية لا تصل الى حد الاستسلام الكامل، تلك التنازلات" العملية" التي تنسجم مع أهداف ومصالح البرجوازية ولكن تؤدي الى "استدراجها"...... هكذا بالضبط تخون البرجوازية مصالحها عن طريق الغفلة !
إن ميل البرجوازية الموضوعي يدفعها الى الاقتراب اكثر فأكثر من شروط الامبريالية، ان هذا يتطلب تعديلات في مراكز القوى الحاكمة في قمة سلطة التحالف الطبقي الرأسمالي بقيادة البرجوازية البيروقراطية، حيث تدفع أبطال مرحلة الصعود، الذين يتباطأون عن التوافق مع المسار الموضوعي لطبقتهم، خارج السلطة (حركة التصحيح) (لاحظ يتباطأون ولا يمتنعون عن ملاحظة المسار الموضوعي لطبقتهم، ولكن ليس بنفس السرعة المطلوبة،ان الأزمة التي ألمت بالبورجوازية تريد اناسا يسرعون بحركة المسار الموضوعي وليس العكس). في نفس الوقت كانت تقذف الأحداث بتلك العناصر التي تستعجل النتائج الى خارج السلطة (الفريق محمد صادق). ان المسألة ليست "استدراج" ولا حتى من خلال الرؤية السطحية للظواهر. فالبورجوازية تسعى هي ايضا لتحسين شروط استسلامها، باستخدام كافة أشكال الضغط العسكري والسياسي الذي لا يستبعد الاشتباك المسلح، كما سبق ان أوضحنا، بنص كتب في منتصف عام 1970، وكما برهنت عليه الاحداث بعد ذلك بأشكال اكثر غنى، حيث لم تكن متوقعة بنفس الصورة.
إن الاستسلام ليس مسألة كمية يمكن قياسها، بأوزان وأحجام، تخترع خصيصا ارضاء"الحرية".... استسلام كامل، شبه كامل، نصف كامل، ربع كامل.... الخ. ان الاستسلام وضع كيفي توضع فى اطاره تبعية البورجوازية للامبريالية، كما ان "الاستدراج" يكمن استخدامه في وصف حدث معين، وليس كمفهوم يعبر عن سلوك طبقة من الطبقات في مرحلة تاريخية معينة. اننا لو فعلنا ذلك سنظل نفهم التاريخ من خلال الظواهر السطحية، وليس التعمق الى ما وراء هذه الظواهر. وعموما، اننا نشتم من مفهوم " الاستدراج" هذا....، رائحة نتن خاصة بالتحريفية المصرية و بالذات. ذلك المفهوم الذي يرتبط بمفهوم " البورجوازية الوطنية" و "للابد" والتي طالما بررت به ذيليتها للبورجوازية المصرية. اننا نرجو الحذر من تلقي الدروس في التحليل الماركسي على أيدي انتهازيي الحركة الشيوعية المصرية المنتحرة، فهم اقل من حفظة نصوص الماركسية. ان التسوية السياسية تتم عند درجة محددة من الالتقاء الموضوعي بين البورجوازية والامبريالية، تخضع فيه الآولى لشروط الاخيرة، وتبقى هناك مسألة اسرائيل وتناقضاتها الخاصة مع البورجوازيات العربية، حيث ان اسرائيل تطلب لنفسها، مطالب في الأرض ومسائل اخرى.... الخ مضافا الى تلك المسائل التي تلتقي بصفة اساسية مع الاستراتيجية الامبريالية، فالحدود الآمنة وكافة الشروط العسكرية بتفاصيلها التي ذكرتها "الحرية" هي من صلب اهداف الاستراتيجية الامريكية.... ان البرجوازية تتوهم أو هي تريد ان توهمنا (هنا فقط يصح الكلام عن الأوهام !)، انها عندما تقدم نفسها بديلا لإسرائيل لحماية المصالح الامبريالية في المنطقة، فإن الامبريالية ستتخلى بنفس القدر عن اسرائيل، في حين أن حماية البرجوازية للمصالح الامبريالية، يتطلب ايضا، خضوعها الذليل للشروط العسكرية القاسية (اسرائيل) التى تظل دوما تهدد اي محاولة للخروج عن دائرة النفوذ، بل ان دور البورجوازية يتطلب ذلك بالضبط.
إن المطالب الخاصة لإسرائيل لا تتعارض بشكل كبير مع الاستراتيجية العليا للامبريالية، بل ان هذه المصالح تنسجم بشكل اساسي مع الإطار العام لهذه الاستراتيجية، ولكن بعض المسائل فيما يختص بالأرض بالتحديد تتطلب من الامبريالية التي تمسك بزمام التناقضات ان تقوم بأشكال من الملائمة بين الطرفين: الاسرائيلي والعربي، وستكون دائما وفي الاساس على حساب الطرف العربي.

ثالثا: كيف تحلل" الحرية" موازين
القوى قبل حرب اكتوبر

إن تحليل ميزان القوى في كل لحظة من لحظات الكفاح الثوري، هو أمر ضروري، لأن الكفاح الثوري لا يتم في فراغ، انطلاقا من استراتيجية عامة مجردة، تصبح دون هذا التحليل مجرد عبارات جوفاء، بل ان الكفاح الثوري يتطلب دوما هذا التحليل للواقع لكي ينطلق منه ويقوده في المسار المحدد للاستراتيجية العامة (التي هي الأخرى مؤسسة على تحليل طبقي دقيق وليس مجرد احلام عامة بالنصر، والتحرر العربي الشامل، والتحرر الوطني المباشر.... الخ). ان شروط صحة اي تقدير محدد هو صحة التقدير الكلي الشامل، والتقدير الكلي الشامل لا يمكن التوصل اليه من خلال مجموعة من البيانات والأخبار، وتجميع بعض الاجزاء لتصبح كلا شاملا، بل يمكن التوصل اليه من خلال التحليل الطبقي الدقيق، باستخدام المنهج الماركسي اللينيني، ليس غير... ان هذا هو شرط التخلص من الأوهام القومية والتي لم يتخلص منها الكثيرون بعد، الا بإعتبارهم عدم الجلوس مع اسرائيل هو شوفينية !!
إن تحليل ميزان القوى في الوضع العربي لن يأخذ مضمونا صحيحا، اذا لم يستند على تحليل طبقي دقيق للأنظمة العربية وتطورها التاريخي، ومن ثم تفسير حركتها التاريخية في الفترة الأخيرة. ولكن "الحرية" تعتقد انها قد اتمت التحليل الطبقي لبعض الانظمة العربية، في عبارة واحدة: بورجوازية الدولة، تلك العبارة التي توضع محل عبارة " البورجوازية الصغيرة" على نفس التحليلات القديمة، ونزداد اقتناعا بأن اقرار " الحرية" لعبارة بورجوازية الدولة من قبيل الاقرار بشتيمة اكثر ايلاما للانظمة البورجوازية. فهم عندما صدموا بهزيمة هذه الأنظمة في 5 يونيو 1967 اطلقوا عليها، انظمة البرجوازية الصغيرة، بعد ذلك تقلقلوا من السير الحثيث للانظمة نحو الحل السلمي، فأطلقوا عليها هذه التسمية الاكثر ايلاما: انظمة بورجوازية الدولة. وهم يستخدمون في تحليل موازين القوى كلمة " الاستدراج" وكان عليهم استخدام عبارة "البورجوازية المستدرجة !!" محل عبارة "البورجوازية الوطنية".... !!!
إن انعدام التحليل الطبقي الصحيح الذي تستند عليه "الحرية"، يقودها الى مستنقع الانتهازية. وتتبنى استراتيجية تراهن على " الانظمة العربية الوطنية" بشكل ما.... ان "الحرية" لم تقطع بعد الحبل السري الذي يربطها بالانظمة العربية البورجوازية، ذلك الحبل السري الذي ينقل إليها غذائها المتجدد من الاوهام القومية. ان هذا الارتباط يتجلى بشكل واضح في الخلط استراتيجية الانظمة الاستسلامي وبين استراتيجية نضال الطبقات الشعبية في البلدان العربية ونضال الشعب الفلسطيني من أجل تحرير وطنه. وكان يتوجب عليها بدلا من الخلط ، وضع الحدود الفاصلة. والنتيجة هي الخلط بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة. فيتم "الحرية" صنع ميزان للقوى ينايب التكتيك المسبق الذي اتخذته كرد فعل لاقتراحات الاعداء!
إن تحليل ميزان القوى الذي تستند عليه "الحرية" في تحديدها تاكتيكها المرحلي، ليس فقط لا يستند على تحليل طبقي، بل ان هذا "الميزان من القوى" واضح انه موضوع بشكل محدد ليبرر التكتيك المرحلي المسبق الذي اتخذته "الحرية" . ان الرغبات الخاصة والشطحات، تحركهم الى موقف محدد، فيعودون سريعا الى النظرية ليأخذوا منها تفسيرا أو تبريرا لموقفهم، وهذا بالطبع يحدد في النهاية التحليل الطبقي. إن " الحرية" تضع تاكتيكها المرحلي على حسب التكتيك المرحلي الذي وضعته على اساس من الحل السلمي، وليس في مواجهة هذا " الاستسلام الكامل" الذي تستدرج اليه الانظمة البورجوازية...
إن نغمة " الحل الامريكي الإسرائيلي ـ الهاشمي" الذي تواجهه " الحرية" ب " حل فلسطيني" يسعى الى تكوين كاريكاتور دولة فلسطينية، لا يفترق الا بتعديلات بسيطة في العبارات التي تناسب المقام، عن اقوال السيد حسنين هيكل، عن الحل " الامريكي", والحل " السياسي" المصري الذي تسعى اليه مصر، بتعديل " ميزان القوى" عن طريق الضغط الدبلوماسي والعسكري، وهذا ما أدى بالضبط الى تنظيمها حرب اكتوبر. ان "الحرية"، استعارت في تحليلها لميزان القوى، سواء رضيت ام لم ترضى، تحليلات معهد الاستراتيجية البرجوازي بالاهرام، ذلك نتيجة حتمية لخلط مراحل النضال الوطني الفلسطيني باستراتيجية الانظمة للحل السلمي.
لنرى كيف نحلل "الحرية" ميزان القوى "بقلم يساري فلسطيني" في العدد رقم 634 من "الحرية" :
"إن ميزان القوى الراهن في المنطقة، لا يزال يتسم بالاختلال لصالح الهجمة الامبريالية الامريكية ـ الاسرائيلية الرجعية، التي تستهدف ، كمحصلة نهائية لمجمل سياستها، فرص الاستسلام الوطني الكامل، والتصفية المادية لكافة المكاسب الوطنية والديمقراطية لحركة التحرير الوطني العربية. لقد استطاعت هذه الهجمة ان تحقق نجاحات...، .... رغم هذه النجاحات. وربما بسبب من بعض هذه النجاحات فإن الهمجية المضادة للثورة، اخذت تستنفذ زخمها وترتطم بحدود يصعب تجاوزها....".
ثم تقوم "الحرية" بعرض يبدو شاملا لنجاحات القوى الوطنية والتقدمية ابتداء من اليمن والخليج ، مرورا بسوريا والعراق ولبنان ومصر، ثم المقاومة الفلسطينية. ثم تواصل " الحرية" قائلة:
"... هذا الاستعراض السريع للتطورات البارزة في المنطقة يساعدنا على تكوين صورة اوضح لنسبة القوى الراهنة بين معسكري الثورة، والثورة المضادة. انه يؤكد ان ميزان القوى الراهن لا يزال مختلا لصالح اسرائيل والامبريالية والرجعية، مما يشجع الامبرياليون على مواصلة سياسة التصلب والهجوم سعيا وراء الاستسلام الكامل. الا انه يبرز من الجانب الآخر المقاومة المتنامية التي يصطدم بها هذا الهجوم، والتي أخذت تستنفذ طاقته وزخمه وتمد لنهوض ثوري جديد".
من الواضح أن "الحرية" تستبعد البرجوازيات العربية من معسكر الثورة المضادة. وتضع الحركة الثورية الوطنية الديمقراطية مجرد "سند" أو "قيم" على البرجوازيات العربية "الغير راشدة" يمنعها من أن " تستدرج" الى "مهاوي" " الاستسلام الكامل"!. وتضع للقوى الثورية وظيفة تضيق هامش التراجع المتاح، لا أكثر، ومجرد حدود ترتطم بها الهجمة الامبريالية وتجد أنه من الصعب عليها تجاوزها. ان "الحرية" تتبرع من عندها "بطاقات الجماهير" والقوى الثورية والمقاومة الفلسيطنية، للبرجوازيات العربية، كي تستخدمها كأوراق ضغط من أجل الحل الاستسلامي. وتتوهم "الحرية" بذلك أنها تحقق عن طريق "الحل السلمي" غير الأمريكي، "المصري" و"السوري" و"الفلسطيني"، والذي لا يتضمن ما تسميه بالاستسلام الكامل، خطوة عن طريق التحرير، "التحرر القومي الشامل"، و"التحرر الوطني المباشر" الذي تسعى إليه الشعوب العربية والشعب الفلسطيني. انه حال ظهور الحركة الثورية فلن تحقق الامبريالية أهدافها، وستتحطم أحلامها، ولن تجد ضالتها سهلة القياد (البورجوازيات العربية) لاستدراجها إلى مهاوي "الاستسلام الكامل". فلقد صنعت الحركة الثورية من نفسها أشواكاً حول البرجوازيات العربية، لكي تمنعها من أن تكون فريسة سهلة للامبريالية. ان هذا التفريط (!!) بالحركة الثورية، وبالجماهير يؤدي موضوعياً إلى وضع الحركة الثورية في حظيرة البرجوازيات العربية، ويؤدي إلى وضع الأشواك في حلق هذه الحركة الثورية نفسها، مما يمهد ويسهل على البرجوازيات تصفيتها، واجهاضها حالما تصل إلى أهدافها. أن "الحرية" بدلاً من أن تضع تكتيكاً للحركة الثورية فيما يختص بالهجمة الامبريالية، تضع تكتيكاً تعتقد واهمة، أنها تقطع به الطريق على هجمة الامبريالية، يؤدي إلى تمكين البرجوازية من قطع الطريق على الحركة الثورية، وانزال الهزيمة بها والاستدارة عليها لتصفيتها واجهاضها. انه كان يتوجب عليها لكي تقطع الطريق على الهجمة الامبريالية حقاً، أن تقوم بالضبط بقطع الطريق على البرجوازيات في سعيها نحو "الحل السلمي".
"الحرية" تتوصل استناداً على هذا التحليل الكاريكاتوري لميزان القوى إلى هذه النتيجة:
"هذا التقييم يؤكد استحالة التوصل إلى أية تسوية دائمة، أو حتى شبه دائمة، لتسوية سياسية لمعضلة الشرق الأوسط في ظل ميزان القوى الراهن".
إن "الحرية" تقدم لنا تصوراً للصراع القائم في الشرق الأوسط، تجعله يكف عن كونه عملية صراع في الواقع، وتضعه في إطار طبيعي قدري. وكما سبق أن قلنا أن حجتها الوحيدة التي توصلها إلى هذه النتيجة، هو مجرّد ظهور الحركة الثورية، حيث يستحيل على الامبريالية تحقيق أهدافها... بمجرد ظهور الضوء تختفي العفاريت... بمجرد ظهور الملائكة تختفي الشياطين. الحركة الثورية شيء، جسم "مادي" ! (على طريق "الحرية" المادية) مجرد وجوده يمنع البورجوازيات من السقوط في الهاوية... لقد أقامت الحركة الثورية من نفسها سدا في طريق الامبريالية يمنعها من التقدم. كان على "الحرية" أن تحلل نسبة القوى الطبقية، بين الحركة الوطنية الديمقراطية للطبقات الكادحة، والمقاومة الفلسطينية من جهة، وبين البورجوازيات العربية السائرة موضوعياً بحكم ضرورات مصالحها الطبقية نحو التسوية السلمية مع العدو الامبريالي. كان ذلك سيمكنها من القول بأن نسبة القوى الطبقية في الوضع الراهن لا يمكن من قطع الطريق على البرجوازيات العربية في سعيها للتسوية، هذا السعي المنسجم مع الحركة الموضوعية لتطورها البرجوازي. وأنه ينبغي تكثيف الجهود الدؤوبة من أجل العمل على قطع الطريق، والاستعداد التنظيمي والسياسي والجماهيري للنضال في ظروف أخرى تكون البرجوازيات قد أتمت تسويتها مع الامبريالية، إذا لم تتمكن الحركة الثورية من قطع الطريق عليها. بالتالي فإن تحليل نسبة القوى الطبقية في داخل كل بلد عربي، وقوة المقاومة الفلسطينية، سيمكنا من القول أن الحل السلمي ما زال احتماله قائماً، حل سلمي يؤدي إلى الانتكاسة الوطنية، حقاً أن أية تسوية لن تكون دائمة، وأن الحركة الثورية ستجتاح في طريقها كل مواقع الامبريالية. هذا من الناحية التاريخية بشكل عام. ولكن في الوضع الراهن فإن التسوية قادمة لا محالة، إذا لم تتغيّر نسبة القوى الطبقية في داخل البلاد العربية لصالح القوى الوطنية الديمقراطية والمقاومة الفلسطينية، بصورة تجعلها، على الأقل، تؤثر في مجرى الأمور. تسوية سلمية تحاول الأطراف التي صنعتها، انسجاماً مع مصالحها أن تجعلها "مستقرة" ما أمكن، تجعلها "دائمة" ما أمكن، ولن يتسنى لها ذلك إلا بإجهاض الحركة لوطنية الديمقراطية في كل بلد عربي، وبذبح المقاومة الفلسطينية، بأول خطوة يكون استدراجها (هنا يصح الكلام عن الاستدراج) بكاريكاتور دولة فلسطينية. أن تحليل "الحرية" "العلاقات القوى الراهنة" قبل اكتوبر يوضح الخلفية التي استندت عليها، بعد ذلك في تفسير حرب أكتوبر وانجازاتها. وحيث كان يتم التأكيد على أن التسوية السلمية ليست قادمة، عاد الصراخ بأنها قادمة لا محالة، ولكن في منظور ينسجم مع منطقهم الأصلي الذي يهيئهم لابتلاع أو تمرير حل سلمي يؤدي إلى الانتكاسة الوطنية، حل سلمي تعتبره "الحرية" خطوة إلى الأمام ! !

4- حرب أكتوبر ونتائجها:
ترى "الحرية" في تقرير منظمة العمل الشيوعي في لبنان، أنه على القوى الوطنية العربية، "أن ترى مواقع أقدامها بوضوح خلال هذه الفترة وفي ضوء الآثار الفعلية التي تركتها ويمكن أن تتركها حرب تشرين على حاضر ومستقبل الصراع العربي الإسرائيلي "كشرط أساسي" لتحركها الفعال طرفاً أساسياً ضمن الصراع- وليس على هامشه- من أجل إحباط الحل الاستسلامي فعلاً".
وسنرى كيف تنظر "الحرية" إلى دور القوى الوطنية في إحباط الحل الاستسلامي كطرف أساسي في الصراع بعد حرب أكتوبر. هل عن طريق العمل على قطع الطريق، فعلاً، على طريق البورجوازيات نحو الحل الاستسلامي، أم على تصور واحد للحل الاستسلامي، يرى الأمور على السطح من أجل تمرير الحل الاستسلامي نفسه بعد إضافة تعديلات ثانوية حيث تبدو على سطحه أمور ظاهرية مختلفة بعض الشيء عن تصور الحرية للحل الذي تستبعده.
كيف توفق "الحرية" بشكل غريب وانتقائي بين هدف الأنظمة من حرب تشرين "لا يتعدى هدفها الأصلي تحريك الاتجاه نحو التسوية السلمية" وبين المقدمات التي شكلت عوامل قيامها "من بين تلك العوامل يبرز بوضوح دور حركة التحرر الوطني العربية التي صمدت قواها الثورية المتقدمة- وفي الطليعة منها المقاومة الفلسطينية وجماهير الشعب المصري- في وجه الحل الاستسلامي الامبريالي الصهيوني، والتي جعلت الأنظمة الساعية إلى التسوية تواجه قوى استطاعت أن تضع بالفعل حدوداً لقدرتها على التحكم بالمصير القومي للشعوب العربية، وتصفية قضاياها الوطنية. ان ضغط الصمود الشعبي على الأنظمة لم يكبح ميلها إلى المزيد من التنازلات فقط، بل ساهم في دفعها إلى سلوك طريق المواجهة القتالية ولو ضمن حدود، ولو من أجل اكتساب موقع أفضل في مفاوضات التسوية التي كانت تسعى إليها".
إما قول "الحرية" ان ضغط القوى الوطنية على الأنظمة قد جعلتها تغيّر من طبيعتها الطبقية إنما يرجع إلى تصوّر ميكانيكي عن الصراع الطبقي... الجماهير ترفض الحل السلمي... وتضغط على الأنطمة، والأنظمة بالتالي تتلقى ضغط الجماهير... فتتوقف عن التنازلات التي كانت ناجمة عن ضغط الامبريالية عليها، واستدراجها لها، وبالطبع لأن "الحرية" هي مع الجماهير وللجماهير وبالجماهير... فإن ضغط الجماهير هو الذي ينتصر على ضغط الامبريالية ، بل ان الضغط لم يكبح ميل الأنظمة "إلى المزيد من التنازلات" فقط، بل ساهم في دفعها إلى سلوك طريق المواجهة القتالية "ولو ضمن حدود". وهذا ما يجعل "الحرية" تقع في التناقض في نفس الفقرة : "إن ضغط الصمود الشعبي قد كبح ميل الأنظمة الاستسلامي، بل وقد دفعها لخوض الحرب مع العدو" تعود وتكمل في نفس الفقرة، بل في نهاية الجملة إلى أن الأنظمة المدفوعة للحرب ستكون ولو "من أجل موقع أفضل في التسوية التي كانت تسعى إليها" أصلاً.
ويبدو أن "الحرية" ما زالت تتبنى مفهوم "البورجوازية الوطنية" كسمة خالدة للأبد في الطبيعة الطبقية للبورجوازيات الحاكمة، وأن الضغط الشعبي قد جعل البورجوازيات تفيق من وهمها، وتكف عن تقديم تنازلات جديدة، بل وتندفع إلى قتال العدو اللئيم المخادع، والتي كانت تترك نفسه له يستدرجها !!
لا شك أن حركة المقاومة الفلسطينية وجماهير الشعب المصري قد ساهمتا في دفع الأنظمة إلى شن القتال ضد العدو، ولكن ليس لتحقيق رغبات الجماهير، بل لتحقيق خطة البورجوازية أصلاً في الحل السلمي والتي تنسجم مع مصالحها الطبقية ومع المسار الموضوعي لهذه المصالح، وستكون هذه الحرب، أو أحد أهدافها، موجهة لإجهاض حركة المقاومة الفلسطينية وحركة جماهير الشعب المصري الديمقراطية، وتمرير الحل السلمي على جماهير الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. ولكن "الحرية" لها منطق آخر، منطق ميكانيكي، والحال أن المنطق الجدلي ليس صعباً إلى هذا الحد، بل هو أسهل منالاً، وأكثر قرباً من حركة الواقع الذي يتحرك جدلياً وليس ميكانيكياً، انه صعب فقط على الرؤوس المملوءة بالأوهام.
إن "الحرية" لا تفهم العلاقة بين الصراع الطبقي والمسألة الوطنية، بين التناقض الرئيسي بين الجماهير الشعبية والبورجوازية، التي أتمت من الناحية الأساسية أهدافها: في السلطة والسوق، وبين التناقض الرئيسي بين الجماهير الشعبية والامبريالية. وانها مازالت تحاكم الامور من منظور الثورة البورجوازية الديمقراطية، الذي كان يناسب واقع بلاد اخرى مازالت البورجوازية القومية تسعى فيه الى السلطة والسوق، ولهذا كانت طبيعتها تعكس الجانب الوطني المعادي للاستعمار فيها، وكانت تفرض عليها اسلوب الصدام مع الاستعمار من الناحية الاساسية (ولا يخلو اسلوب البورجوازية من المهادنة وعدم قطع الجسور مع الامبريالية ـ في حالة البورجوازية المصرية مثلا ابان صعودها)، ولكن اسلوب البورجوازية في حل تناقضها مع الاستعمار في مرحلة الهبوط ، يختلف عن اسلوبها في حل هذا التناقض في مرحلة الصعود، فالبورجوازية في هذه المرحلة تكف عن اسلوب الصدام وكسب المواقع الاقتصادية والسياسية ، وتتبنى اسلوب المساومة، والتنازلات، وفتح الباب للاحتكارات الاجنبية من جديد، ولكن لا يخلو هذا الاسلوب من أشكال من الصدامات المسلحة، ومن الهجوم على السياسة الامبريالية. وهذا ما سبق أن فسرناه فيما سبق بإيضاح الميل الموضوعي للبرجوازيات نحو السوق الامبريالية، نتيجة لازماتها الخاصة. ان الفهم الصحيح لن يتذبذب بين التنازلات الخائنة نتيجة للاستدراج ، وتغيير المسار 180 درجة نتيجة لضغوطات الجماهير، بعد اتضاح الاوهام وأخذ المواقف الوطنية .... تجاه موقف محدد نصرح:.... هذه خيانة (الاستدراج)، وتجاه موقف آخر نفرح مهللين:.... هذا عظيم، تلك هي الوطنية (ولو محدودة... في حرب محدودة....)....
ان "الحرية" لكي تخفي عن نفسها النتائج الموضوعية لحرب اكتوبر والتي تتناقض تماما مع ضغوط الجماهير، بل أن احد أهدافها هي اجهاض هذا النهوض نفسه.
"ان الذين يعجزون عن رؤية حرب تشرين على قاعدة مقدماتها الفعلية هذه انما يهدرون ـ رغم ثرثرتهم التي لا تنتهي عن الجماهير ـ كل النضالات الجماهرية العربية التي شهدتها المنطقة بقيادة قواها الوطنية والتقدمية على امتداد خمس سنوات (الاصح ست سنوات... او لعل "الحرية" كانت ترى ان احدى السنين كانت سنة عجفاء في الحركة الجماهيرية)، والتي استطاعت منع الحلف الامريكي الاسرائيلي من أن يقطف ثمار الهزيمة العسكرية الساحقة في الخامس من حزيران 1967 استسلاما عربيا مطلقا لشروط القهر التي كان يعرضها... وليس هذا الاهدار لدور النضالات الجماهيرية على امتداد السنوات الخمس (الست) الماضية هو اخطر ما تنطوي عليه النظرة العدمية لحرب تشرين، بل ان أخطر ما في تلك النظرة هو انها تنطلق من الغاء دور الجماهير العربية وقواها الوطنية والتقدمية في صنع مقدمات الحرب، تنتهي بالنتيجة الى إلغاء كل النتائج الايجابية للحرب ثم الى اعدام قدرة الجماهير تماما على الفعل في تلك النتائج وتوظيفها لصالح المزيد من الصمود في وجه الحل الاستسلامي".
أن النظرة الايجابية لحرب اكتوبر، هي موجودة فقط في ذهن البورجوازيات الحاكمة، التي أرادت تحسين شروط استسلامها، وانهاء حالة اللاسلم واللاحرب.... التي تهدد سلطتها في الداخل، وانضاج الشروط الموضوعية للتسوية السياسية على نار الحرب، اسرع مما كانت تنضجها برودة الضغوط الدبلوماسية. ان أهم النتائج الايجابية بالنسبة للبرجوازية هي دور هذه الحرب في تمرير التسوية على الجماهير الشعبية... وتمكين البورجوازية من اجهاض حركة الجماهير الشعبية بعد ان "يتحسن" وضعها الداخلي بإنهاء حالة اللاسلم واللاحرب... أن ما يدفع تصور "الحرية" غير العدمي !!، هو تصورها العدمي.... هو منطقها العدمي!! استسلام الانظمة الكامل أو المطلق. ان الحقيقة المطلقة هي عند الله سبحانه وتعالى... والاستسلام الكامل هو في ذهن كتاب" الحرية " المشبع بالاوهام. نعود فنكرر من جديد: أن البورجوازيات تحل تناقضها مع الامبريالية في مرحلة معينة من تطورها (هبوطها) نتيجة لازمتها، تحل هذا التناقض بالمساومات من الناحية الاساسية ومهما تكن تلك الشروط النهائية للتسوية، فهي ستؤدي الى حالة كيفية جديدة من التبعية للنفوذ الامبريالي، الى ولوج باب الحظيرة الامبريالية من جديد. ان طريقة حلها للتناقض مع الامبريالية يؤدي الى الانتكاسة الوطنية، ولكنه منسجم مع مصالحها الطبقية، فهي لا تخون مصالحها الطبقية. ان الاستسلام الكامل عن طريق استدراج الامبريالية البورجوازية، يؤدي الى حالة (ليست موجودة الا في ذهن كتاب " الحرية")، ينعدم فيها التناقض بين البورجوازيات العربية والامبريالية وتتحول فيها إلى مجرد عميل... أي تتحول عن طريق "غفلتها" من الوطنية إلى العمالة والخيانة. تلك النظرة العدمية هي التي تؤدي بأصحابها إلى تصوّر أن ما حدث هو تقدم على طريق النصر على الامبريالية.
إن هذا الدفاع المزيف عن دور الجماهير، يقدم الجماهير لقمة سائغة للطبقات السائدة والامبريالية وإسرائيل ضمن تحالفاتهم المقدسة ضد الجماهير، بالرغم من تناقضاتهم المحتمة فيما بينهم، والتي تضع أرضاً مختلفة لانطلاق هجومهم ضد الجماهير الشعبية.
إن البورجوازية تريد أن تلهي الجماهير باستعادة جزء من الأرض كان قد احتل، في نفس الوقت الذي تضع فيه مجمل البلاد ضمن النفوذ الامبريالي، وتستدير فيه على الجماهير الشعبية بالقمع والتصفية وتوجيه الضربات. إن الحلقة المفرّغة لا توجد إلا في رأس كتّاب الحرية، إن موقفهم اليميني سيؤدي إلى المساهمة في إجهاض الحركة الثورية، ووضع العراقيل والصعاب أمامها. وذلك من جهة عن طريق تمرير الأوهام التي تؤدي إلى فض الجماهير، ومن جهة أخرى عن طريق الضربات التي توجهها بعد ذلك للحركة الثورية بعد أن يسهل للقوى المعادية ذلك عن طريق ميوعة الطليعة نفسها. كما أن العنتري الانتهازي الذي يريد أن يوقف الحل السلمي ولو بالانتحار، كلا الموقفين سيؤديان إلى إجهاض الحركة الثورية. إن الموقف اليميني للجبهة الديمقراطية يريد أن يطعم الحركة الثورية من فطيرة السم التي صنعتها حرب أكتوبر، والموقف "اليساري" لا يقبل أن يأكل من فطيرة السم ولا يجد ما يعمله سوى أن ينتحر. ان كلا الموقفين منطلقين من أوهام، تعكس أملهما في البرجوازية ووطنيتها. وأن "نهاية" الصراع بهذه الصورة لم تكن متوقعة بالنسبة إليهم، ومن ثم فإن الصراع سيتوقف طالما أن البرجوازية قد قرّرت ذلك.
إن حرب اكتوبر ومن ثم التسوية السلمية، ليست إلا منعطفا، تأخذه المسألة الوطنية وعلى القوى الثورية أن تواجه هذا المنعطف وهذه اللحظة، من شروطها الموضوعية التي أضيفت إلى الشروط الموضوعية السابقة على هذه الحرب. إن المعارضة الثورية للتسوية السلمية قبل اكتوبر، تستمر بعد حرب اكتوبر، والتسوية السلمية، في شروط جديدة. إن هذه الشروط الجديدة تؤثر على حركة المقاومة أكثر من غيرها من القوى الشعبية في البلاد العربية. لهذا فإن استجابتها التنظيمية لهذه الشروط الجديدة ستحدد إمكانياتها في أشكال المواجهة الشعبية الجماهيرية والمسلحة.
إن الذهنية البورجوازية الصغيرة، التي ترى أن حرب اكتوبر هي نهاية النهاية، يرجع إليها الموقف اليميني للجبهة الديمقراطية التي تريد أن لا تتخلف عن اقتسام نتائجها الإيجابية "النسبية والمحدودة". ويرجع إليها الموقف الآخر، الذي يرى أنه إذا لم توقف التسوية التي قادت إليها هذه الحرب، فلن تكون بعد ذلك حركة ثورية، أو كفاح وطني أو طبقي. إن هذه الذهنية البورجوازية الصغيرة يرجع جذرها كما سبق القول إلى الأمل في وطنية الأنظمة الحاكمة، الراجع إلى عدم الربط بين مواقف أي طبقة من القضايا الوطنية وبين مصالحها. تلك المصالح التي ينعكس تغيّرها من تغير مواقف الطبقة صاحبة هذه المصالح من القضايا الوطنية.
و"الحرية" التي تدافع عن دور الجماهير في صنع مقدمات حرب اكتوبر تعود في نفس الفقرة إلى التأكيد على النتائج "الإيجابية النسبية والمحدودة التي أسفرت عنها هذه الحرب خلال أسبوعين فقط من القتال مع إسرائيل، والضغط السياسي- الاقتصادي على الولايات المتحدة، كانت جديرة بأن تشكل نقطة انطلاق لتغيير ملموس في ميزان القوى الذي يحكم الصراع العربي الصهيوني".
تصر "الحرية" بهذه الفقرة على صنع خلطة من القوى أدت إلى النتائج الإيجابية لحرب أكتوبر: القتال الذي دام أسبوعين، والضغط السياسي- الاقتصادي، على الولايات المتحدة، والضغط الجماهيري على الأنظمة قبل اكتوبر، إنها لا تخلط فقط بين قوى الجماهير وقوى البرجوازيات، بل أنها تضع أيضاً قوة الامبريالية الأمريكية التي استجابت للضغط الموجه إليها. إن نظرية نقل الحركة (من الجماهير، إلى البرجوازية وجيشها، وجنودها، والرجعية وسياستها وبترولها، إلى الامبريالية الأمريكية وضغوطها المشكورة على إسرائيل) هي لا تفترق عن وجهة النظر البورجوازية (التي تريد تحويل الصراع إلى مجرّد صراع عربي إسرائيلي، خارج سياق الامبريالية، وأهداف الامبريالية) إلا في : من أين بدأت الدفعة الأولى. ففي حين تصر "الحرية" على أن الدفعة الأولى قد بدأت من الجماهير، تصر البورجوازية والسادات على أن الدفعة قد بدأت من البورجوازية وقائدها "الحكيم"، ضمن جهاد "مرير" على الصعيد الدبلوماسي، في نفس الوقت الذي كان يتم فيه الاعداد لحرب أكتوبر في صمت، لقد لام السادات (بين ثنيات خطابه) الجماهير على عدم صبرها وصمتها، في حين أنه كان يعد "صامتاً" للحرب الفاصلة مع العدو. إن الجبهة الديمقراطية لا تلتقي فقط مع البورجوازية في جينيف فقط، ولكنها تلتقي من الأساس مع البرجوازية في منطق التفكير ومقدماته مع بعض التعديلات التي تناسب مقامها "الثوري".

5- حرب أكتوبر حرب "وطنية محدودة" أم حرب استسلامية أم ماذا؟
ماذا يمكن أن يقال عن هذه الحرب: هل هي حرب وطنية، حرب امبريالية لاقتسام المستعمرات، حرب وطنية محدودة...الخ. الصيغ القديمة والواقع الجديد... دائماً تواجه المثقفين البورجوازيين الصغار الضيقي الأفق، مشكلة البحث عن صيغة قديمة لظاهرة من الظواهر الجديدة. ان الرفيق (رفيق رغم اختلافنا معه) نايف حواتمة قد توصل في خطابه المنشور في العدد 650 من "الحرية" إلى أن حرب اكتوبر هي حرب وطنية محدودة. "... هؤلاء جميعاً الذين كانوا حتى 6 تشرين وبإمكاننا أن نأتي بجميع منابرهم السياسية الفلسطينية والعربية- كانوا يطالبون بفتح المدافع اليوم وليس غداً دون أن يعوا الأساس الطبقي لهذه الأنظمة والحدود التي يمكن أن تقاتل عندها، فحدودها الطبقية أن تخوض حرباً وطنية محدودة...".
"... ومن هنا ليست حرب أكتوبر حرباً استسلامية كما يصفها أصحاب الجمل اللفظية الثورية، ليست حرب اكتوبر حرب التسليم لإسرائيل، لكن حرب اكتوبر هي حرب وطنية محدودة الآفاق بآفاق القيادات الطبقية السياسية التي حكمت هذه الحرب، والتي لا تستطيع هذه القيادات أن تطورها إلى تحرير وطنية، أو حرب تحرير وطنية طويلة الأمد، ولا تطالبها كما قلت بحرب تحرير شعبية".
بادئ ذي بدء، ليس هناك شيء معناه (حرب استسلامية) أن أحداً لا يخوض الحرب لكي ينهزم، ولا أحداً يخوض الحرب لكي يرفع يديه لاعلى مسلماً سلاحاً لعدوه. لقد تبنى لينين قول كلاوزفيتز الفيلسوف العسكري للحرب النابليونية أن "الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى" "عنيفة". ان الحرب التي خاضتها البورجوازية، المصرية، السورية، هي امتداد لسياستهما طوال الست سنوات السابقة على اكتوبر، تلك السياسة التي تسعى إلى التسوية السياسية وتحسين شروط هذه التسوية. لذلك فلقد قلنا منذ بداية هذه الحرب أنها ما هي إلا "مسعى عسكري من أجل الحل السلمي"، لقد أعلنا ذلك في 9 أكتوبر 1973 بعد ثلاثة أيام من الحرب. ولقد حذرنا من النتائج والأهداف التي تهدف إليها البورجوازية، من هذه الحرب، وهي تحسين شروط استسلامها، وتمريرها في نفس الوقت على الجماهير الشعبية، واجهاض الحركة الوطنية الديمقراطية. ان البورجوازية قد قامت بهذه الحرب من أجل الخروج من مأزقها، وانضاج التسوية بأسرع ما يمكن على نارها المحرقة. لقد كان احتمال الاشتباك المسلح وارداً، كما أوضحنا ذلك بنص يعود إلى 1970، ولكنه لم يكن حتميا. ولا يمكن تصور أن البورجوازية قد تأخرت بها ست سنوات لأنها كانت تعدّ لها طيلة هذه السنوات،فلا معنى لأن يطلب الرفيق نايف تأخير الحرب لإعداد أقوى، وبالتالي يتوهم، إطالة أمد الحرب بنفس النسبة. إن الحرب قد قامت من أجل أهداف سياسية محددة تمليها مصالح الطبقة التي خاضت هذه الحرب. ان عبارة تحسين شروط التسوية، تستخدم من قبل "الحرية"، بمعنى احباط "الاستسلام الكامل"، أي "تعديل ميزان القوى"، لصالح العرب، مما يسمح للجبهة الديمقراطية الدخول "كطرف فاعل في التسوية، وليس على هامشها" من أجل انتزاع كاريكاتور دولة فلسطينية. إن التسوية التي كانت تسعى إليها البورجوازيات العربية، لا يمكن أن تتغير في جوهرها، عما كان مطرحاً قبل حرب أكتوبر، لذلك فإن هذه الحرب لم تكن قفزة خارج مسار الطبقة، فلم تكن واهمة وتستدرج إلى عكس مصالحها، ولم تكن هذه الحرب تعبيراً عن مسار جديد لهذه الطبقة عكس مسار الاستدراج والتنازلات. ان هذا التصور موجود، فقط في رأس البرجوازيين الصغار، الذين تمنعهم الأوهام المحشوة بها أدمغتهم عن رؤية الواقع شديد الوضوح.
إن هذه الحرب المحدودة بالتالي لا يمكن وصفها بذلك التعبير غير العلمي "حرب استسلامية"، كما لا يمكن الاعتماد على ذلك واستنتاج أنها حرب "وطنية محدودة". إن هذه الطبقة أصبحت مصالحها متناقضة مع المصالح التاريخية لمجموع الأمة. لقد خاضت البورجوازية هذه الحرب عند درجة محددة من الاقتراب الموضوعي بين البرجوازية والامبريالية الأمريكية منها بالذات، ومن الانتقال إلى مواقع الحلف الرجعي المقدس الذي يحمي ويحافظ على المصالح الامبريالية في المنطقة...الخ. كما سبق أن أوضحنا ذلك. إن وطنية الطبقة، ووطنية القيادة التي اتخذت قرار الحرب، متناقضة مع المسار الموضوعي للطبقة ومصالحها. إن حرباً تخوضها البرجوازية في مرحلة صعودها حيث تكتسب المواقع السياسية والاقتصادية من الامبريالية في سعيها من أجل أهدافها الرئيسية: السلطة والسوق، تختلف عن الحرب التي تخوضها الطبقة في مرحلة هبوطها، وبعد أن حققت أهدافها الرئيسية، وتدفعها تناقضاتها الخاصة وأزمتها، نحو الارتباط من جديد بالسوق الامبريالي كما سبق أن أوضحنا، تلك الحرب في هذه الظروف، لا يمكن القول أنها حرب وطنية أو حرب وطنية محدودة، مقاسة حسب عدد الكيلومترات التي يتقدمها جيش البرجوازية، أو بعدد الأيام التي يستمر فيها القتال حامي الوطيس.
إن الرفيق نايف حواتمة لا يجرؤ على ذكر موقع الامبريالية الأمريكية كطرف في هذه الحرب ويكتفي بذكر إسرائيل.
"من هنا ليست حرب اكتوبر حرباً استسلامية كما يصفها أصحاب الجمل اللفظية الثورية، ليست حرب التسليم لإسرائيل".
لعله لو أدرك أن الامبريالية الأمريكية هي الطرف الأساس الذي يسقط في فمها نتائج هزيمة يونيو سنة 1967، بكل متعرجاتها، وما فيها من صدامات واشتباكات مسلحة وحرب أكتوبر أيضاً... لكان قد أعلن هو أيضاً أنها "حرب استسلامية" لكنه كما هو واضح يضع المسألة كمجرد صراع عربي إسرائيلي، على عادة البرجوازية المصرية، التي كانت تريد تحييد الولايات المتحدة، وإقناعها بنفسها بديلاً لإسرائيل في حماية مصالحها في المنطقة. ولكن الواقع لا يخرج الامبريالية الأمريكية كطرف في الصراع، وأن الحرب قد شنتها البرجوازية عند درجة محددة من الاقتراب الموضوعي بينها وبين الامبريالية الأمريكية، بحيث ضمنت عدم تجاوزات رد فعل الامبريالية، أو إساءة فهمها لأهداف البرجوازية من الحرب، حيث لا تخرج عن كونها "مسعى عسكري من أجل الحل السلمي". فالحرب في ضوء كل ذلك "ليست حرباً استسلامية" وليست "مسرحية".
إن هذه الحرب التي عملت الامبريالية الأمريكية على وضعها في إطار محدود وضرورة رد الاعتبار لعصاتها الغليظة وقد تم لها ذلك عسكرياً. ولكن النتائج الإيجابية للحرب بالنسبة للبرجوازية (فيما يختص بالأرض)، هي أنها قد ضمنت الإسراع في الملاءمة المطلوبة بين إسرائيل والعرب حول الأرض وبعض المسائل الأخرى ، مع عدم التطلع إلى المساس بالشروط العسكرية التي تضعها تحت التهديد العسكري الامبريالي، كما أن النتائج الإيجابية للحرب قد مكنت البرجوازية من تمرير التسوية على الجماهير الشعبية، ووضعت شروطاً موضوعية لإجهاض الحركة الشعبية سرعان ما تكتشف الجماهير زيفها. إن محاولة تصنيف الواقع بثنائية الخيانة والوطنية، الاستسلام الكامل أو عدمه، الاستدراج والتنازلات أم الكف عنها والقتال، العدم والوجود. إن هذه الصيغ ليست من الواقع بشيء، إنها فقط تموه حقيقة الواقع .
إن المطالبة بالحرب الشعبية لا يعني وضع هذا الشعار موضع التنفيذ من قبل الأنظمة، إن وضع هذا الشعار موضع التنفيذ مرهون بتغير نسبة القوى الطبقية التي ستتصدى للحرب، وتعزل خط البرجوازيات الاستسلامي في حل المسألة الوطنية. إن المطالبة بهذا الشعار الدعائي، لا يمكن أن يكون مقروناً بوهم أن البرجوازيات الحاكمة ستسمح به، كما لا يمكن وضع شعاراتنا التي نطالب بها، ونلف الجماهير حولها، على مقاس طاقة الطبقة السائدة !! إن الانتهازية الكاملة (بدلاً من القول بالسذاجة الكاملة)، هي أن نطالب البورجوازية بصمت المدافع، من أجل إعداد أطول لأن ذلك يمرر أوهام ان الحرب متوقفة على الاعداد، لا على السياسات التي تقف ورائها المصالح الطبقية. كما أن مطالبة البورجوازية بفتح المدافع اليوم لا غداً هو صراخ لن تسمعه البرجوازية، بل ويمرر أوهام الاعتماد على البرجوازيات الحاكمة وليس على الجماهير الشعبية. إن طليعة الجماهير ليست وظيفتها أن تشير على البرجوازية عن أيهما أصح من الناحية الفنية، بل عليها أن تشهر دوماً بصمت المدافع، وبدعوة الجماهير للنضال من أجل انتزاع حقها الديموقراطي الثوري في حمل السلاح من أجل فرض منطق آخر وخط آخر في حل المسألة الوطنية، هو نقيض منطق وخط البرجوازية في حل هذه المسألة، المطالبة يومياً بالحرب الشعبية واجب ضروري، كمهمة يجب أن تنهض بها الجماهير وتناضل من أجل أن تنهض بها.
يقول الرفيق نايف "لا نطالبها كما قلت بحرب تحرير شعبية فالذي يطالب بحرب تحرير شعبية فعلاً هو كمن يريد أن يستخرج زبدة من الماء، ويدلل على سذاجة فكرية كاملة".
إن الموقف من هذه الحرب لا يختصر إلى الحد الذي يجعلنا فقط ننخرط في هذه الحرب وتطويرها إلى حرب "تحرير وطنية" لعلّ الرفيق نايف كما يفهم من عباراته المقتضبة أنه يطالب باستمرار الحرب أيام أخرى، لاكتساب أرض أوسع، دون أن يطالب بتغيير الطابع الطبقي للحرب إلى حرب تحرير شعبية، ولكي لا يقع كما يعتقد في محاولة إخراج الزبدة من الماء. إن الاعتقاد بتطوير الأشياء، وبإمكانية تحول الواقع: يجعلنا نرى أن تغيير الواقع إلى واقع جديد، لا يأتي عن طريق استجلاب الواقع القديم، والاكتفاء بإخراج الماء من الماء !!
لقد حذرنا في 9 أكتوبر في مقال "فلننهض بمهامنا بثبات من أجل حرب تحرير شعبية" من الانحراف اليميني الذي يريد أن يلتحق بذيل البرجوازية، ومن الانحراف اليساري "الانهزامية القومية" الذي يرى أن الحرب لا تعنيه في شيء وينتظر من بعيد هزيمة البرجوازية، تحت شعار عدو واضح خير من عدو مستتر. إن الانحراف الأول سيضيف من قوته كما جديداً لجيش البورجوازية، ويؤدي من الناحية الموضوعية إلى خدمة سياستها التي تسعى إلى الحل السلمي والتي خاضت الحرب في إطارها وتضع فيه تضحيات الآلاف من جنود وضباط بلادنا. هذا في نفس الوقت الذي نسعى فيه بثبات من أجل الانخراط في هذه الحرب في تشكيلاتنا المستقلة، والتي نحاول انتزاعها بثبات في هذه الفترة، كما أن الانحراف الثاني حالة الهزيمة. ان كلا الانحرافين يتركان مقدرات البلاد لمصير الصراع العسكري بين البرجوازية والامبريالية. ان الانخراط في هذه الحرب لا يعني سوى العمل على إخراجها من سياق المسعى العسكري للحل السلمي الذي تضعها فيه البرجوازية. والنضال من أجل فرض تحويلها إلى حرب تحرير شعبية عن طريق قوة الجماهير.
ومن هنا فإن تفادي "السذاجة الفكرية"، في إخراج الماء من الماء وليس الزبدة، هو الذي يسلم سياق الحرب إلى الطبقات السائدة، عملاً بحكمة "السياسة من الممكنات". وهذا هو الذي يجعل كتاب الحرية حائرون من قرار السادات بوقف الحرب، بالرغم من اعتقادهم بتفوق الجيش المصري وإمكانية إحراز انتصار أكبر، لعلّ السادات يقدم شيئاً من كرمه الفلاحي المصري، لمفاوضيه على مائدة جينيف بعد أسابيع قليلة من قراره !!
يقول تقرير اللجنة المركزية لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان. "لقد أرست حرب تشرين أسس توازن جديد، هو الأول من نوعه منذ هزيمة حزيران 1967، بين القوة العسكرية الإسرائيلية من ناحية والقوة العسكرية العربية من ناحية ثانية، ولا بد من القول هنا أن طبيعة الخطوط التي توقف عندها القتال لم تعكس ذلك التوازن العسكري على حقيقته تماماً. فلقد كان واضحاً أن الطاقة الفعلية للجيوش العربية التي شاركت في القتال تسمح بإحراز نتائج مختلفة. ولو أن الجيش المصري أكمل تقدمه في سيناء خلال الأيام الأولى للحرب بينما القوات المقاتلة على الجبهة السورية متوغلة بعيداً داخل أراضي الجولان، فإن إسرائيل كانت ستواجه ضغطاً عسكرياً عنيفاً يمكن أن يفرض عليها خطوطاً مختلفة لوقف إطلاق النار على الأقل. لكن القرار السياسي الأصلي للقيادة المصرية الحاكمة لم يكن يطمح إلى ما هو اكثر من عملية عسكرية خاطفة... ثم يتوقف القتال لتدوير الاتصالات السياسية من أجل تسوية سلمية".
لعل تقرير منظمة العمل الشيوعي لم يناقش العلاقة بين القرار "الأصلي" وبين سياسة الطبقة ومصالحها.... هل هناك وهم أن القيادة التي أعدت العدة للحرب لو كانت تعلم مقدماً بنتئاج الحرب كانت قد غيرت القرار الأصلي. أو أن عدم تغيير القرار الأصلي راجع لعدم مرونة البيروقراطية ؟ أو إلى عدم التذبذب.... والتزام جانب الأمانة مع "القرار الأصلي" !! هل هناك من يعتقد أن أحداً يشن حربا ما: لتحقيق هدف محدد تمليه عليه سياسته لا يتوقع لحربه النجاح ويتوقع لنفسه الهزيمة منذ البداية ؟ هل هناك من يعتقد أن أحداً إذا توقع الهزيمة فعليه أن يغير من أهدافه أي من سياسته... وإذا توقع نصراً أكبر حجماً مما كان يتصور فعليه بالتالي أن يغير من سياسته... هل الحرب تقود السياسة أم العكس. نعود فنكرر قول كلازوفينز "أن الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى" "عنيفة". لا يعني ذلك القول أن الحرب تقاس نتائجها بالسنتيمتر مع بعد الهدف السياسي المحدد لها مسبقاً. إن نتائج الحرب الأكبر من المتوقع تفتح آفاقاً أكبر للسياسة التي استهدفتها. ولكنها لا تغير من هذه السياسة إلى سياسة أخرى. ناهيك عن إدعاء تقرير منظمة العمل بأن "طبيعة الخطوط التي توقف عندها القتال لم تكن تعكس ذلك التوازن العسكري على حقيقته تماماً" مخالف لواقع الحال، وللقوة الفعلية للجيش المصري الذي واجه ظروفاً شديدة الصعوبة. لقد عملت الامبريالية على رد اعتبار عصاتها الغليظة إسرائيل، بضربة مضادة إسرائيلية قوية. لقد توقف القتال نتيجة للضغوط والتوازنات بين الأطراف الداخلية في الصراع ومجمل الأوضاع العالمية...الخ. ولكن الأساس في المسألة أن الامبريالية كانت تمنّت جداً الاقتراب الموضوعي الذي تم إنجازه طيلة الست سنوات السابقة على الحرب. وأن الوضع على ما هو عليه سيمكنها من الملاءمة المناسبة بين العرب وإسرائيل على المسائل التي تشكل خلافاً بينهما، وفيما لا يؤثر على مصالحها الامبريالية. لقد كان استمرار المعارك يشكل تهديداً باشتعال حريق ثوري هائل، لا يهدد فقط مصالح البرجوازيات الحاكمة واستقرارها كطبقات حاكمة وإنما يهدد أيضاً المصالح الامبريالية في المنطقة بأسرها، ومن ثم النظم العربية العميلة. كان على الحرية ألا تضع الصراع في دائرة العرب وإسرائيل فقط كما تحاول البرجوازيات العربية أن تفعل. ولو فعلت ذلك لما استطاعت الحديث عن توازن جديد في القوى لأول مرة منذ هزيمة يونيو سنة 1967. ولما كان عليها أن تقول في تقرير منظمة العمل الشيوعي بلبنان:
"تتبدى أهمية هذه الحقيقة العسكرية الرئيسية التي بلورتها حرب تشرين على صعيدين الأول: كونها ترمز إلى انتقال إمكانات المواجهة العسكرية العربية لإسرائيل حتى المدى المباشر والقريب من حالة الخامس من حزيران إلى حالة مختلفة يحكمها توازن قوى جديد.
الثاني : قابليتها لأن توظف مباشرة في ميدان الصراع السياسي مع إسرائيل لصالح مواقف التصلب والصمود الوطني ضمن الواقع العربي".
هكذا لقد انتقلت الحقيقة العسكرية، الأنظمة البرجوازية العربية من الإستدراج والتنازلات الوطنية إلى موقف التصلب والصمود الوطني !




رابعاً : حول استراتيجية وتكتيك
الكفاح الوطني الفلسطيني

مقدمة :
تكتسب ضرورة بلورة الاستراتيجية والتاكتيك المرحلي الفلسطيني، بصورة صحيحة، أهمية حاسمة، لكي يتخطى هذا الكفاح أطوار التلقائية، التي تؤدي به إلى التأرجحات الشديدة عند كل منعطف تأخذه حركة الواقع. وضمن هذا الإطار الصحيح تتمكن الثورة من بلورة الشعارات اليومية والإجرائية للنضال الوطني الفلسطيني السياسي والاقتصادي المقرون بالكفاح المسلح .
إن أشكال وطرق الكفاح لا تتحدد من خلال الاستراتيجية فقط، ولا من الشروط الواقعية فقط، كما أنها لا تتحدد مع ذلك عن طريق الجمع الميكانيكي بين الاثنين. فالاستراتيجية نفسها لا تتحدد خارج المسار الموضوعي للواقع، انسجاماً مع أحلام وأوهام أيديولوجية لبعض المثقفين. بل أن الاستراتيجية تتحدد من خلال تحليل المسار العام الموضوعي للواقع، حتى المستقبل البعيد... في تحديداته العامة والأساسية بالطبع. ومن هنا فإن أشكال وطرق الكفاح التي تنتقل بالواقع من شروطه المحددة في زمان ومكان معينين، إلى المرحلة التي تتحقق فيها الأهداف الاستراتيجية. ومن هنا فلن يظهر تعارضاً بين أهداف النضال الاستراتيجية وبين شروط الواقع الآنية، إلا عند البرجوازيين الصغار سواء الذين يحددون أهدافهم الاستراتيجية انسجاماً مع أحلام وردية عن المستقبل، أو الذين يحددون أهدافهم من خلال رؤية الواقع في أحد لحظاته فقط، وبصورة ستاتيكية، ومن ثم يقومون بالدعوة إلى الانسجام مع الواقع، ويقومون بتأجيل الهدف الاستراتيجي إلى أجل غير مسمى. ان الاستراتيجية المحددة على النحو الصحيح أي المبنية على تحليل المسار الموضوعي للواقع ستمكننا من تحديد أشكال وطرق الكفاح دون خلق أي تعارض مع الشروط الموضوعية للواقع، الذي يتوجب علينا السير بها وتوجيهها نحو تحقيق الأهداف الاستراتيجية. ان الانتهازيين اليساريين الذين يتمسكون باستراتيجية قاموا باستخلاصها من مجرد الأحلام، سيحددون حتماً أشكال وطرق كفاحهم دون النظر إلى الواقع الموضوعي، الذي ينبغي عليهم تغييره، ومن ثم تكون قافزة عليه، مما يؤدي بهم إلى العزلة مبتعدين عن الواقع ومحافظين على نقاء أهدافهم. أما الانتهازيون اليمنيون الذي يستخلصون أهدافهم من خلال الرؤية الكونية للواقع، سيحددون حتماً أشكال وطرق كفاحهم دون النظر إلى إمكانيات تغير الواقع، ومن ثم ستكون منسجمة مع الواقع ولا تسعى إلى تغييره. فأهدافهم الراهنة المحددة على هذا النحو، ستحد من تحديد استراتيجية صحيحة، فاستراتيجيتهم ستكون استراتيجية طوباوية وتظل مجرّد لحظة بعيدة، لا يجب أن تتحكم في عملهم الراهن. ان كلا النزعتين بالطبع تقومان بتأييد الواقع وعدم القدرة على تغييره.
ومن هنا سنتصدى لانحرافات "الحرية" اليمنية في محاولتها وضع تاكتيكات مرحلية للنضال الوطني الفلسطيني. وهذه الانحرافات لا يمكن النضال ضدها. بتوضيح مدى تعارضها مع الأهداف الاستراتيجية للنضال الوطني الفلسطيني والشعوب العربية فقط ، ولكن من الضروري السير إلى أبعد من ذلك، وتوضيح الجذور اليمينية التي تؤدي بها إلى هذه المواقف الانتهازية كما حاولنا أن نفعل، حينما قمنا بالتصدي لتحليلات الحرية للتطورات التاريخية التي حدثت بعد حرب 1967، وتحليلاتها للحظة الراهنة التي تقود إلى الانتكاسة الوطنية. إننا بذلك سنتمكن من إرشاد العمل الثوري، بدلاً من الاحتفاظ بنقائه وطهره بعيداً.

1- الإطار العام الإستراتيجي للكفاح الوطني الفلسطيني كما تضعه الحرية :
إن "الحرية" تضع إطاراً استراتيجياً للكفاح الوطني الفلسطيني، ضمن تصور ميكانيكي لانتقال الوضع الراهن، إلى وضع جاهز للنهوض الشعبي المسلح، للشعوب العربية وللشعب الفلسطيني، في نضالاتهم الوطنية ضد الامبرالية وإسرائيل فالحرية تعتقد أنها يجب أن تنتقل عن طريق الحروب "الوطنية المحدودة" إلى مرحلة الحرب الشعبية الطويلة الأمد، اعتماداً على التصنيف السطحي البسيط، للشروط الطبقية للحروب الشعبية الطويلة الأمد. وهي إذ تفعل ذلك تسير في ذيل البرجوازيات العربية، وتخلط بين استراتيجيات الكفاح الوطني الفلسطيني، وبين الخط الاستسلامي للبورجوازيات العربية في حل المسألة الوطنية. وتصل في النهاية إلى حد اعتبار الشعار الديماغوجي "إزالة آثار العدوان" شعاراً لمرحلة من مراحل النضال الوطني. لا اختلاف عليها. ولكن الاختلاف فقط على الوسائل.
يقول تقرير منظمة العمل الشيوعي بلبنان عن الحقائق التي توصلت إليها أخيراً المنظمة بفضل معجزات حرب "العاشر من رمضان" ! :

الحقيقة الأولى :
" إن لحرب التحرير الشعبية الفلسطينية- العربية الطويلة الأمد شروطاً لا يجدي رنين الهتاف بالشعارات مهما علت نبرته في القفز عليها، أو في التحرر من مسؤولية بنائها على أرض الواقع وليس في الحناجر. شروط حرب التحرير الشعبية هي شروط طبقية أولاً وأخيراً. فبناء أنظمة وطنية ديمقراطية شعبية متقدمة بقيادة عمالية، على المدى المحيط بفلسطين المحتلة، يوفر الأساس السياسي المادي الفعلي لمواجهة قتالية شاملة ومتصلة مع الكيان الصهيوني. وهو أمر يطرح أولاً وفي الأساس مسألة النضال من أجل تغيير السلطة في أكثر من قطر عربي. أما الأنظمة العربية القائمة الآن وبقيادتها البورجوازية الراهنة فلا تستطيع أن تخوض –على قاعدة تناقضها مع إسرائيل– إلا حروباً ومواجهة عسكرية محدودة كان ما جرى في تشرين أحد نماذجها. وكلما استطاعت الحركة الجماهيرية في صراعها مع الطبقات الحاكمة تعديل ميزان القوى لصالحها وانتزاع المزيد من الحقوق والحريات الديمقراطية والوطنية، كلما تعاظمت قدرتها على توسيع المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الأنظمة في حروبها ومواجهاتها العسكرية المحدودة لإسرائيل، وكلما حققت بالتالي مزيداً من التقدم عن طريق الوصول الى حسم مسألتي السلطة وانتهاج طريق حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد معاً".
من الصحيح أن شروط حرب التحرير الشعبية هي شروط طبقية أولاً وأخيراً. أن التأكيد على هذه البديهية أمر واجب وضروري. ومن الصحيح أيضاً أن ذلك يتطلب النضال من أجل تغيير السطة في أكثر من بلد عربي. وأن النضالات الديمقراطية للجماهير الشعبية هي التي تمكن الجماهير من ذلك. ان ذلك لا غبار عليه. ولكن معارضة ما يجب أن يكون بما هو كائن لا يقدم أية إجابة على سؤال ما العمل ؟. إن الإجابة على سؤال ما العمل تتطلب تحليلاً طبقياً دقيقاً للواقع حتى نستطيع تغييره من أجل توفير الشروط الطبقية لشن حرب التحرير الشعبية. ولكن "الحرية" لا تتقدم قيد أنملة في تحليل المسار الموضوعي لتطور البورجوازيات العربية، وفي علاقتها بالامبريالية. ولكونها لا تضع النضال الوطني للشعوب العربية والشعب الفلسطيني في إطاره الصحيح، وتضعه في إطار "عربي- إسرائيلي" فقط، ولكنها تعوّل على تناقضات البرجوازيات العربية مع إسرائيل، دون أن تضع هذا التناقض ضمن إطار تناقض هذه البرجوازيات مع الامبريالية، والتي تتجه لحله [نظراً لتناقضها الرئيس مع الجماهير الشعبية، وميلها الموضوعي تجاه السوق الامبريالي عند تلك الدرجة التي وصلت إليها في نموها بعد أن أنجزت أهدافها الرئيسة في الاستيلاء على السلطة والسوق] لصالحها فقط وفي إطار التبعية الامبريالية، مما يجعلها تتوافق مع الوجود الإسرائيلي نفسه، أو تتلاءم مع هذا الوجود. لذلك "فالحرية" تعتقد أن البرجوازيات ستستجيب لنضالات الجماهير الديمقراطية، بحروب محدودة، تتسع كلما اتسعت نضالات هذه الجماهير. أي أن "الحرية" تشير على الجماهير الشعبية بعدم تبني شعار حرب التحرير الشعبية، وعليها أن تتبنى شعار توسيع مدى الحروب الوطنية المحدودة. فالجماهير تقوم بالدفعة الأولى والبورجوازية تتلقى تأثير هذه الدفعة، وتتحرك نحو قتال العدو، بمدى يتفق مع مقاس هذه الدفعة. الجماهير إذا تمسكت بشعار الحرب الشعبية سيكون من قبيل السذاجة الفكرية، وإخراج الزبدة من الماء. ويجب عليها أن تكف عن هذه السذاجة، وعليها أن تطالب فقط بمزيد من الماء. أي أن تطالب فقط بتوسيع "الحرب المحدودة"، على الجماهير أن ترفع شعارات على "مقاس" الأنظمة "الوطنية"، لكي تقوم الأنظمة بحروب محدودة على "مقاس" الضغط الجماهيري.
كان على "الحرية" أن تعلم أن البرجوازيات التي لا يمكن أن تتخلى عن عدائها للجماهير الشعبية نظراً لأن تناقضها مع الجماهير تناقض رئيسي. أما تناقضها مع الامبريالية فهي تحله الآن في إطار التبعية الامبريالية حفاظاً على مصالحها هي. وهي فقط لن تسمح بالحركة الديمقراطية للجماهير الشعبية راضية، بل هي أيضاً لن تتلقى ضغوط هذه الجماهير وتترجمها إلى حروب محدودة مع العدو، وبدلاً من ذلك ستسعى إلى إجهاض الحركة الديمقراطية لهذه الجماهير. كان على "الحرية" أن تعي أن طريقة حل البرجوازيات لتناقضها مع الامبريالية الآن تؤدي إلى انتكاس بالقضية الوطنية، وأن الجماهير لن تركب جواد البرجوازيات حتى تصل به إلى أقرب نقطة من أهدافها الاستراتيجية، وأن توهم أحد ذلك لن يفعل سوى أن يقدم الجماهير كمطية للبرجوازيات، وأن الجماهير لكي تناضل حقاً ضد الامبريالية يجب عليها أن تناضل أيضاً ضد البرجوازيات، من أجل عزل خطها ومنطقها في حل المسألة الوطنية، وليس الانجرار في أذيال البرجوازيات العربية.
إن توفير الأساس "المادي" الطبقي لشعار الحرب الشعبية، لن يتم عن طريق الدعاية إلى "نقيضه": شعار "توسيع الحروب المحدودة، بل إن شعار الحرب الشعبية الذي تطرحه الجماهير تطرحه لتطبقه هي، وليس بغرض إقناع الأنظمة بتطبيقه، أو توريطها بتطبيقه إبّان أحد حروبها المحدودة"... ان هذا الشعار الدعائي لن يتحقق فجأة وفور انتزاع السلطة، بل انه سيأخذ أشكالاً بدائية، أولية أولاً، ليس بغرض التمرين أو التجربة، بل عن طريق النسبة المحددة التي تبلغها النضالات الطبقية للجماهير الشعبية. إن توسيع هذه النضالات لن يؤدي إلى توسيع الحروب المحددة، بل إلى عزل منطق الحروب المحدودة هذا، وتنفيذ درجات من حروب التحرير الشعبية. إن النضالات الديمقراطية لن تكون محض نضالات طبقية داخلية، بل لا بد أن تأخذ على عاتقها منذ البداية مهام النضال الوطني. إن قيامهات بهذه المهام الوطنية ولو بدرجات دنيا سيعاظم من قوتها تجاه البرجوازية وسيعمق من النضالات الطبقية، مما ينعكس على مسألة السلطة وفرض المنطق الشعبي في النضال الوطني ضد الامبريالية في آن واحد. وهكذا فإن حسم هاتين المسألتين لن يتأتى بتبني الخط البرجوازي من الناحية العملية في حل المسألة الوطنية بل عن طريق عزل هذا الخط والسعي إلى التفاف الجماهير وراء الخط البروليتاري كنقيض لخط البورجوازية، والعمل على وضعه موضع التنفيذ ولو بأشكال دنيا تتناسب مع التغير في نسبة القوى الطبقية. فالذهنية البرجوازية الصغيرة بعد أن تعزل النضال الطبقي من الناحية العملية، تضع النضال الوطني من شأن الأنظمة التي لا يجب القفز على حدود طاقاتها. إن مساعيها لتعميق النضالات الطبقية، عن طريق وضع شعارات وطنية على "مقاس" الأنظمة، لن يؤدي إلا إلى المزيد من هيمنة البرجوازية وسحق النضالات الطبقية للجماهير الشعبية.
وتحدد "الحرية" علاقة النضال الوطني الفلسطيني بالأوضاع الطبقية في البلدان العربية، بالاستفادة بالتوسيعات الجارية في أفق الحرب المحدودة، بانتظار التحول الكيفي في السلطة في عدد من البلدان العربية المحيطة بفلسطين من أجل استئناف حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد. وهنا تأتي الحرب الشعبية جاهزة للشعب الفلسطيني. أما في الوضع الراهن فعلى المقاومة أن تسير في ذيل الأنظمة، لكي تأخذ الممكن من طاقة هذه البرجوازية: فعليها ألا تتلمظ الآن على "الزبدة" وعليها أن تكتفي بالماء.
تقول "الحرية" عن الحقيقة الثانية التي تكشفت عنها حرب "العاشر من رمضان":
"ان لعلاقة حركة المقاومة الفلسطينية بالوضع العربي منطقاً ينبغي تعيينه بمزيد من الدقة والوضوح. لقد استعاد الشعب الفلسطيني دوره الوطني الخاص والمباشر في تحويل الصراع العربي الصهيوني، كما استطاع – عبر المقاومة- زيادة ثقل القضية الفلسطينية على مجرى الصراع السياسي الاجتماعي الداخلي في كل بلد عربي لكن توازن القوى السياسي ضمن كل قطر هو الذي يرسم لتأثيرات الثورة الفلسطينية على مسار تطوره الداخلي حدودها ونتائجها في النهاية".
"هكذا أتت الوقائع تثبت خطأ التصورات التي أعتبرت الكفاح الفلسطيني بؤرة سوف تنشر... حرب التحرير الشعبية على امتداد المنطقة من فوق كل الحواجز والأوضاع السياسية الطبقية الفعلية".
"ولم توضح وقائع السنوات الخمس (الست) السابقة على حرب تشرين حدود تأثيرات الثورة الفلسيطينية على الوضع العربي فحسب، بل هي اوضحت أيضاً حدود الثورة الفلسطينية ذاتها ضمن هذا الوضع العربي.... لقد كان (على الثورة الفلسطينية) أن تتلقى بالمقابل تأثيرات الوضع العربي".
"هكذا بدأ يتضح – حتى قبل حرب تشرين – أن إفلات حركة المقاومة ولو نسبياً من أسار "القمع" الذي يكبلها به الوضع العربي، بات مرهوناً بقدرتها على انتزاع قاعدة وطنية مستقلة يمكن أن تشكل إطار حماية لحقوق الشعب الفلسطيني وحرياته الوطنية والديمقراطية ومنطلقاً لتطوير كفاحه المسلح والسياسي ضد العدو الصهيوني وزيادة وزنه ضمن الوضع العربي".
وعن الحقيقة الثالثة تتحدث "الحرية" :
"وإذا كان صحيحاً إن تحرير فلسطين بكاملها من الاستعمار الاستيطاني الصهوني وإقامة الدولة الديمقراطية عليها هو الحل الحاسم للتناقض الرئيس بين الشعوب العربية وإسرائيل، وإذ كان صحيحاً أن حرب التحرير الشعبية الفلسطينية العربية الطويلة الأمد هي الوسيلة الرئيسية لفرض هذا الحل في النهاية".
"فليس صحيحاً ... أن المواجهة العريبة الإسرائيلية يمكن أن يحكمها في جميع أطوارها قانون مبسط: إما تحرير فلسطين بكاملها أو لا شيء، أما حرب تحرير شعبية ... أو عجز مطلق عن أية مواجهة عسكرية سياسية مجدية يمكن أن تفرض على إسرائيل تنازلات ضمن حدود وتكبح قدرتها على التوسع، أيضاً ضمن حدود".
إن المنطق الذي تحدده "الحرية" بدقة الذي يوضح علاقة الثورة الفلسطينية، بالوضع الداخلي للبلاد العربية، والذي تعتبره من الحقائق التي كشفت عنها معجزات حرب "العاشر من رمضان": هذا المنطق يحدد علاقة الخارجي بالداخلي... هل هناك أحد ما يزال يخاف من سطوة "الأيديولوجيا القومية" ولا يجرؤ عن الحديث عن تلك العلاقة بهذا المنطق ... حتى لا تصب عليه لعناتها لقيامه بتجزئة الأمة.. بالطبع أن هذه الأيديولوجيا هي التي تخفي على أصحابها هذه الحقيقة البسيطة. ولكن عند اكتشافها فجأة في ظل معجزات أكتوبر يظل المنطق الانتهازي اليميني ذو العلاقة الجوهرية بهذه الأيديولوجيا يفعل فعله بأصحابها، فلا يخرجهم من قلب حركة البرجوازيات العربية التي تستتر بالدعوة القومية، إلا ليضعهم في أذيال حركة البرجوازيات... ليستمروا في دعم مصالحها حتى ولو عند انتقال هذه البرجوازيات إلى الحظيرة الامبريالية وتخليها عن الدعوة القومية، إلا بقدر ما تخدم دورها الجديد في الحلف المقدس الرجعي، وبقدر ما تفيد في قمع حركة الجماهير الشعبية التقدمية... ان "الحرية" ببساطة تريد أن تصنع للشعب الفلسطيني كيانه الخاص، حتى يمكن أن يكون له عوامله الداخلية التي تحميه من "أسار" القمع الذي يكبلها به الوضع العربي" (=الخارجي). هذا صحيح ومبرر... ولكن كيف ؟ ... هل بتمريره من تحت أرجل الأنظمة والامبريالية وإسرائيل ؟ .... ولو تحت حماية النفوذ الامبريالي، أو داخل حظيرة هذا النفوذ؟! ان إجابة "الحرية" تؤدي إلى هذه النتيجة بالضبط ...
إن الشعب الفلسطيني لم يحرم من انتزاع حق تقرير المصير فحسب، بل أنه قد طمست ابتداء من عام 1948 شخصيته الوطنية نفسها، على أيدي الحكومات الرجعية وقتها... مما باعد الشقة بينه وبين انتزاع حق تقرير مصيره وتحرير أرضه المغتصبة. فلقد كان إلحاق ما تبقى من فلسطين بالنظام الهاشمي وإشراف النظام الملكي المصري الإداري على غزة، وتحويل جزء كبير من الشعب الفلسطيني إلى لاجئين في البلاد العربية الأخرى... هو الوجه الآخر لطمس الشخصية الفلسطينية الوطنية، والذي تم جزء منه باغتصاب إسرائيل جزءاً من أراض فلسطين. لقد كانت الأشكال المتعددة الرجعية والإسرائيلية الامبريالية لطمس شخصية الشعب الفلسطيني الوطنية، هي النتاج الموضوعي للهجمة الامبريالية على البلاد العربية في مجموعها، بالالتقاء مع الأوضاع الطبقية السائدة في المنطقة، والتي أدت إلى وضع وتدعيم ذلك الكيان الامبريالي المتقدم في قلب المنطقة، وهيأتها لشكل جديد من النفوذ الامبريالي بواسطة العصا الغليظة: إسرائيل ... يعمل على إجهاض الزخم الشعبي المعادي للامبريالية. ولقد ساعدت الدعوة القومية اليمينية وأوهامها الأيديولوجية على استمرار طمس الشخصية الوطنية الفلسطينية. فلقد كان نتيجتها أن وضعت البرجوازيات العربية نفسها بديلاً للشعب الفلسطيني، حيث تصورت أن من يظفر بتحرير فلسطين، سيظفر ببلاد العرب كلها. ولقد انجر الشعب الفلسطيني أكثر من غيره من الشعوب العربية [ضمن الإنجرار التلقائي الذي ترافق مع بروز تلك الدعوة القومية إبان صعود البرجوازيات] وراء البرجوازيات العربية، متوهماً أنها ستعيد له أرضه المغتصبة. ولكن أي حركة مستقلة للشعب الفلسطيني كانت تعني إخراج القضية كلها من يدها، وتفويت الفرصة الذهبية على حلمها الكبير، وقد كانت البرجوازيات في حالة حدوث ذلك ستوجه الضربات القوية مثل تلك التي وجهتها إلى جماهير شعوبها. لقد كانت البرجوازية المصرية بالذات (ذات اليد الطولى في الدعوة القومية) تمنع بالعنف أي محاولات لاستخدام الأراضي المصرية أو "قطاع" غزة لأي عمل فدائي ضد إسرائيل، بدعوى عدم الإنجرار إلى معركة مع العدو في توقيت لا تقوم هي وحدها بتحديده.
وقد كانت النتائج الموضوعية التي تحققت، خلافاً لكل التصورات والأوهام هي سيطرة البرجوازيات على السوق والسلطة. بدأ يتبلور بعد إنجازها تلك المهام، ميلها الموضوعي نحو السوق الامبريالي. ولقد شكل تصفية الحركة الديمقراطية للجماهير الشعبية العربية والشعب الفلسطيني على أيدي البورجوازيات العربية، انسجاماً مع مصالحها (والتي كانت تدفعها في نفس الوقت إلى مناصبة الامبريالية العداء)، أزمة هذه البرجوازيات في مواجهة هجمات الامبريالية عليها. وكانت النتيجة الحتمية في إطار هذه الأزمة التي تقودها إليها مصالحها الأنانية الضيقة الأفق، هو الهزيمة أمام الهجمة الامبريالية في يونيو 1967. ولقد كانت النتيجة هي احتلال إسرائيل باقي الأراضي الفلسطينية ولكنها لم تتمكن هذه المرة من إجلاء شعبها. ولقد سمحت البرجوازيات العربية بتوسيع نطاق المقاومة الفلسطينية المسلحة، والتي كانت قد بدأت بصورة بطيئة من عام 1965، لقد سمحت بذلك، لكونه قد اكتسب طابع النضال ضد إسرائيل فقط. مما يعطي لها الفرصة في استخدامه كورقة ضغط من أجل التسوية السلمية. ولكن حينما هدد ذلك النضال بالتجاوز عن ذلك وإخراج المسألة من إطار التسوية السلمية، تواطأت البورجوازيات العربية مع النظام الهاشمي العميل في توجيه ضربة قاصمة للمقاومة عام 1970. لقد كان النضال الوطني الفلسطيني يتطلب قطع الصلة بشكل نهائي مع خط البرجوازيات الاستسلامي في حل المسألة الوطنية. ولكن الإطار الذي وضع فيه الصراع قبل إنجاز التسوية، قد أخّر هذه القطيعة... ولكن التسوية التي يتشكل إطارها النهائي بعد حروب أكتوبر، وضعت النضال الفلسطيني عند منعطف كبير، فإما أن يقطع الصلة نهائياً بخط البورجوازيات الاستسلامي ويناضل من أجل عزل تأثيره داخل صفوف الشعب الفلسطيني وصفوف الثورة الفلسطينية، ووضع ذلك في الاعتبار كشروط موضوعية أساسية تؤثر تأثيراً واضحاً على أشكال النضال الوطني السياسي والاقتصادي المقرون بالكفاح المسلح، مع تطوير الأداة القيادية لقيادة النضال باعتمادها على العمل السري حتى تتمكن من قيادة كافة أشكال كفاحاتها العلنية. ان هذا سيمكن الثورة من السير قدماً إلى الأمام، وإما الاستمرار في السير وراء خط البرجوازيات العربية الاستسلامي، واعتباره مرحلة من مراحل النضال، مما سيؤدي إلى الحاق الخسائر الفادحة بالآلاف من المناضلين الشرفاء.. وضع النضال الفلسطيني الوطني تحت السيطرة الامبريالية التي تأخذ إطارها الشرعي الآن عن طريق التسوية السلمية، والتي أصبح من السهل تمريرها عن طريق حرب أكتوبر.
وبدلاً من العمل على تصعيد النضال الوطني الفلسطيني ضد إسرائيل في الأرض المحتلة عام 48،
وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، مما سيضع العراقيل القوية ضد الحاق هذه الأراضي مرة أخرى بالنظام الهاشمي. وذلك بالضبط بقدر ما توضع العراقيل أمام التسوية. أو سيقطع الطريق على ذلك بقدر ما يقطع الطريق على التسوية التي تسعى إليه البرجوازيات. مما يمكن الشعب الفلسطيني من التقدم خطوات أبعد في سيره نحو السلطة الوطنية وإقامة الدولة الديمقراطية على كافة ترابه الوطني. يُطرح الانخراط في التسوية من أجل كاريكاتور دولة فلسطينية في النهاية. مما يساعد على تمرير الحل السلمي على جماهير الشعب الفلسطيني تمهيداً لتصفية المقاومة الفلسطينية والنضال الوطني الفلسطيني: ذلك النضال الذي لن يتمكن من إقامة سلطته الوطنية ولو على جزء من أرضه إلا خارج إطار الستوية السلمية، إلا بالنضال ضدها. بدلاً من التصدي للمهام الوطنية للشعب الفلسطيني ضد الامبريالية والصهيونية، والذي يتطلب في نفس الوقت نضالاً ضد البرجوازيات العربية وعزل خطوطها الاستسلامية، تقوم "الحرية" بمهمة تمرير الحل السلمي على جماهير الشعب الفلسطيني، تحت شعار ما تسميه الاستفادة بمنجزات حرب أكتوبر المحدودة (والغنية بأوهام التحرير...!!) التي خاضتها البرجوازيات العربية، تلك البرجوازيات التي طمست الشخصية الوطنية الفلسطينية المستقلة، إبَّان دعوتها "القومية" وأثناء احتدام صراعها مع الامبريالية، وهي الآن تقدم جهدها في تصفية قضية الشعب الفلسطيني، قرباناً لولائها وطاعتها للسيد الامبريالي. في نفس الوقت تقوم بالتخلي عن الشعب الفلسطيني كما يفعل النظام المصري على سبيل المثال الذي يستنفر في الشعب المصري، قوميته المصرية الضيقة الأفق، من أجل أن يساعدها ذلك في التخلي عن واجبات التضامن مع شعب فلسطين. حيث تضع النضال ضد إسرائيل ليس مجرد كونه صراع عربي- إسرائيلي فقط، بل تضعه كمجرد صراع فسطيني- إسرائيلي. ذلك من أجل اقناع الشعب المصري. ان ليس له شأن بهذا الصراع، وهي إذ تفعل ذلك تقوم بتمرير انحرافها الوطني، تحت وهم أنها تتخلى فقط، عما "حشرت فيه مصر نفسها بضيق أفق منها"، وأن الشعب المصري يمكن أن يعيش في وئام طالما لا يعادي إسرائيل، ويترك العداء لها لمن وقع عليه الاعتداء فقط أي الفلسطينيون، وهذا ما يعبر عنه السادات متظاهراً بمظهر الديمقراطي الذي لا يرغب في فرض أي شيء على الشعب الفلسطيني، مدعياً أن ليس له الحق في أن يتدخل في حريته وحقه في تقرير مصيره. أي أنه يقصد في الحقيقة أن ليس له الحق في أن يتدخل في "حرية" الامبريالية وإسرائيل في فرض ما تريد على الشعب الفلسطيني، باذلاً الجهود المستميتة من أجل وضع الفلسطينيين بثورتهم الوطنية ضمن مظلة النفوذ الامبريالي عن طريق ما يسمى "بدولة فلسطين" الكاريكاتور.
نعود إلى حقائق "الحرية" الثلاث : ان "الحرية" تبشر في الحقيقة الأولى بالحرب الشعبية الطويلة الأمد التي يتوجب تهيئة شروطها الطبقية عن طريق تبني شعارات "توسيع الحرب المحدودة"، نقيض شعارات الحرب الشعبية. وفي الحقيقة الثانية تنبهنا إلى حدود تأثيرات المقاومة الفلسطينية على تحريك "الصراع العربي الصهيوني"، وحدوده "على مجرى الصراع السياسي الاجتماعي الداخلي في كل بلد عربي". وعلى أسار القمع الذي يفرضه الوضع العربي على المقاومة نفسها، وفي الحقيقة الثالثة تبشر بالأهداف المرحلية لما تسميه "الصراع العربي – الإسرائيلي" الموازية "للمجابهات العسكرية السياسية المتقطعة". واضعة كل هذه "الحقائق" خارج العلاقة بالطرف الامبريالي الأمريكي الذي يمسك بزمام التناقضات.
إن "الحرية" بعد أن وضعت الحركة الثورية في كل بلد عربي تحت وصاية البرجوازية، كطريق تسير فيه حتى تستطيع فرض حقيقتها الطبقية على البرجوازية نفسها... تعود فتذكر بحدود تأثيرات المقاومة على الأوضاع الداخلية لهذه البلدان، وما على المقاومة الفلسطينية بعد ذلك إلا أن تتوافق بأهداف مرحلية مع نتائج الصراع العسكري الذي تخوضه البرجوازيات ضد إسرائيل.
إن "الحرية" لكي تثبت خرافة نظرية البؤرة الثورية، تلغي الثورة وتسير بها نحو المستنقع. فطالما أن تأثير النضال الوطني الفلسطيني على الأوضاع الطبقية الداخلية له حدود. فعليها أن تكف عن التأثير على الأوضاع بعد ذلك... بالطبع أن "الحرية" لا تقصد ذلك بالطبع بصورة مباشرة، ولكن النتائج الموضوعية لخطتها تؤدي إلى ذلك بالضبط، تلك الخطة التي ترى ترجمة الصراعات العسكرية المتقطعة إلى مراحل للنضال الفلسطيني الوطني. "فالحرية" ترفض نظرية البؤرة الثورية لكي تتبنى موقف الانسجام مع الوضع القائم منتظرة تغييره بشكل قدري. و"الحرية" تقترح الكف عن النضال الوطني للشعب الفلسطيني ضد الامبريالية وأيضاً الشعوب العربية، وترك المسألة على عاتق الأنظمة القائمة، ذلك من الناحية العملية، ثم تقفز بخفة النمر، للقول بأنها كي تتخلص من "أسار القمع" عليها أن تنتزع القاعدة الكاريكاتور التي لن تكون إلا مفروضة على الشعب الفلسطيني، بالامبريالية والأنظمة الرجعية العربية. ان "الحرية" ترى أن السبيل إلى تخلص الشعب الفلسطيني من "أسار القمع" عن طريق الانسجام مع الأنظمة التي تسير الآن تحت مظلة التبعية الامبريالية. ولكن كان عليها أن تعمل حقاً على توطيد التحالف بين الشعب الفلسطيني، وبين الحركة الثورية للشعوب العربية ضد الأنظمة وضد الامبريالية في آن واحد. ليس هذا رغبة في توحيد المواقف عملاً بحكمة رص الصفوف وعدم إعوجاجها، ولكن ذلك لأن المصالح الوطنية المشتركة التي تفرض هذا التحالف والمبنية على التحليل الدقيق للوضع الطبقي للبورجوازيات العربية التي تسير نحو تجديد التبعية للامبريالية، تفرض على كليهما لكي يواجها الامبريالية حقاً، ولكي يتصديا لمهامهما الوطنية أن يقوما بعزل خط البرجوازيات الاستسلامي في حل المسألة الوطنية، وأن يشنا نضالاً مشتركاً ضارياً ضد البرجوازية.
إن "الحرية" حين ترفض منطق : إما التحرير الكامل او العجز المطلق، تتبنى منطقاً عكسه وليس نقيضه، وهم عدم العمل والنضال من أجل التحرير الكامل، وتمرير الحلول الاستسلامية، التي تصفي القضية الوطنية الفلسطينية. تتبنى منطق استحالة الحرب الشعبية الآن، وتضع بديلاً عنها "الحرب المحدودة" للأنظمة، بانتظار الحرب الشعبية التي ستهبط من السماء... أو بتطور الحروب المحدودة تحت لواء البرجوازيات العربية التي تسير الآن تحت مظلة النفوذ الامبريالي. بدلاً من العمل ضمن استراتيجية واضحة المعالم ضد الامبريالية، والكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، توجه فيه الضربات لخط البرجوازيات الذي يعمل باستمرار على طمس الشخصية الوطنية الفلسطينية، إبَّان بروز الدعوة "القومية"، والذي يعمل الآن على تصفيتها ضمن سيرها الراهن تحت النفوذ الإمبريالي. بدلاً من ذلك تعمل على الهاء الشعب الفلسطيني بكاريكاتور دولة فلسطينية، مما يسهم في توطيد أركان الحلف المقدس ضد الحركة الثورية للشعوب العربية، وإعطائه صفة الشرعية ذلك الحلف المقدس الذي يتشكل من منطلقات مختلفة أو على أساس من التناقضات بين أطرافه وليس على انعدام هذه التناقضات ولكن التي تحل لصالح الهيمنة الامبريالية.
هذا ما يؤدي إليه من الناحية الموضوعية وضع مراحل النضال الوطني الفلسطيني، ضمن إطار ما يسمى ميزان القوى بين العرب وإسرائيل، وتغيراته التي تطرأ بفعل "المجابهات العسكرية المتقطعة والمحدودة.

 -;---;--
2- "الحل السلمي" هل يجب اعتباره مرحلة من مراحل النضال أم يتوجب قطع الطريق عليه ؟ :
تعتبر "الحرية" (إزالة آثار العدوان) من قبيل المرحلية التي تتفق عليها القوى الثورية مع الأنظمة البرجوازية، ولكنها فقط كانت تختلف على الوسائل التي يطرحها برنامج الأنظمة لتحقيق هذه المرحلة ... برنامج "إزالة آثار العدوان عن طريق النضال بمختلف الوسائل لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 242 كأساس لاستعادة الأرض العربية".
تقول "الحرية" في تقرير منظمة العمل الشيوعي في لبنان : "كان المرفوض آنذاك هو برنامج الأنظمة العربية الوهمي – وبصرف النظر عن الكلمات- "لإزالة آثار عدوان 67" بوسيلة العمل الديبلوماسي وعلى قاعدة ميزان القوى المختل اختلالاً ساحقاً لمصلحة إسرائيل وحليفها الامبريالي (لاحظوا ليس لمصلحة الامبريالية وحليفتها إسرائيل). وكان المطلوب، كما عبرت عنه تلك القوى آنذاك، وهو النضال من أجل تغيير الميزان المذكور: أي النضال من أجل إفساح المجال لنمو مواقع العمل الشعبي المستقل المسلح والسياسي والجماهيري".
بادئ ذي بدء أن برنامج الأنظمة المطروح لم يكن يستبعد العمل العسكري المسلح، في إطار سيرها الحثيث إلى مواقع النفوذ الامبريالي. ان برنامج "الحرية" في هذه الحالة بالضبط هو برنامج الأنظمة وليس برنامج القوى الثورية الوطنية الحقيقية التي تواجه خط البرجوازيات وتعمل على عزله، ان المسار الموضوعى للبرجوازيات في الدرجة المحددة من نموها والذي استفضنا في شرحه قبل ذلك، كان يوضح أن النتائج الموضوعية للتسوية ستؤدي إلى وضع هذه البرجوازيات ضمن إطار التبعية الامبريالية، وأن الملاءمة التي تطلبها لن تكون سوى تدعيم وجود إسرائيل، والانسجام مع هذا الوجود. وستوفر مظلة من الحماية العسكرية لهذا الوجود، التي لا تستهدف فقط إلى حمايته، وإنما تهدف في الأساس إلى وضع البرجوازيات تحت ضغط العسكرية الامبريالية المباشرة الذي يضمن أعلى انصياع ممكن من هذه البرجوازيات في إطار حلفها الرجعي المقدس الذي يحمي مصالحها، كان على "الحرية" ألا تحكم على البرجوازيات بجزء فقط من برنامجها بقولها "بغض النظر عن الكلمات"، لكي تتبناه هي بعد ذلك. كان عليها ألا ترى النتائج الموضوعية لبرنامج البرجوازية عن طريق قسم منه ولكن عن طريق التحليل الطبقي لمسار البرجوازية نفسها. إن الكشف عن جوهر برنامج البورجوازية لن يتم عن طريق قول "الحرية" "فوراء تعبير النضال بمختلف الوسائل كان واضحاً أن الوسيلة الوحيدة المعتمدة والمقبولة هي وسيلة العمل الديبلوماسي ومحاولة توظيف وزن العلاقة العربية السوفياتية للضغط على الولايات المتحدة... فاسرائيل". ان الكشف عن جوهر البرنامج البرجوازي لا يتم عن طريق القول أن قسماً واحداً منه فقط هو الذي يطبق...
أما الجزء الآخر من برنامج "الحرية" والذي لا يتضمنه برنامج البرجوازيات، وهو: "النضال من أجل إفساح المجال لنمو مواقع العمل الوطني الشعبي المستقل والسياسي والجماهيري". كان على "الحرية" ألا تتوهم أن هذا سيتم عن طريق تبني برنامج "إزالة آثار عدوان 67" كمرحلة من مراحل النضال ["فإزالة آثار العدوان" ستعيد الأرض المحتلة عام 67، أو بالأحرى معظم أجزائها، ولكن أيضاً ستعيد النفوذ الامبريالي أيضاً]، بل سيتم بالضبط عن طريق النضال من أجل قطع الطريق على التسوية السياسية، التي لن تعيد توازن القوى من جديد لصالح الشعوب العربية في إطار مسار البرجوازيات نحو حظيرة التبعية الامبريالية.
ان برنامج "الحرية" الذي تظهر نتائجه الآن يؤدي إلى الالتفاف حول الأنظمة في المرحلة الحاسمة التي تنضج فيها ثمار مسار البرجوازيات الاستسلامي، ولا يرسي "استقلال الحركة الجماهيرية عن تلك الأنظمة وفك الحجر عن نضالاتها السياسية والاجتماعية من أجل انتزاع المزيد من الحقوق والحريات الوطنية والديمقراطية وتنمية قوى المجابهة الشعبية الحقيقية لآثار ونتائج العدوان الصهيوني الامبريالي" بل يؤدي إلى إجهاض هذه النضالات وتوظيفها حل المصالح الخاصة للبرجوازيات العربية في إطار تبعيتها للنفوذ الامبريالي.
إن برنامج القوى الثورية الحقيقية، يقضي بقطع الطريق على مسار البرجوازيات الاستسلامي، وبلورة النقيض الثوري الذي يواجه لحظات التسوية النهائية، والذي كلما أمكن تأخير هذه اللحظة عن طريق تشديد النضالات الجماهيرية الثورية، كلما تمكنت هذه النضالات من إسقاط التسوية المؤدية إلى الانتكاسة الوطنية. ان ذلك يقتضي العمل من أجل تشكيل جبهة متحدة من الطبقات الكادحة والمعادية للامبريالية بقيادة الطبقة العاملة، من أجل عزل خط البرجوازيات الاستسلامي والنضال ضده. ورفع الخط البروليتاري نقيض خط البرجوازية في حل المسألة الوطنية. ان هذا النقيض الثوري الذي يتبلور مستقلاً عن الخط السياسي والتنظيمي والفكري للبرجوازية اما أنه يستطيع أن يستبق في نموه البرجوازية في سيرها الحثيث نحو التسوية، التي تؤدي إلى الانتكاسة الوطنية والتي تستهدف الاستدارة بعد ذلك (بصورة أقوى من أي وقت قبل التسوية) لإجهاض هذه الحركة الجماهيرية الثورية. وتصفية الثورة الفلسطينية، التي يتناقض وجودها مع استقرار البيت البرجوازي من جديد تحت مظلة النفوذ الامبريالي. واما أن تتم التسوية، التي سيظل في هذه الحالة يناضل ضدها، باستمرار النضال ضد النتائج التي تقود إليها الانتكاسة الوطنية.
إن هذا النقيض سيتم تقويضه والحاقه بذيل البرجوازية إذا هو رأى جانبا واحدا من التسوية وهو جانب استعادة الأرض (ليست كل الأرض بالطبع) فالجانب الآخر هو التبعية للامبريالية كثمن باهظ لاستعادة الأرض والذي ليس مجرد ثمن باهظ فحسب، بل هو متوافق مع مصالح البرجوازيات العربية بعد أن أنجزت أهدافها الرئيسة ..الخ. ان القوى الثورية الحقيقية ترفض ابتزازها بالأرض التي يمكن استعادتها، لكي يموه عليها الجانب الأساس من المسألة وهو الانتكاسات الوطنية واحكام السيطرة الامبريالية على المنطقة، وتدعيم الحلف الرجعي المقدس بإعضاء جدد هم البرجوازيات العربية. ان القوى الثورية الحقيقية ترفض أن توضع في اختيار وهمي، بين استعادة الأرض المحتلة عام 67 وبين عدم استعادتها، في حين أنه يقصد بالضبط وضعها في اختيار حقيقي هو قبول التبعية الامبريالية والانتكاسة أم النضال ضدها.
إن التسوية السلمية ما هي إلا لحظة من لحظات الانتكاسة الوطنية. وليست نهاية النهاية، إن النضال الوطني للشعوب العربية والشعب الفلسطيني خاصة، والذي كان يستهدف قطع الطريق على هذه التسوية، والذي يتبلور في مواجهتها، سيستمر في طريقه، بالنضال ضد النتائج التي تنجم عنها، والذي تفرض عليه الاستجابة التنظيمية والسياسية للشروط الجديدة التي يوضع فيها النضال الوطني، والتي تفرض على كافة القوى الثورية مزيدا من التلاحم والتحالف من أجل مواجهة الحلف الرجعي المقدس. ان النقيض الذي تبلور في مواجهة التسوية، لن ينمو عن طريق اقتسامه نتائج هذه التسوية نفسها.
تقول "الحرية" في تقرير اللجنة المركزية لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان :
"في مواجهة هذا الإطار السياسي الراهن والمحدد الذي انتقل إليه الصراع العربي الصهيوني بعد الحرب مباشرة ما الذي كان على القوى الوطنية، وما الذي كان باستطاعتها أن تفعله".
وتتساءل "الحرية" "هل كان باستطاعتها أن تعلن : أن القضية ليست قضية تحرير الأراضي المحتلة عام 67 فقط بل هي قضية تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني أساساً وأن المضي في الحرب وليس الانتقال إلى ميدان المجابهة السياسية الآن هو السبيل الوحيد لتحقيق هذا الهدف".
"إن إعلانها هذا كان سيتحول بالتأكيد إلى مجرد إعلان مبدئي يلقي بها في الهامش".
لو استطاعت "الحرية" أن تضع الحدود الفاصلة بينها وبين برنامج الأنظمة "إزالة آثار العدوان" لما وضعت تعارضاً بهذه الصورة بين الاستراتيجية والتاكتيك، ولما وضعت استراتيجية إقامة الدولة الديمقراطية التي تعني عدم الاعتراف بالتقسيم وعدم الاعتراف بالكيان الاستعماري الاستيطاني على أرض فلسطين (= النضال ضد التقسيم وضد الكيان الإسرائيلي)، في تعارض مع التاكتيك. فالتاكتيك الذي تقترحه "الحرية" والذي نعارضه ليس فقط لكونه متعارضاً مع الاستراتيجية [حيث يبني البعض معارضتهم "للحرية" على مجرد التذكير بالاستراتيجية، حيث يؤدي ذلك فقط كما تتندر "الحرية" حقاً إلى وضعهم في الهامش] ولكن لكونه أيضاً يجهض القوى الثورية، وبمرور النتيجة الحاسمة التي تتم الآن، وهي وضع المنطقة ضمن النفوذ الامبريالي والتي لا تتوقف كما تتوهم "الحرية" على هذا الشرط أو ذاك من أساليب فرض التسوية (سواء أسلوب الحلول المنفردة أو الجماعية، والتي لا تضع فوارق كيفية ولكن تضع فقط بعض الفوارق الكمية).
ولما كانت "الحرية" تضع الحل السلمي كأحد مراحل التحرير، وتضع تاكتيكها المرحلي استجابة للاقتراحات التي يقدمها الأعداء (الزيات، بورقيبه = أمريكا) ضمن مساعي التسوية السلمية، فقد كان عليها لكل تمرر "كاريكاتور الدولة الفلسطينية" أن تصف هذه المقترحات بانها لا تهدف إلا للخداع، وليس للتحقيق العملي.
تقول "الحرية" بقلم يساري فلسطيني (المقال الأول) : "فإن أي موقف ثوري حقيقي من هذه المشاريع يجب أن ينطلق من حقيقة كونها أوهاماً ومناورات يراد بها الخداع والتضليل، وليس الهدف منها أن توضع موضع التنفيذ".
إن الهدف الفعلي للسياسة الأمريكية حقاً هو تصفية الثورة الفلسطينية، ولكنها واهمة حين تقول أن ذلك يتناقض مع التطبيق العملي لهذا الاقتراح. وحين تستدرج "الحرية" إلى جينيف من أجل المطالبة بالتطبيق الفعلي لهذه الاقتراحات.
(في الحقيقة أن استدراج "الحرية" لن يذهب بها إل جينيف حيث لن يتم الترحيب بها من أي طرف. فهم لا يرحبون بالثوريين، ولكن النتيجة الفعلية لهذا الاستدراج هو تمرير ذهاب عملاء فلسطينيين يراعى فيهم ثقة الامبريالية والقدرة على تضليل الجماهير في آن واحد)، تضع الأساس الذي يمكن الامبريالية التي يتوطد نفوذها في المنطقة عن طريق هذه التسوية، من توجيه الضربات الساحقة للمقاومة والثورة الفلسطينية. كان على "الحرية" أن تناضل في صفوف شعبها وجماهيرها من أجل انتزاع الشعب الفسطيني حقه في تقرير مصيره. وفي اللحظة الراهنة كان على "الحرية" أن تعمل على حماية الثورة وقيادتها في الشروط الجديدة في طريق التقدم بها، وليس تمرير الأوهام التي تفقد الثوريين حذرهم وتضللهم عن الطريق الصحيح، ولا توضح لهم من أين يأتي الخطر الآن.
إن الاستسلام الكامل في نظر "الحرية" فيما يختص بفلسطين هو وضع وصاية الملك حسين من جديد على الشعب الفلسطيني، وطمس الشخصية الفلسطينية لن يتم في نظرها إلا عن طريق مشروع المملكة المتحدة الهاشمية. إن "الحرية" تصور شكلاً امبريالياً واحداً من أشكال تصفية الشخصية الفلسطينية المستقلة، حتى يمكنها عن طريق استبعاد هذا الشكل الوحيد، أن تمرر شكلاً آخر هو كاريكاتور دولة فلسطينية، (في حين تتوهم أن دولة فلسطينية مستقلة حقيقة يمكن انتزاعها)، يمكن أن يكون أشد تأثيراً في تصفية الشخصية الفلسطينية المستقلة، الذي لا يعني سوى تصفية الثورة الفلسطينية، وأشد تمويهاً وقدرة على تمرير الحل السلمي بكل أوهامه على الشعب الفلسطيني. ان الحرية حينما تصور الامبريالية كعدو ضيق الأفق إلى هذا الحد، تقع هي أولاً "لا الامبريالية" في ضيق الأفق هذا، وهي اذ تنحدر من الاستدراج والخداع الامبريالي للثورة الفلسطينية تقع هي أولاً في فخاخ هذا الاستدراج وهذا الخداع. ان أسلوب الاستدراج الذي تركز عليه "الحرية" يصح في الحقيقة (في اللحظة الراهنة) فقط على "الحرية"، بما تريد أن تقود إليه الثورة الفلسطينية. إن الامبريالية تهدف إلى تصفية الشخصية الفلسطينية بما هي شخصية ثورية وطنية تعي أهدافها، وتكافح مسلحة بهذا الوعي من أجل انتزاع حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، حقاً وليس شكلاً كاريكاتورياً. ان احتمالات موافقة الامبريالية على كاريكاتور دولة فلسطينية احتمال وارد تماماً، ولكنه ليس حتميا، ويتوقف على جملة من الظروف، تختص باسرائيل والفلسطينيين بصورة أساسية. أي ستتوقف على عوامل من ضمنها موافقة الطرف الإسرائيلي انطلاقاً من ضرورات أمنها أولاً، وقدرة الساسة الإسرائيليين على الملاءمة بين الدولة الديكتاتورية من ناحية الشكل وبين الايديولوجية الصهيونية الشوفينية. ان الطرف الإسرائيلي لن يوافق على ذلك إلا تحت ضغوط الملاءمة التي ستقدم عليها الامبريالية الأمريكية بين ضرورات الايديولوجيا الصهيونية وسياسة إسرائيل وبين ضرورات التمويه والتمرير التي تحاول بها نصب الفخاخ للثورة الفلسطينية. وسيتوقف ذلك أيضاً على إمكانية بلورة أطراف فلسطينية عميلة تحرص على أن تكون أداة في يد الامبريالية لتصفية أي محاولات للحركة الوطنية الراهنة. إن الامبريالية لن تخاف من شكل شائه يوضع عليه لافتة فلسطين تستطيع عن طريقها ضرب وتصفية الثورة الفلسطينية، ولكنها فقط تخاف من الشخصية الفلسطينية بما هي تمثل الثورة الفلسطينية. تخاف الثورة، كعمل نضالي موجه وليس مجرد كلمة. إن الأنظمة أيضاً تخاف من الثورة الفلسطينية، لأنها ستزعج نومها المريح بعد التسوية، ولأنها ستساعد على إشعال الثورات ضدها. وستثبت لشعوبها كم كانت التسوية ضارة باستقلال بلادهم، ولأنها سترغم الامبريالية على وضع تحالفها مع البرجوازيات ضد الشعوب العربية في شكل أكثر سفوراً وأكثر سرعة.
ونظراً لأن "الحرية" تتوهم تعديل ميزان القوى لصالح الثورة في سياق خط البرجوازيات الاستسلامي في حل المسألة الوطنية، وتتصور أن الثورة بإمكانها عن طريق هذا الوهم أن تحقق خطوة مرحلية للأمام، في حين أن البورجوازيات تسعى فقط للخروج من مأزقها هي، وعلى حساب المطامح التاريخية للشعوب العربية والشعب الفلسطيني بصفة خاصة، تستدير بعدها بأكثر ما فيها من قوة لتصفية الحركة الثورية لشعوبها وللشعب الفلسطيني. وحين كانت الحرية تصف تحقيق هذه المشاريع في حالة عدم توفر هذ التعديل (الذي تتوهمه أنه لصالح الثورة)، بأنه وقوع في مستنقع الخيانة ونحن إذ أثبتنا أن هذا الميزان من القوى، الذي تبني عليه "الحرية" تصوراتها، هو ميزان وهمي اذ تتصور انه يسير لصالح الثورة. بل يؤدي بالفعل إلى وضع مصير الثورة الفلسطينية بيد البرجوازيات العربية بالضبط كما كانت إبان الدعوة القومية في مرحلة صعودها. فإنه من المحزن والفظيع والإجرامي أن تضع "الحرية" مصير الثورة الفلسطينية بيد البرجوازيات حينما تسير في اللحظة الراهنة نحو الحظيرة الامبريالية.
إنه لا يسعنا أن نقول عن هذا العمل إلا أنه هو الوقوع في مستنقع الانحراف الذي يؤدي إلى الخيانة الوطنية، بالرغم من إدراكنا أن هذا صعب علينا وعلى أصحاب هذه الآراء في "الحرية". انهم أناس كافحوا كفاحاً مجيداً طوال السنوات السابقة. ولكن هذه التحليلات تقودهم بالضبط نحو المستنقع.
لقد قالت "الحرية" قبل أكتوبر : "بقلم يساري فلسطيني": "ان علينا أن نؤكد دوماً في موقفنا من هذه المشاريع: ان الوضع الراهن يتسم باختلال ميزان القوى لصالح الامبريالية وإسرائيل، وأن الحلف الأمريكي- الاسرائيلي، رغم مناورات الخداع لا يفرض على شعبنا سوى الاستسلام الكامل، ولن يقبل له مختاراً، بانصاف الحلول. وأن التعويل بوسائل الضغط والتفاوض، على إمكانية تحقيق حل ما يستجيب لبعض مطامح شعبنا، وضمن إطار ميزان القوى القائم الآن، ليس إلا وهماً ... إن سياسة ترتكز على التعويل على مثل هذا الوهم لن تقود أصحابها إلا إلى الغوص تدريجياً في مستنقع الخيانة الوطنية".
وفي الحقيقة ان الوقوع في الشرك الامبريالي، كما أشرنا، لن يتم إلا من خلال وهم : تعديل ميزان القوى لصالح الثورة، حيث تدخل فيه قوى الثورة في طرف واحد مع البرجوازيات العربية وهي سائرة نحو علاقة جديدة من التبعية الامبريالية. ويتبين من كل الاحداث التالية على اكتوبر صدق تحليلنا، وخرافة الوهم اليميني الذي تعتقد به "الحرية"، بأن التعديل الذي كانت تطالب به لصالح الثورة قد تحقق من خلال حرب اكتوبر وبالتالي تتمكن من وضع برنامجها المرحلي موضع التطبيق.
يقول تقرير منظمة العمل الشيوعي في لبنان: "هكذا أدت حرب تشرين إلى بلورة إطار سياسي مرحلي، محدد، وراهن للصراع العربي الصهيوني محوره المباشر مصير الأراضي العربية المحتلة عام 1967. فهل كان على القوى الوطنية العربية الحاملة لبرنامج التحرير الكامل بوسيلة حرب الشعب الطويلة الأمد، أن تدخل في هذا الإطار السياسي المرحلي للصراع أم تبقى بعيدة عنه ؟".
إن على القوى الثورية ألا تبقى حقاً بعيدة عن الصراع السياسي الدائر الان ولكن ليس بالدخول في إطاره، بل بالضبط بالنضال ضده وفي مواجهته. ان شرط ذلك أن تستبعد الأوهام التي تعتبره كما سبق أن أشرنا إلى أنه يبلور مرحلة تحقق خطوة للأمام، بل يشكل انتكاسة لاستقلال الشعوب العربية بما فيها شعب فلسطين. ومن ثم فإن القوى الثورية تجد لزاماً عليها أن تناضل ضد التسوية السلمية والتي كان نايف حواتمة يصرخ على أنها قادمة لا محالة كما لو كان اكتشف شيئاً جديداً ... وتجد لزاماً عليها أن تناضل ضد نتائجها وضد الاطار الذي توضع فيه.
تقول "الحرية" : في تقرير منظمة العمل الشيوعي بلبنان : "ذلك أنه إذا كانت المنطقة قد بدأت تواجه منذ وقف إطلاق النار في تشرين مخاطر الانزلاق من مفاوضات التسوية السياسية المرحلية- والتي أصبحت أمراً راهناً- إلى القبول بالحل الاستسلامي الأمريكي الإسرائيلي في النهاية، فإن الرد على هذه المخاطر لا يكون بالانسحاب خارج دائرة المجابهة الحقيقية لها أو بإدارة الظهر والاستنكاف عن التعاطي معها، أو بالتصرف بأن الحل الاستسلامي قد لا تمكن مقاومته، أو بالإكتفاء من النضال بإعلان مواقف "الرفض" للتاريخ، أو بالوهم أن الإكثار من ترداد كلمة "تحرير كامل التراب الوطني الفسطيني" و"حرب الشعب" و"الجماهير" كفيل وحده بأن يفرض للصراع العربي الصهيوني إطاراً سياسياً غير إطاره المرحلي الراهن الفعلي".
هكذا ... التسوية السياسية المرحلية أمر راهن، بفعل أوهام "الحرية" فقط، هكذا ... ان على القوى الثورية أن تذهب إلى جنيف (لأنها هي التي ضغطت من أجل الحرب تلك التي غيرت من موازين القوى... وعليها أن تكمل مشوارها حتى النهاية !!)، يا لها من خرافة ... ويا له من لوي فاضح لعنق الحقائق ... بقدرة قادر واحد واحد ... تتحول موازين القوى "المادية" (التي طالما تمسكت بها "الحرية") إلى عدم، في مفاوضات جينيف ... مما يؤدي إلى الانزلاق من جديد إلى الحل الاستسلامي. لعل البرجوازيات قد أدمنت "الاستدراج" الامبريالي ... فتتخلى عن مكاسب "موازين قوى" "الحرية" بسذاجة وغفلة منها، للامبريالية وإسرائيل المخادعة، وأن "الحرية" تريد أن تذهب إلى جنيف "بيقظتها الثورية" لتثقف البرجوازيات بما يجب عمله ... ولكي تذكر الجالسين "بموازين القوى" المادية جداً ... التي أغفلوها. أو لعل البرجوازيات العربية يجب أن تأخذ معها الجماهير صاحبة الفضل الأول في تحول هذا الميزان ليصبح حقاً مؤثراً وموضع التطبيق "الراهن". حقاً أن أوهام "الحرية" في انتقال المجابهة الحقيقية إلى جينيف، هو جدير بمن يحوّلون الانظار عن الساحة الفعلية، وليس جديرا بمناضلين ناضوا نضالاً مجيداً سنوات طويلة. لعل الحرية ستقف أمام الحل الاستسلامي وهو أمام عينيها مشدوهة تتحسر على القوى وموازينها التي ضاعت هباء... هباء .... إن الوقوف ضد الحل الاستسلامي هو بالنضال الثوري بين الجماهير والذي قد يستطيع منع البرجوازيات من التوقف عن الذهاب.... وليس الذهاب مع البرجوازيات.. إن هذا الاحتمال ضئيل جداً الآن.. وان الصكوك التي توقعها البرجوازية وما تعبر عنه من التبعية الحقيقية للامبريالية ... المادية حقاً لا وهماً كمادية "الحرية"، والتي لا تتحقق الآن فقط لأول مرة في جينيف، بل تأخذ فقط إطارها السياسي النهائي والتي أرسى أساسها المادي طوال الست سنوات الماضية، رغم "موازين قوى" "الحرية" "المادية"، والتي رغم صراخ "الحرية" بتحقيق هذه التسوية السياسية أي الاستسلام لا فرق ... رغم مفاهيم "الحرية" عن "الاستدراج" و"الاستسلام الكامل" أو "المطلق"... وما شابه....
إن الجماهير ستناضل ضد التسوية في إطارها النهائي، كما ناضلت ضدها ووهي في طور التشكل، ستناضل ضد خط البرجوازيات الاستسلامي وهو في شكل تحققه الأتم، كما ناضلت ضد تحققاته الجزئية قبل التسوية. كان على "الحرية " ألا تهزأ بشعارات النضال الإستراتيجية. وكان عليها أن تدعو إلى شعارت تدفع العمل الثوري نحو تحقيق خطوة أقرب إلى هذه الاستراتيجية. وكان عليها أن تدرك أن من يتمسكون بالاستراتيجية يختلفون تماماً عن من يكتفون بترديدها كالسذج الذين يجيبون إجابة واحدة على كل الأسئلة التي توجه إليهم مهما اختلفت.
ان التسوية تضع النضال الوطني والنضال الثوري التقدمي للشعوب العربية في شروط جديدة، في منعطف جديد، حيث انتقلت فيه البورجوازية، إلى صف الحلف المقدس الرجعي حامي حمى المصالح الامبريالية، هذا المنعطف الذي شهد تحققات منه طيلة الست سنوات السابقة. ان هذا يفرض علينا نحن الثوريون التقدميون مزيداً من النضال الوطني الحازم والدؤوب ضد الامبريالية وضد البرجوازية في آن واحد. من أجل انتزاع الحريات الديمقراطية للجماهير الشعبية كأسلحة تكمل بها الطريق نحو الاشتراكية. ان الثورة الفلسطينية يتوجب عليها التحالف الوطيد مع هذه القوى الثورية، في نضالها من اجل انتزاع حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. إن هذا يتطلب منها أيضاً النضال ضد الأنظمة البرجوازية، والا تراهن على الثغرات الشرعية لنضالها والتي كانت واسعة نسبياً قبل التسوية. ان هذه الثغرات ستضيق حتماً وعليها أن تواجه هذه اللحظة بأعلى أشكال التنظيم. ان أعلى أشكال الكفاح السياسي المقرون بالعنف الثوري المسلح يتطلب أعلى أشكال التنظيم كإطار لتحقق أعلى أشكال الوعي لقيادة هذا الكفاح.

3- نضال الشعب الفلسطيني من أجل انتزاع حق تقرير
المصير وشعاراته في اللحظة الراهنة :
إن استراتيجية وتاكتيكات الكفاح الوطني الفلسطيني، يجب أن تنطلق كما سبق أن أوضحنا من التحليل الدقيق للأوضاع الطبقية السائدة في البلدان العربية الذي سبق أن استفضنا في شرحه. ومن التحليل الدقيق لأوضاع الصراع الطبقي العالمي والمحلي. ان انتزاع أي مكاسب مرحلية للنضال الوطني الفلسطيني لا بد أن يعتمد على درجة النهوض الشعبي الوطني التقدمي الفلسطيني وعلى ميل نسبة القوى الطبقية المحددة في كل بلد من البلدان العربية لصالح القوى الطبقية الكادحة والمعادية للامبريالية، بقيادة الطبقة العاملة. وكما سبق أن أوضحنا أن المحور الذي يجب أن يتخذه النضال الوطني لهذه القوى الثورية هو المحور الاشتراكي المعادي للبرجوازية. ويتوجب على هذه القوى أن تضع الحدود الفاصلة بين خطها السياسي والفكري والتنظيمي وبين الخط السياسي والفكري والتنظيمي لهذه البرجوازيات، لكي تحرز أي تقدم ملموس في كفاحها الثوري.
إن القوى الثورية تجد لزاماً عليها ألا تغفل التعقيد الواقعي للمسألة، في علاقتها بالأوضاع الطبقية للبلدان العربية والتي تترك تأثيراً حاسماً بشرط النضال الوطني الفلسطيني. ولكن في نفس الوقت لا يجب اعتبار هذا التأثير يمنع النضال الوطني الفلسطيني عن التطور، بل إن هذا النضال سيؤثر بدوره تأثيراً هاماً على أوضاع الصراع الطبقي والوطني في البلدان العربية. لا يجب علينا أن نرى جانباً واحداً من المسألة بصورة تجعلنا نضع إشارة البدء في يد أحد الأطراف. إن هذه النظرة الميكانيكية ستلحق بالنضال الثوري أفدح الأضرار. وستضع التحالف بينهما في إطار ميتافيزيقي تبرر لأحد الأطراف الاعتماد على النهوض الناشئ في الطرف الآخر.
كما أن النضال الوطني الفلسطيني السياسي والاقتصادي المقرون بالكفاح المسلح، لا يجب أن يأخذ وصفة جاهزة في كل الأوضاع المتنوعة التي تحيط بالشعب الفلسطيني في المناطق الأساسية التي يعيش عليها الآن من جهة، وفي البلدان العربية التي يتركز فيها اللاجئون الفلسطينيون من جهة أخرى.
ويرتبط تعقيد المسألة أيضاً بالطابع الخاص للاستعمار الاستيطاني الصهيوني، ولا يمكن الاستناد إلى هذا الطابع وحده، ونسيان باقي الجوانب من أجل تمرير موقف انتهازي يسعى إلى تأجيل إقامة أية سلطة وطنية للشعب إلا بعد تحرير هذا الجزء من الأرض المغتصبة عام 1948.
إن الثورة الفلسطينية تجد لزاماً عليها أن تقود النهوض الوطني للشعب الفلسطيني في كل تجمعاته أينما وجد، من أجل العمل على تأسيس هذه السلطة الوطنية. عليها أن تقود هذا النهوض في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 67 (الضفة الغربية – غزة) سواء كانت تحت الاحتلال العسكري الصهيوني، أو تحت الحكم الهاشمي العميل، أو تحت حكم عملاء فلسطينيين في إطار كاريكاتور دولة فلسطينية تتوافق مع إطار التبعية الامبريالية التي تحيط بسياجها المنطقة في اللحظة الراهنة. وذلك بالتحالف الوطيد مع الشعب الأردني والفلسطيني في الضفة الشرقية في إطار جبهة وطنية متحدة تخلق خلال النضال، من أجل الحقوق الديقراطية الوطنية والتي تنسجم مع إسقاط النظام الملكي العميل بالعنف الثوري المسلح. وعليها أن تقود النهوض الوطني للأقلية الفلسطينية في الأرض المحتلة عام 1948. كما عليها أن تقود النهوض الوطني لتجمعات اللاجئين من الشعب الفلسطيني بالبلاد العربية مبلورة لهذه التجمعات مطالب وطنية عادلة بالتضامن الوثيق مع شعوب هذه البلدان. يبرز من بين هذه المطالب مطالباً أساسياً هو حق هذا الشعب في استخدام أراضي البلدان العربية في توجيه الضربات المسلحة للعدو الامبريالي الصهيوني وللكف عن استجداء هذا الحق من البرجوازيات السائدة.
ان النضال الثوري داخل الأراضي المحتلة عام 48 لا يمكن أن يعتمد على إمكانيات التحالف مع الطبقة العاملة الإسرائيلية التي شوّه وعيها بالايديولوجية السوفيتية الصهيونية، كما لا يستبعد في نفس الوقت إمكانيات النضال المشترك مع الحركة الثورية فيها شرط تخلصها من السوفيتية الصهيونية. كما أن الوظيفة القمعية للدولة العسكرية الإسرائيلية تتعدى كونها مجرد أداة لقمع الكادحين في إسرائيل فقط. ولكنها أيضاً أداة قمعية للنضالات الجماهيرية في المنطقة العريبة ككل، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولهذا فإن النضال ضد هذه الدولة العسكرية القمعية من أجل اسقاطها، يتطلب توجيه الضربات الأساسية لها من الخارج، شرط عدم وضع هذه الضربات في إطار قومي شوفيني ضيق الأفق. يستبعد النضالات المشتركة الممكنة مع القوى الثورية الحقيقية داخل إسرائيل، بل يجب العمل على إبرازها، وتخليصها من أي أوهام شوفينية عن طريق الموقف الأممي الحقيقي لا الوهمي. الذي لا يعتقد أن الوحدة الأممية لعمال العالم تنشأ من مجرد وجود الطبقة العاملة الموضوعي في عملية الإنتاج، بل يرى أن الوحدة الأممية تنشأ في إطار تملك هذه الطبقة الوعي البروليتاري الحقيقي المعادي للأيديولوجية الشوفينية لبورجوازيتها بالذات. ان النهوض الشعبي الفلسطيني المتحالف مع الحركة الثورية في البلدان العربية المعادية للطبقات السائدة. سيجد أمامه حلقات أضعف في الضفة الغربية وشرق الأردن، يمكن له أن يبلور عند درجة محددة من نمو هذا النهوض الوطني، خطوة مرحلية يستطيع أن يقيم بنتيجتها السلطة الوطنية الفلسطينية على هذا الجزء المحرر من أرض فلسطين. ان السلطة الوطنية لن تقام عن طريق حق قانوني تأخذه الثورة الفلسطينية من البورجوازيات العربية، ومن الامبريالية وإسرائيل في جنيف، ولكن سينتزعه النضال الوطني للشعب، والذي عليه أن يوصل نضاله ضد الامبريالية، في قاعدتها المتقدمة في المنطقة : اسرائيل.
إن الشعارات المرحلية تتحدد استجابة للنهوض الوطني للشعب، ولا تتحدد استجابة للمواقف والمشاريع التي يطرحها الأعداء لتصفية الثورة. ان المناضلين الذين هم على هذه الشاكلة يتحولون إلى فرائس ترقص بصورة غير ماهرة في الحقيقة على نغمات دفوف أعدائهم إيذاناً ببدء وليمة ذبحهم قرباناً لآلهة الامبريالية. هناك فرق بين مواجهة حركات الاعداء بمرونة التاكتيكات الثورية، وبين صنعها صنعاً لأول مرة (أو تغييرها بصورة دائمة) على مقاس حركات الأعداء.
إن السياسة اليمينية التي تحاول بها "الحرية " أن تضع حركة الثورة الفلسطينية في ذيل البرجوازية هو الذي يجعلها تطرح شعارها المرحلي خارجاً على إطار النهوض الوطني للشعب الفلسطيني بالتضامن مع الحركة الثورية للشعوب العربية، ويجعلها أيضاً تضع هذا الشعار المرحلي في تعارض مع استراتيجية الكفاح الفلسطيني. إن الأوهام التي تروجها البرجوازية عن النصر وعن استعادة الأرض المحتلة عام 67، والتي تخفي به "الانجاز" الذي يتحدد بصفة أساسية في وضع المنطقة في إطار التبعية الامبريالية وتشكيل الحلف المقدس الرجعي وضرب الحركة الشعبية في البلاد العربية والحركة الشعبية الفلسطينية، وتصفية العلاقة مع الاتحاد السوفييتي والتي كانت تضعها البرجوازيات دائماً في إطار التحالف التاكتيكي وليس الاستراتيجي.
تقول "الحرية" في تقرير منظمة العمل الشيوعي في لبنان : "... إن إدارة الظهر لمسألة مصير الضفة الغربية وقطاع غزة لن تؤدي مهما رافقها من تشديد لفظي على "ضرورة فلسطين بكاملها" الا تسهيل مرور الحل الاستسلامي في جانبه الفلسطيني المباشر هذا خلال المرحلة الحالية".
* " ولابد من التساؤل ثانيا كيف يمكن ان تدعى حركة وطنية كحركة المقاومة الفلسطينية، بينما المصير المباشر لجزء من ارضها ولكل شعبها مطروح فعلا على بساط البحث والتقرير فعلا، كيف يمكن ان تدعى الى اتخاذ موقف من لا يعنيه هذا المصير في قليل او كثير؟!...
" فإما أن يكون مطلوبا بقاء الارض والشعب تحت الاحلال الاسرائيلي (لعل ذلك يساعد على تعميق استراتيجية تحرير كامل التراب الوطني) وعندها فليصبح من يقول هذا القول عن رأيه ان وجد. واما ان يكون الحل بعودة الارض والشعب الى الخضوع للقبضة الهاشمية وليتحمل دعاة هذا الحل ان وجدوا ايضا ـمسئولية موقفهم بوضوح، واما ان يكون المطلب الوحيد الجدير بإن يطرح من جانب حركة وطنية يعنيها مصير شعبها وأرضها فعلا، هو مطلب تمكين هذا الشعب من بدء ممارسة حقه في تقرير مصيره ولو على جزء من أرضه.
* " ولا بد من التشديد ثالثا على أن مسألة انتزاع قاعدة وطنية مستقلة للشعب الفلسطيني تكون اطار حماية لحقوقه وحرياته الوطنية والديمقراطية ومنطلقا لتطوير كفاحه المسلح والسياسي ضد العدو الصهيوني وزيادة وزنه ضمن الوضع العربي.... فقد كانت هذه المسألة ـ كما ذكرنا ـ مطروحة قبل الحرب، وماأدخلته عليها الحرب من جديد هو أنها جعلتها مسألة راهنة ومباشرة وحددت ميدانها الحالي "جغرافيا".
" وبصرف النظر عن النتائج التى سوف يسفر عنها الصراع الجارى حول المصير السياسي للضفة الغربية وقطاع غزة فى المدى القريب ، فإن مسألة انتزاع قاعدة وطنية مستقلة للشعب الفلسطينى تبقى مسألة مركزية تحت كل الظروف وحتى فى اطار حرب التحرير الشعبية الطويلة الامد سوف يكون على حركة المقاومة ان تناضل من أجل انتزاع تلك القاعدة الوطنية كإنجاز أولي تتوقف عليه قدرتها على متابعة مسيرتها التحريرية".
* " ثم لابد من اظهار اقصى الاستغراب رابعا واخيرا حيال ما يطرحه البعض من مبررات لعدم قبول "استلام الضفة الغربية وقطاع غزة" وعدم "المغامرة" في اقامة سلطة وطنية فلسطينية عليها!! هذه المبررات تنهض جميعا على محاولة البرهنة " بالارقام" على انه سوف تكون خاضعة للهيمنة العسكرية السياسية الاقتصادية الصهيونية".
* " ان أقل ما يمكن ان يقال في هذا الطرح انه يضع المسألة ضمن حلقة مفرغة لا مخرج منها سوى " ذهاب الضفة الغربية وقطاع غزة الى الجحيم" !!".
* ان ما تطرحه " الحرية" ليس عملا من شأنه " عدم تحرير الحل الاستسلامي " كما تتوهم، بل هو بالضبط يؤدي الى تحرير الحل الاستسلامي بل والى تصفية الثورة الفلسطينية كاحد الاهداف الرئيسة لهذا الحل الذي ينشر على المنطقة مظلة النفوذ الامبريالي.
* ان "الحرية" لا تعتمد فقط على أوهامها في حساب "ميزان القوى" فقط، بل تعتمد ايضاً على محاكمة زائفة تضع الشعب الفلسطيني أمام اختيارات وهمية فيما يختص بالأرض. انها تصور أن "مصير أرضها وشعبها مطروح على بساط البحث والتقرير" من أجل أن تختار المقاومة بين قبول التحرير الجزئي أو عدم قبوله. وتعتقد "الحرية" واهمة أنها قد اكتشفت تلك الحقيقة التي تاهت عن أصحاب الجملة الثورية، بينما الحقيقة أن اطراف "جبهة الرفض" للحل السلمي ليسوا من عمى البصيرة إلى هذا الحد مما تجعلهم لا يرون أن جزءاً من أرض فلسطين قد أصبح من الممكن تحريره. (إن بلدا أو جزء من هذا البلد قد وصل إلى حالة قريبة من الاستقلال، لا يمكن أن يثير جدلاً شديداً إلى هذا الحد يصل إلى حد التعارض على حقيقة لا بد أن تكون واضحة لكل الناظرين). انهم فقط لا يطرحون برنامجاً وطنياً فلسطينياً يواجه اللحظة الراهنة، ويكتفون فقط بتذكير "الحرية" بتعارض موقفها مع الأهداف الاستراتيجية وكان عليهم لكي يهزموا حقاً هذا الانحراف اليميني الذي تمثله "الحرية" أن يطرحوا هذا البرنامج، ويبيّنوا الأساس اليميني لاطروحات "الحرية"، من أجل أن يقودوا الثورة الفلسطينية نحو سلطة وطنية فلسطينية حقاً على أي جزء من أرض فلسطين يمكن انتزاعه اولا سواء كان تحت ظل الاحتلال الصهيوني أو أن هذا الجزء يكون قد انتقل غلى عملاء عرب هاشميين أو فلسطينيين.
ان الشعب الفلسطيني الآن ليس مخيراً (كما تحاول "الحرية" أن تبتز الثورة الفلسطينية) بين "بقاء الأرض والشعب تحت الاحتلال الإسرائيلي" أو بين عودة "الأرض والشعب إلى الخضوع للقبضه الهاشمية" أو إمكانيات ممارسة حقه في تقرير مصيره ولو على جزء من أرضه".
ان الشعب الفلسطيني ليس موضوعاً أمام هذه الاختيارات فالاختيار الأخير ليس إلا وهماً يجسده منظري "الحرية". أن الشعب الفلسطيني موضوع الآن أمام اختيارين محددين اما : الخضوع للتبعية الامبريالية، واما أن يستمر في ثورته الوطنية التي تمكنه من تحقيق سلطته الوطنية، أي حق تقرير المصير، والتي بالتأكيد لن تحدث مرة واحدة وفجأة، تحت أوهام أن حق تقرير المصير مرتبط فقط بذلك الجزء المحتل عام 1948، بل أن هذا الحق يجب النضال من أجل تحقيقه على كل أرض فلسطين حيث يفتقد هذا الحق في الأجزاء الأخرى ليس فقط بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 67 بل قبله أيضاً وعلى أيدي الطبقات الحاكمة العربية. وسيكون من المنطقي أن شعبي الضفة الغربية والضفة الشرقية يمكن أن ينتزعا هذا الحق قبل الأجزاء الأخرى، حيث تشكل الحلقات الأضعف التي يمكن انتزاعها قبل غيرها. ثم اعتمادها كقاعدة وطنية من أجل التحرير الشامل. أنه قد يستتر تحت منطق التحرير الكامل، منطق أن العدو الوحيد الذي سينتزع منه هذا الحق هو العدو الصهيوني وحده، ويساعد على هذا المنطق أن كل أجزاء الأرض الفلسطينية تخضع الآن للاحتلال الصهيوني، في حين أن المنطق الصحيح لا بد أن يتجه لانتزاع السلطة الوطنية بالنضال ضد "المضطهد العربي" أيضاً .... أي ضد العميل "الهاشمي" وضد العميل "الفلسطيني" الذي من المحتمل أن تعطى له مهمة قهر الشعب الفلسطيني ووضعه في إطار التبعية الامبريالية، وضد الأنظمة العربية البورجوازية التي كانت تضع نفسها بديلاً للشعب الفلسطيني في الماضي، وهي الآن ستضع نفسها حامياً وحليفاً للعملاء، قاهري الشعب الفلسطيني. وبالطبع سيمكنها من ذلك اسما فلسطينياً يوضع على كاريكاتور دولة فلسطينية.
إن القاعدة الوطنية المستقلة للشعب الفلسطيني التي "تكون إطاراً لحقوقه وحرياته الوطنية والديمقراطية" ومنطلقاً لتطوير كفاحه المسلح والسياسي ضد العدو الصهوني وزيادة وزنه ضمن الوضع العربي". لن يتم عن طريق الأطراف المجتمعة في جينيف، بل عن طريق نضال الشعب الفلسطيني والجماهير الشعبية، إن الطرف الإسرائيلي والامبريالي لن يعطي للشعب الفلسطيني قاعدة وطنية ديمقراطية لكي يستخدمها منطلقاً لتطوير كفاحه المسلح والسياسي الموجه ضدهما، كما أن الأطراف العربية لن تعطي هذه القاعدة للشعب الفلسطيني لأن فاقد الشيء لا يعطيه، انها تريد الخروج من مأزقها حماية لمصالحها الطبقية المتناقضة ليس فحسب مع نضالها من أجل هذا الحق للشعب الفلسطيني، بل متناقضة أساساً مع المصالح التاريخية لشعوبها تلك المصالح التي تجعلها تفضل في اللحظة الراهنة حل تناقضها مع الامبريالية بالمساومات ولصالح الامبريالية في النهاية، على أن تسمح للجماهير الشعبية بأن تناضل ضد الامبريالية من أجل إلحاق الهزيمة بها. بالإضافة إلى ذلك فإنها لن تعطي هذه القاعدة للشعب الفلسطيني كي يزداد "وزنه ضمن الوضع العربي"، إلا إذا كانت "الحرية" تعني بذلك مجرد الأبهة والسلطان. الأمر المستبعد بالنسبة لكل قوى ثورية حقيقية قدمت التضحيات الجسام. أما إذا كان هذا الوزن يعني وزناً ثورياً فهو بالتالي من شأنه أن يعمل على إضعاف سلطتها الطبقية.
أما وإن كانت "الحرية" في النهاية تعتمد على وعود من الاتحاد السوفييتي"، "فوجوده" نفسه في المنطقة آخذ في التدهور وضمور التأثير على مجرى الأمور، حيث أن الامبريالية الأمريكية هي التي تمسك الآن بزمام الأمور في الشرق الأوسط.
إن الحرب لم ترسم الحدود الجغرافية لمرحلة من مراحل النضال الوطني الفلسطيني ولم تجعل هذه المرحلة أمراً راهنا كما تتوهم "الحرية"، بل وضعت النضال الوطني الفلسطيني في لحظة جديدة في منعطف جديد. وإذا لم تفهم "الحرية" ذلك فهذا يعني بالتحديد فقدان الاتجاه بشكل كامل.
إن ما هو جدير بالانتباه في أطروحات "الحرية" هو قولها: "... فإن مسألة انتزاع قاعدة وطنية مستقلة للشعب الفسطيني سوف تبقى مسألة مركزية تحت كل الظروف، وحتى في إطار الحرب الشعبية الطويلة الأمد سوف يكون على المقاومة أن تناضل من أجل انتزاع تلك القاعدة الوطنية كإنجاز أولي تتوقف عليه مقدرتها على متابعة مسيرتها التحريرية.
إن هذه الفقرة الجديرة بالانتباه تضعها "الحرية" ليس في سياق النضال ضد التسوية التي تتم الان كشرط من أجل تحقيق هذه الأهداف المرحلية ومن ثم الاستراتيجية، ولكن تضعها في سياق مزيد من البرهنة على ضرورة اعتبار التسوية مرحلة من مراحل النضال في الظرف الراهن. ذلك مما يلحق الأضرار الفادحة بالنضال الوطني الفلسطيني، ويهدده بالتصفية من قبل كل الأطراف الداخلة في نزاع الشرق الأوسط: العربية، والإسرائيلية والامبريالية.
* إن ما هو جدير بالاستغراب حقاً هو أوهام "الحرية" في إمكانية استلام الضفة الغربية وقطاع غزة، ان التفكير على هذه الصورة، ناجم عن أخطار تعميم علاقة الشعب الفلسطيني بكل أرض فلسطين، على أنها علاقة لاجئين، وأنهم إذا لم يستلموا الأرض سيتم فقدها للأبد. إن "الحرية" تتوهم أن تشكيل سلطة ما على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة، تعني استرجاعها للشعب الفلسطيني. والحال أن بعض الشعب الفلسطيني موجود فعلاً على هذه الأرض. وأنه يتوجب على قيادته الثورية أن تقود نهوضه الوطني سواء كانت تحت الاحتلال الإسرائيلي، أو تحت يد "العملاء العرب" هاشميين كانوا أم فلسطينيين... أن أوهام "الحرية" لاتعني سوى إزالة التوتر الثوري بين هذا الشعب، وتفريغه ضمن أوهام مؤتمر جنيف، و"ميزان القوى" الموجود فقط في ذهن منظري "الحرية"، ومن ثم إعطاء الفرصة لضرب الثورة الفلسطينية. بدلاً من ذلك كان يتوجب أخذ الشروط الجديدة التي يوضع فيها هذا الشعب، في الاعتبار من أجل الاستجابة الثورية الصحيحة لهذه الظروف الجديدة على صعيد السياسة والتنظيم والكفاح الجماهيري السياسي والمسلح.
* إن المسألة بالطبع ليست (كما يقول معارض "الحرية") من قبيل ضيق رقعة الأرض وعدم كفايتها من الناحية الاقتصادية، مما سيضعها تحت الهيمنة العسكرية السياسية الاقتصادية للصهيونية. بل ان المسألة في الوضع السياسي الراهن لن تخلق سلطة وطنية أصلاً، حتى يصبح الكلام عن تعرضها لقصر ذات اليد بقمع الشعب الفلسطيني وفق المخطط الامبريالي الصهيوني، بحيث يبدو في الظاهر أنه قمع فلسطيني ضد الفلسطينيين العصاة، ومن هنا فلا معنى لتساؤلات "الحرية" المضحكة عن ما سوف تتعرض إليه تلك السلطة الوطنية التي تتوهم الحرية أن أطراف النزاع ستهبها للشعب الفلسطيني.
إنه من السخف أن تقفز "الحرية" بخفة إلى ما بعد تحقيق السلطة الوطنية وما سوف تتعرض له(1) ، كي تجيب آخذة المظهر الثوري، لا المظهر اليميني. ذلك قبل أن ترى جيداً حتى ضوءاً رفيعاً يضيء هذه الإمكانية. لعلها أيضاً تتصور ليس فقط انها ستعتمد على قواها الذاتية ودعم القوى الوطنية العربية (التي لم تستطع فرض الحرب الشعبية على الأنظمة... لعلها تقصد بالقوى الأنظمة الحاكمة !!) وكل قوى التحرر والاشتراكية في العالم. لعلها تتصور أيضاً أنها ستبني الاشتراكية، حيث قد وفرت عليها الامبريالية وشروط جينيف النضال ضد الدولة القمعية، بل لعل هي ستكون الدولة التي اضمحلت في ظل الهيمنة الامبريالية، ولعلها ستكون أول دولة في العالم قد تم لها القضاء على الدولة والجيش وتتمكن من أن تكون أول جزيرة يوتوبيا في العالم. ان الأحلام كثيرة ويبدو أن "الحرية" صاحبة الأوهام تعتقد القدرة على وضع إطار كامل لأحلامها وأوهامها !
إن الثورة الفلسطينية عليها أن تناضل من على كل الأرض الفلسطينية من أجل انتزاع حق تقرير المصير، وعليها أن توجه جهداً رئيسياً في اللحظة الراهنة، إلى انتزاع قاعدة وطنية على الضفة الشرقية والضفة الغربية كأضعف الحلقات التي يمكن أن تخترق في المستقبل القريب. وذلك لمواصلة النضال من أجل التحرير الكامل، وأن عليها أن تناضل، من أجل تحقيق ذلك، ضد الامبريالية والصهيونية والحكومات العميلة العربية والبرجوازيات العربية، وتكثيف الجهد الثوري لاسقاط الملك العميل وأي سلطة عميلة فلسطينية محتملة من أجل تأسيس هذه السلطة الوطنية. وعليها أن تكون مستعدة لتدخل البرجوازيات العربية ضدها وليس فقط تدخل الامبريالية وإسرائيل، وهذا ما يدفعها إلى التحالف الوثيق مع القوى الثورية العربية التي يجب أن تبلور خطاً ثورياً في مواجهة الطبقات الحاكمة، وأن تقوم بهزيمة كافة أشكال المراجعة، التي لا تعمل على توطيد سلطة البرجوازية أيضاً (من ناحية النتائج الموضوعية بالطبع).
* إنه من الواجب على الثورة الفلسطينية أن تبلور برنامجاً وطنياً للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة والأردن، وفي الأرض المحتلة عام 48 منسجم مع استراتيجية التحرير وايضاً للشعب الفلسطيني بالبلاد العربية.
1- يجب رفع شعارات مساواة الأقلية بالأغلبية اليهودية في الأرض المحتلة عام 48، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وحقهم في تأسيس السلطة الديمقراطية بالأرض المحتلة بالتحالف مع القوى الثورية في فلسطين شرط تخلصها من الايديولوجيا الشوفينية، المنعكسة في برامجها التي تعمل على توطيد الصهيونية والامبريالية. ان النضال النظري ضد هذه البرامج هو مهمة ضرورية من أجل تحويل شعار الدولة الفلسطينية الديمقراطية إلى برنامج حقيقي يسعى إلى بلورة برنامج للنضال بالعنف الثوري من الداخل والمنسجم مع ضرورة الكفاح المسلح من الخارج ضد الدولة القمعية الامبريالية الصهيونية. إن النضالات المسلحة ضد هذه الدولة (من الخارج ومن الداخل)، لا يعني غض النظر عن رفع مطالب ديمقراطية ثورية للأقلية الفلسطينية. بل ان هذه النضالات سترفع أشكال الوعي والتنظيم لديهم ما يدفعهم إلى الاسهام النشيط في أرقى أشكال الكفاح (=الكفاح المسلح).
2- يجب رفع شعارات تطالب بحق الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة من أجل تأسيس السلطة الوطنية المعبرة بصورة ديمقراطية عن هذا الشعب وكافة طبقاته الكادحة والمعادية للامبريالية والصهيونية وعملاء الامبريالية الهاشميين أو الفلسطينيين. هذه السلطة الوطنية وهذه الحقوق الديمقراطية ليست نقيض أو بديل عن الكفاح المسلح، بل شرط أن تكون سلطة وطنية وشرط أن تكون ديمقراطية هي أن تكون معبرة عن المطامح التاريخية للشعب الفلسطيني والمنسجمة مع حقه في حمل السلاح من أجل تحقيق هذه المطالب، وتوجيه الضربات المسلحة للعدو الصهيوني الامبريالي. إن هذه السلطة شرط تحققها هو أن تكون سلطة في مواجهة كافة الحلول الاستسلامية التي تدعم النفوذ الامبريالي في المنطقة. إن جوهر ومضمون النضال من أجل هذه السلطة هو نقيض جوهر ومضمون خط البرجوازيات الاستسلامي.
3 - يجب رفع شعارات تطالب بالحقوق الديمقراطية للشعب الفلسطيني في البلاد العربية، أي في تأسيس منظماته الجماهيرية، التي تعبر عنه والتي لا تعني بالطبع المشاركة في الحكم في هذه البلدان، ولكن تسمح له بالتحالف الثوري مع القوى الثورية في البلدان العربية من فرض استخدام أراضي هذه الدولة في النضال المسلح مع القوى الثورية العربية ضد العدو الصهيوني والامبريالي. ان هذا الشعار مركزي في نضالات الشعب الفلسطيني. ذلك في مواجهة شعارات الحروب المحدودة، وفي مواجهة الانسجام مع وجود هذه الدولة الامبريالية القمعية. ذلك مع الكف عن استجداء ذلك الحق من السلطات الحاكمة.

* أما في اللحظة الراهنة :
فإنه يتوجب على الثورة الفلسطينية بالتحالف مع القوى الثورية في البلاد العربية أن ترفع شعارت اسقاط التسوية السياسية، بكافة أشكالها، واسقاط مؤتمر جينيف، والفصل بين القوات. والنضال ضد أشكال التبعية الامبريالية السياسية والاقتصادية، واسقاط كافة الاتفاقيات والعقود التي تؤدي إلى ذلك.
رفض نزع سلاح الثورة الفلسطينية ومحاولات تدجينها في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت الحصار المحكم للعسكرية الإسرائيلية. أن حق المواطنة للشعب الفلسطيني في أي جزء من أرض فلسطين، يجب النضال ضد استخدامه من قبل الأنظمة العربية من أجل نزع سلاح المقاومة في الأراضي العربية وتدجينها في أراضي الدولة الكاريكاتور. انه يجب النضال ضد هذه المحاولات برفع شعارات حق التواجد في البلاد العربية واستخدامها للنضال المسلح الفلسطيني ضد العدو الصهيوني.

انتهى
شباط/ فبراير 1974
 -;---;--
الفهرســت

مقدمة 5
أولاً : المسألة القومية والوضع الفلسطيني 8
ثانياً : الهزيمة 27
ثالثاً : كيف تحلل "الحرية" وموازين القوى قبل حرب أكتوبر 46
رابعاً: حول استراتيجية وتكتيك الكفاح الوطني الفلسطيني 66



#سعيد_العليمى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فى ذكرى تأسيس حزب العمال الشيوعى المصرى - 8 ديسمبر 1969
- الاتحاد السوفييتى فى مرآة الدستور الجديد - ليون تروتسكى
- حول مسودة دستور اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية - جوزي ...
- حول مسودة دستور اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية - جوزي ...
- حول مسودة دستور اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية - جوزي ...
- حول مسودة دستور اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية - جوزي ...
- دستور اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية الجديد - ليون تر ...
- المادية التاريخية - نقد المفهوم الاورثوذكسي - جورج لارين
- الدستور السوفييتى عام 1918 ( مقتطف ) ف . ا . لينين
- احتجاج الشعب الفنلندى ف . إ . لينين
- حول جوهر الدساتير – بقلم فرديناند لاسال ( خطاب القى ...
- نقد التحليل البنيوى للاسطورة - سايمون كلارك
- اطروحات حول الثورة والثورة المضادة - ليون تروتسكى (1926 )
- البورجوازية والثورة المضادة - ف إ . لينين
- البورجوازية والثورة المضادة - 4 – 4 كارل ماركس
- البورجوازية والثورة المضادة - 3 - 4 كارل ماركس
- البورجوازية والثورة المضادة - 2 - 4 كارل ماركس
- حول ديباجة الخطاب الدستورى السلطوى
- البورجوازية والثورة المضادة - 1 - 4 كارل ماركس
- البلاشفة والاسلام - الشيوعية الاسلامية بقلم جيرى بيرن - القس ...


المزيد.....




- السعودية.. ظهور معتمر -عملاق- في الحرم المكي يشعل تفاعلا
- على الخريطة.. دول ستصوم 30 يوما في رمضان وأخرى 29 قبل عيد ال ...
- -آخر نكتة-.. علاء مبارك يعلق على تبني وقف إطلاق النار بغزة ف ...
- مقتل وإصابة مدنيين وعسكريين بقصف إسرائيلي على ريف حلب شمال غ ...
- ما هي الآثار الجانبية للموز؟
- عارض مفاجئ قد يكون علامة مبكرة على الإصابة بالخرف
- ما الذي يمكن أن تفعله درجة واحدة من الاحترار؟
- باحث سياسي يوضح موقف موسكو من الحوار مع الولايات المتحدة بشأ ...
- محتجون يقاطعون بايدن: -يداك ملطختان بالدماء- (فيديو)
- الجيش البريطاني يطلق لحى عسكرييه بعد قرن من حظرها


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد العليمى - موقف من مهمات النضال الفلسطينى - شيوعى مصرى - حزب العمال الشيوعى المصرى - كتابات القسم الثالث