أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد إبريهي علي - الفعل الجمعي لتجاوز الفشل والركوب المجاني في العراق















المزيد.....



الفعل الجمعي لتجاوز الفشل والركوب المجاني في العراق


أحمد إبريهي علي

الحوار المتمدن-العدد: 5009 - 2015 / 12 / 10 - 19:28
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


توطئة عامة:
تتناول هذه المقالة مواجهة الفساد عبر توظيف بعض المفاهيم المستعارة من الدراسات الأجتماعية، إلى جانب مقاربات اخرى لأضاءة جوانب من انماط السلوك السياسي واوجه علاقة الأفراد مع الدولة وفي انتظام انشطتهم الخاصة. وتناقش المديات الممكنة لتخليق مبادرات للفعل الجمعي قد تسهم في تقوية زخم الأصلاح بمحاصرة الهروب من الواجب في اداء المهام الأصلاحية لتجاوزالفشل. ولهذا فالمقصود ليس النظام السياسي والدولة بالمنظور الكلياني حصرا، او فيما إذا كان الفشل في طبيعة النظام السياسي ام في التشكيلة الحاكمة، او الأنسجام الممكن بين الجغرافية السياسية والبشرية للدولة، بل النظر إلى الموضوع على مستويات عدة. وتنطلق هذه المحاولة من أن الأضطرب والخلل الذي شهده العراق يتعذر تفسيره بمعزل عن القيم الأجتماعية وما تنتجه من معايير ظاهرة ومستترة لتنظيم السلوك البشري. وتبدو تلك القييم، والأيديولوجيات ذات الأثر في الحراك والفعل السياسي، كأنها عاجزة عن الوصول بالمجتمع، المنقسم على النحو المعروف، إلى حالة الأنسجام بين تراتبيات المنزلة والسلطة وتوزيع الأدوار ومتطلبات عمل الدولة الوطنية بالحد الأدنى من الكفاءة في اداء الوظائف. كما ان ضآلة الأنجاز في قطاع الأعمال واضح ولا يعزى تعثره كليا إلى السياسة والأمن بل ثمة اسباب تنتمي إلى إلى عالمه الداخلي ونسقه الخاص. ولم يُظهر المجتمع الأهلي قوة الدافع لحماية الحياة والإزدهار الأنساني بحيث يرغم المستوى السياسي على الأنصياع لضوابط وسقوف لا يستطيع تجاوزها. وأن تنويع المقاربات وزوايا النظر قد يسهم في إطلاق صيغ جديدة من الحوار تقود إلى إغناء برامج الأصلاح والتطوير او ترفع مستويات الأستعداد لمباشرة حلول جادة للمشكلة السياسية.
ويتضمن الفشل إنحسار التعاون على اصعدة مختلفة، وسوف يتضح ان الفساد المالي والأداري هو تخلي عن التعاون الضروري لحماية المصالح المشتركة، والمطلوب مبادرات تتجه بالضد من التداعي ولتقوية إرادة العمل الجمعي من اجل البقاء والنماء.
ومثلما يتطلب النشاط الأقتصادي تعاقدات تفترض وجود السوق، فإن السوق لا يكون ولا يعمل إلا بالمجتمع اي بالقيم المشتركة التي تخلق الثقة للدخول في تلك التعاقدات وإنجاز الصفقات. و لكي تكون القيم المشتركة الموثوق بها حاكمة لابد من تراتبية وسلطة تفرضها بقوة القانون. والسلطة وترابيتها وما يتصل يها تحتاج إلى عقد إجتماعي صريح او ضمني لقبولها والخضوع لأوامرها (7, P 441).
والعوامل الضاغطة على الأفراد والمجموعات والمنظمات بالأتجاه الذي يضعف القيم المشتركة هي ذاتها التي تنقض اسس التعاون الأيجابي والذي لا تستقيم الدولة بدونه. ولا شك ان الأنقسام على الخط الطائفي في العراق ومفاعيله الأقليمية والدولية كان من اعنف عوامل الجريمة والخراب، لكن ضعف القيم المشتركة يلاحظ في اصغر نطاق جغرافي وفي اوساط تامة التجانس الأثني ما ادى إلى تغول الفساد في نواحي شتى.
تقييم التدابير والسياسات المعتمدة لمكافحة الفساد والفشل:
في مقالتين سابقتين تناولَت الفساد اوضحنا الاطار المفاهيمي لثنائة الأصيل - الوكيل وهي الأكثر شيوعا، لحد الآن، وتستند إليها الكثير من الأطروحات النظرية والسياسات المقترحة لمواجهة فشل القطاع العام، و خارج القطاع العام ايضا حيثما تنفصل الأدارة عن الملكية اوعند تخويل الصلاحيات. وهي مستعارة من نظرية المنشأة الأقتصادية وبيئة قطاع الأعمال. وقوامها تفاوت او تناقض المصالح بين الأصيل والوكيل. ولتحليل ظاهرة الفساد في القطاع العام، بمعناه الواسع والحكومة جزء منه، لا بد من تعريف تلك الثنائية بمن يمثل طرفيها : إذ يمكن النظر إلى الشعب اصيلا ليتمثل الوكيل في الهيئة المنتحبة والحكومة المنبثقة عنها، او ان السلطة التشريعية هي الأصيل والحكومة وكيل عنها. ومن الجائز مقاربة تلك الثنائية بالمستوى السياسي للحكومة في مقابل المستوى البيروقراطي، او رؤساء الجهاز البيروقراطي إزاء المراتب الأدنى في الجهاز. وجميع هذه التوصيفات جائزة ومناسبة لمستويات وممارسات مختلفة من الفساد. وتركز ثنائية الأصيل- الوكيل على ان الأخير يتابع مصالحه، وبالوسائل غير المشروعة، التي لا تنسجم مع مقتضيات الأخلاص لتعهداته اوما ينتظر منه تجاه الأصيل، وهكذا تنشأ واقعة الفساد. ومما يساعد على الأنحراف قلة المعلومات لدى الأصيل مقابل وفرتها لدى الوكيل، ما يسمى عدم التناظر المعلوماتي، ولذا تضعف قدرة الأصيل على الرقابة وتقييم الاداء. وفي الواقع إن هذا التفاوت المعلوماتي، وضعف القدرة على الرقابة والتقييم، حاصل لكافة المستويات من الثنائية ، سواء إفترضنا الأصيل ممثلا بالقادة السياسيين والجهاز البيروقراطي هو الوكيل، او ان الشعب هو الاصيل والمستوى السياسي في الدولة والجهاز البيروقراطي بأجمعهم يمثلون الوكيل للشعب الذي إئتمنهم على مصالحه.
وثمة مسألة لم يلتفت إليها جيدا وهي ان السلطة التقديرية للأدارة Discretion حاضنة الفساد وتسمى تلك السلطة التقديرية في بلادنا الأجتهاد. ومن طبيعة الأمور انه لا إدارة بلا إجتهاد إذ من المحال تقنين ما يفعله الوزراء والمدراء مسبقا. وعلى الأغلب تسمح القواعد والضوابط الحاكمة بمدى واسع من حرية إتخاذ القرار، وتأتي هنا إساءة إستخدام تلك الحرية لخدمة الأغراض الشخصية على حساب مصلحة الأصيل، أي الشعب، في نهاية المطاف.
وقادت تلك المنطلقات النظرية إلى المعالجات الشائعة ومنها: تقوية اجهزة التدقيق والسيطرة الداخلية، مثل دوائر الرقابة الداخلية والمفتشين العموميين في العراق، واجهزة الرقابة الخارجية مثل ديوان الرقابة المالية في العراق ودول اخرى، وهيئة النزاهة وتشكيلات مكافحة غسل الأموال وتمويل الأجرام. وايضا تشريع قوانين لحماية المخبرين والتشجيع على الأبلاغ عن التجاوزات، وتغليظ العقوبات، وتنشيط دور منظمات المجتمع المدني للرقابة على الأداء الحكومي، والشفافية وغيرها . لكن التجربة بينت ان تلك التدابير ومجموع المعالجات من هذا الطراز لم تسفر عن نتائج كبيرة، وافلحت إلى حد ما في مجالات دون غيرها ضمن منظومة المالية العامة في الدول التي لا تعاني إضطرابات عنيفة مثل العراق. ومع ملاحظة الفاعلية الواطئة لتلك الأدوات في مكافحة الفساد وعلى صعيد واسع في العالم إتجهت الأنظار صوب نموذج نظري آخر هو الفعل الجمعي Collective Action، والخروقات التي تضعفه او حتى تمنع مزاولته، للبحث في ظاهرة الفساد والفشل ولأستنتاج سياسات قد تكون اكثر فاعلية(1).
مقاربة الفعل الجمعي:
دائما توجد إحتياجات مشتركة هي قوام الأجتماع الأنساني ومنها ان جميع افراد المجتمع ينتفعون من سيادة القانون لحفظ امنهم وحماية ممتلكاتهم، ومما يخدم مصالحهم وجود نظام تعليمي كفوء، وصحة عامة تعمل جيدا، ومنطومة سليمة لضمان مياه صالحة للشرب وبيئة نظيفة، وشوارع وانظمة نقل وإتصال وسواها كثير. وهذه الأحتياجات التي تلبى جماعيا تسمى سلع عامة Public Goods وتحتاج مباشرة، او بصورة غير مباشرة، لفعل جمعي لأعادة إنتاجها وإستدامتها. ومن خصائص السلع العامة عدم إستثناء احد من إستهلاكها ، والسلع العامة البحتة تتضمن في تعريفها عدم التدافع في الأنتفاع منها Non- Rivalrous اي اان استهلاك هذا الفرد منها لا يقلل فرص الآخرين في الوصول إليها. ولأن النزاهة وكفاءة اداء الدولة من بين هذه السلع العامة، لذلك تتطلب إدامتهما دوام الفعل الجمعي لمكافحة الفساد وسوء الأدارة، وبتعبير آخر يتطلب الأمر نوعا من الفعل الجمعي للحفاظ على تماسك وحيوية مختلف الأشكال التي يتخها الفعل الجمعي لأنتاج السلع العامة او خدمة المصالح المشتركة .
وعادة في المجتمعات الكبيرة لا يكون الأنضباط في الفعل الجمعي تاما. إذ يختار افراد من المجتمع عدم المشاركة لأستمرار الخير العام طالما ان المهمة منجزة بمشاركتهم اوعدمها وسوف ينتفعون اسوة بالذين تحملوا أعباء المشاركة ويسمى هذا السلوك الركوب المجاني Free- Riding. ويمكن تمثيل موقف الركوب المجاني عند مطالبة الصيادين الأمتناع عن الصيد الجائر، فلسان حال الصياد ، لو امتنع بقية الصيادين عن الصيد الجائر فهذا في مصلحة المجموع، وهو منهم، اما إمتناعه هو شخصيا فلا يضر بالنتيجة وبذلك يزاول الصيد الجائر وينتفع من إمتناع بقية زملائه لأستدامة تكاثرالأسماك. اي يختار الركوب المجاني ليحقق الأنتفاع غير المشروع مفترضا عدم العقوبة او ان كلفة المخاطرة بمخالفة الأوامر أدنى من ألأنتفاع الذي يحققه بالمخالفة. ويضرب المثل ، ايضا، من دور نقابات العمال في تحسين شروط العمل والأجور لجميع القوى العاملة وليس للمنخرطين في النقابات لوحدهم لأن القواعد الناظمة للعلاقة بين العمال وارباب العمل سلعة عامة Public Good لايمكن استثناء بعض العمال من مزاياها المكتسبة بنضال النقابيين. والعمال الذين لم يشاركوا رفاقهم عناء النضال ولم يسهموا في تحمل نفقات مكاتب الأتحاد العمالي قد مارسوا الركوب المجاني. وهذا مثال يفيد النطاق الواسع لأشتغال المفهوم والذي لا ينحصر في مهمات الأصلاح الحكومي ومكافحة الفشل من اجل الدولة الكفوءة العادلة للجميع.
ويمكن الحد من الركوب المجاني بتشديد الرقابة والعقوبة، لكن الرقابة لا تشدد فعلا والعقوبة لا تفرض إلى الحد الرادع دون التعاون الذي يصطلح عليه الفعل الجمعي.
وإحراز الثقة Trust بأن افراد الجماعة ( المنظمة ، مجتمع المدينة ، المجتمع الوطني) امناء في تصرفهم تجاه الواجب، وان الأطمئنان بهذه المعنى موجود مسبقا، يساعد كثيرا على تماسك الفعل الجمعي في مكافحة الفساد او تحسين اداء اجهزة الدولة اوعملية التطوير على نطاقها الأقتصادي – الحضاري الأوسع. لكن الأمر يختلف تماما لو إعتقد الصياد، في مثالنا السابق، ان الآخرين لا يمتثلون اصلا ولذلك لا جدوى عمليا من إمتثاله وهذه حالة فقدان الثقة Trust والتي تحتاج معالجة من نوع مختلف. إذ لم تعد هناك قاعدة، هي الأمتناع عن الصيد الجائر، يثق الجميع او اغلبيتهم بأنها فاعلة بل تخترق وفي إختراقها ليس ثمة مخاطرة بالتعرض للعقوبة او الخزي الأجتماعي. ولذلك فإن التناول الأعلامي للفساد وسوء الأدارة في العراق وتقديمه على انه " نظام " شامل مستحكم يحطم هذه الثقة، ثقة الأفراد بحسن نية الآخرين من مواطنيهم وأستعدادهم للمشاركة في الأصلاح، وبالتالي يقوض الأساس الضروري للفعل الجمعي الأيجابي. وهكذا يمكن القول ان كثيرا من الأنشطة الأعلامية من داخل وخارج العراق، والتي تتخذ من الدولة والسلطة واحزابها محورا لها، هي تهدف اساسا إلأى تدمير شامل للثقة ليس في السلطة وحسب بل والمجتمع كذلك ، لأهداف سياسية من جانبهم.
أن اداء الدولة النزيه والكفوء هو سلعة عامة ينتفع الجميع منها بلا إستثناء ولا تدافع، كما تقدم، مثل نزاهة القضاء وسيادة القانون او حسن التصرف بالمال العام، ومن الضروري لنجاح الفعل الجمعي قناعة الجميع بأنهم فعلا يتكافئون في الأنتفاع منها . ولأنها سلعة عامة ، بهذا المعنى، فإن إعادة إنتاجها رهن بالفعل الجمعي ومن مصلحة الجماعة مقاومة الركوب المجاني، لأن تكاثر حوادثه تعرقل إستدامة هذه السلعة او حتى إنعدامها عند الوصول إلى حالة غياب القاعدة العامة. ومما يعجل بالوصول إلى إنهيارمنظومة إدامة الإنتاج فقدان الأطمئنان إلى وجود القاعدة، اي ان الآخرين يشاركون، وتتمثل تلك القاعدة في المشاركة الفعلية لأفراد المجموع بالفعل الجمعي.
وهنا يتطلب الأصلاح وإعادة الأمور إلى نصابها ثورة ثقافية تقود إلى الأشمئزاز والنفور من الركوب المجاني، وبأنه مرفوض اخلاقيا وهو سلوك يحط من كرامة الأنسان وينزع الجدارة والشرعية عن الفرد او المجموعة التي تزاول هذا السلوك. بيد ان الذي يحصل في العراق غير هذا فتركزت الأدانة، بفعل الرافضين للنظام السياسي والمعارضين والمتنافسين داخل التشكيلة الحاكمة، على السلطة المركزية او الشريك الرئيسي فيها. وبذلك إتيحت فسحة واسعة للفاسدين في قطاع الأعمال الخاص والأجنبي، واوساط منتفعة من الفساد في المجتمع الأهلي نفسه. ووجدت كوادر الدولة غطاءا يعفيها من المسؤولية بحجة ان الفساد محاصصة وطائفية وإحتلال، ولاعلاقة له بإداء المهندسين والحقوقيين والمحاسبين والأطباء وخبراء الأقتصاد والمال والأعلام وغيرهم ، فهولاء مهنيون مساكين غلبوا على أمرهم، والذين تعايشوا مع الفساد هم جهلة من اصحاب الشهادات المزورة جاءت بهم المحاصصة إلى السلطة والأدارة الحكومية.
وليس في هذا تهوين لتقصير المستوى السياسي وتخفيف إدانته إذ سوف نأتي عليه في محله. لكن العلم الأجتماعي ، من حيث هو علم، لا يسمح بإختزال الدولة ومجتمعها الوطني بمجموعة من السياسيين وصلوا إلى السلطة بأية طريقة كانت. وإن ثقافة التساهل مع خيانة الواجب وتجاوز القانون اصبحت بنية صلبة تتطلب جهدا نوعيا وعلى مستوى رفيع من التنظيم لتكسيرها.وهناك فرق جوهري بين بحث مشكلات العرق لتهيئة مدخلات تساعد المنحى الأصلاحي أو عملية إعادة البناء، ويتوخى هذا المنهج تشخيص إرتباطات او ربما علاقات سببية تتصل مباشرة او عبر سلسلة من الوسائط بالهدف النهائي . وبتعبير آخر نستفيد من منهجيات السياسات Policies لمعرفة ادوات يمكن التحكم بها، بهذا القدر اوذاك، للتأثير في الهدف وهو في موضوعنا هذا الدولة وأدائها. أما التوجه إلى اسقاط النظام السياسي، بوعي او دون ذلك وبحكم الهدف المختلف، فيركز على توظيف الجهود في تجميع المعلومات لتغذية خطاب تحريضي. وبينت التجارب ان الأفضل هو التوجه إلى المجتمع الأهلي وانشطة الأعمال والجهاز البروقراطي، لأرساء مقومات ملموسة لدولة افضل وسلطة اكفأ، طالما توجد فرصة حتى ولو كانت على صعيد المعرفة والوعي وترصين القيم الأيجابية.
وفي العراق ينعدم الأستعداد تقريبا للتضحية بالمنافع الفئوية للأمد القصير، الرواتب او حجم القطاع الحكومي او تقليص عدد المواقع الأدارية لهذا الحزب او ذاك، من اجل مكاسب تنموية في زمن لاحق. وهنا ايضا تتدخل مسألة الثقة في الأمد البعيد اوعلى حد تعبير احد الكتاب " رفع سعر الدولار له نتائج فورية واكيده ومنها صعود اسعار المستوردات وخفض الرفاه الأستهلاكي اما النتائج الأخرى مثل تنمية الصناعة والزراعة فهذه ليست مؤكدة"(2). وبتعبير آخر عندما تطالب فئة إجتماعية بخفض مكاسب قد تحققت لهم فعلا لقاء عوائد اكبر للمجموع فسوف يختارون، على الأغلب، الأنسحاب من المشاركة في الفعل الجمعي. ولذا تعود المسألة مجددا إلى نزاع المصالح، و يغدو الأصلاح رهنا بالقدرة على تأليف الكتلة الأجتماعية القادرة على حسم النزاع لجهة الأصلاح.
أن مصالح الأفراد والجماعات والقطاعات والمناطق تنطوي على هذا القدر او ذاك من التفاوت والأصطدام. فهذه الفئة من اصحاب الأعمال الزراعية والصناعية تستفيد من فرض الرسم الكمركي، لكن المستهلكين وربما التجار قد يجدون فيه ضررا لهم، ومنع السكن العشوائي لا يرضي الفئة المستفيددة وهو في نفس الوقت يخدم مصالح اوسع، كما ان استقلال المحافظة بالتصرف بماليتها وامنها قد يجده سكان المحافظة مناسبا لهم وهو يتعارض مع مصلحة عموم العراق، ورؤساء العشائر قد يرغبون في تصريف الكثير من الشؤون دون القانون ومطلبهم لا يرضي الكثير من المواطنين ويضعف كيان الدولة وله نتائج سيئة للمجموع ... وهكذا. بيد انه في كل الأحوال هناك مصالح عليا للمجتمع العراقي عبّر عنها القانون ولا بد من إحترامه، لأن الدولة التي يحتاجها الجميع توجد بقوانينها، ولا بد من تماسك الفعل الجمعي لضمان سيادة القانون اي وجود الدولة بكل ما تعنيه. وأن خرق القانون بغض النظر عن الذرائع يندرج في مضمون الركوب المجاني. ومن الطبيعي ان لكل منا وجهات نظر قد تختلف حول عدالة وعقلانية هذا القانون او ذاك ، بيد ان كيان الدولة يتزعزع ويتضررالجميع بالتعامل الأنتقائي مع القوانين. وهنا مثلما يكون الفعل الجمعي مطلوبا لسيادة القانون فإن الفعل الجمعي للأصلاح القانوني يقدم خدمة جليلة للمجتمع.
الركوب المجاني في الوسط السياسي ومن زوايا اخرى:
والركوب المجاني سلوك شائع في العراق وهو من الأسباب الرئيسة للفساد والفشل. وعلى سبيل المثال يعلم قادة الأحزاب المشاركة في السلطة، واعضاء مجالسها المركزية واعضاء المجلس النيابي والحكومة وشاغلو المواقع العليا في أجهزة الدولة، ان عليهم مسؤولية تضامنية سياسية واخلاقية في محاربة الفساد المالي وسوء الأدارة، والتصدي للفشل في اداء الدولة، لكن يوجد في هذا الوسط القيادي شخصيات تختار الركوب المجاني لأنهم لا يريديدون تحمل اعباء إزعاج المنتفعين من الخراب. فمنهم من يريد المكاسب المعنوية والمادية للموقع السياسي والأداري، بل ويعلم ان مكاسبه تلك رهن بإستمرار وجود الدولة وعملها، لكنه لا يريد الأسهام بتكاليف الحفاظ على شرف الدولة وكفاءتها . والركوب المجاني واضح جدا في السلوك السياسي والأداري في العراق، وايضا مسكوت عنه وهذا السكوت ركوب مجاني آخر. والمعرفة بالطبيعة البشرية تفيد قطعا ان اداء الأمانة في المواقع السياسية والأدارية العليا مهمة جسيمة لا يستطيعها إلا القليل من الأفراد الذين تهيأت لهم المزايا المناسبة. لأن اداء الأمانة هناك بحسب الموازين الدينية والأخلاقية والدستورية والقانونية يتطلب الأستعداد للمخاطرة بالحياة، وقدر إستثنائي من الجسارة وتصرفات توصف، من الأقرباء والأصدقاء، بالقسوة وعدم الوفاء، لأنها امانة ثقيلة وخيانتها لا تبقي ولا تذر. اما ان شخصا يتورط بتلك المسؤولية الجسيمة وليس لديه الأستعداد لطرد الصديق الذي يخون الواجب والحكم على القريب بالسجن لأنه إنتهك القامون، ولا يقول لفلان احترم سيادة العراق وللآخر انت مجرم قاتل ، لأنه إنسان كما يوصف من جماعة الركوب المجاني أنه "طيب، دمث الخلق، لا يزعج احدا، معتدل، يرضي الجميع " فهذه نازلة احلت بالعراق. لأن المنزلة Status بين الناس، والموقع السياسي او الاداري، او الرئاسة في اي مجال، هذه جميعا، لها وظائف تؤديها وليست مزايا يستحقها " نبلاء القوم " رغم انف المجتمع. وعندما يعجز شاغلوها عن الأضطلاع بمهامها يصيب المجتمع ضرر فادح، أما إذا تهرب المعنيون عن أداء تلك المهام الحيوية على نحو الركوب المجاني فهذا فساد صريح. وعندما تستخدم تلك المواقع لخدمة المصالح الشخصية غير المشروعة فهو فساد اكبر وخيانة عظمى.
ويعبر عادة عن تفشي الركوب المجاني بالعدوى وإن علية القوم لهم الدور الأكبر في الترويج لهذا النمط من السلوك او ذاك. وكلما تكاثر حديث الأعلام عن ممارسات في اوساط النخب العليا مثل التقاعس في حماية القانون، او النهوض بالأقتصاد او الدفاع عن الوطن وحماية مواطنيه، إزداد إحتمال الركوب المجاني في المستويات القريبة منهم ثم تدريجيا يعم المجتمع الوطني. حيث يصل الركوب المجاني إلى حد غياب الفعل الجمعي تقريبا في العديد من المهام التي تتطلبها سلامة الأمة، من محاربة الجريمة والرشوة إلى الكفاح لترصين النظام التعليمي والخدمات الصحية والبيئة ورفض التجاوز على المال العام وحقوق الملكية للأفراد وحرياتهم المدنية ... وجميع ما يندرج في الصنف الواسع للسلع العامة.
ولقد تحمل الشعب العراقي من المآسي والعذاب ما يعجز عنه الوصف جراء هذا الطراز من السلوك، الركوب المجاني، الذي إعتادت عليه شخصيات مشاركة في النظام السياسي والسلطة وألادارة الحكومية. وليس من الصعب مراجعة المواقف المعلنة والفعلية إزاء وقائع سفك الدماء، ومجاملة الدول القريبة والبعيدة على ضلوعها الذي لا تخفيه في تخريب العراق وتحويله إلى أكثر بقاع الأرض رعبا وفوضى، والسكوت او التصرف بنية إسقاط الفرض تجاه السرقات الهمجية للمال العام. ومن اسوا ما وصل إليه العراق ان أبناء الشعب اصبحوا على قناعة بأن سياسيين في الصف الأول تتناثر اشلاء ناخبيهم في برك الدماء، ابرياء لا حول لهم ولا قوة، لم يظهر منهم الأكتراث بما يتناسب مع الفجيعة، او حتى تكلف التعبير بزهد او إعراض عن شيء من مرغوباتهم ، بل يتصرفون وكأنهم موظفون بسطاء يمتثلون لأوامر تنفذ وحسب.
و في مكافحة الفساد المالي يذكر عن وصول إخبارإلى مسؤولين مهمين في الدولة بان المدير الفلاني قد ضيع على العراق مبالغ طائلة، يأتي الجواب مع التبرير بالحصافة السياسية " نحن نعلم بذلك". وللحقيقة يحار المرء احيانا في تصنيف المواقف هل هي ركوب مجاني ام أن قوة الفساد والتخريب قهرتهم.
وفي السياسة سواء في الخلاف بين بغداد وأربيل، او المصالحة الوطنية، او العراق والدول المجاورة هناك الكثير من مواقف الركوب المجاني وعلى حساب إستقرار العراق وأمنه والمصالح المشروعة لمواطنيه. وفي مآسي المهجرين من المناطق التي إحتلها الأرهاب وما جرى ويجري في المناطق ذاتها الكثير من شواهد التربح من فواجع العراق.
مبادرات الفعل الجمعي:
ويقترح البعض انظمة حوافز للحفاظ على تماسك الفعل الجمعي لمكافأة المشارك بالأيجابية المطلوبة ، ومعاقبة المتخلي عن الواجب. بيد ان الحوافز بهذا المعنى تقتضي تشخيص المشاركين والهاربين عن مسؤولياتهم، وبهذا تعود المسألة إلى التنظيم وهو امر ليس بالهين. وعندما تزايدت القناعات بأن إستمرار الفساد والفشل وربما تفاقمه في بعض البلدان يعود إلى ضعف الفعل الجمعي الهادف، لذلك أخذت تتزايد في العالم ، الدول والمجتمع الدولي والمنظمات الأقليمية، مبادرات الترويج للفعل الجمعي هنا وهناك. وإلى جانب ما تقدم لازالت تصدر تشريعات من قوانين وضوابط وتعليمات من اجل النزاهة وسلامة الأداء، واستحدثت المزيد من ترتيبات الرقابة والتفتيش في دول بدرجات متفاوتة من الديمقراطية. وبقيت التوصيات القديمة متداولة مثل: الأهتمام برواتب موظفي الخدمة العامة، ورفع المستوى التعليمي للمدراء والعاملين في المهمات الحساسة والتي يرتفع إحتمال إغراءات الفساد فيها، ، وزيادة حراك المنتسبين ، اي تقليل فترة المكوث في الموقع الحكومي، والشفافية ، وتقوية ادوات فرض الضوابط التنظيمية ... والمساءلة والتدقيق والعقوبة ، وغيرها. وهذه تبقى مهمة وتبقى مع ذلك فاعليتها متعلقة بمدى الشعور بالمسؤولية وحضور ثقافة ووسائل تقوية الفعل الجمعي ومن اهمها الأدانة المجتمعية القطعية للركوب المجاني(4).
ولقد إستشعر المجتمع الدولي اهمية الفعل الجمعي في مكافحة الفساد، فأستحدثت دائرة في الأمم المتحدة بعنوان التعاهد العالمي ضد الفساد، وصدر دليل يحتوي 80 تجربة في دول ومجموعات دولية لمبادرات مختلفة التنظيم والنطاق، لتنشيط الفعل الجمعي وتطويره (4). وتلك المبادرات اغلبها في قطاعات الأعمال، وبين تلك القطاعات والحكومة . ومن وسائلها إعتماد قواعد واضحة يتفق المشتركون على إلتزامها وتدور حول تحريم الفساد والرقابة المتبادلة بين الجهات المشتركة في التحالف ضد الفساد لهذا الغرض.
وتفيد التجربة الدولية، في قطاع الأعمال، ان الأنسجام مع مبادئ الفعل الجمعي ليس بالسهل في اجواء ضعف الثقة بأمانة الآخرين وإلتزامهم، وإغراءآت فرص الربح الحرام من صفقات الفساد التي لا تضحي بها بعض الشركات. ومن المناسب المكاشفة بشأن عدم الثقة وقد يساعد التعهد الرسمي، من قبل اصحاب الأعمال، بإحترام معايير محددة للسلوك مع الرقابة المتبادلة واحيانا تعيين جهة مستقلة لمراقبة اداء الشركات ومدى إلتزامها بالفعل الجمعي.
والعراق احوج ما يكون إلى تجريب مبادرات الفعل الجمعي لمواجهة الفساد والفشل، وان تعقد إجتماعات للبدء بتطوير ادلة عمل وضوابط. ومن الأفضل ان تبدا تلك المبادرات بالمستوى السياسي وان يضغط المجتمع ومنابر الرأي العام لأجبار السياسيين من كافة الأحزاب بما فيهم المعارضة على الألتزام بمنهج عمل جمعي يحاصر الفساد. ومن بين الأدوات الرقابة المتبادلة، وتعيين جهة مستقلة تنصرف بحيادية تامة لمتابعة سلوك الجميع الذين تعاهدوا على محاربة الفساد وإنقاذ الدولة. مع الصعوبات المعروفة لتشكيل فريق او هيئة تنأى فعلا بمسافة عن التنافس السياسي في العراق. لأن المعرفة التي تتخذ من الدولة وعلاقتها بالمجتمع موضوعا لها جرى تسييسها من وقت مبكر عبر تشويه مفهوم المثقف العضوي.اما القاب الخبير والمحلل السياسي وغيرها فقد لعب بها الركوب المجاني طولا وعرضا.
وايضا من المفيد التحرك في مجالات الأعمال الخاصة: انشطة التجارة ، والمقاولات، وعقود التجهيز الحكومي، والمستثمرين وسواهم ودعوتهم إلى مواجهة مسؤولياتهم الأخلاقية والأجتماعية في ردع الفساد. وذلك بخضوعهم جميعا إلى معايير واضحة للعمل في السوق والمبادلات والتعاقد مع الدولة.
ومن المتوقع ان تعترض الكثير من الأوساط على مقاربات من هذا النوع بدعوى ان القوانين واضحة والتعليمات صريحة وعلى الدوائر المعنية فرضها ومعاقبة من يخرج عليها وحسب. بيد ان هذا الأعتراض لا ينطلق من واقع الممارسة مع الخلل الواسع في إجراءآت فرض القانون ولا بد من مساندة لتخليق زخم سياسي، إلى جانب المجتمع الأهلي، يساعد على كسر الحلقة المفرغة للأنطلاق على مسار الأصلاح.
الفعل الجمعي له دور إيجابي لتشكل بيئات جديدة لأنشطة الأعمال، وعلاقة المواطنين بالدولة، من شأنه تقليل فرص العمل خارج حكم القانون عندما يوقض الهمم ويرفع مستوى الشعور بالمسؤولية. وايضا يقدم حماية للضعفاء الذين يعانون من الأقصاء والتهميش بسبب الفساد، إذ لا يستطيعون الأنتفاع من الفرص التي سنها لهم الدستور وأوجبتها القوانين فتكون مبادرات الفعل الجمعي، بهذا المعنى، من اشكال التكافل الأجتماعي.
الثقة ونوعية المؤسسات:
الثقة Trust لها سياقات عديدة عموديا وافقيا ، سياسيا وإجتماعيا ، بصفة عامة او على نطاق محدد. وهي من اهم مكونات رأس المال الأجتماعي والعنصر الهام في التقدير المضمر للمخاطرة في التفاعل الأنساني ضمن المجموع الكبير حيث يتعذر توفر الكفاية من المعلومات مسبقا . ولذا فإن ضعف الثقة يجعل المجتمع ادنى كفاءة ولا يستطيع الأنتفاع من إمكانات الأجتماع الأنساني التي اتاحتها الحضارة. وبهذا يفهم ان مبادرات الفعل الجمعي تتطلب اولا الأشتغال كثيرا على عنصر الثقة والذي يتجلى بالأطمئنان إلى اداء الشريك لواجباته، ومثلما يصح الفعل الجمعي في العمل من اجل إقامة تحالف لمواجهة الفشل والفساد بين السياسيين، هو صحيح ايضا في الترتيبات التي يراد إقامتها في اوساط قطاع الأعمال في العراق.
ولعل من اهم عوامل الصلاح الأجتماعي الثقة بالمؤسسات الرئيسية والتي لها الدور المركزي في الدولة الوطنية. ويرى البعض، ونتفق معهم، ان تلك الثقة سوف تتحول إلى ثقة معممة Generalized بين الناس انفسهم. وذلك نتيجة عدم خشيتهم من إحتمالات تعرضهم للنوايا السيئة لبعض من يتعاملون معهم بثقة او ضياع الحقوق لأن هناك مؤسسات في الدولة تحميهم وتسترد ما أؤُخذ منهم بقوة القانون . وايضا، سوف يكون الأفراد اكثر طواعية لحكم المؤسسات والتي هي موضع ثقتهم وبالتالي يساعدونها على اداء وظائفها والتي تتمثل في المنافع العامة وسيادة القانون وفرض الأمن و... و تسمى إصطلاحا سلع عامة Public Goods كما تقدم. وهكذا تتصاعد العملية الأيجابية الشاملة لخير الجميع (6, P5). وينظر إلى فعل مجموع العوامل التي تعزز الثقة بهذا المعنى بأنه تراكم لرأس مال أجتماعي منتج بتلك العملية اي عملية بناء الثقة. وعند غياب الثقة يحصل العكس تماما ومع تراجع الثقة بالمؤسسات يعم الخوف والحذر من الدخول في علاقات تبادلية وتضعف تدريجيا الأنشطة الأقتصادية التي تتطلب الشراكة وإلتزام الشركاء بإحترام الواجب وعدم سلوك الركوب المجاني. ولا نبالغ في القول ان هذا من اهم ما يفسر بقاء قطاع الأعمال الخاص في العراق يدور حول الأنشطة الفردية او الصغيرة والتي لا تتطلب شراكات واسعة ومعقدة. فالثقة هي التي تشجع الناس على الأكتتاب في الشركات المساهمة او شراء اسهم القائم منها عندما يثقون بنزاهة الأدارة. وتتوسع المصارف بالأقراض عندما تثق بوفاء المقترضين وبخلاف ذلك تتحسب كثيرا وتقلص نطاق نشاطها الأئتماني، وترفع سعر الفائدة لسداد التكاليف المحتملة لعدم الوفاء او ما يسمى القروض الفاشلة ... وهكذا.
ونفهم ان راس المال الأجتماعي يقصد منه جميع وسائل الأتصال بين الأشخاص الطبيعيين والأعتباريين والتنظيمات المجتمعية والضوابط والتقاليد التي تُنجز في كنفها مختلف اشكال المبادلات، والثقة من المكونات المهمة في منظومة راس المال الأجتماعي وتتوقف عليها فاعلية جميع العناصر الأخرى إلى حد كبير فهي جوهره. ونرى انه مثلما يحدد راس المال بالمعنى الأقتصادي، وعلى المستوى الوطني، الطاقة الكلية لأنتاج السلع والخدمات، بحضور وفاعلية عناصر اخرى، كذلك يحدد راس المال الأجتماعي القدرة الكلية للمجتمع على الأنجاز .
ان كفاءة ونزاهة المؤسسات المحورية في الدولة الوطنية تحد من الركوب المجاني بل ومع النوعية العليا للمؤسسات يتضاءل الركوب المجاني إلى النادر والوقائع المعزولة لأسباب منها: يصبح الركوب المجاني مخاطرة مكلفة يتحاشاها الأشخاص في حسابهم العقلاني بغض النظر عن موقفهم الأخلاقي من الضوابط الحاكمة للنشاط المعني. والمؤسسات عالية النوعية تزاول مهامها في ردع الركوب المجاني عبر إلتزامها قواعد عامة مجردة من التمييز والتحيز. وايضا في هذه البيئة يتعذر على الراكب المجاني المحتمل إعاقة الرقابة والرصد ويتعذر عليه إيجاد فسحة لأنتزاع شكل من اشكال الريع بمخالفة القوانين والضوابط ، اي ان التساند والتكامل وقوة النظام المؤسسي لا تسمح بالأختراق الكافي لأنجاز وقائع الفساد(6, P6) .
ومن خلال الممارسة تتأكد القناعة بأن المؤسسات قادرةعلى إكتشاف ومعاقبة الأنحراف وتنعكس ، كما تقدم، بالثقة العامة وتزدهر النشاطات التي قوامها مبادلات تتطلب الثقة.
مع كل ما تقدم لا بد من ملاحظة التفاوت الطبيعي في موقف الأفراد من مختلف القيم، وكذلك المجتمعات لمختلف الأسباب المعروفة . وقد لا حظت الأبحاث التجريبية هذا التفاوت في درجة تبرير الأفراد للركوب المجاني ( التهرب من الضريبة ، دفع الرشوة ، الأدلاء بمعلومات كاذبة للسلطات الرسمية ...) ويعللون ذلك بعدم القناعة بهذا القانون اوذلك او بالأضطرار او ما لا يصرحون به. ولذا قد لا تكون العلاقة محكمة بين الثقة بالمؤسسات من جهة والثقة العمومية ومديات إنتشار الركوب المجاني من جهة اخرى. لكن التصور النظري المقدم آنفا يقدم دليلا للعمل بالأتجاه الأيجابي او على الأقل يساعد هذا المنظور فاعلية الأجراءآت التي تنطلق من مقاربات اخرى.
وفي الأتجاه العام وجدت دراسة Duit علاقة عكسية بين تزايد إعتقاد الأفراد بأن اكثر الناس موضع ثقة ومعدلات الركوب المجاني في المجتمع ، ومثل هذه العلاقة العكسية واقوى بين الثقة بالمؤسسات والركوب المجاني. وفي تحليل الأنحدار وجدت الدراسة ايضا بأن ميل افراد المجتمع لتبرير الركوب المجاني له علاقة عكسية مع الثقة بالمؤسسات وبدلالة إحصائية عالية. وهناك صلة قوية ، بدلالة إحصائية عالية، بين الثقة العامة والثقة بالمؤسسات. وعلاقة الركوب المجاني مع الثقة بالمؤسسات ذات دلالة عالية الأعتمادية ، لكن علاقة الركوب المجاني بالثقة العامة ورغم انها ظهرت عكسية كما هو متوقع نظريا ولكنها ضعيفة احصائيا وتلك النتائج من دراسة 68 دولة. وارى ان هذه المشكلة تقتضي الألتفات إليها في العراق، اي ان الأصلاح بالمعنى الواسع ومن اجل النهضة الشاملة يتطلب عملا مضنيا في المجتمع الأهلي وقطاع الأعمال الخاص، وان إعادة البناء المؤسسي للدولة على اساس الكفاءة والنزاهة لا يكفي لوحده للتخلص من ممارسات الغش التجاري والصناعي وعدم الوفاء بالعقود وضعف الألتزام بواجبات الشراكة الأيجابية بصفة عامة.
كما ان الدخل والتعليم من المتوقع نظريا انهما يضعفان الركوب المجاني ويعززان الثقة بالمؤسسات والثقة العامة ، لكن الدراسة الأحصائية لم تخرج بنتائج واضحة تماما بالأنسجام مع هذه الفرضيات.
تلك محاولة نسميها النظر إلى الفشل الحكومي من داخل المجتمع وحياته اليومية . ونرى ان دراسة التعثر في العراق ضمن نطاق اوسع يضم التشكيلية الحاكمة وممارساتها قد يساعد، بتكرار تجارب البحث وإنخراط واسع لذوي الأختصاص الدقيق في علم الأجتماع، على إكتشاف ادوات فعالة لأعادة بناء الدولة.
د. احمد إبريهي علي
المصادر:
(1) Marquette , Heather and Peiffer , Caryn, Corruption and collective action, Research Paper 32, January 2015, Anticorruption Resource Centre, http://www.U4.no. and http://www.dlprog.org.
(2)Peifer Caryn, Collective Action,DLP Concept Brief, August 2015, http://www.dlpprog.org.
(3)Dasandi Niheer, The Politics – Bureaucracy Interface: Impact on Development Reform, State of the Art 2, October 2014, http://www.dlprog.org.
(4)A Practical Guide for Collective Action Against Corruption ,United Nations , global Compact Office, 2015.
(5)Dowding Keith, Collective Action , Encyclopedia Britannica.
(6) Duit Andreas , Institutional Quality, Trust, and Free –Riding Norms in 68 Countries, Working Papers 2010:1, Department of political Science, Stockholm University.
(7) Carment David, Assessing State Failure: Implications for theory and Policy, Third World Quarterly, Vol 24, No 3, PP 407- 427, 2003.



#أحمد_إبريهي_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسار التحضر في العالم والعراق
- سعر النفط وتوقعات السوق
- هشاشة الدولة ودولة العراق
- بنية المجتمع والبنوية وما بعدها
- حول مفهوم البنية الأجتماعية
- النزاهة بين تنحي الأصيل وخيانة الوكيل ودوافع السلوك
- الموازنة العامة في العراق لعام 2016 وقيد العملة الأجنبية
- الفساد والبيروقراطية والمجتمع: مراجعة اولية وملاحظات
- التحديات السياسية والأجتماعية للتنمية وفرص الشباب: ورقة خلفي ...
- الكم والزمن في الوعي الأقتصادي: تتمة
- الكم والزمن في الوعي الاقتصادي : تتمة
- الكم والزمن في وعي المشكلات الأقتصادية
- ازمة الأقتصاد العراقي وفرص الأصلاح
- نحو مقاربة واقعية للمشكلة الأقتصادية


المزيد.....




- بعد مظاهرات.. كلية مرموقة في دبلن توافق على سحب استثماراتها ...
- تل أبيب.. اشتباكات بين الشرطة وأفراد عائلات الرهائن في غزة
- مقتل رقيب في الجيش الإسرائيلي بقصف نفذه -حزب الله- على الشما ...
- دراسة تكشف مدى سميّة السجائر الإلكترونية المنكهة
- خبير عسكري يكشف ميزات دبابة ?-90? المحدثة
- -الاستحقاق المنتظر-.. معمر داغستاني يمنح لقب بطل روسيا بعد ا ...
- روسيا.. فعالية -وشاح النصر الأزرق- الوطنية في مطار شيريميتيف ...
- اكتشاف سبب التبخر السريع للماء على كوكب الزهرة
- جنود روسيا يحققون مزيدا من النجاح في إفريقيا
- الأمور ستزداد سوءًا بالنسبة لأوكرانيا


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد إبريهي علي - الفعل الجمعي لتجاوز الفشل والركوب المجاني في العراق