أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد أيوب - الكوابيس تأتي في حزيران 11 / 12















المزيد.....



الكوابيس تأتي في حزيران 11 / 12


محمد أيوب

الحوار المتمدن-العدد: 1359 - 2005 / 10 / 26 - 12:19
المحور: الادب والفن
    


رواية
بقلم : د . محمد أيوب
الفصل الحادي عشر
ـ 11 ـ

انتشرت الإشاعات في المدينة ، الدبابات الجزائرية وصلت إلى المدينة ، رأيتها بعيني، مكتوب عليها : إلى القدس ، إلى حيفا ، إلى يافا ، والله إنهم جزائريون ، دقي يا طبول النصر، يا فرحة النصر أطلي علينا ، ما دام الجزائريون قد وصلوا إلى خان يونس فهذا يعني أن الجيش المصري قد وصل إلى تل أبيب، اقترب موعد اللقاء يا وطن ، أقسمت ألا أدخلك إلا منتصراً وعما قريب نفي بالقسم، سنشهد أجمل عرس في حياتنا ، فرحتنا لن تعدلها فرحة في الوجود ، ولكن كيف وصل الجزائريون بهذه السرعة إلى أرض المعركة ، خشي أحمد الفايز أن يعبر عن أفكاره بصوت مرتفع فيكون سببا في هبوط معنويات الناس، غير معقول أن يصلوا بهذه السرعة ، أم أن الجزائريين كانوا موجودين من الأصل ولكن ذلك بقي سراً حربياً، أشم رائحة الخديعة لكني لا أكاد أحدد مصدرها ، الحرب خدعة ، نرجو الله أن نخدعهم .
كان الشارع غاصاً بالناس ، علامات التساؤل تنبعث من عيونهم ، يترقبون في قلق، فما سبق لهم أن ذاقوا حلاوة النصر، كانت آمالهم ممتزجة بالشكوك والخوف ، فرحتهم حزينة ، السيارات تنقل الجرحى ، الدبابات الإسرائيلية هدمت دكاناً في سوق الخضار، صوت العرب يلعلع ، طائراتهم تتساقط كالذباب يا أخي ، آه يا أحمد سعيد ، هنيئا لك يا سمك البحر ، دار الإذاعة السورية من دمشق.. ادبح ادبح تربح .. ميراج راحت واختفت والميج فاقت واعتلت.. طيارها العربي البطل.... آه يا طيران العرب أين أنت ؟ ولماذا يتجول الطيران الإسرائيلي بحرية تامة في أجوائنا ولا نملك إلا أن نطلق مدفعيتنا المحدودة المدى عليه فيبتعد ليعود إلى الاقتراب من جديد مثل ذبابة لحوح ، وصل الحاكم ، صاح أحد الشباب، وأردف : لا بد أن لديه أنباء جديدةً، توقفت السيارة في عصبية ، نظر الحاكم تجاه أحمد الفايز وقال : هل يوجد إنسان يعرف اللغة العبرية ؟
أجاب أحمد الفايز: يوجد فدائي سابق من مجموعات الشهيد مصطفى حافظ يعرف العبرية.
ـ أين هو ؟ تساءل الحاكم .
التفت أحمد الفايز إلى رجل نحيف طويل القامة ونادى : يا أبو علي .
نظر إليه الرجل فأشار إليه بيده أن تعال ، جاء الرجل وعلامات الاستفهام ترتسم على وجهه ، قال أحمد الفايز: سيادة الحاكم عايزك .
طلب الحاكم من الرجل أن يركب السيارة بسرعة ، ركب الرجل وانطلقت السيارة لا تلوي على شيء ، لابد أنهم سيحتاجون إلى كل إنسان يعرف اللغة العبرية ليقوم بالترجمة عند الضرورة وخصوصاً بعد دخول القوات العربية المدن الإسرائيلية ، علق أحد الشباب المتفائلين بالنصر ، رد عليه آخر :
ـ ننتظر الرجل حتى يعود ونعرف منه الخبر اليقين .
تدخل شخص ثالث في النقاش :
ـ كيف يمكن أن يعود إذا كان سيقوم بالترجمة بيننا وبينهم ، بالتأكيد لن يستغنوا عنه .
لم ينبس أحمد الفايز ببنت شفة ، آثر الصمت على الكلام ، كان بداخله إحساس غريب ، مزيج من الطمأنينة والقلق ، يا إلهي لا تخيب آمالنا يا رب .
في حوالي الساعة الثانية عشرة عاد الرجل ، وجهه أصفر ، فرائصه ترتعد ، طلب ماء ليشرب ، انهالت عليه الأسئلة دون هوادة: ها .. بشر ولا تنفر .. ماذا جرى ؟ بالتأكيد سيأخذونك معهم إلى تل أبيب لتترجم لهم ما يقوله أبناء ال…..، بختك يا عم .. ستغوص في اللحم الأبيض.. وصيتك يا شيخ تنقي لي وحدة حلوة تجري الريق.. قال أحد الملتحين .
ـ اللهم اجعل أموالهم ونساءهم غنيمة لنا ولأولادنا آمين يا رب العالمين ، انفجر الرجل ، بركان غضب كان : أيها المغفلون .. دبابات اليهود في داخل البلد .. الدبابات الجزائرية ليست جزائرية.. هي دبابات إسرائيلية خدعتكم ببعض الشعارات المكتوبة بالعربية.
ـ أنت كاذب ، صاح أحد الشباب غاضبا وأردف : أنت تحطم المعنويات ، من الأفضل أن تعيرنا سكوتك .
قال أحمد الفايز : دعوا الرجل يكمل ما عنده ، وحثه على مواصلة الكلام .
أردف الرجل : لقد كلمتهم بالعبرية ، التفت قائدهم نحوي وابتسم :
ـ هل تعرف العبرية ؟ اقترب .
ترددت بعد أن فهمني ورد علي بالعبرية ، خشيت أن يكتشف أنني من رجال مصطفى حافظ ، ولكنه شجعني على الاقتراب وطلب مني أن أبلغ الناس أن يقوم كل إنسان لديه بندقية بتسليمها قبل أن يقوموا بتمشيط البلدة .
جاء أحد الشبان وهو يلهث من شدة التعب ، قاطع حديث الرجل : اليهود متمركزون في مدرسة عبد القادر الابتدائية ، ينادون على الناس بمكبرات الصوت ، يطلبون منهم أن يرفعوا الرايات البيضاء وأن يدخلوا بيوتهم .
ـ ما هذه المهزلة ، تساءل أحد الحاضرين بغضب ، واصل حديثه : نرفع الرايات البيضاء ؟ هكذا وبكل بساطة ؟ ترى هل نسوا أننا نحمل السلاح ؟ وإذا كان الجيش قد هزم فإن الشعب لن يهزم .
قال أحمد الفايز : ليحرص كل منا على سلاحه ولا يفرط فيه ، لا تطلقوا أية طلقة دون أن يكون هدفكم واضحاً ومحدداً ، خذوا مواقعكم والتزموا بالأوامر.. نحن ندرك أن قطاع غزة ساقط عسكريا ، وواجبنا الوطني والقومي يبدأ من الآن .. نحن رديف الجيش العامل، علينا أن نحتضن جنودنا وأن نمد لهم يد المساعدة لأنهم سيشاركوننا في المقاومة الشعبية.
بدأ الجنود القادمون من الجبهة والذين صدمتهم عملية دخول القوات المعادية إلى قلب المدينة بهذه السرعة ، كانوا يتوقون إلى الاشتباك المباشر مع القوات المعادية فالموت أرحم من الهزيمة، أخذ الجنود يتجهون شرقا وأمامهم أحد خيارين : النصر أو الشهادة ، أما الهزيمة.. ارحمنا يا رب السموات والأرض . الأنباء تتوارد عن تجمعات العدو ، مجموعات الجنود فقدت اتصالها ببعضها ، لابد من الاعتماد على الذات ، الدبابات تتمركز عند الدوار الشرقي.. بين بني سهيلا وخان يونس .. اندفع الجنود نحوها كالنسور الجارحة.. الإذاعة الإسرائيلية تطالب الناس بالتسليم .. الملك حسين يطلب من الناس أن يقاوموا بأيديهم وأظافرهم.. قاوموهم بالحجارة.. بأظافركم ،، بأسنانكم .. الشباب يتقدمون نحو دبابات اللواء المدرع رقم تسعين ، مصريون ، فلسطينيون، لا فرق، الوطن واحد والرب واحد والمصير واحد، وهدرت راجمات ال (آر . بي . جيه) ، وتجندل برج دبابة، واستسلم جنزير أخرى، وسال الدم، الدبابات تحاول التراجع ، الشباب يلاحقونها ، لقد دمرنا دبابة أخرى ، لاحقوهم حتى لا يفلتوا منا، وتم تدمير اللواء المدرع رقم تسعين .
***
قهوة جلود .. الساعة الآن الثانية بعد الظهر.. دبابة إسرائيلية تتمركز عند الجامع الكبير بالقرب من النصب التذكاري للجندي المجهول ، قال أحد الجنود ، واصل حديثه : بإمكاني أن أدمرها لو كانت معي قنبلة يدوية ، كان أحد الجنود المصريين يغفو إلى جانبه ، هزه أحمد الفايز برفق فأيقظه : لو سمحت نريد قنبلة يدوية من القنابل الموجودة معك .
رفض الجندي إعطاءه القنبلة قائلاً : أريد أن أدافع عن نفسي .
ـ أرجوك ، أعطني قنبلة . قال أحمد الفايز.
رفض الجندي إعطاءه القنبلة ، احمرت عينا أحمد الفايز وطق الشرر منهما :
ـ قلت لك أعطه قنبلة أفضل لك . ومد يده إلى حزام الجندي وانتزع قنبلة من القنابل الثمانية التي كانت تتدلى منه ، مد يده بها إلى الجندي المتحمس وقال له : على بركة الله .
انطلق الجندي متجها إلى الشرق ، لم يكن المسجد الكبير يبعد عن مقهى جلود أكثر من بضع دقائق، طلقات المدفعية تصفر في الجو ، الشوارع خالية من الناس ، ارتفعت حرارة الجو، كان أحمد الفايز يتوارى خلف ساتر من الأكياس الرملية وعلى جانبه الملازم أول جهاد ، في آخر الشارع من ناحية الشرق برز شبح إنسان يلبس ملابس مرقطة، سحب الملازم أول أجزاء بندقيته الآلية من طراز كلاشنكوف وكاد أن يضغط على الزناد ، أمسك أحمد الفايز بيده : ماذا تريد أن تفعل يا رجل ؟
ـ أطلق النار . ألا ترى اليهودي القادم نحونا ؟
ـ على فرض أنه يهودي.. هل ترى أنه من الصواب أن نطلق النار عليه من هذه المسافة فنكشف أنفسنا لمن قد يكونون وراءه ، ولو قتلته وتبين لك أنه عربي بعد ذلك فكيف سيرتاح ضميرك ؟
ـ ما العمل إذن ؟ هل ننتظر حتى نصبح تحت رحمتهم ؟
ـ دعه يتقدم قليلا ، فإذا استطعنا أن نشخصه كان بها .
ـ وإن لم نستطع ؟
ـ عندها تطلق بضع طلقات تحذيرية منخفضة بحيث لا تؤذيه .
تقدم الرجل حتى أصبح تحت المرمى المؤثر لنيران البندقية الآلية ، أطلق الملازم بضع طلقات تحذيرية، صاح الرجل : عربي .
قال جهاد بصوت جهوري : ارفع يديك إلى أعلى ثم تقدم ببطء .
امتثل الرجل للأمر ، رفع يديه إلى أعلى ثم تقدم حتى أصبح على بعد بضعة أمتار، صاح جهاد : عرف نفسك .
ـ أنا النقيب غازي أبو عرب .
ـ انبطح أرضا ثم تقدم زاحفا... اثبت مكانك.. لا تتحرك .
التفت جهاد إلى جندي وطلب منه أن يخرج إلى الرجل وأن يقتاده إلى المقهى ، وصل الرجل، كانت يداه متسختان ، عليهما آثار شحم وقد تلطخت ثيابه ببقع من الزيت ، قال الرجل : أنا النقيب غازي أبو عرب، تعطل مدفع دبابتي التشيرمان بعد أن أطلقت طلقة واحدة لم تصب الهدف وإنما اخترقت دكانا مقابلا لعمارة محروس .
ـ وإلى أين أنت ذاهب الآن .
ـ إلى فرقة الصيانة لأحضر من يستطيع إصلاح الدبابة والمدفع .
قال أحمد الفايز : أنا عائد لتوي من هناك ، لا يوجد أحد في الإستاد الرياضي ، تعرضوا لقصف مدفعي أجبرهم على مغادرة المكان .
كان أحمد الفايز قد رأى بعض المنشورات التي يحملها الهواء وهي تتطاير في الجو ، ألقتها بعض الطائرات المحلقة ، أراد أن يعرف مصدر هذه المنشورات وما تحتوي عليه، طلب أن يرافقه أحد الحضور لإحضار بعض هذه المنشورات ، لم يتجرأ أحد على الخروج من الاستحكام، الهزاز فقط قال له بعفويته : أنا روح معك ، نهض أحمد الفايز، أمسك بندقيته بيده اليمنى ، الحبة في بيت النار، لا يحتاج إلا إلى سحب الأمان والضغط على الزناد لإطلاق النار ، بينما كانت يدا الهزاز تتأرجحان إلى الوراء وإلى الأمام ، ورأسه يهتز مرة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار، صفرت دانة مورتر في السماء ، انحنى أحمد الفايز عفويا ، سكت الصفير فجأة ، صاح أحمد الفايز : انبطح يا هزاز حتى لا تموت .
قذف الهزاز نفسه على الأرض بعنف ، دوى انفجار يصم الآذان عن يمينهما ، انهض. قال أحمد الفايز ، نهضا وجريا بسرعة، صفارة أخرى تعبر السماء ، انبطح يا هزاز، صاح أحمد الفايز ، انهض يا هزاز، انبطح يا هزاز، انبطح ، انهض......، أصابت الدانات مستشفى ناصر ، غادر الأطباء المستشفى إلى الطوابق السفلية وتبعهم من لم يمت من الجرحى ، بينما قام بعض الأشخاص خلال ذلك بسرقة الساعات والخواتم الذهبية من أيدي بعض القتلى، انهض يا هزاز، انبطح يا هزاز.... هوو.. هوو.. صاح الهزاز في غضب صاخب أنا بدي أموت، مش مبطوح، وانطلق مشرقا بأسرع ما يمكن ، استمر في ثورته : يلعن أبو المنشورات على أبو اللي رماها ، وأنا مالي ومالها . ضحك أحمد الفايز وقد اقتنع بوجهة نظر الهزاز، قال في سره : خذوا الحكمة من أفواه المجانين، وانطلق عائدا إلى مقهى جلود ، ينبطح إذا سكت صوت الصفير وينطلق إذا هدأ القصف .
وصل إلى المقهى ، لم يجد جهاد هناك ، سأل عنه فقالوا له إنه ذهب إلى البيت ولم يعد حتى الآن ، ابتسم أحمد الفايز ، كأنهم بدءوا يشمون رائحة الهزيمة ، كان جهاد من القوات التي تدربت في العراق ، وكان الناس يبنون آمالاً كبيرة على أبنائهم أينما تدربوا ، في سوريا أو في العراق أو في مصر، ما بيحرث الأرض إلا عجولها ، وها هي العجول بلا قيادة ، انقطع اتصالها بقياداتها ، كل يغني على ليلاه .
عاد الجندي الذي أخذ القنبلة وفي يده ساعتان ، ساعته الأصلية وساعة أخرى قال إنه أخذها من يد جندي إسرائيلي بعد أن فجر الدبابة ، فاجأها من الخلف، الدبابة عمياء، مدى رؤيتها محدود ، قال الجندي ، تسللت من ورائها ، لم يكونوا يتصورن أن أحداً يتجرأ على الاقتراب منها ، اطمأنوا إلى قناعتهم تلك ، هبط الجندي المطل من برج الدبابة .. لا أدري لماذا ، سحبت بأسناني أمان القنبلة ، قبضت على ذراع المفجر بكل قوتي واندفعت كالسهم ، امتطيت الدبابة من الخلف، البرج ما يزال مفتوحا، نظرت منه، الجندي يمضغ شيئا ما ، صرخت صرخة النصر ، نظر الجندي إلى أعلى، التقت عينانا ، قاتل ومقتول تلتقي نظراتهما للحظات ، حاول النهوض.. قذفت بالقنبلة وانزلقت بسرعة ، دوت صرخة مرعوبة امتزجت بصوت انفجار القنبلة واندفع جسد الجندي إلى أعلى ، الدم ينزف من جميع أنحاء جسده ، ألقى نظرة فارغة من الحياة ، كأنه يودع إنسانا ما ، تألمت وهو يتشبث ببقايا روح تحاول أن تغادر جسدا لم يعد ملكا لها ، كنت أحتاج إلى دليل يؤكد أن القنبلة لم تذهب سدى ، وأن حصادها كان طاقم إحدى الدبابات من طراز سنتوريون ، قررت أن آخذ ساعة الجندي ، عدت، تسلقت الدبابة من جديد ، جسد الجندي ما زال يرتجف محاولا منع روحه من الفرار المبكر ، يده اليسرى ملقاة فوق برج الدبابة بلا مبالاة، اقتربت منه بحذر، تحرك رأسه حركة لا إرادية ، عيناه مفتوحتان ، تنظران إلى الأفق البعيد ، مددت يدي إلى يده اليسرى ، نزعت الساعة من يده ، لم يمانع ، كان في رقبته سلسلة عليها حروف عبرية وكذلك في يده ، يبدو أن اسمه مكتوب على القطعة المعدنية في كل منهما ، لم أفكر في أخذ السلسلة، خاتم خطوبة كان يلمع في إصبعه البنصر ، يا إلهي .. نحن خطيبان .. كان يمكن أن يقتلني فلا أعود إلى خطيبتي ، لكني سبقته ، ماذا ستفعل خطيبته حين تعلم بموته يا ترى ؟ هل يعتقدون أن الحرب نزهة ؟


الفصل الثاني عشر

ـ 12 ـ

قرر أحمد الفايز أن يتوجه إلى المنزل لتناول طعام الغداء ، وجد أمه في البيت، كانت قلقة لا تدري ما يحدث حولها ، ماذا أعددت لنا من طعام ؟ سألها ، ودون أن ينتظر جواباً منها توجه إلى طنجرة الطعام ، رفع الغطاء ، شم رائحة البصل المحمر بالإدام ، كانت الطنجرة مملوءة بالمجدرة ، كانت شرائح البصل المحمر تتمدد باسترخاء بين حبات الرز والعدس ، جرى الريق في فمه ، قامت أمه لتعد له صحناً من السلطة ، سكبت المجدرة الساخنة في الصحن ، لم ينتظر حتى تنتهي والدته من إعداد السلطة ، تناول بضع ملاعق ، انتهت أمه من إعداد السلطة ، ازدرد الطعام بسرعة ليعود إلى قهوة جلود ، كان الشارع شبه خال من البشر ، للحرب رائحة خاصة تلون الجو بلون خاص ، يتنفس الإنسان هواء غريباً ، ويعيش مشاعر غريبة ، كيف يمتزج الأمل بالخوف ؟ ما هو المركب الناتج عن ذلك ؟ اتجه إلى المقهى ، لم يجد أحداً فيه ، وجد شاباً يلبس ملابس كاكية ، لا يدري إن كان جندياً أم مجنداً ، كان يحمل بندقية من طراز كلاشنكوف ، حياه وسأله عن الشباب فلم يجد لديه جواباً ، كان قد جاء لتوه وقد أفاد أنه لم يجد أحداً فقرر أن يتمركز هنا على أمل أن يلتقي ببعض الجنود الذين بعثرتهم الصدمة ، اقترح عليه أحمد الفايز أن يبتعدا عن المكان ، كان في الجانب الآخر من الطريق وإلى الشرق من مسجد المعسكر والحاووز خندق محفور وأمامه ساتر من أكياس الرمل وجذع شجرة كينيا ضخم جداً ، عبرا الشارع إلى الجانب الآخر بسرعة ، قذفا نفسيهما في الخندق ، أطل أحمد الفايز من خلال فتحة ضيقة بين أكياس الرمل ، كان الشارع خاليا من البشر ، أخذ الناس يتوارون من الشوارع ، وفجأة أطلق زميله صلية من بندقيته الآلية ، اعتقد أحمد الفايز لأول وهلة أن النار أطلقت عليهما ، كانت الظروف الفارغة قد تناثرت فوق رأسه ، وعبق المكان برائحة البارود المشتعل ، أدرك أن زميله هو الذي أطلق النار ، تساءل : لماذا أطلقت النار ؟ هل رأيت شيئاً ؟
صمت زميله ولم يجب ، أعاد النظر من الكوة التي بين أكياس الرمل ، لم ير شيئاً ، يبدو أن زميله ارتبك أو أنه تخيل شيئاً ، مرت طائرة في الجو عند إطلاق الصلية وأثناء لمعان السنجة في الشمس ، وما هي إلا لحظات حتى بدأت قنابل المورتر تتساقط كالمطر في المنطقة ، تمتلئ السماء بالصفير الذي سرعان ما ينقطع لتتوالى بعده الانفجارات ، خفض أحمد الفايز جسده داخل الخندق حتى لا يصاب بشظايا الدانات المنفجرة ، كان لا يريد أن يجمعوه قطعا من اللحم في كيس كما جمعوا غيره في الحروب السابقة ، كان أمله ألا يحدث ذلك وألا تهبط قنبلة ملعونة فوق جسده مباشرة ، أن يموت دون أن يتبعثر جسده في الأنحاء المختلفة ، أصابت إحدى الدانات قبة المسجد فتغلفت بالدخان الأسود ، وأصابت دانة أخرى خزان المياه الرئيسي في المعسكر ، انفجر الماء من الخزان المرتفع عيناً دافقة ، تساقط الماء من الخزان المرتفع شلالاً غاضباً ، تسربلت كل المنطقة المحيطة بعباءة من الدخان الأسود الكثيف ، أصبح الجو خانقا ، رائحة البارود تخنق الجو ، كاد يختنق، يا إلهي .. ما من منجى من هذا القصف المستمر ونحن نقف عاجزين عن الرد ، لو كان أمامنا هدف واضح لأطلقنا عليه ، لكن أن نطلق الآن يعني أن نتلقى المزيد من الدانات ، عزرائيل يتجول في المنطقة على ظهر دانة مورتر! فهل سيصلنا هذا العزرائيل يا رب ويريحنا من العجز الذي يكبلنا ، الموت أرحم من هذا الوضع.. توقف القصف فجأة كما بدأ فجأة ، وشيئاً فشيئاً انجلت الغلالة السوداء التي تحجب المكان ، التقط أحمد الفايز أنفاسه ، التفت إلى زميله ، كان العرق يتصبب من وجهه ، يداه تنزان عرقاً غزيراً ، لنخرج من هنا بأسرع ما يمكن، خرجا بسرعة ، اتجها إلى الجنوب ، كان أمامهما ملجأٌ محفور في الأرض إلى الشرق من المسجد تماماً ، فتحة الملجأ تؤدي إلى الناحية الشمالية التي قدما منها ، دخل الرجل إلى الملجأ بسرعة وتبعه أحمد الفايز دون تفكير ، جلس عند فتحة الملجأ، داهمه خاطر مرعب : ماذا لو عبرت دبابة إسرائيلية شارع البحر ورأتهما ، كانت ستتسلى عليهما ، ستطلق النار من رشاشها وسيتدفق الدم من جسديهما لبضع دقائق تهرب الحياة بعدها من الجسدين ، صاح بالرجل : لنخرج من هنا حالاً ، لا أريد أن يكون هذا الملجأ لحداً لنا ، لابد أن الدبابات الإسرائيلية ستمر من هنا ، وسيطلقون النار علينا بكل تأكيد ، أمن الرجل على كلامه وخرج من الملجأ بسرعة ، اتجها إلى الشرق من ممر رئيسي موازٍ لشارع البحر من الجنوب ، من ممر فرعي ضيق يتفرع عن شارع البحر وعلى بعد حوالي مائة مترٍ إلى الشرق منهما مر شخصان يلبسان ملابس الصاعقة الكاكية المرقطة، سحب أحمد الفايز وزميله أجزاء بندقيتيهما دون سابق اتفاق، صرخ زميله : ثابت أنت وإياه .. لا تتحركا وإلا أطلقت النار،
تجمد الرجلان في مكانهما ، جمدتهما المفاجأة أو سوء الفهم .
ـ نحن عربيان ، قال أحد الرجلين ، وأكمل الآخر:
ـ جئنا نبحث عن طائرة هليوكوبتر إسرائيلية يقال إنها هبطت على إحدى التلال وأنزلت جنوداً خلف خطوطنا ، سرح أحمد الفايز ويداه ما زالتا على الزناد ، هل بقيت لنا خطوط حتى يكون لها خلف أو أمام ؟ اقتربا من الجنديين ويداهما على الزناد، قال أحدهما :
ـ انظرا .. نفس التسليح .. نفس الرصاص.. خذا بعض الرصاص فقد يلزمكما .
أخذا الرصاصات التي قدمها الرجل لهما ، لم يعرفا إن كان يهدف من وراء ذلك إلى مساعدتهما حقا أم أنه يريد التخفف مما يحمله ، اختلطت عليهما الأمور ، أدرك أحمد الفايز بغريزته أن الهزيمة واقعة لا محالة وأنها ستكون أكبر من سقوط قطاع غزة ، قرر بعد ذلك أن يتوجه إلى بيت عمه ، يرى خطيبته قبل أن يموت ، أن تكون آخر شيء يراه، أن يغمض عينيه على صورتها وينام نومته الأبدية ، فالموت أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، أخبر زميله برغبته فقال له : وأنا أريد أن أرى أهلي .. الدنيا فيها من موت أو من حياة.. لا أحد يعلم ما تخبئه لنا الساعات القادمة .
بعد أن غادرا الملجأ بفترة وجيزة قدمت مجموعة من الأساتذة المصريين تتكون من ثلاثة أشخاص ، رأوا الملجأ فقرروا الدخول فيه ، كانوا قد تركوا بيوتهم في المدينة ليبتعدوا عن الخطر ، مرت دبابة إسرائيلية، رآهم جندي البرج ، أدار رشاشه نحوهم وقذف بضع صليات مجنونة ، انثقبت الأجساد وتدفق الدم وصعدت الأرواح إلى بارئها ، وبعد انتهاء الحرب قام السكان بمواراتهم في التراب بعد أن عرفوا هويتهم وحددوا شخصياتهم. ماتوا غرباء مثل غربتنا فطوبى لكل الغرباء أينما حلوا وأينما رحلوا.. طوبى للغرباء في بلد الغرباء.. لله درك يا أبا ذر.. كنت وحيدا وغريباً في دفاعك عن الحق.
وصل إلى بيت عمه إسماعيل عبد الله الفايز ، وجده يحمل بندقيته في ترقب ، فالأمور مازالت غامضة ، لم يكن يريد أن يصدق أننا قد نهزم كما هزمنا في المرات السابقة ، كان ابن عمه يحمل بندقيته هو الآخر ، كان عنيداً يريد أن يواجه العدو ، أن يذهب إلى أي مكان للبحث عنه ، كان شوقه إلى المواجهة يستفز والده الذي كانت لديه قناعة راسخة أن المواجهات غير المحسوبة تقود إلى الهلاك والهزيمة ، كان في حوش الدار خندق متعرج ، اقترح أحمد على عمه أن يجلس كل منهم في زاوية من زوايا المنزل وأن يغلقا باب الدار ، وعندما يحاولون اقتحامه نطلق النار معاً كأننا رجل واحد .
دق باب الدار دقات خفيفة ، افتحوا أنا يوسف الفايز ، دخل أحد أقاربهم وهو يحرك يديه بطريقة يائسة : ماذا تفعلون هنا ؟ ماذا تنتظرون ؟ هل تنتظرون أن يأتي اليهود ويقتلوكم ؟ الهزيمة واقعة لا محالة .. فلنغادر هذا المكان قبل فوات الأوان.. أنا أعرف العرب .. لا يجيدون سوى الهزيمة.
ـ أسكت ولا تجبرني على إسكاتك .
قال أحمد الفايز بعد أن وضع سبابته على الزناد .
ـ أنت لا تعرفهم ، أنا الذي يعرفهم ، ألم أكن جندياً سنة ستٍ وخمسين ؟ لا يجيدون إلا خلع بساطيرهم وإلقائها على قارعة الطريق .. يهربون دون أن يلتفتوا وراءهم.. انفدوا بجلودكم.. هل تريدون أن يقوموا بصفنا على الجدران وإطلاق النار علينا كما فعلوا في الماضي.. لن يرحموا أحداً هذه المرة ، دب الرعب في قلب جدة أحمد الفايز وفي قلب زوجة عمه ، تساءلت جدته : وماذا نفعل ؟
ـ نهرب إلى البحر .. كل الناس يهربون إلى البحر.. الموت مع الناس رحمة ، أما أن نموت وحدنا هنا بين أربعة جدران فهذه مصيبة .. ليطلقوا النار علينا عن بعد.. نكون قد حرمناهم من اختيار طريقة قتلنا .
أمنت الجدة على كلامه وارتجفت النسوة ، نظر إليه عمه متطلعا كأنه يسأله المشورة وإن كانت نظراته توحي أنه ميال إلى الخروج من بين الجدران ، لم يستطع أحمد الفايز إلا أن يلتزم برأي الأغلبية ولكنه اشترط على الجميع أن يحتفظوا بأسلحتهم حتى النهاية ، لا يفرقهم عنها إلا الموت. وافقوا على شرطه دون تردد ، كانوا يفكرون في اللحظة الحاضرة فقط .
***
خرجوا جميعا وفي حلوقهم طعم الهزيمة ، كان الهواء وكانت السماء ، وكانت الجدران والممرات وكل الأشياء مشبعة بالهزيمة رغم أن أحمد سعيد ما زال يصرخ وأن طائراتهم ما زالت تتساقط عبر موجات إذاعة صوت العرب ، دانات المورتر تزعق كالغربان وشظاياها تتناثر في كل مكان ، كان أحمد الفايز يجري بضع خطوات ينبطح بعدها حتى لا تصيبه الشظايا ، وكان ابن عمه يصرخ عليه أن يجري وأن ينسى ما تعلمه أثناء التدريب.. الميت ميت والحي حي.. الحي ما برافق الميت .. اجر وخلصنا يا أخي قبل أن يدخل اليهود المعسكر ويفعلون بنا ما فعلوه سنة ستٍ وخمسين .. هل نسيت أصحابك ، أولاد صفك ، قتلوهم بعد ما رصوهم على الحيطان، كانوا أطفالاً، طلاب في المدرسة الإعدادية ، ومع ذلك قتلوهم .. صفرت دانة جديدة جرى ابن عمه بكل قوة، انبطح أحمد الفايز ، التفت يوسف نحوه وصاح عليه إجر يا ملعون .... وأتبعها بكفرانية ، ظلت دانات المورتر تتنقل في المنطقة على شكل مشية الغراب وصوت طلقة يئز بين الحين والآخر ، كان الصوت مكتوماً ، صاح ابن عمه : سامع.. كل طلقة بإنسان.. يتصيدون الناس كما كنا نتصيد العصافير في طفولتنا.. تنهد أحمد الفايز.. للعصافير قيمة أكبر من قيمة العربي عندهم.. ترى أين يكمن ذلك الذي يطلق الطلقات المتقطعة حتى نتفاداه ، آه لو نتمكن من رصده! ضحك ابن عمه ضحكة ساخرة وقال : وماذا كنت تفعل يا أبو الفوارس ببندقيتك النصف آلية ؟ الواضح يا سبع إنه قناص.. عارف إيش يعني قناص ؟ يعني يمكنه أن يصيب المكان الذي يريده .. الرأس أو الصدر .. في القلب ، وبعدها سلم على الحبايب يابا .. يعني بعد ما نصل التلة الرملية نمشي في مكان مستور .. لا نشوف ولا ننشاف حتى نصل بسلام ، وصلوا التلة الرملية ، البنادق ما زالت في أيديهم .. على الأقل يمكنهم أن يدافعوا بها عن أنفسهم ، فاجأتهم ناقلة جنود وهي تحترق ، ما زال الدخان يتصاعد منها .
ـ يا إلهي .. صاح أحمد الفايز ، وأردف : انظر. ربما كان الجنود في داخلها .
ـ اذهب واطفئها ، قال ابن عمه ساخرا .
ظل عمه وابن عمه الآخر صامتين كأن الأمور لا تعنيهم أو كأنهم يفكرون في أشياء أخرى . طالت الطريق .. كأن البحر ابتعد عنهم ، عندما كانوا يذهبون إلى البحر من قبل لم تكن الطريق طويلة هكذا ، ماذا جرى ؟ ألن نصل شاطئ الأمان ؟ تساءل ابن عمه يوسف .
علق أحمد الفايز : ومن أدراك أننا سنجد الأمان هناك ؟ ألا تتوقع أن يكونوا في انتظارنا هناك ؟
زغره ابن عمه زغرة فيها مزيج من الحقد والكراهية والخوف : فال الله ولا فالك يا شيخ .. بشر ولا تنفر.
قال أحمد الفايز : يا هارب من قضاي ما لك رب سواي . اتكل على الله يا رجل.. إحنا أحسن من غيرنا .. معانا بواريد على الأقل .. بنقدر ندافع عن حالنا ، وبعدين لو متنا بنموت بشرف .
ـ روح موت لحالك .. أنت يا راجل ما فش في تمك إلا الموت.. عيرنا سكوتك اعمل معروف ..أنا وراي أطفال بدي أربيهم .. مش زيك .... وسيرك .
***
أطلت المواصي من بعيد ، خضرتها قاتمة اللون، ساكنة وحزينة ، سرح أحمد الفايز .. حتى الطبيعة تدرك معنى الهزيمة.. الأشجار ساكنة .. لا تتحرك أغصانها ، ربما هجرتها طيورها فزعاً من صوت الرصاص والانفجارات ، والبحر هادئ كأنه يرفع راية الاستسلام ، لم يعد له صوت شامخ ، هديره منخفض، تحول إلى همسات ، كأنه يخشى أن يسمعه أحد ، والشمس .. شمس الغروب لم تعد جميلة كما عرفها في السابق.. صوت الطلقات المكتومة يأتي من بعيد .. إنهم يغتالون الشمس .. كانت الشمس شاحبة ، لابد أنها نزفت الكثير من دمائها في هذا اليوم الكئيب .. ترى كم من رصاصات أصابتها، وهل ستبقى الشمس حية بعد ذلك ، ما أصعب أن يغتال الإنسان الأشياء وأن يسلبها معانيها.. أن يغير طعمها ولونها ورائحتها .. تبدو الأشياء جميلة كما خلقها الله .. لكن ما أسوأ أن تشوهها يد الحرب ، ما أسوأ ما يفعله الإنسان بنفسه وبالأشياء من حوله .
هبط الظلام فجأة كأنه خيمة قاتمة ، انطفأت آخر شعلة للشمس في ماء البحر، كانت الشمس أشبه بامرأة تغسل عاراً ألحقه بها قومها، انزلقت إلى قاع البحر فأظلمت الدنيا ، فرد الظلام جناحيه على الكون دون استئذان فذابت بقايا النور في بحر الظلمات ، اقتربوا من المواصي ، شاهدوا أشباحاً تتحرك في صمت .. آلاف البشر يختبئون تحت الأشجار المنخفضة ، أصبحت أشجار الجوافة ملجأً لكل العاجزين والهاربين من الموت إلى ذل الهزيمة يتفيأون ظلاله . أقلقت سكون الليل أصوات انفجارات تقترب وتبتعد ، كأنهم يعرفون أننا هنا ويمارسون حربا نفسية ضدنا ، يريدون لنا أن نموت رعباً في جلودنا ، دوى صوت انفجار قريب .. همس أحدهم .. ربما نسفوا الكازينو الموجود على شاطئ البحر ، يا إلهي الطف بنا ! ماذا لو أطلقوا رشاشاتهم علينا في هذا الليل البهيم ، ماذا سنفعل بالنساء والأطفال ؟ وهل نطلق النار على المجهول ؟ وماذا لو أطلق بعض من يحملون السلاح النار على اللا شيء ؟
ـ ألم يكن من الأفضل أن نموت في بيوتنا ؟ تساءل عمه ، وأردف :
ـ كنا نموت مستورين حتى نوارى في التراب .
ـ لن أستسلم للموت ببساطة ، إذا جاء الموت .. سأطلق رصاصة على رأسه وأرديه قتيلا. قال أحمد الفايز .
ـ وإن جاءك موت آخر؟ قال ابن عمه .
ـ سأقتله ، سأظل أقتل وأقتل حتى تنتهي رصاصاتي .
ـ وإن جاءك الموت من بعيد على جناح رصاصة أو فوق ظهر دانة مورتر؟
ـ عندها أقول لا حول ولا قوة إلا بالله وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وأموت راضياً .
مضى الليل طويلاً بطيئا ثقيلا مثل وابور الزلط ، وبعد طول غياب أشرقت الشمس صفراء شاحبة ، ربما لكثرة ما نزفته من دماء وربما لأنها أمضت ليلتها ساهرة لم يطرق النوم جفنيها ، لم يكن لدى الناس ما يأكلونه، انطلق الناس كالجراد الزاحف ، بدءوا يلتهمون ثمار الخيار والبندورة ، لم يتركوا منها شيئاً، الحمراء والخضراء ، لم يكن أمام الجميع سوى ماء المواصي وثمارها الناضجة وغير الناضجة، اليوم طويل لا يريد أن ينتهي ، وأصوات الرصاص والانفجارات تتقطع ، تخمد فترة وتعود لتنبعث من جديد، النهار يتمطى ويتثاءب كأنه تعب من العناء ، وهم لا يريدون لليل أن يأتي ، على الأقل.. النهار له عيون نرى بها، ماذا لو عشنا نهاراً سيبيرياً لا تغيب شمسه، ماذا لو عشنا الأيام الستة البيض التي لا تغيب فيها الشمس، لكن شمسنا غابت واللي صار صار، الشائعات تطارد الجميع .. اليهود يذبحون الناس في الشمال .. فتتدفق الموجات البشرية نحو الجنوب في هلع ، تعترضهم إشاعة أخرى .. اليهود يذبحون الناس في الجنوب.. يرتد الناس في فزع إلى الشمال ، وهكذا ظل الناس يتأرجحون بين شمال وجنوب، وجنوب وشمال، كأن هناك طابوراً خامساً يحرك أرجوحة الإشاعات هذه، إنهم يمارسون الحرب ضدنا من الداخل ومن الخارج ، بدأ أحمد الفايز يشك في تلك الطلقات التي كانت تطلق فجأة لتنهمر القذائف بعدها على المنطقة .
***
القادمون من المدينة يحكون عن قذائف النابالم التي ألقتها الطائرات على السكان.. الحاج اليمني احترق جلده ، شخص آخر تفحم ولم يعرفه أحد، العشرات أصيبوا بحروق فظيعة ، لقد نفدتم بجلودكم قبل أن يأكلها النابالم ، هل رأيتم جلوداً تحترق ؟ وهل شممتم رائحة الجلد الآدمي المحترق ، ما أبشع منظر الجلود المسلوخة ، طلبوا من رئيس البلدية أن يسلم المدينة ولكنه غير موجود .. يظهر أنه هرب من بيته مثل بقية الناس ، وستظل المدينة مستباحة حتى يظهر رئيس البلدية . بدأ الناس يأكلون ثمار الجوافة العجراء (غير الناضجة)، يأكلها الأطفال فتظهر تقطيبة على جباههم ، ولما انتهت ثمار الجوافة كان لا بد أن يغامر الشباب وأن يذهبوا إلى المخيم ليحضروا ما يمكنهم إحضاره من طعام يسدون به أفواه الأطفال حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا . رأى الذاهبون الجثث الملقاة في الشوارع كما رأوا الطيور وهي تنهش اللحم الآدمي ، لكن ذلك لم يعتصر من العيون دمعة واحدة ، وفجأة فاض الدمع طوفاناً من العيون.. استقال عبد الناصر .. استقال الأمل من النفوس.. استقالت الحياة من جسد الوطن .. آه يا أبا خالد ما أصعب غدر الزمن وما أمر طعم الهزيمة، لكن الاستقالة ليست حلاً ، لابد من مواجهة ظلام الهزيمة، أجهزة الترازستور تستثير المشاعر، بحر الجماهير علا موجه، الجماهير ترفض الهزيمة وترفض الاستقالة ، تتمسك بالقائد الرمز، استمر هدير الجماهير طول الليل ، التاسع والعاشر من يونيو.. أيام الانبعاث من موت مقرر وممنهج.. أصبحت الهزيمة أمراً واقعاً ، كنا نتأرجح بين الرجاء والأمل ، والآن فليعتمد كل منا على نفسه ، لنبدأ من الصفر ، ألم تهزم ألمانيا ، ولكنها نهضت من كبوتها مرتين وأصبحت عملاقا اقتصادياً ، الهزيمة ليست آخر الكون إذن ، سنبدأ من جديد ، على كل الأحوال كان قطاع غزة محكوماً بالسقوط سلفاً ، ما الذي زاد .. سقوط سيناء والضفة الغربية وهضبة الجولان.. بسيطة ، علقة تفوت ولا حد يموت، لا بد من تخبئة البنادق في مكان أمين إلى وقت الحاجة .
***
تبدلت الأشياء وانقلبت الأمور رأساً على عقب ، النصر المتوقع تحول إلى هزيمة، والهزيمة علقمية المذاق، فقد اعتادت ألسنتنا طعم المرارة وألفته، المرارة والهزيمة تمتزجان مع حياتنا امتزاج العناصر المكونة للسبيكة ، وبعد أن أصبحت الهزيمة مؤكدة أصبحت العودة إلى المخيم ضرورية ، لا بد من مواجهة الواقع الجديد وتحمل تبعاته ، ويل للمهزوم من هزيمته ، كابوس مرعب يخيم على النفوس والعقول ، الجميع يمرون في حالة قاتلة من انعدام الوزن وانعدام الأمل ، انقطع خيط الرجاء ، أغانينا تحولت إلى ندب ،تحاول بث الرجاء في النفوس الكسيرة.. لا تقل ضاع الرجاء .. إن للباطل جولة.. أية جولة وأي رجاء ، دار الزمن علينا دورته ، انتصر الباطل ودالت دولة الحق ، ولا أظن أننا سنحقق النصر المؤزر بعد هذه الهزيمة الكاسحة ، ثلاث دول عربية تنهزم ببساطة وفي غمضة عين ، وإذاعة إسرائيل تتبجح، تكرر إذاعة ما تدعي أنه اتصال هاتفي بين الملك حسين وجمال عبد الناصر.. إحنا نطلع بيان وانتو تطلّعوا بيان.. تحاول بذلك التغطية على الدعم الأمريكي لها في حربها ضد العرب .. ها هو جوليات يهزم مرة ثانية .. انتصر عليه داود الجديد.. ويل لك يا جوليات من هزيمة جوليات الجديد .. هزيمة لها ما بعدها.. ولكن هل نستسلم للإحباط واليأس.. هل نسمح لروح الهزيمة أن تنتصر علينا يا أحمد الفايز.. لابد من بصيص نور يأتي من آخر النفق ، وها هو البصيص قد جاء ، الجماهير تنهض من كبوتها وتطالب عبد الناصر بالتراجع عن استقالته وتكملة المشوار.. لابد أن نكمل المشوار .. بالروح بالدم حنكمل المشوار .. بالروح بالدم حنكمل المشوار ، ولكي يكتمل المشوار لابد من العودة إلى المعسكر والانزراع فيه ، لابد أن تغوص جذورنا في تربة الوطن.. لن نرحل هذه المرة .. لن نغادر الوطن إلا إلى أعمق أعماق تراب هذا الوطن .
***
جندي حائر .. حيرته الهزيمة وأطارت صوابه.. يشعر أن شبح الموت يطارده.. أصبحت ملابسه الكاكية عبئاً عليه ، كان يعتقد أنها ستجلب له رصاصات قاتلة ؛ فأصبح كل همه أن يتخلص من هذه الملابس الكاكية رمز الهزيمة والموت ، رآه أحمد الفايز وهو غارق في حيرته ، ورأى الناس وهم يلفظونه ، كل يخاف على نفسه ، فالحياة واحدة لن تتكرر على هذه الدنيا ، ويا روح ما بعدك روح، نادى عليه : يا أبو الحسن .. يا أبو الحسن ، التفت إليه الرجل وكأنه انتشل من بئر شديدة الغور ، تنهد بارتياح وقال أخيراً وجدتك .. أتذكر يوم جمعونا من الشارع وألبسونا الملابس الكاكية وسلمونا سلاحا لا نعرف كيف نستخدمه.. لقد هزمنا ، ولا أريد أن أدفع حياتي ثمنا لهذه الهزيمة التي لم نصنعها نحن.. أريد أن أستبدل ملابسي بملابس مدنية فهل أجد لديك ما ألبسه ؟ هل تساعدني على التخلص من هذا العبء ؟!
خلع أحمد الفايز قميصه وبقي بالفانلة ، ناوله إياه قائلاً : البس هذا إلى أن أستطيع أن أدبر لك بنطالاً.
قال أبو الحسن : شكراً لك ، أستطيع أن أتدبر أمري ما دمت قد حصلت على القميص ، واستدرك قائلاً: ولكن ماذا ستفعل أنت ؟ هل تبقى دون قميص مما قد يعرضك إلى الموت بسببي ، قد يظنون أنك جندي خلعت قميصك الكاكي لتتخلص منه .
ابتسم أحمد الفايز : نتقاسم الموت ، إن كنتم أخوة تقاسموا ، في هذه الحالة قد أموت أنا وقد تموت أنت وقد نموت نحن الاثنين أو ننجو معاً.. اتكل على الله يا رجل واترك ما في الغيب للأيام تكشفه .
بعد ذلك بفترة طويلة علم أحمد الفايز أن أبا الحسن قد استشهد في الخارج في إحدى المعارك العربية ضد الفلسطينيين.. في الشرق أو في الشمال ، لا فرق، المهم أنه نجا من اليهود فقتله العرب ، كان القتل قدراً علينا ، يطاردنا أنى اتجهنا ويحط رحاله فوق صدورنا.. يا إلهي .. ما أسوأ أن يموت الإنسان بيد من أحبهم وأخلص في حبهم والدفاع عنهم .. من أمضى عمره دفاعاً عن وحدتهم ، ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ، التاريخ المشترك ، اللغة المشتركة ، الآمال والآلام المشتركة.. والهزيمة المشتركة ، ما أسوأ أن يقتل مهزوم مهزوماً آخر ، في سيناء قتل عربان سيناء الجنود من أجل الاستيلاء على بنادقهم ، كانوا يشترون البندقية من الجندي الهارب وبعد أن يسلموه ثمنها ويطلبون منه عد النقود ، يتسلمون منه البندقية ثم يقتلونه بها .
قرر أحمد الفايز العودة إلى المعسكر.. قال للقرد بدي أسخطك ، فأجاب : أكثر من هالسخطة ؟ ما أنا قرد و…… حمرة. ولكنه فكر في اختيار أكثر الطرق أماناً وأكثر الأوقات هدوءاً.. السبت العاشر من يونيو.. في أيام السبت تقل حركة اليهود تماما.. ولا شك أن دورياتهم ستكون قليلة بعد أن اطمأنوا إلى نصرهم وهزيمتنا، ينزل من التلال المجاورة للمخيم ، يتوارى بين البيوت ، ثم يقطع الشارع من أضيق المناطق وأكثرها ازدحاماً بالبيوت ، سأل الناس الذاهبين والراجعين عن أماكن تواجد نقاط التفتيش الخاصة بالجنود الإسرائيليين ، وحزم أمره وعاد إلى المخيم ، نجح في المرور دون عقبات ، لم يكن يحمل هويته أو أية أوراق ثبوتية مما كان سيوقعه في ورطة لو واجهته إحدى دوريات العدو .
وبعد وصوله إلى البيت تنفس الصعداء ، خلع بنطاله بسرعة كبيرة ، طاف بذهنه خاطر مزعج ، ماذا لو دخل الجنود البيت فجأة ووجدوني بملابسي الداخلية ووجدوا عندي الملابس الكاكية التي كنت ألبسها أثناء فترة الاستعداد للحرب ؟ لبس منامته وفكر فيما يفعله بالملابس الكاكية.. يدفنها في الأرض ؟ وإذا عثروا عليها ؟ بم سيبرر وجودها عنده؟ هل يستطيع أن يثبت أنه ليس جندياً، يحرقها إذن ، وهل أحرق ما كنت أعتز به قبل أيام قليلة ؟ أفلتت منه الكلمات فسمعتها أمه، قالت : للضرورة أحكام يا ولدي.. كان الله في عونكم يمة .



#محمد_أيوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التلفزيون الفلسطيني والمصداقية العالية
- حول الديمقراطية والإصلاح السياسي في الوطن العربي
- الكوابيس تاتي في حزيران الفصل التاسع والعاشر
- ظاهرة التسول في المجتمع الفلسطيني
- الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل الثامن
- الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل السابع
- من المسئول عن إطلاق الرصاص على العمال في محافظة خان يونس
- حين يعطش البحر ويظمأ الغيم
- الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل السادس
- العريس
- أشتاق إليك - خاطرة ،
- 5-الكوابيس تاتي في حزيران
- الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل الرابع
- الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل الثالث
- الانسحاب والمستوطنات بين الواقع والطموح
- الكوابيس تأتي في حزيران
- الكوابيس تاتي في حزيران
- صور وحكايات
- المؤسسات غير الحكومية بين التجني والجناية
- الشبح


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد أيوب - الكوابيس تأتي في حزيران 11 / 12