زاهر نصرت
الحوار المتمدن-العدد: 4938 - 2015 / 9 / 27 - 19:53
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
كتبت هذه القصة سنة 1944 قبل ان تنتهي الحرب العالمية الثانية . وكاتبها سيمونوف من مواليد 1915 وهو شاعر ومؤلف مسرحيات نشرت مجموعة شعره الأولى سنة 1934 وله روايات حولت الى أفلام ناجحة ، ومن رواياته (( الاحياء والموتى )) و (( الجنود لا يموتون )) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الخريف الفائت ، عندما كنا لا نزال على الضفة اليسرى لنهر ديزنا ، أصيبت احدى عجلات سيارتنا ، فاضطررنا ان نجلس على الأرض مدة نصف ساعة تقريباً ، حتى تمكن السائق من اصلاح العجل . وكما يحدث في مثل هذه الحالات ، جاءت وقفتنا في اشد الأماكن خطراً ، عند نقطة كان العمل يجري فيها لمد جسرٍ مؤقت فوق مجرى النهر .
واثناء نصف الساعة تلك مرت فوقنا مجموعتان من طائرات الالمان ، والقت كل مجموعة منهما عدداً من القنابل الصغيرة حول المعبر . في المرة الأولى اسقطت القنابل بالأسلوب التقليدي ، فألقى المهندسون بأنفسهم على الأرض وظلوا كذلك حتى انتهاء الغارة . ولكن في المرة الثانية ، تخلفت احدى الطائرات واخذت تحوّم فوق النهر .
وبعد قليل وقف ضابط قصير القامة اسود الشعر برتبة رائد كان يتولى قيادة وحدة المهندسين ، واخذ يشتم ويلعن ، ثم صرخ في وجوه رجاله قائلاً :
وهكذا سوف يستمرون في التحليق فوقنا طوال اليوم وستقضون الليل منبطحين هناك ، وسيبقى الجسر كما هو . لن تكون بنا حاجة لبنائه بعد ان تنتهي الحرب ! سنبني بعد الحرب قنطرة لسكة الحديد هنا . هيا ، هلموا لمباشرة العمل .
ونهض الرجال واحداً بعد اخر ، وعادوا يباشرون العمل وهم يرمقون السماء بنظرات شزراء ، ومضت الطائرة المعادية تدور فوق الجسر مدة طويلة ، وعندما ايقن قائدها ان تحليقه لن يوقف العمل ، بادر الى القاء قنبلتيه الأخيرتين وابتعد ، وقال الرائد بصوت مرتفع : ها هو قد ذهب .
ثم اخذ ينطُ على حافة الجسر وقد اقترب من ماء النهر حتى خشيتُ ان يسقط فيه في اية لحظة .
كان من الأرجح ان انسى هذه الحادثة الصغيرة لولا ان ذكَّرتني بها احداث معينة اعقبتها . ففي أواخر فصل الخريف كنت مرة أخرى في جبهة القتال ، وفي المواقع ذاتها تقريباً ، أولا عند مهر الدنيبر ثم الى ما ورائه ، كنت على عجلة من امري كي الحق بالجيش الذي كان قد تقدم اشواطاً الى الامام . وبينما كنت اقطع المسافات بالسيارة ، اخذت الاحظ اسماً معيَّناً يتكرر امام ناظري ، هنا وهناك ، مثل رفيق الطريق . كان الاسم يظهر أحيانا على لوحة خشب اثبتت بمسمار على عمود التلغراف او على حائط كوخ ، واحيانا أخرى يظهر مكتوباً بالطباشير على جانب مصفحة المانية محطمة :
(( لا يوجد الغام – ارتميف )) ، او (( استكشفنا الطريق – ارتميف )) ، او (( خذ الطريق الى اليسار – ارتميف )) ، او (( اصلحنا الجسر – ارتميف )) ، او كلمة بسيطة واحدة (( ارتميف )) مضافاً اليها سهم يشير الى الطريق .
لم يكن عسيراً ان يحدس المرء ان ارتميف هذا لا بد ان يكون ضابطاً في سلاح المهندسين ، عبر بهذه الطريق مع الوحدات المتقدمة ومهد الطريق امام الجيش . ولكن تلك الإشارات كانت متعددة بصورة خاصة ، وتحتوي على التفاصيل اللازمة ، واكثر من هذا فانها كانت موثوقة صادقة الى اقصى حد .
وبعد ان قطعت ما لا يقل عن مائتي كيلو متر ، برز لي خلالها اسم ارتميف ربما عشرين وربما ثلاثين مرة ، تذكرت ذلك الرائد القصير القامة الأسود الشعر الذي اعطى الامر بمواصلة العمل في بناء الجسر على نهر ديزنا تحت قصف القنابل ، وتساءلت في نفسي عما اذا لم يكن هو بالذات هذا الـ (( ارتميف )) الغامض الذي يشق الطريق امام الجنود كأنه ملاك حارس .
وذات يوم ماطر موحل ، توقفنا في مزرعة على ضفة نهر ( بوج ) حيث كان قد تم انشاء مستشفى ميدان . وفي المساء تحلَّقت مع الأطباء حول النار بانتظار الشاي ، ولا ادري كيف خطر لي ان اذكر امر تلك الإشارات .
وقال رئيس الأطباء : اوه ، نعم انني اعرف . لقد كنا نتتبع خطى تلك الإشارات على طول خمسمائة كيلو متر تقريباً . انه لاسم شهير ، لقد بَعُدَ صيته حتى تعلقت قلوب بعض النساء به . ولكن لا تغضبي يا فيرا نيكولايفنا . انني امزح وحسب ، قال هذا وهو يلتفت الى طبيبة شابة كانت قد ندَّت منها ايماءة احتجاج غضبي .
وقالت الطبيبة وهي تلتفت الي : أليست المسألة مسألة مزاح . يبدو انك تعتزم التقدم الى الامام اليس كذلك ؟
- اجل .
- انهم يضحكون على ما يسمونه حدساً غيبياً عندي . ولكن اسمي هو ارتميفا ايضاً ، وعندي شعور داخلي ان الشخص الذي يكتب تلك الإشارات هو اخي .
- اخوك ؟
- نعم ، لقد فُقد الاتصال بيننا منذ بدء الحرب ، حينما افترقنا في ( مينسك ) . قبل الحرب كان اخي مهندس طرق ، ويلازمني الشعور انه هو . بل انني اعتقد حقاً انه هو .
وقال رئيس الأطباء مقاطعاً : انها تعتقد ذلك حقاً ويكاد يصيبها الجنون لان ارتميف هذا لا يثبت الحروف الأولى من اسمه .
ووافقت فيرا نيكولايفنا بكل بساطة : نعم ، انه لامر مزعج . لو انه فقط كتب اسمه (( أ . ن . ارتميف – الكساندر نيكولا يفتش ارتميف )) ، لو انه فعل ذلك لعرفت دون ذرة من الشك انه اخي .
وتدخل رئيس الأطباء مرة أخرى بقوله : أتعرف ماذا فعلت ذات يوم ؟ لقد كتبت تحت واحدة من تلك الإشارات ( أأنت الكساندر نيكولا يفتش ؟ اذا كنت إياه فان اختك ارتميفا تبحث عنك – مستشفى الميدان 390 ب ) .
وقلت متسائلاً : احقاً فعلتِ هذا ؟
- اجل ، لقد كتبت ذلك . ولكنهم ضحكوا مني جميعاً وقالوا انه مهما فعل ضباط الأسلحة الأخرى فان المهندسين يندر ان يعودوا من الطرق التي شقوها . هذا صحيح دون شك ، ولكن رغم كل شيء فقد كتبت ما كتبت ... ثم اضافت تقول : عندما تمضي الى الامام ، اسأل في قيادة الفرقة ، فمن المحتمل ان تلتقي به . سأكتب لك رقم وحدتنا ، واذا عرفت شيئاً فاكتب لي سطرين . اليس كذلك ؟
- بالتأكيد سوف اكتب .
واقتطعت طرف صحيفة كانت معها ، ودوَّنت العنوان عليه واعطتني القصاصة . وعندما اودعت القصاصة في جيب صداري لاحظت ان عينيها كانتا تتابعان حركة يدي ، كانما كانت تحاول ملاحقة الورقة حتى باطن جيبي كي تستوثق انها أصبحت في حرز حريز .
واتصل الزحف الروسي ، وفيما وراء ( الدنيبر ) و ( الدنيستر ) استمرت لقاءاتي باسم ارتميف (( استكشفنا الطريق – ارتميف )) ، (( يمكن عبور النهر بامان – ارتميف )) ، (( المنطقة نظيفة من الألغام – ارتميف )) ، او ببساطة (( ارتميف )) مضافاً اليها سهم يشير الى الطريق .
وعندما اقبل الربيع كنت في بسارابيا ، وهناك زرت احدى فرق المشاة ، وسألت مرة أخرى عن الاسم (( ارتميف )) ، وكان جواب القائد هذه المرة مختلفاً :
- لماذا تسأل ؟ اعرفه دون شك . انه يتولى كتيبة المهندسين في فرقتي ، يا له من مهندس قدير . ولكن لماذا تسأل ؟ أيحتمل انك التقيت باسمه مرات ومرات ؟
- اجل مرات عديدة .
- بالتأكيد . انه يستكشف الطريق ليس للفرقة فحسب ، وليس للفيلق فحسب ، بل يفعل ذلك بالنسبة للجيش بأجمعه . انه دائماً في المقدمة ، الجيش كله يعرف اسمه مع ان كثيرين لم يتعرفوا عليه شخصياً . اسم شهير ، بل يمكن القول انه اسم خالد .
ومرة أخرى تذكرت عبورنا نهر ( ديزنا ) واستعدت في ذهني ملامح الرائد قصير القامة الأسود الشعر . وقلت للقائد انني اود ان التقي بارتميف .
- يتعين عليك ان تنتظر فيما اذا توقفنا بصورة مؤقتة – ربما تستطيع عندئذ ان تراه ... لا امل لك في ان تلحق به الان ، انه في مكان ما في الطليعة مع وحدات الاستكشاف .
- على فكرة ما هو اسمه الكامل ؟
- الكساندر نيكولا يفتش ارتميف . لماذا ؟
وقصصت للقائد كيف التقيت بالدكتورة ارتميفا في مستشفى الميدان .
وقال القائد : نعم انه من قوات الاحتياط ، هذا صحيح . ولكن من يعرفه عن كثب يحسب انه خدم في الجيش طوال عمره ، من المحتمل ان يكون الرجل ذاته .
ومساء تلك الليلة نبشت في جيب صداري حتى عثرت على قصاصة الصحيفة ، ثم كتبت بضع كلمات للدكتورة ارتميفا على عنوان مستشفى الميدان ، مفادها ان حدسها كان صحيحاً وانها ستكون بعد مسافة قصيرة قد قطعت الف كيلو متر وهي تقتفي خطوات اخيها .
ولكن بعد أسبوع او اثنين ندمت على ارسالي تلك الرسالة .
كان ذلك على الجانب الاخر من نهر ( بروت ) . لم يكن قد تمَّ انشاء الجسر بعد ، بل كانت هناك معديتان اثنتان تروحان وتغدوان من ضفة الى ضفة بانتظام الساعة ، وحينما وصلت بسيارتي الى النهر شاهدت على درع مدفع الماني محطم الإشارة المألوفة : (( العبور منتظم – ارتميف )) .
وعبرت النهر على متن المعدية البطيئة ثم وقفت على الضفة الثانية واخذت أتطلع حواليَّ باحثاً عن الاسم المألوف . وعلى بعد عشرين خطوة ، عند طرف الضفة المنحدرة ، شاهدت كومة من التراب أقيمت حديثاً وقد نصب في وسطها شاهد خشبي اثبتت في أعلاه لوحة مربعة تحت نجمة من المعدن . كانت اللوحة تحمل الكلمات التالية :
هنا يرقد الرائد أ . ن . ارتميف ، مهندس ، سقط في المعركة اثناء عبور نهر بروت .
وتحت هذه الكلمات وبخط احمر كبير كان مكتوباً (( الى الامام ، باتجاه الغرب )) .
واقتربت من الضريح فرأيت صورة مثبتة على الشاهد تحت قطعة مربعة من الزجاج وامعنت النظر فيها . لقد صورة قديمة تهرأت حوافها – ربما لأنها بقيت مدة طويلة في جيبي صدار ، ولكن ملامحها كانت واضحة بما فيه الكفاية . كانت صورة الرائد القصير القامة الأسود الشعر الذي شاهدته عندما عبرنا نهر ديزنا .
ووقفت الى جانب الضريح تتنازعني مشاعر الاسى : اشفقت على الأخت التي فقدت اخيها ربما قبل ان تتسلم الرسالة التي تنبؤها بوجوده على قيد الحياة . وكان هناك شعور غريب بالوحدة . لن تكون الطريق بعد اليوم كما كانت من قبل عندما كانت تتخللها الإشارات التي تحمل اسم ارتميف . لقد فقدت رفيقا ًمجهولاً كان يحرسني على طول الطريق . ولكن ماذا نستطيع ان نفعل ؟ في الحرب عليك ان تعتاد لقاء الموت ، سواء كرهت او رضيت .
وانتظرنا نزول سياراتنا من المعدية ثم مضينا في طريقنا . وبعد مسافة خمسة عشر كيلو متراً ، في موضع تكتنفه الاخاديد العميقة على جانبي الطريق شاهدنا كثيباً من الألغام رصفت فوق بعضها البعض ، وكانت هناك لوحة من الخشب اثبتت على عامود متوحد من أعمدة التلغراف كتب عليها (( استكشفنا الطريق – ارتميف )) .
كلا لم تكن هناك اعجوبة . كانت كتيبة من المهندسين قد اعتادت ان تدعو نفسها (( كتيبة ارتميف )) مثلها في ذلك مثل كثير من الوحدات العسكرية التي يظل قائد واحد على رأسها مدة طويلة . وهكذا قرر رجال ارتميف ان يكرموا ذكرى قائدهم بكتابة اسمه عند المواضع التي يمرون بها اثناء قيامهم بتنظيف الطريق امام الجيش . وبعد ان تابعت هذه الإشارات من جديد على مسافة عشرين فثلاثين فسبعين كيلو متراً وهي ترفع ذلك الاسم الخالد ، شعرت انني سوف التقي مرة بعد مرة في مستقبل غير بعيد بلوحات من ذات الطراز عبر نهر النيمن ونهر الاودر ونهر السبري ، الى الغرب ، وهي تحمل على صفحاتها عبارة (( استكشفنا الطريق – ارتميف )) .
#زاهر_نصرت (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟