الانتحار اللغز

جهاد الرنتيسي

الحوار المتمدن-العدد: 1351 - 2005 / 10 / 18 - 07:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

قد يتحول الاعلام الي صانع للحدث ، ويغيب احيانا في دهاليز حراس التابوهات ،او يحتفظ بصورة الضحية في منطقة حولت كائناتها الي ضحايا .
وامام حالة اللبس المحيطة بقضية "انتحار " غازي كنعان استقر الاعلام في دائرة الاتهام المغلقة.
فمن النادر ان يتم تحميل وسائل الاعلام مسؤولية انتحار مسؤول ما وان كان اتهام وسائل اعلام وصحفيين بـ " اغتيال الشخصية " مسالة عادية في في مختلف انحاء العالم .
ولعل ندرة التهمة من دوافع الاهتمام باصابع الاتهام التي وجهها وزير الخارجية السوري فاروق الشرع الي محطة " نيو تي في " التي كان يجري تصنيفها حتي وقت قريب باعتبارهااحدي الفضائيات المقربة من دمشق .
ولم يخف علي الذين تابعوا تصريحات الشرع انه كان يعني التقرير الذي تضمن معلومات حول تلقي كنعان رشاوي مالية من رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري .
وكما هو الحال عند نشوب المعارك بين وسائل الاعلام ودول لديها وسائل اعلام اتسعت دائرة المواجهة لتتجاوز المحطة الي العاملين فيها ، ووسائل اعلام اخري ، وقوبلت الاتهامات باتهامات مضادة طالت مسؤولين سياسيين.
ورغم ان حرب الاعلام لم تبدا بقضية كنعان واتهامات الشرع يمكن التعامل مع المنعطف الاخير باعتباره الفصل الاكثر اثارة في هذه الحرب ويكاد ان يوازي حدث اغتيال الحريري و سحب القوات السورية من لبنان وسلسلة التفجيرات التي اودت بحياة عدد من كبار السياسيين والحزبيين والاعلاميين اللبنانيين .
فقد انشد المتابعون وراء دخول ابرز مذيعات محطة" نيو تي في " ماريا معلوف علي خط المواجهة لتنفي شائعات ارتباطها بشقيق الرئيس السوري ماهر الاسد وتحاول ازالة انطباع المشاهدين بوجود علاقة خاصة بين المحطة والتلفزيون السوري .
والاهم من ذلك ان معلوف شككت في الرواية الرسمية السورية ففي سياق دفاعها عن تقريرها استبعدت ان يكون اللواء غازي كنعان من النوع الذي يهزه تقرير .
وبهذه الاشارة اتخذت مقدمة برنامج " بلا رقيب " المتهمة الاولي بالتسبب في انتحار كنعان موقفا واضحا الي جانب وسائل الاعلام التي شككت في واقعة الانتحار و وجهت الراي العام نحو اتهام النظام السوري بالتخلص من احد اطرافه للافلات من تبعات تقرير المحقق الدولي ديتلف ميلس .
وبانحيازها الي هذا الموقف اختارت التفسير الاسهل لواقعة ستبقي ملابساتها محاطة بالغموض مهما تعددت الروايات ونسجت القصص حولها.
وتكمن سهولة التفسير في استحالة تجنب تقرير ميلس ـ الذي يقف العالم علي رؤوس اصابعه انتظارا لصدوره ـ الخوض في النهاية التراجيدية للرجل الذي حكم لبنان 20 عاما .
فهناك مفاتيح اسرار كثيرة في جعبة الرجل العارف بادق تفاصيل الحياة السياسية والظروف الامنية اللبنانية ومن شان رحيله المفاجئ دفن اسرار ضرورية لحل الكثير من الالغاز .
و لغز اغتيال الرئيس الحريري اول ما يتبادر للذهن عند الحديث عن هذه المفاتيح لا سيما وان كنعان كان من بين الاشخاص الذين التقاهم المحقق الدولي خلال زيارته لسوريا .
وفي ظل الاتهامات الدولية والاقليمية واللبنانية الموجهة الي دمشق منذ تفجير موكب الحريري يبدو للوهلة الاولي ان التخلص من صاحب المفاتيح يبقي الالغاز دون حلول الامر الذي تحرص عليه اطراف القيادة السورية في هذه المرحلة .
ولم يقتصر تداول سيناريو التخلص من كنعان لا خفاء الحقيقة علي وسائل الاعلام ففي الايام الماضية تداولته مراكز بحث وصنع قرار في الولايات المتحدة واوروبا رغم حرص هذه المراكز علي تقليب الفرضيات قبل الا فصاح عن النتائج ،
وبذلك لم يعد البحث عن التفسيرات السهلة حكرا علي وسائل الاعلام .
ويستحضر الميالون للتشكيك في رواية الانتحار سيناريو تغيير النظام العراقي لتاكيد شكوكهم وتثبيت تهمة التخلص من كنعان ببعض اركان النظام السوري .
فلم يخف القطب الكوني الوحيد رغبته في احداث تغيير سياسي في سوريا الامر الذي يوحي بوجود نوايا لتكرار ما حدث في العراق مع تجنب المازق الناجم عن الرمال العراقية المتحركة .
ومثل هذا السيناريو يرشح بعض الاطراف الفاعله في النظام للقيام بدور في عملية التغيير التي يجري الحديث عنها.
ولعدة اسباب تداولت بعض التقارير اسم اللواء كنعان باعتباره مرشحا لمثل هذا الدور .
فالرجل الذي لمع نجمه في لبنان طيلة 20 عاما صاحب دور سياسي وعسكري وامني منذ نهاية الستينات التي شهدت قيام الرئيس الراحل حافظ الاسد بالحركة التصحيحية ، واجتاز اختبارات عديدة اهلته لاعادة الاعتبار لمنصب وزير الداخلية ، وصاحب وجهة نظر سياسية ، ومطلع علي ملفات اقليمية حساسة ، ولديه امتداداته في المؤسستين العسكرية والامنية .
ويتعامل الاعلام الغربي مع كنعان باعتباره مهندس اسقاط اتفاق 17 ايار وداعم المقاومة اللبنانية التي ادت لرحيل الاحتلال عن جنوب لبنان .
وفي ذلك ما يوحي بقوة الرجل وقدرته علي القيام بمهمات صعبة الامر الذي يجعل التعامل معه مغريا للادارة الاميركية التي لا تخفي ميلها لانضاج عملية التغيير في سوريا علي نار هادئة .
ويقود طرح السيناريو العراقي عند تفسير لغز كنعان الي ما اصطلح علي تسميته بصراع اجنحة النظام .
وتشير التقارير التي تحمست لهذا التحليل الي القلق الذي انتاب بعض المسؤولين السوريين من قوة كنعان لدي عودته الي سوريا حيث حرص علي توحيد الاجهزة الامنية تحت راية وزارة الداخلية .
ولكن افتقار هذه الفرضية الي المعلومات يبقيها في دائرة الشكوك ويزيد من صعوبة الدفاع عنها .
ويمكن استخدام هذه الرؤية في تاكيد رواية الانتحار الرسمية لا سيما وان هناك شكوكا حول تسريب مصادر سورية او مقربة من دمشق المعلومات التي تضمنها تقرير محطة " نيو تي في " حول تلقي كنعان رشوة قيمتها 10 ملايين دولار من الرئيس الحريري .
وتحدد التقارير الهدف من تسريب هذه المعلومات برغبة مسربيها في اضعاف كنعان توطئة لابعاده عن وزارة الداخلية .
ولا يخلو الامر من روايات للمعارضة السورية تداولتها بعض الفضائيات باعتبارها منقولة عن مصادر مطلعة .
وتشير بعض هذه الروايات الي تلقي الرئيس بشار الاسد نصيحة من الرئيس حسني مبارك باتباع اسلوب الزعيم الليبي معمر القذافي في معالجته لازمة لوكيربي.
و قد يقضي هذا السيناريو في حال تطبيقه عند التعاطي مع تقرير ميليس تسليم مسؤولين سوريين يحتمل تورطهم في اغتيال الرئيس الحريري .
وتتحدث الروايات عن تلقي كنعان معلومات من سفير احدي العواصم الغربية في دمشق بانه سيكون احد الذين سيتم تسليمهم الامر الذي لم يستطع احتماله ودفعه للانتحار .
وتستند هذه الرواية الي الحوار الذي اجرته شبكة الـ " سي ان ان " مع الرئيس الاسد وتضمن سؤالا من الصحفية كريستيان امانبور حول استعداد دمشق لتسليم متهمين مفترضين باغتيال الحريري .
وفي هذا السياق يقلل اصحاب الرواية من اهمية تصريحات الناطق باسم الخارجية الاميركية آدم ايرلي التي نفي من خلالها وجود صفقات مع دمشق .
وتوحي بعض التقارير المتداولة بان اعلان ميليس لنتائج التحقيق في اغتيال الحريري سيساعد علي اضاءة بعض مناطق الظل التي حولت نهاية كنعان الي لغز كبير .
و لا يعول اصحاب هذه الرؤية كثيرا علي دعوة ميليس لتشريح جثة كنعان ، ورغبة باريس باجراء تحقيق في ملابسات رحيله المفاجئ ، لا سيما وان دمشق تعاملت مع هذه التداعيات بفتور لا يوحي بامكانية الاستجابة .
ويعزز هذا الفتور الاحتمال الاكبر الذي يتمثل في اسدال الستار علي قضية كنعان كما اسدل من قبل علي انتحار المدير الاسبق للمخابرات العامة عبد الكريم الجندي عام 1969 ورئيس الوزراء السابق محمود الزعبي قبل خمس سنوات .

#جهاد_الرنتيسي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات