|
شباك غرفة نومي
سميح مسعود
الحوار المتمدن-العدد: 4892 - 2015 / 8 / 10 - 23:12
المحور:
الادب والفن
تُضيء ذاكرتي بصور كثيرة من أيام الطفولة الباكرة ، أجد واحدة منها بؤرة لاقطة لا تختفي أبداً تتسرب في أعماقي وتستوطن ثنايا الذاكرة موشومة بكثير من الأحزان ، تتصل بمرض شلل مفزع أصابني منذ ولادتي ، أقعدني طيلة سنواتي الخمس الأولى ، وبذل والدايّ تضحيات جسيمة طوال تلك السنوات، بمنحي الوقت الكافي عند الاطباء بالتنقل معي من طبيب إلى طبيب في مسقط رأسي حيفا وغيرها من المدن الاخرى .
مضت بي الحياة طيلة مرضي في حمى أب رؤوف وام رؤوم ، عشت معهما في بيتنا بشارع الناصرة على حافة مدخل حيفا الشرقي ، كان سريري في غرفة نومي تحت شباك عالٍ في الجهة الشمالية من البيت ، كنت أقضي أغلب وقتي مستلقياً على السرير ، كان النظر من الشباك يرفع من اماد خيالاتي ، أحلق من كوته في السماء أبعد وأبعد على امتداد مساحات واسعة شاسعة ، كان يفتح أمام ناظري في الليل أفاقاً كثيرة تخترق زحمة النجوم ، أجد فيها سعادة بالنظر الى النجوم بكل ما فيها من غموض وعلامات استفهام ... أحصيها نجمة نجمة ، واسميها بأسماء مني ، وهذا أقصى ما كنت أفعله في تلك الأيام .
هكذا عشت طيلة سنواتي الخمس الأولى مقعداً لا أستطيع المشي واللعب مع الأطفال، لا أجد عزاء إلا في النظر الى السماء من فتحة الشباك ، وفي سماع أصوات الأطفال وهم يلعبون في الساحة المتاخمة لمنزلي بالعاب متكررة ومسلية كل يوم ، كانت تأتيني أصواتهم بنغمة واحدة تتكرر عبر الشباك وتدفعني الى التأثر العنيف بأوضاعي الصحية ، وبعدم تدفق طاقة الحياة في عروقي كبقية الأطفال .
كان الشباك بالنسبة لي أشبه ما يكون بخيط سحري رفيع يربطني بالعالم المحيط ، أتحسس به جوانب من الحياة الطبيعية ، وأكثر ما كان يثيرني منه ، أصوات ومفردات أطفال الجيران ، خاصة في أشهر الإجازات المدرسية الصيفية حيث كانت أصواتهم العالية تزداد بشكل صارخ يوماً بعد يوم ، يملأون بها الحارة من حولهم ضجيجاً وصخباً ، كنت في تلك اللحظات أشعر بحالة من الحزن الزائد لأنني لا استطيع مشاركتهم اللعب ، وكيف لي أن أشاركهم وأنا من المقعدين أجر ساقيّ جراً ، ولا أستطيع المشي .
ذات يوم تعاقد مستشفى حمزة في حيفا مع طبيب ألماني، خضعت لفترة علاج طويلة تحت اشرافه ، دامت لعام كامل ، ومن محاسن الصدف أن صحتي بدأت بالتحسن رويداً رويداً بعد انتهاء فترة العلاج ، وما من كلمات تصف شعوري عندما بدأت المشي بشكل طبيعي مع الأيام ، أخذت أخطو خطوات الاصحاء خطوة تلو أخرى ، اتسعت خطواتي إلى دائرة أوسع من الخطوات ، كشفت لي عن حقيقة كثير من المعاني الطبيعية الرحبة في حياة الأصحاء كنت أجهلها .
شفائي من المرض لم يُبعدني عن شباك غرفة نومي ، استمر طغيانه على مجرى أيامي ، واصلت منه النظر بالعين المجردة في الأماسي الصافية للنجوم والكواكب والقمر ، ومشاهدة إنبلاج الفجر في كل صباح ، وغروب الشمس عند الغسق .
ومع اشتداد أحداث عام 48 اخذت أتابع مجريات تلك الأحداث الأليمة من نفس الشباك ، بما فيها نزوح سكان الاحياء العربية القريبة ، وعندما سقطت حيفا في 22 نيسان 1948، أغلقته بيديّ ، وبعد لحظات خرجت مع والديّ من بيتنا ، احتبست أنفاسي وأنا ألقي أخر نظرة عليه ... ما زالت تلك اللحظة مسجلة في ذاكرتي كأحزن لحظة في شريط العمر ، ارتطم فيها وعيي الطفولي بحقائق الشتات المريرة ، فقدت كل شيء حولي عندما اتجهت سيارة اللوري التي تقلني مع أسرتي بسرعة خارج شارع الناصرة ، اندفعت مع قافلة شاحنات طويلة تنقل مئات النازحين إلى خارج حيفا .
فارقتُ حيفا وعمري عشر سنوات ، كان ذلك في يوم مظلم تعذرت فيه الرؤيا ، رحلت عنها قسراً ، وتلاشت أيام طفولتي الهانئة ، تحجرت أحلامي وتراكمت في نفسي حالة وجدانية مؤثرة من مآسي الهزيمة ترسخت في ظل غربة باكرة لصبي صغير ... هكذا اكتشفت مبكراً جراح بؤس الهزيمة . ومرت السنون ثقيلة في منافي الشتات ، وبعد ما يزيد عن نصف قرن ، تمكنت من زيارة حيفا لأول مرة بعد رحيلي عنها ، تمكنت من الوصول الى بيتي دون مساعدة من أحد ، دُرت ببصري حوله ، انهارت قواي ، فقدت وعيي للحظات ، أفقت وعدت إلى ما اختزنته ذاكرتي من لحظات قديمة أغلق فيها أبي باب بيتنا وقت الرحيل ، حملتُ تلك اللحظات أعواماً طويلة في ذاكرتي ، أغلقه عندما كنت في العاشرة من عمري ، وها أنا أزوره وعمري يناهز الستين وما زال مغلقاً ، حملته وشماً في عيني طيلة السنوات الماضية ، وما زلت أحمل مفاتيحه معي في مسارات التيه أنى ذهبت . . غمرني الحزن عندما وجدته بيتاً للأشباح ، كحال بيوت الأحياء العربية الأخرى ، تهاوى منه طرف من جزئه الغربي ، ونخرت السنون أحجار حيطانه ، لا أثر فيه للحديقة ، لا أشجار حوله ولا ورود ولا أغصان ملساء جديدة تبرعم مع بداية الربيع ، ولاأحد في الجوار ... كل البيوت مغلقة ومهجورة . وقفت مطولاً أمام منزل أسرتي ، طاردتني الذكريات ... أسترجعت ذكرى أيام مضت ، وقفت أمام الجهة الشمالية من البيت ، أمام شباك غرفة نومي ، الذي منه أبصرت الدنيا ... أوغلت في ذكرى أيام طفولتي الماضية في تلك اللحظة ، مر شريط الذكريات أمام عيني ّ... تذكرت ثلة من أبناء جيلي وهم يلهون أثناء مرضي في الساحة المجاورة ويسطرون على ترابها خطواتهم الأولى.
*** بعد ما يقرب من عشرين سنة من تلك الزيارة ، زرت ُ بيت أسرتي ثانية في يوم من أيام آذار عام 2014 ، توجهت نحوه من وادي النسناس برفقة صديقي الفنان عبد عابدي الذي يتسع مرسمه في شارع الجبل للوحات كثيرة استوحاها من حيفا وتداعيات النكبة ، توالت خطواتنا معاً باتجاه شارع العراق ومن ثم شارع الناصرة ، سرعان ما وصلنا عمارة أبو حوا ، وبعدها بأمتار محدودة وصلنا بيت أسرتي ، وجدنا بابه مفتوحاً على مصراعيه ... دخلته وغصة في القلب تًدميني ، أعدت في تلك اللحظة تراكيب الأمس مترعاً بكل ما مضى ، لمحت آثار أقدام أمي ، وشممت رائحة قهوتها ، وتخيلت ملاعقها وصحونها ومغارف قدرها ، وسمعت رنين صوتها مع إنزلاق الصدى ، حتى وشعرت بعد تلك السنين أن رماد موقدها ما زال ساخناً .
أفقت من تخيلاتي على صوت صديقي عبد عابدي يخبرني من غرفة مجاورة عن انهيار جدارها من الجهة الشمالية ، لحقت به ووجدته في غرفة نومي ، وقفت أمام الجدار المهدوم ، ثم تابعت النظرفي كل أرجاء الغرفة ، وفي لحظة وجدت "الضرفة" اليمنى من شباك غرفة نومي ملقاة على الأرض ، نفس الشباك الذي يحمل في ثناياه لحظات مهمة من طفولتي ومن ذكريات وعيي الأول بالحياة .
حملت "ضرفة " الشباك بدون أدنى تردد وخرجت مع صديقي باتجاه مرسمه ، غلفهُ لي كما تُغلف أجمل لوحاته الفنية ، وفي اليوم التالي حملتهُ معي إلى عمان ، ومنها سأنقله عبر المحيط إلى مونتريال... سأبقيه معي كخيط سحري رفيع يربطني بمسقط رأسي حيفا ، يُفعمني بالسكينة ، ويجعل القلب مليئاً بأمل العودة مهما طال الزمن .
#سميح_مسعود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأزهر وداعش وما بينهما
-
مخطوطات عربية مسروقة
-
البنوك الاسلامية بنوك ربوية بامتياز
-
مقتنيات تراثية حيفاوية
-
قراءة في كتاب - إنها مجرد منفضة -
-
ايام في اسطنبول
-
منْ مِثلُكِ
-
الكلمة الصادقة
-
الأوزون وظِلال الحُروب الموحِشة
-
مقتل فنان في بغداد
-
مَقاطعٌ لها
-
أمة إقرأ لا تقرأ
-
عن مصر وأقباطها
-
المرأة الحديدية
-
أشهر فضيحة ثقافية في القرن العشرين
-
عيد الميلاد
-
نقولا زيادة الحاضر الغائب
-
لماذا يسرقون أرضنا ؟
-
العشق في مصادر التراث
-
جبرا إبراهيم جبرا: متى يُكرم؟
المزيد.....
-
الفنانة المغربية لالة السعيدي تعرض -المرئي المكشوف- في -دار
...
-
-الشوفار-.. كيف يحاول البوق التوراتي إعلان السيادة إسرائيل ع
...
-
“المؤسس يواصل الحرب”.. موعد مسلسل قيامة عثمان الموسم السادس
...
-
المسرح الجزائري.. رحلة تاريخية تجمع الفن والهوية
-
بفعاليات ثقافية متنوعة.. مهرجان -كتارا- للرواية العربية ينطل
...
-
حديقة مستوحاة من لوحة -ليلة النجوم- لفان غوخ في البوسنة
-
عودة الأفلام الرومانسية إلى السينما المصرية بـ6 أعمال دفعة و
...
-
عائلات وأصدقاء ضحايا هجوم مهرجان نوفا الموسيقي يجتمعون لإحيا
...
-
كيف شق أمريكي طريقه لتعليم اللغة الإنجليزية لسكان جزيرة في إ
...
-
الحلقة 2 الموسم 6.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 166 كترجمة على
...
المزيد.....
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
المزيد.....
|