|
مقتنيات تراثية حيفاوية
سميح مسعود
الحوار المتمدن-العدد: 4757 - 2015 / 3 / 24 - 19:37
المحور:
الادب والفن
يُعرف التراث المادي بمفهومه البسيط ، على أنه مجمل الموروثات المادية ذات الجذور القديمة ، التي تنتقل من جيل إلى آخر ، جامعة في تفاصيلها إبداعات فنون كثيرة متنوعة وواسعة النطاق ، من أبرزها الصناعات التقليدية ، والحِرف اليدوية الشعبية ، بمختلف أشكالها ومظاهرها الفنية وخاماتها النحاسية والحديدية والخشبية والجلدية والخزفية والزجاجية و النسيجية والتطريزية ، التي ترتبط بشكل عام باحتياجات الحياة العامة ، و بالعادات والتقاليد والممارسات الحياتية ، و تحكُمها من حيث الشكل والمضمون محددات الظروف البيئية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية لبلد ما ، وتُعبر بشكل ملموس عن مكونات وخصائص الثقافة المادية لشعب من الشعوب ، كما تساهم ، بما تختزنه من التاريخ ، في الكشف عن الصورة الحقيقية لهويته الوطنية والقومية .
كذلك تعكس المقتنيات التراثية المادية القديمة بتنوعها الخصب ، صوراً مهمة وجذابة ضمن تشكيلات منسجمة تعطي فكرة جلية عن الماضي بأحقابه المتتالية ، وتوُثق لمعلومات واقعية وكثيفة عن أحداثه على مدار الايام المتعاقبة ، وتُبين أوجه الحياة القديمة المختلفة بكل تفاصيلها ، إنها تُضيء الذاكرة الجمعية بصور كثيرة متراكبة ومتتابعة ، ومفعمة بدلالات ومضامين تطال الزمان والمكان ، نحن أحوج ما نكون لها ، لاكتشاف الذات ومد خط من التواصل مع الأمس البعيد مهما تباعدت الأيام وتوالت الحُقب .
ومن حسن حظي انني احتفظ بمقتنيات مادية تراثية قديمة لوالدي ، تنوعت بين أغراض شخصية وأوانٍ وادوات منزلية متصلة بما يتعلق بحياة اسرتي الماضية في حيفا ، وهي تًجسد لي لوحة لا حدود لها ترسم ملامح تلك الأيام ، أحتفظ بها بذاكرة متوهجة دائمة تنبض بالحياة عن حيفا الأمس ، وعن تفتح طفولتي فيها .. تتكون هذه المقتنيات من أوراق وصحف ومجلات وطوابع بريدية وعملات معدنية وورقية ، وأوانٍ منزلية ، ومفاتيح ومصابيح ومقتنيات شخصية قديمة ، تًلامس مشاعري وأعيد بها رسم صور كثيرة مختلطة ومتشابكة بحلقات متتابعة عن أيامي الماضية ، وأرجع بها في غمرة عاطفة لا حد لها إلى مسقط رأسي حيفا ، مستحضراً بها تفاصيل حياة أسرية هانئة لا تطويها يد النسيان.
حُفظت تلك المقتنيات في بيت أسرتي في حيفا لسنوات طويلة ، تعودتُ على رؤيتها عندما كنت طفلاً صغيراُ ، وكان نقلها والدي إلى بيت الأسرة في قرية بُرقة قبل ستة شهور من سقوط حيفا ، حين حَدسَ أن الحرب في حيفا ستمتد لفترة طويلة من الوقت ، وأراد أن يحفظ مقتنياته بعيداً عن ساحة القتال ، وبَقيت بعد حدوث زلزال النكبة في بُرقة ، وأوصاني والدي بالحفاظ عليها ، وعند رحيله نقلتها إلى عمّان بصعوبة و بكميات قليلة على امتداد سنوات عدة ، وهي في بيتي الان في عمان مثقلة بحكايا ملحمية توازي أضخم الروايات والملاحم ، عن مرارة المنافي والشتات والإقتلاع من الأرض والحرمان من الوطن .
بفضل هذه المقتنيات القديمة ، ورثتُ عن والدي حُب تجميع المقتنيات التراثية ، ومع مرور الأيام تمكنت من الحصول على عدد غير قليل من االمقتنيات المرتبطة بالتراث ، لدي الان مجموعة كبيرة منها مختلفة الأشكال والأنواع والاحجام ، وما يجمعها أنها تكوينات متجانسة في مجالات عدة ، تواصل اهتمامي بها طيلة سني عمري .
كما أنني تمكنت بفضل تلك المقتنيات التراثية القديمة التي ورثتها عن والدي ، أن أكتب كتابي الموسوم : " بُرقة حيفا ... البحث عن الجذور " !ذ أنها جسدت لي ذاكرة في تكوينات مُحكمة لا حدود لها عن أيام طفولتي الباكرة في مسقط رأسي في حيفا وعن قريتي بُرقة ، ساعدتني على تلمس مخزون خصب عن جذور أهلي وأجدادي وبعض الحوادث الكثيرة التي عاشتها أسرتي في زمن مضى .
و تمكنت أيضا ً بفضل تلك المقتنيات التراثية التمتع بذاكرة مرئية تُغرقني دوما في بحرٍ من التأملات بمحركات نفسية مؤثرة ، أسترجع فيها صوراً كثيرة مختلطة ومتشابكة لفلسطين كلها تمتد في فضاءات رحبة متشعبة ، تنطق بحبي وهيامي بها ، استحضرمكنوناتها ببؤر لاقطة تعكسُ لي شظايا أجزاء من أرض بلدي وسمائها وبحرها وترابها ووجوه أهلها وكل ما كان فيها ، أتلمس فيها تفاصيل حياة مضت رغم تباعد الزمان والمكان ، إنها توقظ في داخلي شهوة الحياة رغم مرارة المنافي والشتات .
ولكي أعمم المعرفة بتلك المقتنيات الحيفاوية القديمة ، قررت مؤخرا وضعها تحت تصرف القراء ، باعداد كتاب مصور عنها يستعرضها حسب أقسامها المختلفة ، وقد أعددته وأصدرته بعنوان " متحف الذاكرة الحيفاوية " ، تم إشهاره في حزيران الماضي بعمان ، ويتم إشهاره أيضا في مدينة مونتريال الكندية في بداية شهر أيلول الماضي ، و هدفي من كل هذا هو تثبيت علاقتي بوطني وأرضي ومدينتي حيفا مسقط رأسي ، وتعريف القارئ بمخزون تاريخي حافظتً عليه لوحدي زمناً طويلاً .
#سميح_مسعود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في كتاب - إنها مجرد منفضة -
-
ايام في اسطنبول
-
منْ مِثلُكِ
-
الكلمة الصادقة
-
الأوزون وظِلال الحُروب الموحِشة
-
مقتل فنان في بغداد
-
مَقاطعٌ لها
-
أمة إقرأ لا تقرأ
-
عن مصر وأقباطها
-
المرأة الحديدية
-
أشهر فضيحة ثقافية في القرن العشرين
-
عيد الميلاد
-
نقولا زيادة الحاضر الغائب
-
لماذا يسرقون أرضنا ؟
-
العشق في مصادر التراث
-
جبرا إبراهيم جبرا: متى يُكرم؟
-
طفولة شاعر
-
ألوانُكِ
-
بطاقات شعرية صغيرة
-
في البدء كانت الكلمة
المزيد.....
-
قطر.. افتتاح مركز لتعليم اللغة الروسية في الدوحة
-
نجم فيلم -سبايدرمان-: الفلسطينيون في غزة هم الأهم ويجب تركيز
...
-
محمد منير يثير تساؤلات بسبب غيابه عن تكريم مهرجان الموسيقى ا
...
-
-جوكر: جنون مشترك-.. لعنة السلاسل السينمائية تُجهز على فيلم
...
-
من هو مختوم قولي فراغي الذي يشارك بزشكيان في ذكرى رحيله بترك
...
-
أحداث تشويقية لا تفوتك.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 167 مترجمة
...
-
الممثل الخاص لوزير الخارجية يلتقي مع المسؤولين الإعلاميين ف
...
-
صور أم لوحات فنية؟ ما السر وراء أعمال هذا الفنان؟
-
الإعلان الثاني لا يفوتك.. مسلسل صلاح الدين الأيوبي الموسم 2
...
-
فرحي الأطفال بمغامرات توم وجيري..حدث تردد قناة نتورك CN لمشا
...
المزيد.....
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
المزيد.....
|