أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فلاح أمين الرهيمي - أمركة العالم وليس عولمته















المزيد.....



أمركة العالم وليس عولمته


فلاح أمين الرهيمي

الحوار المتمدن-العدد: 4858 - 2015 / 7 / 6 - 12:56
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تقديم ومداخلات : فلاح أمين الرهيمي
تدقيق ومراجعة الأستاذ شكر حاجم الصالحي

الإهداء :
إلى أمي التي غذتني بحليبها الطاهر النقي
والتي علمتني احترام أبي وطاعته

التمهيد
إن أية ظاهرة في الوجود تكمن وراء ظهورها أسباب وعوامل قد تكون سلبية أو إيجابية وتعتبر هذه العوامل والأسباب روافد تصب في تلك الظاهرة وتؤدي إلى تطور وتقدم تلك الظاهرة أو عكس ذلك تسبب انهيارها وفناءها، انطلاقاً من اعتبار أن أي شيء في الكون لا يتصرف أو يتحرك إلا وفق قوانين موضوعية معينة تتيح لمن يدركها الوصول إلى تلك الظاهرة عن طريق تلك الأسباب والعوامل بما ينسجم مع المعرفة والفهم الذهني للواقع الموضوعي الذي تدركه القوانين وتطبقه بالتوافق مع الحركة الشاملة للدافع الموضوعي، من خلال الديالكتيك المستوحى من تلك الظاهرة والحقائق العلمية المادية المرتبطة بها وبما أن ظاهرة العولمة برزت في للوجود بشكل واضح بعد تفكك دول المعسكر الاشتراكي وانهيار نظامه الاشتراكي، وأن هذه الظاهرة (العولمة) تعتبر امتداداً للنظام البرجوازي ونموه وتطوره إلى النظام الرأسمالي ثم الامبريالي والاحتكاري، وهذا يعني أن هذه الظاهرة نمت وتطورت نتيجة عوامل الحركة والتغيير والتطور وهذا يعني أيضاً أن هذه الظاهرة برزت للوجود نتيجة تناقض وصراع بين مرحلة وأخرى مما أدى إلى ولادة مرحلة جديدة هي ظاهرة العولمة، كما أن هذه الظاهرة لا يمكن أن تبقى ثابتة أو جامدة إلى ما لا نهاية لأن من صفات ومميزات أي شيء في الوجود سواء كانت جامدة أو حية لها (أكسباير) مدة من الحيوية طويلة أو قصيرة تفنى بعدها وتموت مما يستوجب تبديلها بظاهرة أخرى حسب مفهوم الحركة والتغيير الذي يخلق التناقض والصراع بين القديم والجديد ويؤدي إلى نهاية وفناء القديم وولادة الجديد وهذا ما سوف نشرحه من خلال الكتاب.
إن الولايات المتحدة الأمريكية تعمل بكل طاقاتها وإمكانياتها على نشر ظاهرة العولمة في العالم لأن تلك الظاهرة تمتاز بالحرية الواسعة لانتشار الأفكار والسلع ورأس المال في جميع أنحاء العالم مما يوفر للولايات المتحدة الأمريكية فرصة كبيرة لأمركة العالم وليس عولمته عن طريق سيطرتها واستحواذها على منابع البترول في العالم وبشكل خاص على القوس من مخزون البترول الكبير والواسع الذي يبدأ من العراق مروراً بالمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي وحتى بحر قزوين لكي تستطيع المسك بقبضة حديدية برقاب جميع الدول الصناعية باعتبار البترول هو الأرخص والمضمون في الصناعة وغيرها مما جعله أن يصبح الشريان الرئيسي في مختلف مجالات الحياة.
إن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت القطب الأوحد في السياسة الدولية بعد تفكك المعسكر الاشتراكي وقيام الثورة المعلوماتية والتطور التكنولوجي الكبير الذي جعل من العالم وكأنه قرية صغيرة تشرف عليه الولايات المتحدة الأمريكية بإخطبوطها المتنوع براً وبحراً وجواً لما تمتاز به هذه الدولة من إمكانيات كبيرة وواسعة في المجال السياسي والاقتصادي وبذلك هي تسعى إلى أمركة العالم وليس عولمته.

فلاح أمين الرهيمي

البورجوازية الأوربية والعالم الجديد
كانت التجارة في المرحلة الأولى والصناعة في المرحلة الثانية العنصر الأهم في توطيد سلطة الطبقة البورجوازية، وكانت هذه الطبقة تنهج مختلف السبل من علمية واقتصادية لاستدرار الكسب والثراء، فبدأ التزاحم بين الدول الأوربية كل منها تبغي لنفسها أكبر قسط من الأرباح، وطمعت أوربا في خيرات القارات غير الأوربية فدفعها طمعها هذا إلى القيام بمغامرات توسعية واستعمارية فبنت الأساطيل التجارية كي تحمل إليها ثروات البلدان المختلفة وترسل إلى هذه البلدان مصنوعات معاملها وبرزت انكلترا التي جعلت من التجارة أساساً لسياستها الاستعمارية وانطلقت هيمنة الانكليز على البحار فأخضعوها لمراكبهم حتى امتدت تجارتهم ومراكبهم إلى أقاصي المعمورة يقايضون ويتقايضون مع سكان الأقطار البعيدة أحياناً بشرف وأحياناً بالاغتصاب والقرصنة، وقامت مبارزة حامية في هذا المضمار بين انكلترا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال كل منها تسعى للتفوق على الأخرى في استثمار واستعمار البلدان البعيدة واستعباد شعوبها ووضعها تحت حمايتها.
لقد كان الربع الثالث من القرن التاسع عشر الحادث المهم الذي سيطر فيه المنحدرون من أصول أوربية على الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تكن في ذلك الحين تؤدي دوراً أساسياً في الحلبة الدولية لذلك لم يولها رجال الدولة في أوربا اهتماماً كبيراً ما عدا بريطانيا التي كانت تتطلع بصورة مطردة إلى ارتياد آفاق عالمية وبحلول عام/ 1875 أصبح الحضور الأوربي الواسع يهتم بقارة أمريكا الشمالية أي على كندا الشاسعة المساحة التابعة لبريطانيا.
كانت أمريكا آنذاك ما زالت هي العالم الجديد، وهي المجتمع المفتوح في البلاد المفتوحة التي كان بوسع المهاجر الذي لا يمتلك شروى نقير أن يعيد فيها بناء نفسه فيغدو من ثم قادراً على المساهمة في إقامة جمهورية حرة ديمقراطية تشيع فيها المساواة، وهي الوحيدة من حيث الحجم والأهمية التي كانت يومئذ قائمة حتى عام/ 1870، وربما لم تعد صورة الولايات المتحدة الأمريكية مشرقة كما كانت من قبل ذلك وخارج حدودها على الأقل، بوصفها بديلاً سياسياً ثورياً للأنظمة الملكية الأرستقراطية العميقة في العالم القديم، وحلت محلها صورة لأمريكا بوصفها ملاذاً من الفقر ومنبعاً للأمل الفردي من خلال الإثراء الشخصي، ومن خلال ذلك أخذ العالم الجديد بواجهة أوربا بصورة متزايدة لا بوصفه مجتمعاً جديداً، بل باعتباره مجتمع الأثرياء الجدد وحديثي النعمة.
لقد تسارع الاستيطان في الجانب الغربي للولايات المتحدة الأمريكية بشكل كبير بفعل خطوط السكك الحديدية التي وصل أولها إلى نهر المسيسبي ثم تجاوزه على جسر إلى الضفة الأخرى بين الأعوام 1844 – 1846، كما عجل به إعمار كاليفورنيا، وبعد عام / 1849 لم يعد للغرب بمثل حدود اللانهاية وإنما أصبح عوضاً عن ذلك مساحة فارغة شاسعة من المروج والصحاري والجبال المترامية الممتدة بين منطقتين تشهدان النمو المتسارع شرق ساحل المحيط الأطلسي وعلى طول امتداده وشيدت الخطوط العابرة للقارة كما شهد الغرب الأوسط من الولايات المتحدة كثافة عالية متزايدة من الاستيطان وزراعة متقدمة وبمستوى لا بأس به من التصنيع، كما أقيمت المزارع في كامل منطقة المروج الشاسعة في الجنوب الغربي للولايات المتحدة والولايات الجبلية خلال الفترة بين 1850 – 1880. كان المزارعون يستوطنون المناطق الجرداء غرب المسيسبي تدريجياً وقد قام المستوطنون بطرد أهل المنطقة من الهنود بصورة قسرية وقد ارتكب هؤلاء المستوطنون مجزرة كبيرة ضد حيوانات (الجاموس) التي كانت تعيش في السهول المحاذية لنهر المسيسبي وكانت تلك المجزرة والإبادة وقعت عام / 1867 أي في نفس السنة التي قرر فيها الكونغرس إقامة محميات كبرى (للهنود) أهل المنطقة الأصليين وبحلول عام / 1883 بلغ عدد الجاموس الذي قتله المستوطنون 13 مليون جاموسة. أما المناطق الجبلية فلم يقدر لها أن تتحول إلى مناطق استيطان للمزارعين من المهاجرين فظلت تخوماً تدور فيها أنشطة المنقبين وملاك المناجم لا يقطنها سوى موجات من المغامرين والباحثين عن الذهب والمعادن الثمينة التي استخرجت كميات كبيرة منها في منطقة نيفادا عام / 1859 وقد بلغت قيمتها 100 مليون دولار خلال عشرين سنة وجلبت الثراء الفاحش لحفنة صغيرة من المغامرين.
بقي الجنوب الغربي من الولايات المتحدة الأميركية في جوهره موطناً للماشية أي منطقة (للكابوي) ومنها سيقت قطعان هائلة من ماشية البقر طويلة القرن يقدر عددها بنحو أربعة ملايين بقرة بين أعوام 1865 – 1879 إلى نقاط النقل النهري ومحطات القطارات المتجهة غرباً إلى المسالخ العملاقة في شيكاغو، وكان من نتائج الحركة النشيطة تلك على المستوطنات في ميسوري وكانساس ونبراسكا وخلق مستوطنات جديدة مثل أببلين ودوج.
إن أسطورة (الغرب الوحشي) عندما قتل المستوطنون ملايين الجاموس العائدة إلى الهنود وترحيلهم من مناطقهم في السهول بلغت أوجها ما بين الحرب الأهلية وانهيار صناعة المناجم وتربية الماشية وليست أحداثها وطبيعتها الوحشية تعود إلى وجود الهنود أصحاب المناطق الأصلية، لأن الهنود كانوا مسالمين ومستعدين للعيش بسلام مع المستوطنين إلا أن المستوطنين جاءوا من أقاصي المناطق البعيدة لغرض كسب الثراء والربح كما هي طبيعة الاستعمار وغريزته الشريرة في الاستحواذ والنهب وقد خاضت قبائل من الهنود مثل الأباتشي والباكوي وغيرها حروباً امتدت عشرات من السنين من أجل الدفاع عن أراضيها والمحافظة على استقلالها ضد الرجل الأبيض كما أن ما يشجع المستوطنين على العدوان والنهب والاستحواذ على أراضي الهنود هو فقدان وغياب المؤسسات والقوانين الحكومية كانت المنطقة الجنوبية زراعية وكانت خاضعة للاستعمار البريطاني كما كانت تزود بريطانيا بالجانب الأكبر من إنتاجها ومن ضمنه القطن الخام وقد بقيت هذه المنطقة تعتمد على الزراعة وتربية الماشية ولم تدخل مرحلة التصنيع بعكس المنطقة الشمالية التي التزمت التزاماً حازماً منذ بعيد بتصرفات حمائية متشددة لم تستطع أن تفرضها بصورة كافية كما تشاء بسبب النفوذ السياسي الواسع للمنطقة الجنوبية التي كانت تمثل نصف عدد الولايات الأمريكية عام/ 1850 كانت المنطقة الشمالية الصناعية أكثر قلقاً لأنها ملتزمة بالتجارة الحرة وبالسياسة الحمائية بعكس ما كانت عليه المنطقة الجنوبية التي تحتضن مجتمعاً للعبيد يستخدم بالزراعة وفي نفس الوقت تؤمن بالحرية وبذل قصارى جهدها لمواجهة منافع الشمال من الصناعة بوضع الحواجز بوجه دخول الصناعة إلى داخل الجنوب وضد إقامة حزام من أنظمة التجارة والمواصلات المتجهة ابتداءً من حوض نهر المسيسبي وليس شرقاً باتجاه المحيط الأطلسي، واستمرت العراقيل التي تضعها المنطقة الجنوبية بوجه القوافل التجارية التي تحمل الصناعة من الشمال إلى الشرق والغرب من الولايات المتحدة حتى اندلعت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب وكان النصر لصالح الولايات الشمالية آخر الأمر الذي يعتبر انتصاراً للرأسمالية الأمريكية التي تطورت بسرعة قياسية على نحو مدهش بعد الحرب الأهلية التي تباطأ نموها في أثنائها بعض الوقت إلا أنها فسحت مجالاً ملموساً لكبار المقاولين والتجار والمغامرين الذي أطلق عليهم اسم (البارونات اللصوص) ويشكل هذا التقدم المشهد الركن الأساسي في تاريخ الولايات المتحدة في تلك الفترة وقد امتد تأثير عصر اللصوص حتى الآن عنصراً مميزاً في النشاط الاقتصادي وقد جرت محاولات في طول الولايات المتحدة الأمريكية وعرضها للدفاع عن البارونات اللصوص وإعادة الاعتبار إليهم باعتبارهم الرجال الذين غيروا المفردات في قاموس اللغة الانكليزية، وعندما نشبت الحرب الأهلية كانت كلمة (المليونير) تكتب بشكل مائل إلا أن اللقب تحول إلى (متعدد الملايين) عند الحديث عن أعظم لصوص الجيل الأول (كورنيليوس فاندربيلت) عام/ 1877 الذي قدرت ثروته آنذاك بنحو مئة مليون دولار. ويرى بعض المحللين أن الرأسماليين الأمريكيين كانوا في واقع الأمر مخترعين مبدعين وما كان للتصنيع الأمريكي أن يحقق دونهم انتصاراته بهذه السرعة وعلى هذا الأساس لم تكن ثروتهم حصيلة الأعمال اللصوصية والقرصنة الاقتصادية، بل نتيجة المنحة الكريمة التي ينعم بها المجتمع على من أفاده من ذوي الأيادي البيضاء ..!! إن هذه التبريرات لا يمكن أن تقنع أحداً من البشر الذي يعرف ويدرك طبيعة الاستعمار في الاستغلال والاغتصاب واللصوصية، كما أن هذه الحجج هي تبريرات لما يقوم به رأس المال من سرقة لقمة العيش والحياة من الجياع والمحرومين لأن هذه التصرفات تعكس واقع وسلوك رأس المال من هنا شعر البارونات اللصوص إنهم بمعنى من المعاني يمثلون أمريكا كما لم تمثلها أية فئة أخرى، فقد دخلت أسماء أصحاب الملايين الكبيرة مثل مورغان وروكفلر عالم الأساطير ومن خلال ذلك ظهر السبب الذي جعل هؤلاء ومن معهم من الأسماء الأسطورية في عالم رأس المال حملة البنادق والمسدسات ومسؤولي الأمن في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها أكثر الأفراد شهرة وذيوع صيت خارج دولهم الرأسمالية في تلك الفترة باستثناء (إبراهام لنكولن). كما فرض كبار الرأسماليين طابعهم على بلادهم لأن الأمريكيين على حد تعبير صحيفة ناشونال ليبورتريبون عام/ 1847 (كانوا يحلمون ذات يوم بأن يكونوا سادة أنفسهم، وأن لا يكون وينبغي ألا يكون، لأحد حق بأن يسودهم، بيد أن هذه الأحلام لم تتحقق ... إذ فوجئ الناس الكادحون في هذه البلاد ... إن رأس المال يعادل في تصلبه الحكم الملكي المطلق).

الاستعباد والعنف
إن المستوطنين الذين هجروا أوطانهم هم استعمار أيضاً، ولكنهم بصيغة تختلف عن جيوش الاحتلال التي تسيطر على تلك البلدان نيابة عن رأس المال في بلدانهم، فجيوش الاحتلال تأتي لنهب خيرات البلدان وتذهب بها إلى مصانع الرأسماليين في بلدانهم فتصنعها ثم تعيدها سلعاً وبضائع إلى أسواق البلدان المستعمرة التي نهبت منها المواد الأولية التي صنعت منها السلع والبضائع أما المستوطن فإنه إنسان مغامر هاجر من وطنه للبحث عن الثروة والسلطة والجاه وهو أيضاً يستعمل نفس الطرق والأساليب تحت حماية سلطة المستوطنين وجبروتهم فيستحوذ على الأرض وخيراتها عن طريق العنف ويصبح المالك لها بعد أن يشرد أهلها أو يقتلهم، ولذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية نشأت وترعرعت وتكونت من خلال العنف وأصبحت هي حامية العنف والاعتماد عليه أكثر مما تعتمد على القوة والاعتداد بها، مما جعل العنف هو السائد والمتفشي منذ البداية والناس في الولايات المتحدة الأمريكية يستعملونه ويدينون به وأصبح الوسيلة الناجحة لمن يريد أن يطلب الشهرة ويدخل التاريخ كقاتل ولص ومجرم وهذا ما تنقله لنا وسائل الإعلام المختلفة بين فترة وأخرى عن قيام شخص بإطلاق الرصاص بشكل عشوائي في الساحات العامة أو في المدارس والجامعات بدون سبب وإنما من الغرائز المقموعة في طبائعهم الشريرة، ولذلك أصبحت المزرعة والمدينة والدولة والأمة قد نشأت من العنف ولا شيء سوى العنف ولذلك أصبحت هذه الظاهرة نتاج قرون طويلة من قرصنة عدوانية شريرة لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، وقد أضفى منطق العنف لمسة من السخرية القاتلة على القارة الأمريكية التي كانت خاوية من البشر قبل مجيء كرستوف كولمبس إلا من مجموعات متفرقة يبلغ تعدادها المليون إنسان بالرغم من سعة الأرض الأمريكية، وكانت موزعة على أربعمائة قبيلة وقومية وطائفة كانت تنتشر في أمريكا الشمالية على مساحة أكبر من أوربا بأكثر من ضعف، وقد حفرت هذه القبائل والطوائف قبورها بأيديها حينما شاكست وتمردت على المستوطنين الأوربيين فشنوا ضدهم حرب إبادة غير متكافئة من حيث السلاح والعدد. وهكذا وبكل بساطة انجلى الموقف تحت سلطة الحكم الليبرالي الجديد في العالم الجديد الولايات المتحدة الأمريكية من خلال القضاء على الإرهابيين المتوحشين الذين جرى تصنيفهم قبل أن يحيلوا جثة والحرية الليبرالية إلى جحيم بدائي متوحش.
هكذا قامت أرض التقدم والحضارة والحداثة (الولايات المتحدة الأمريكية) التي وصف توماس جيفرسون شعبها (شعب الله المختار) التي قامت على جماجم السكان الأصليين وبؤس العبيد وعنف الحروب الأهلية ونكسات الأزمات الاقتصادية الدورية، لقد نما هذا الشعب الوليد الذي جمعت عناصره وشمائله من عصير سفالات ورذائل البشر المتنوعة البيئة والأوطان من الأشرار والقتلة واللصوص فصهرتهم بودقة المصلحة والثراء والسلطة فولد من رحمها ذلك اللقيط الهجيني (الولايات المتحدة الأمريكية) الذي منح شعبها الجنسية الإنكليزية.
الولايات المتحدة الأمريكية
في الركن الشمالي الغربي وجزر هاواي في وسط المحيط الهادي تمتد الولايات المتحدة الأمريكية من المحيط الأطلسي شرقاً إلى المحيط الهادي غرباً وتضم أراضيها أيضاً ولاية ألاسكا. كان السكان الأوائل الأصليين لأمريكا الشمالية ينتمون إلى شعوب يعتقد أنها رحلت إلى أمريكا قبل حوالي 20 ألف سنة من قارة آسيا وليس من الهند كما كان يعتقد حينما أطلقوا عليهم (الهنود) كان هؤلاء السكان الأصليون على شكل قبائل متعددة تتعامل وتتعاون مع بعضها البعض وليس مع شعوب أو قبائل في مناطق أخرى خارج حدود منطقتهم، إلا أن بعد وصول المستوطنين الأوربيين إلى أمريكا واستيطانهم دمروا العلاقات الاقتصادية التي أنشأها سكان القبائل الأصليين وأنشأت عوضاً عنها علاقات اقتصادية وسياسية بما ينسجم مع مصالح وطبيعة المستوطنين الأوربيين.
كانت جماعة من الرحالة يطلق عليهم (الفايكنغ) أول من اكتشف أمريكا في حوالي سنة الألف للميلاد، إلا أن هذا الحدث لم يكن له شأن يترك أثراً له لأن المجتمعات الأوربية في ذلك الوقت كانت تعتمد اعتماداً كلياً على الزراعة واستملاك الأراضي الزراعية التي تساعد الاستقرار وليس على التجارة التي تمتاز بالمغامرة واستكشاف الأراضي الأخرى وحينما ظهرت هذه الظاهرة أي التجارة اكتسبت تلك الأهمية وأوجدت الحافز والدافع لمزيد من الاستكشاف لأمريكا الشمالية واستيطانها وكان ذلك في عام 1492 حينما أبحر كريستوفر كولومبوس الذي كان قبطاناً إيطالياً لسفينة تحمل العلم الأسباني سعياً إلى العثور على ممر يؤدي بالوصول إلى آسيا لكنه اكتشف عالماً جديداً، وقد أدى هذا الاكتشاف بعد مئة عام إلى اندفاع كثير من المغامرين بالإبحار من انكلترا وأسبانيا والبرتغال وهولندة وفرنسا وموانئ أخرى نحو العالم الجديد سعياً وراء البحث عن الذهب والثروة والمجد، إلا أن الأرض التي وطئها هؤلاء المغامرون لم توفر لهم الذهب والمجد والثروة فرحلوا عنها خائبين، إلا أن محاولة ثانية قام بها مغامرون انكليز في عام 1607 استقروا في منقطة وكونوا منها أول مستعمرة في منطقة اسمها (جيمس تاون) أصبحت فيما بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
مع مرور الزمن توسعت الهجرة من الانجليز إلى العالم الجديد واستقروا في مستوطنات متعددة ومنتشرة في تلك الأرض الواسعة، وقد تحقق ازدهار اقتصادي في بادئ الأمر نتيجة صيد الحيوانات البرية والمتاجرة بالفراء، كما انتشرت عملية صيد الأسماك في المستوطنات القريبة من البحر، كما استغل قسم آخر من المستوطنات خصوبة الأرض وتوفر المياه فتكونت الزراعة وتطورت التجارة في تصدير الحبوب والتبغ والأرز والأصباغ الزرقاء ومقابل ذلك كانت تستورد الكماليات والمواد الضرورية.
مع مرور الزمن توسعت المستوطنات وتطورت صناعات متنوعة ومختلفة، فأنشئت أنواع مختلفة كقطع الأشجار ونشر الأخشاب ومطاحن الحبوب، كما أنشأ قسم من المستوطنين مرافق لبناء سفن صيد الأسماك وفيما بعد السفن التجارية، وأنشأوا معامل صغيرة لصهر الحديد.
في حلول القرن الثامن عشر أصبحت أنماط التنمية الإقليمية واضحة، حيث اعتمدت كل مستوطنة في صناعة معينة فكانت منطقة (نيو أنغلد) تعتمد على صناعة بناء السفن والإبحار في عرض البحر من أجل توليد الثروات، وتكونت المزارع الواسعة التي كانت تستخدم فيها الهنود في مناطق ماريلاند وفرجينيا ونورث كارولينا وساوث كارولينا تنتج الأرز والتبغ والصبغ الأزرق، وأخذت المستوطنات في المناطق الوسطى كنيويورك وبنسلفانيا ونيوجرسي وديلاوير تعمل على إنتاج وتصدير المحاصيل الزراعية والفرو، مما أدى إلى ارتفاع وتحسن مستوى المعيشة بين المستوطنين. وبحلول عام 1770 أصبحت المستوطنات في أمريكا الشمالية منظومة من الناحية السياسية والاقتصادية وأصبحت جاهزة لكي تكون جزءاً من حركة الحكم الثاني التي كانت سائدة في السياسة الانجليزية منذ عهد الملك جيمس الأول (1603 – 1625). وقد نشأت نزاعات بين المستوطنين والحكومة الانجليزية بخصوص الضرائب ومسائل أخرى مما أدى إلى تطور هذا النزاع بين المستوطنين والانجليز إلى حرب شاملة مما أدى إلى انفصال المستوطنات عن بريطانيا وحصولها على الاستقلال. وبالرغم من أن المعارك بين المستوطنين والجيش البريطاني استمرت ثماني سنوات وإن الهدف النهائي للمستوطنين لم يكن الانفصال عن انجلترا إلا أن المعارك الطويلة أفرزت النتيجة النهائية التي أدت إلى الاستقلال وتأسيس دولة جديدة هي الولايات المتحدة الأمريكية، تقوم على أساس النظام الفدرالي وفي عام 1787 وضع دستور للبلاد التي كانت تمتد من ولاية ماين إلى جورجيا ومن المحيط الأطلسي إلى سهل المسيسبي واعتبر هذه المنطقة سوقاً موحدة (مشتركة) واستثنى فرض رسوم جمركية أو ضرائب على المبادلات التجارية بين الولايات، كما نص على أنه يحق للحكومة الفدرالية تنظيم المبادلات التجارية مع الدول الأجنبية وبين الولايات، كما أصدرت قوانين عن إصدار العملة وتنظيم قيمتها وتحديد معايير الأوزان والمقاسات وإنشاء مكاتب البريد وشق الطرق وأنظمة تتعلق ببراءة الاختراع وغيرها من الفقرات التي تتعلق بعلاقات وحياة المستوطنين الذين أصبحوا فيما بعد نواة الشعب الأمريكي.
الموارد الطبيعية والديمقراطية للشعب الأمريكي
يمتاز الشعب الأمريكي بصفات ومكونات ذات جذور بيئية وقومية ودينية مختلفة، فكانت مجموعات كبيرة من المهاجرين من ألمانيا وأيرلندا واسكتلندا وسويسرا وفرنسا قد هاجرت إلى العالم الجديد (أمريكا) لأسباب مختلفة فالألماني هرب فراراً من الحرب والايرلندي هرب من اضطهاد الحكومة ومجموعات من الاسكتلنديين والسويسريين هرباً من الفقر والبحث عن لقمة العيش وآخرون هاجروا وهربوا من الاضطهاد الديني والحكم الجائر وكان أكثرية المهاجرين من الانكليز وقد هاجرت أيضاً أقوام قليلة من الهولنديين والسويديين والايطاليين.
كانت مرحلة النظام الإقطاعي التي يعتمد على الزراعة هي السائدة في أوربا عند اكتشاف العالم الجديد في القرن الخامس عشر وبداية الهجرة إليه من أوربا ولذلك فإن هؤلاء المهاجرين توجهوا إلى المنطقة الجنوبية من أمريكا لتوفر الأنهار والبحيرات وخصوبة الأرض، وقد تعاقد هؤلاء المهاجرون مع شركات أو ملاكي الأراضي للعمل في مزارعهم وقد استطاع قسم من هؤلاء من استملاك أراضي زراعية واستغلالها هو وعائلته وكان حجم الحيازات مرضياً تماماً حيث كانت المساحة التي حددتها القوانين الصادرة في عام/ 1862 بـ (160 فدان) وكانت هذه القوانين تقضي بمنح كل مواطن يتجاوز عمره الحادية والعشرين عاماً الحق في امتلاك قطعة أرض مساحتها 160 فداناً من دون مقابل شريطة أن يزرعها بنفسه لمدة خمس سنوات على الأقل، وقد اعتبرت هذه المساحة تكفي لإعالة أسرة بكاملها.
لابد للزراعة من شروط طبيعية مواتية مثل المناخ والتربة والمياه والأيدي العاملة وأن جميع هذه الشروط متوفرة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث تبلغ الأراضي الصالحة للزراعة نسبة 4,10٪-;- بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية كما تمتلك مساحات واسعة من الغابات تبلغ 31٪-;- من مساحات الولايات المتحدة الأمريكية، أما من حيث المعادن فإن الاحتياطي العالمي المعروف للحديد والبترول والفحم فنسبته 26٪-;- موجود في الولايات المتحدة الأمريكية، أما بالنسبة إلى المنتجات الحيوانية التي تقدر بثلث قيمة إنتاج المحاصيل الزراعية في العالم فإن ما تمتلكه الولايات المتحدة الأمريكية يقدر 55٪-;- وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الثانية في العالم في إنتاج الألبان أما بالنسبة للموارد المائية التي يمكن تشبيهها بالموارد التعدينية باعتبارها هبة خالصة من الطبيعة لا دخل للإنسان بوجودها وإنمائها وهي تمتاز بتجددها دوماً بدرجة تفوق تجدد الموارد الأخرى والدليل على ذلك الدورة المائية في الطبيعة التي تعتبر رمزاً لهذا التجدد الدائم، وتعتبر هذه الموارد ثروة حقيقية بذاتها كما تؤلف منابع ثروة ضخمة بما تكنه في جوفها من موارد غذائية ومواد أولية صناعية وبما يمكن أن تتحول إليه من وسائل للنقل أو منابع للقدرة الإنتاجية. وأن ما تمتلكه الولايات المتحدة الأمريكية من هذه الموارد يبلغ 10,23٪-;- أما بالنسبة للموارد البشرية التي يعتبر الإنسان قيمة اقتصادية هامة لأنه يؤلف رأس المال، ويتكون رأس المال هذا من النفقات التي صرفت على هذا الإنسان منذ ولادته حتى اليوم الذي يصبح فيه عنصراً منتجاً ومفيداً في المجتمع فإذا مات قبل بلوغه هذه المرحلة معنى ذلك ضياع رأس المال وإذا ما أصيب بعاهة أقعدته عن العمل أو أصبح عاطلاً (بطالاً) بدون عمل فإن ذلك يعني أن رأس المال الذي صرف على ذلك الإنسان لم يطفأ بكامله. فالقيمة الاقتصادية للإنسان تنمو وتتطور من خلال امتداد فترة تعليمه المدرسي والمسلكي وتنمو وتتطور أيضاً بتعدد الخدمات والمصالح المختلفة التي تسهر على وقاية الشباب من السلوك الشاذ والمنحرف عن طريق العائلة ومعاهد التربية والتعليم والمؤسسات الطبية والاجتماعية لأن الإنسان ينمو ويتطور إنتاجه طرداً كلما نمت مواهبه وهذبت كفاءاته الجسمانية والفكرية والمهنية والخلقية. ومن خلال ذلك يتبين لنا بشكل واضح بأن الدولة إذا لم تقم بواجبها بالتعاون مع المجتمع ولم تستطع بتنمية إمكانيات الإنسان من الناحية الجسمانية أو الفكرية أو المسلكية هبطت قيمتهم الاقتصادية، فالأميون والعاطلون عن العمل والخاملون والعاجزون جسمانياً والمعلولون عقلياً والمنحرفون هم أشخاص ليس لهم قيمة اقتصادية.
لقد قدرت القيمة النقدية لرأس المال البشري في الاتحاد السوفيتي (3000) مليار دولار بينما بلغت في الولايات المتحدة الأمريكية بـ (1500) مليار دولار.
ملاحظة : (لقد توسعت في هذا الموضوع لكي أوضح لأولي الأمر أهمية الإنسان ودوره في تنمية وتطور مجالات الحياة كافة).
التطور الصناعي في الولايات المتحدة الأمريكية
انطلقت الثورة الصناعية في الولايات المتحدة الأمريكية بحلول عام/ 1860 وكانت نسبة قليلة تبلغ 16٪-;- من سكان الولايات المتحدة تعيش في المدن والباقي كان يعيش خارج المدن أي في الزراعة وكان أقل من ثلث مجموع عائدات الدخل يأتي من الإنتاج الصناعي لأن الصناعة كانت محدودة ومحصورة في عدد من المدن في شمال شرق البلاد، حيث كانت صناعة الملابس القطنية هي الصناعة الرئيسية إلى جانب صناعات أخرى مثل صناعة الأحذية والملابس الصوفية وصناعة الآلات، وكان العديد من العمال الجدد من المهاجرين الأوربيين الفقراء الذين كانوا في المدن التي تقع فيها موانئ وصولهم. ومن ناحية أخرى بقي الجنوب من الولايات المتحدة ريفياً يعتمد على الشمال في تأمين رأس المال والسلع المصنعة كما كانت ظاهرة امتلاك العبيد منتشرة في المناطق الجنوبية. وفي عام/ 1862 تم إنشاء أول خط للسكك الحديدية وفي عام 1863 تمت صياغة قانون إنشاء المصرف الوطني. في الحرب الأهلية الأمريكية (1861 – 1865) الذي انتصر فيها الشمال قرر مصير البلاد ونظامها الاقتصادي، فتم إلغاء نظام استغلال وتشغيل العبيد مما أدى إلى انهيار مزارع القطن الشاسعة في الجنوب ونزوح كثير من سكان الجنوب إلى الشمال والعمل في الصناعة التي انتعشت في الشمال بسبب متطلبات الحرب الأهلية مما جعل الصناعيون يسطرون على جوانب عديدة من حياة الناس الاجتماعية والسياسية واختفاء أرستقراطية المزارعين في الجنوب.
بعد انتهاء الحرب الأهلية وضعت التنمية الاقتصادية السريعة أسس الاقتصاد الصناعي الأمريكي الحدي، فحصل الكثير من الاكتشافات والاختراعات الجديدة التي أحدثت تغيرات عميقة وكبيرة فكانت كالثورة الصناعية التي حدثت في أوربا ولكن في هذه المرة حدثت بالولايات المتحدة الأمريكية، فتم اكتشاف النفط في غرب بنسلفانيا وابتكار الآلة الكاتبة واستخدام وسائل التبريد في مقطورات السكك الحديدية واختراع الهاتف والفوتوغراف والمصباح الكهربائي، وفي مطلع القرن العشرين حلت السيارات والطائرات عوضاً عن العربات التي تسحبها الخيول في وسائط النقل، وبالتناسق مع هذه الإنجازات تم تطوير البنية التحتية الصناعية للبلاد واكتشفت كميات كبيرة من الفحم الحجري في منطقة (جبال ابالاشيا) الممتدة من بنسلفانيا جنوباً إلى كنتاكي واكتشفت واستثمرت مناجم كبيرة للحديد في منطقة بحيرة (سوبريور) وازدهرت معامل الصهر في أماكن تجمع هاتين المادتين الأوليتين أي الفحم الحجري والحديد في إنتاج الفولاذ كما اكتشفت مناجم كبيرة للنحاس والفضة والرصاص وفتح معامل لإنتاج الاسمنت.
مع نمو وتوسع الحركة الصناعية تم تطوير أساليب الإنتاج على نطاق واسع ويعتبر الشخصية البارزة (فريدريك تايلر) الرائد الأول للعلم والإدارة العلمية في التطور والإنتاج في أواخر القرن التاسع عشر حينما وضع خططاً دقيقة لوظائف مختلف العمال ومن ثم ابتكر أساليب جديدة لزيادة كفاءتهم واستقلالهم في حركاتهم وطاقاتهم التي تؤدي إلى زيادة الإنتاج وكانت تعرف هذه الابتكارات والوسائل بـ (طريقة تايلر) ثم جاء (هنري فورد) الذي كان له دور كبير وواسع في النظام الفعلي للإنتاج الذي وضع نظام خط التجميع المتحرك في عام/ 1913 الذي أدى إلى تقسيم العمل حيث ينفذ كل عامل مهمة معينة أو عملاً معيناً في عملية تجميع السيارات، كما كان فورد يدفع أجوراً للعامل مبلغاً قدره (خمسة دولارات) يومياً وكان هذا الأجر يعتبر كبيراً جداً في ذلك الوقت وقد توسعت بشكل كبير صناعة السيارات في عهده.
كان النصف الثاني من القرن التاسع عشر المعروف بالعصر الذهبي لحفنة من ملوك المال وكبار الممولين الذين تمكنوا من تكوين إمبراطوريات مالية واسعة كجون روكفلر في الصناعة النفطية وجاي غولد في مد خطوط السكك الحديدية ومورغان في الأعمال المصرفية وكارنيغي في صناعة الفولاذ وغيرهم من المهاجرين المغامرين الذين يعتنقون فكرة كسب المال ويستسيغون متعة المخاطرة والإثارة التي تولدها مشاريع الأعمال والتمتع بما يحققه النجاح من مستويات معيشة أعلى ومنافع ملازمة للشهرة والسلطة، ولكن مع نضوج الاقتصاد الأمريكي في القرن العشرين حدث تغيير هام مع بروز الشركات المساهمة التي ظهرت أولاً في صناعة السكك الحديدية وفي صناعات أخرى، وحل محل رجال الأعمال أشخاص من التكنوقراط كمدراء ورؤساء للشركات المساهمة، كما برزت من خلال توسع الأعمال والمشاريع حركة عمالية منظمة من المهاجرين الفقراء عملت ونشطت في الوقوف ضد استغلال وسلطة رجال الأعمال بعد الثورة التكنولوجية في الثمانينيات والتسعينيات.
تكوين الحكومة وسلطتها
كان المهاجرون الأوربيون الأوائل يختارون الأرض التي يعملون فيها وتصبح منطقة لاستقرارهم وحينما توسعت الهجرة وازدادت عدداً وكثافة وكانوا يمثلون أقواماً مختلفة الأديان والأعراق والتكوين النفسي والبيئي فرضت أحكام الضرورة إلى تكوين واختبار سلطة تنظم حياتهم وأعمالهم ومن أجل القانون والنظام وعدم التدخل في حريتهم ونشاطهم الاقتصادي، ومع مرور الزمن بدأ هذا الموقف بالتغيير وذلك في أواخر القرن التاسع عشر عندما أخذت مؤسسات الأعمال الصغيرة والمزارعون والحركات العمالية يطالبون الحكومة بالتدخل لحمايتهم ومصالحهم كما ظهرت حركات سياسية وأفكار تقدمية تضم مزارعين وعمالاً وحرفيين ومفكرين نزحوا من دول أوربية مختلفة سكنوا في منطقة الغرب والغرب الأوسط من الولايات المتحدة الأمريكية وقد عرف أفراد هذه النخبة من المهاجرين بالتقدميين. كانت هذه النخبة تحارب الفساد والفوضى في القطاع العام ويحبذون تدخل الحكومة وتنظيمها للأعمال بما ينسجم مع المصلحة العامة.
في عام 1887 أصدر الكونغرس قانون تنظيم عمل السكك الحديدية (عرف بقانون تنظيم التجارة بين الولايات) وفي عام 1890 أصدر قانوناً آخر يمنع الشركات الكبيرة من السيطرة على صناعة واحدة (قانون شيرمان لمكافحة الاحتكارات) إلا أن هذين القانونين لم يطبقا بحزم إلا خلال الفترة الممتدة ما بين عام 1900 وعام 1920 بعد أن تسلم الرئيس الجمهوري تيودور روزفلت مقاليد الحكم (1901 – 1909). وخلال إدارة الرئيس الديمقراطي وودرو ويلسون (1913 – 1921) وغيرهما من المؤيدين لوجهات نظر العناصر التقدمية التي تعتنق أفكاراً ليبرالية، وبعد ذلك بدأ تأسيس عدد كبير من الهيئات الحكومية والتنظيمية كهيئة التجارة بين الولايات وإدارة الغذاء والدواء والوكالة الفدرالية للتجارة، وازداد تدخل الحكومة في الاقتصاد إلى حد كبير للغاية في ظل (الصفقة الجديدة) في الثلاثينيات وأحداث انهيار سوق الأسهم المالية في أزمة عام/ 1929 الذي أدى إلى أخطر تشوه اقتصادي في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية وعرف (الكساد الاقتصادي الكبير) بين عامي 1929 – 1940 وقد أطلق الرئيس روزفلت (1933 – 1945) بما يسمى بالصفقة الجديدة لإزالة آثار حالة الطوارئ تلك، وعلى أثرها تم إصدار معظم القوانين المهمة وإنشاء المؤسسات التي حددت وطورت معالم الاقتصاد الأمريكي الحديث فبموجب القوانين التي صدرت من خلال (الصفقة الجديدة) جرى توسيع صلاحيات السلطة الفدرالية لتشمل المصارف والزراعة والضمان الاجتماعي وعلى ضوئها حددت مقاييس الحد الأدنى للأجور وساعات العمل شملت صناعات الفولاذ والسيارات والمطاط وتأسيس برامج وهيئات لعمل اقتصاد البلاد الحديث ومنها وكالة مراقبة الأوراق المالية وسوقها التي تنظم عمل سوق الأسهم والمؤسسة الفدرالية لضمان الودائع في المصارف.
الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلتها الجديدة
في أوائل الستينيات من القرن السابع عشر بدأت هجرة كبيرة مؤلفة من عدة مئات من المستعمرين الانجليز إلى الولايات المتحدة الأمريكية ثم تبعتها سيول دافقة من المهاجرين امتدت إلى ثلاثة قرون من الزمن بلغ عددهم الملايين من شتات مختلفة من مناطق المعمورة، وشيدوا بدوافع قوية مختلفة حضارة جديدة على أرض كانت ذات يوم قارة موحشة، فتكون وترعرع ونشأ الإنسان الأمريكي الذي هو أما أوربي وأما من سلالة أوربية، ومن هنا جاء هذا المزيج العجيب الذي لا يوجد مثله في أي بلد من بلدان العالم، فالجد انجليزياً وزوجته هولندية والابن تزوج من فرنسية وحينما أنجبوا أربعة أولاد كانت زوجاتهم ينتمين إلى أربع أمم مختلفة، لقد انصهرت هذه الأقوام المختلفة شكلاً ونوعاً في بودقة واحدة ولد من رحمها الإنسان الأمريكي الذي طرح عصبيته وعاداته وتقاليده القديمة وأصبح إنساناً جديداً يحمل هوية وطنية اسمها (الولايات المتحدة الأمريكية) وفق عادات جديدة مستمرة من أسلوب الحياة الجديدة التي يعيشها.
بلغت الولايات المتحدة اكتمال شخصيتها بين الحربين (الأهلية التي نشبت بين جنوب وشمال الولايات المتحدة الأمريكية عام/ 1863 في عهد الرئيس لنكولن والحرب العالمية الأولى 1914) في تلك الفترة تحولت الولايات المتحدة الأمريكية من جمهورية ريفية إلى دولة مدنية وانتشرت في أرجاء البلاد المعامل العظيمة ومصانع الصلب والخطوط الحديدية الواسعة التي امتدت شبكتها إلى جميع مدن القارة الأمريكية وتم تشييد المدن المزدهرة والمزارع الواسعة والشاسعة.
أصبح للولايات المتحدة الأمريكية دور كبير كدولة كبرى يجب أن تلعبه في العلاقات الدولية والسياسية العالمية وتتبوأ المركز الذي يجعلها على قدم المساواة مع غيرها من الأمم، فكانت الفرصة الذهبية المناسبة للعب ذلك الدور في اشتعال الحرب العالمية الأولى في أوربا عام/ 1914 وقيام الغواصات الألمانية في ربيع عام 1915 بإغراق الباخرة البريطانية (لوزينانيا) وغرق معها 1200 شخص من جنسيات مختلفة كان من بينهم 128 أمريكيا، فكان ذلك صدمة عنيفة للشعب الأمريكي إضافة إلى ما تركته الحرب من آثار سلبية في المجالين السياسية والاقتصادية وتأثيرها على تجارتها وصناعتها بسبب تعرض بواخرها لأعمال عدوانية من قبل الغواصات الألمانية وخوف الرأسمالية الأمريكية من الظفر للألمان وانتصارها في الحرب فإن ذلك يعني سيطرة النزوة الحربية في أوروبا وتهديد الأمن الأمريكي في الثاني من شهر نيسان عام/ 1917. كان لدخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب قد حسم نتيجة تلك الحرب لصالح الحلفاء وخسارة ألمانيا وعقدت الهدنة بنهاية الحرب في 11 نوفمبر عام/ 1918.

الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الأولى
لقد أفرزت الحرب العالمية الأولى عام/ 1914 ظاهرتين في الولايات المتحدة الأمريكية الأولى (مبدأ مونرو الذي يقضي بعزل القارتين الأمريكيتين عن العالم الغربي واتخاذ مبدأ القارتين للأمريكان وليس لدول أخرى) والثانية (أزمة الأوراق المالية عام/ 1929 التي زعزعت الاقتصاد الأمريكي والتي عرفت بالكساد الاقتصادي الكبير) لقد حققت دول أمريكا اللاتينية في العقد الثاني من القرن الثامن عشر استقلالها من الدول الاستعمارية الغربية وعندما حل عام/ 1824 لم يبق هناك سوى مستعمرات صغيرة في جزر الهند الغربية وعلى الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية مستعمرة من قبل بعض الدول الأوروبية، وفي عام/ 1822 اعترف الرئيس الأمريكي (مونرو) بالدول الجديدة المستقلة كالأرجنتين وشيلي وكولومبيا والمكسيك والبرازيل وتبادل معها التمثيل الدبلوماسي كدول مستقلة تحكم نفسها بنفسها وفي حل تام من روابطها السابقة بالدول الأوروبية، وفي هذا الوقت بالذات شكلت الدول الأوروبية المستعمرة اتحاداً وتحالفاً فيما بينها عرف باسم (الحلف المقدس) وذلك لحماية مستعمراتها من الثورات في نفس الوقت اعتنقت الدول الأوروبية المتحالفة مبدأ التدخل في البلدان التي تحدث فيها حركات شعبية ومنع امتداد تلك الثورات وتأثيرها على مصالح تلك الدول الاستعمارية وحينما حدثت حركات شعبية تدعو إلى الاستقلال في مستعمرات تابعة لدولة أسبانيا في العالم الجديد وجه الحلف انتباهه إلى أسبانيا ومستعمراتها في العالم الجديد، وقد اعتبرت الولايات المتحدة ذلك التصرف الذي قام به الحلف صدمة كبيرة لها واستفزازاً عنيفاً لثقة الولايات المتحدة في دوام الحكومات الجديدة في أمريكا الجنوبية، مما دفع بالرئيس مونرو في 2/ ديسمبر عام/ 1823 بتقديم مقترحات إلى الكونجرس تحتوي على عدة فقرات عرفت فيما بعد بـ (مبدأ مونرو) وهي :-
1- إن قارتي أمريكا بما تتمتعان به، وتحافظان عليه من حرية واستقلال، أصبحنا غير خاضعتين لاستعمار أي دولة أوروبية في المستقبل.
2- إن النظام السياسي للدول المتحالفة الأوروبية يختلف تماماً عن نظام أمريكا، ويجب أن تعتبر أية محاولة من جانب تلك الدول لفرض نظامها على أي جزء في هذا النصف من الكرة الأرضية خطراً على سلامنا وأمننا.
3- لم تتدخل ولن تتدخل في شؤون المستعمرات القائمة أو البلاد التابعة لأية دولة أوروبية.
4- لم تساهم بتاتاً بأي نصيب في الحروب التي نشبت بين الدول الأوروبية لأمور خاصة بها، كما أنه ليس مما يتفق مع سياستنا أن تفعل ذلك.
إن مبدأ مونرو يشير في مضمونه إلى ناحيتين، الأولى جعل أمريكا للأمريكيين، والثانية تشير إلى أية دولة أوروبية تتدخل في شؤون الدول الأمريكية فإن الولايات المتحدة تستعمل حقها في الدفاع عن النفس، وهذا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية حينما قررت التزامها بسياسة العزلة فإنها لم تتجرد عن حقها بالدفاع عن كيانها القومي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعرف أنها القوة الاقتصادية الرئيسية في العالم قبل أن يصبح حق الدفاع عن النفس مرجعية انطلاق قواها نحو النصف العالم الآخر حيث وقعت الولايات المتحدة الأمريكية في عام/ 1928 ميثاق بربان كيلوج (نسبة إلى كيلوج وزير الخارجية الأمريكي مع وزير الخارجية الفرنسي بريان) وقد جاء هذا الميثاق المعروف باسم (ميثاق العزوف العام عن الحرب) ليقرر لأول مرة خطر استخدام القوة كوسيلة من وسائل فض المنازعات بل كأداة لتنفيذ سياسة الدول في علاقاتها الدولية، إلا في حالة الدفاع عن النفس، إن هذا الميثاق يدل دلالة واضحة أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تلتزم وتتقيد في علاقاتها الخارجية في نصوص هذا القانون في فترة ما بين الحربين العالميتين من حيث العزلة على طول الخط وإنما اعتمدت واستغلت ما ورد في ميثاق (بريان – كيلوج) الذي يحرم الحرب إلا في حالة الدفاع عن النفس واعتبرت الدفاع عن النفس الذي استنتجته من مبدأ مونرو جزءاً من الدفاع عن نظام أمنها القومي والدفاع عن سلامتها الإقليمية وكيانها وشعبها، وقد عرف وزير الخارجية الأمريكية كيلوج مبدأ مونرو بعد الالتفاف حوله وإضفاء بعد قانوني عليه بقوله : (إن مبدأ مونرو هو ببساطة مبدأ الدفاع عن النفس).
أزمة الأوراق المالية في الولايات المتحدة الأمريكية عام/ 1929
يمتاز النظام الرأسمالي بظاهرة الأزمات الدورية بين فترة وأخرى ويأتي ذلك من خلال سعي الرأسماليون إلى إنتاج السلع أكثر فأكثر من أجل جني الأرباح مما تجعل تلك الظاهرة إلى زيادة المنافسة بين الرأسماليين بشكل غير عقلاني حيث يصبح ذلك الإنتاج للسلع والحاجيات بشكل كبير ويصبح العرض أكثر من الطلب مما يؤدي إلى تكدس وتلف تلك السلع والحاجيات لأن مستوى استهلاك الجماهير يكون محدوداً وهذا يعني أن العرض يصبح أكثر من الطلب مما يدفع بالرأسمالي إلى تخفيض الأجور وتسريح أعداد من العمال وحتى إلى غلق المعمل ورفع أسعار السلع والحاجيات وهذه الظاهرة تؤدي إلى ضعف الطاقة الشرائية لدى جماهير واسعة وتقلص إمكانيات تصريف السلع لأن الهدف للإنتاج الرأسمالي لا يمثل إشباع حاجات المجتمع بل يكمن هدفه الجشع في الحصول على أكبر كمية من الأرباح وتحقيق (فائض القيمة التي تؤدي إلى تراكم رأس المال لدى الرأسمالي).
إن طبيعة المنافسة في النظام الرأسمالي من أجل الحصول على أكبر كمية من الأرباح تدفع بالرأسمالي إلى توسيع الإنتاج لفترة معينة وتنويعه، وهذه الظاهرة تؤدي إلى زيادة الحاجة بشكل أكثر إلى الآلات الحديثة ومواد البناء والخامات والوقود لكي يستطيع الرأسمالي من منافسة السلع والبضائع التي تنتجها المصانع الأخرى التابعة للرأسماليين، وبطبيعة الحال إن هذه المشروعات التي تستخدم وسائل الإنتاج تمتاز بطاقة كبيرة في إنتاج السلع والحاجيات المخصصة للاستهلاك مما يؤدي أيضاً إلى زيادة العرض وقلة الطلب وتكدس السلع والبضائع وتلفها لأن تصريف سلع الاستهلاك في ظل النمو السريع في زيادة كمياتها يصبح غير ممكن في فترة زمنية وذلك أيضاً ناتج عن ضيق عيش الجماهير أو عدم نفاد تلك السلع والحاجيات لديها، في أغلب الأحيان يجري الإنتاج وتوسيعه في النظام الرأسمالي نتيجة المنافسة من أجل الحصول على الأرباح وليس وفق نظام التخطيط وإشباع حاجات المجتمع.
إن هذه الظاهرة تخلق الأزمات الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي وهي امتدت من عام/ 1929 ولا زالت على امتداد إلى يومنا هذا وتستمر في الصناعة الرأسمالية وتسير في دورات معينة بين فترة وأخرى وهذه الظاهرة هي طبيعة موجودة وملازمة للنظام الرأسمالي وتخلق الصراع والمتناقضات في ذلك النظام المتعفن الذي تطور إلى مرحلة العولمة وسوف تشرح ذلك في المواضيع القادمة والذي سيؤدي حتماً إلى تدمير وانهيار ذلك النظام.
(لقد تنبأ كارل ماركس قبل 150 سنة أي منذ صدور البيان الشيوعي عام 1848 بطبيعة الاقتصاد العالمي الرأسمالي في القرن العشرين والواحد والعشرين مستنداً بذلك على تحليل المجتمع البورجوازي من خلال التطور الرأسمالي على المستوى العالمي وأكد على أن ولادة الاقتصاد الدولي المعولم أمر ملازم لتطور الإنتاج الرأسمالي وتنبأ بأن هذه العملية ستولد وتفرز نزاعات عنيفة وأزمات اقتصادية مدمرة ومظالم وكوارث اجتماعية على نطاق واسع، وقد صدقت نبوءات ماركس في أعوام/ 1929 – 1948 – 1949 – 1953 – 1954 – 1957 – 1958 – 1960 – 1961 – 1969 – 1971 – 1997 – 1999 – 2006 – 2009 – 2011).
من طبيعة الأزمة الاقتصادية أنها تحدث تخريباً هائلاً في الاقتصاد وتكشف بصفة خاصة وبجلاء عن عدم قدرة الرأسمالية وسيطرتها في مواجهة القوى التي تسبب هذه الظاهرة التي تولد من رحم النظام الرأسمالي وطبيعته المتناقضة ويتجلى بذلك من الطابع التنافسي الفوضوي للإنتاج الرأسمالي بكل وضوح وتفرز وتعري الأزمة التناقضات العميقة للنظام الرأسمالي التي يهلك بسببها جهود وثمار عمل ملايين من الناس وفي الوقت نفسه لا تمتلك جماهير واسعة الإمكانية لإشباع حاجاتها الملحة والضرورية في الحياة كما تؤدي الأزمات وتفرز المتناقضات الطيفية بين جماهير الشعب الواسعة وبين أقلية من مالكي وسائل الإنتاج كما ترمي إلى البطالة الكثير من العمال والشغيلة وإفلاس أعداد كبيرة من صغار المنتجين أصحاب المعامل والورشات الصغيرة.
لقد كانت الأزمة التي انفجرت عام/ 1929 قد سببت الخراب الرهيب الذي لحق بجميع الدول الرأسمالية واستمرت حتى عام/ 1933 حيث كانت هذه الأزمة إحدى الأزمات الأكثر عنفاً وتدميراً التي هزت الاقتصاد الرأسمالي وأدت إلى انخفاض حجم الإنتاج الرأسمالي في جميع أنحاء العالم بـ 44٪-;- وفي بعض البلدان انخفض مرتين وبلغ عدد العاطلين عن العمل في البلدان الرأسمالية نتيجة الكساد الاقتصادي بـ 40 مليون إنسان، وأصاب الخراب عدداً كبيراً من الفلاحين وانخفاض دورة التجارة العالمية إلى الثلث، وانتشر شبح البؤس والجوع إلى ملايين العوائل، بينما كان الرأسماليون يتلفون ويحرقون كميات هائلة من السلع والحاجيات الغذائية التي كانت تنتجها مصانعهم ولم تجد الأسواق لتصريفها، وفي الولايات المتحدة الأمريكية استخدم القمح والذرة بدلاً من الفحم للتدفئة كما أهلكت ودفنت وهي أحياء ملايين الخنازير والماشية الأخرى وترك محصول القطن في المزارع دون جني. وفي البرازيل قذفت مئات الأطنان من البن (القهوة) في عرض البحر، وفي الدنمارك أبيدت آلاف الماشية، وفي فرنسا وإيطاليا أتلفت آلاف من أطنان الفاكهة والخضر. ولا تزال ذكرى (الكساد العظيم) حسب الاصطلاح الذي أطلقته المؤلفات البورجوازية عن أزمة أعوام 1929 – 1933 تثير الرعب والقلق في قلوب الكثيرين في البلدان الرأسمالية ويلاحق شبحها النظام الرأسمالي من أن تؤدي مثل تلك الأزمة بالنظام إلى الهلاك.
إن الأزمات الاقتصادية ظاهرة ملازمة وحتمية في الاقتصاد الرأسمالي وهي ظاهرة تنشأ وتترعرع وتولد من الرحم الرأسمالي خارج إرادتها وغصباً عنها إلا أن المدافعين وفلاسفة النظام الرأسمالي يحاولون ويبررون إخفاء الطبيعة الحقيقية للأزمات الاقتصادية وأسبابها، فإنهم يعلنون أن حدوث الأزمات الاقتصادية نتيجة لأسباب ترجع إلى الصدفة ويمكن على حد زعمهم القضاء عليها في ظل النظام الرأسمالي عن طريق معرفة أسبابها، وحينما يعلنون تلك الأسباب يلخصوها في الخلل العفوي الذي يحدث بالتناسب بين قطاعات الإنتاج أو في قصور الاستهلاك ويعالجون تلك الظاهرة بسباق التسلح وإشعال الحروب، بينما في واقع الأمر إن عدم التناسب في الإنتاج والقصور في الاستهلاك لا يعتبران أمرين عفويين بل ظاهرة حتمية للتعبير عن التناقض الرئيسي الذي ينشأ ويترعرع في رحم النظام الرأسمالي والذي لا يمكن القضاء عليه طالما يوجد ذلك النظام في الوجود.
من خلال ما تقدم يتبين لنا أن الأزمات الاقتصادية تعتبر قريناً ملازماً للنظام الرأسمالي ولذلك يصبح ليس بمستطاع الرأسمالي القضاء على تلك الأزمات طالما بقي السبب الذي يولدها وهو التنافس والتناقض والصراع والفوضى في الإنتاج وعدم التخطيط.
الولايات المتحدة الأمريكية ونمو قدرتها الاقتصادية والسياسية
بعد أن كانت الولايات المتحدة الأمريكية متورطة في علاقات اقتصادية مع الدول الغربية في أوربا قبل الحرب العالمية الأولى وأدت هذه العلاقات إلى دخول الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب بسبب قيام الغواصات الألمانية بإغراق البواخر التي تحمل المواد والسلع من أمريكا إلى أوربا.
لقد تورطت الولايات المتحدة الأمريكية سياسياً بعد الحرب العالمية الأولى بعد أن نمت وتطورت صناعتها وتوسعت تجارتها إلى مناطق واسعة من المعمورة وأصبحت القوة الاقتصادية الرئيسية في العالم، مما جعلها تصبح جزءاً رئيسياً ولها دور كبير في السياسة الدولية وما يحدث فيها من تطورات، الأمر الذي أصبح التركيز في الإدارة الأمريكية ولاسيما بعد انتخاب فرانكلين روزفلت عام/ 1933 وقيامه بترميم الاقتصاد الأمريكي والخروج من الأزمة والقضاء على آثارها وإعادة انتعاش الاقتصاد الأمريكي.
بعد الحرب العالمية الأولى تعقدت واضطربت العلاقات الدولية في أوربا وظهرت أنظمة متعددة الأفكار وصلت إلى الحكم عن طريق الثورة كما حدث في روسيا عام/ 1917 ووصول الحزب الشيوعي الروسي بقيادة فلاديمير لينين إلى الحكم ووصول أنظمة أخرى إلى الحكم بأساليب ليبرالية عن طريق الانتخابات، إلا أنها اتخذت لنفسها نهجاً ديكتاتورياً عدوانياً كما هو في الفاشية لنظام الحكم في إيطاليا بزعامة موسيليني عام/ 1922، ووصول النازيين إلى الحكم في ألمانيا بزعامة أدولف هتلر عام/ 1933، ووصول حكومة الجنرال توجو إلى زمام الحكم في اليابان، أخذ القلق يساور الأمريكيين حينما أصبحت حقيقة طبيعة هذه السلطات الدكتاتورية تتوضح يوماً بعد يوم وتتمادى في عدوانها، ففي عام/ 1938 بعد أن ضم هتلر النمسا إلى سلطته أخذ يطالب بإقليم السوديت في جيكوسلوفاكيا ثم قام باحتلال بولندا والدنمارك والنرويج وهولندا وبلجيكا وفرنسا إن عدوانية هتلر التي تهدد أمن أوروبا جعلت الولايات المتحدة تشعر أن ذلك يشكل خطراً عليها وعزز ذلك الاعتقاد سقوط فرنسا الذي كشف عن قوة ألمانيا النازية العسكرية، وعندما شتت الطائرات الألمانية هجومها الجوي على بريطانيا في صيف عام/ 1940، شكلت الولايات المتحدة مع كندا اتفاقية للدفاع واستجمعت حولها دول أمريكا اللاتينية للمحافظة على نصف الكرة الغربي. ووافق الكونغرس الأمريكي على فتح اعتمادات كبيرة للتسلح لمواجهة هذه الأزمة الخطيرة وفي شهر سبتمبر من عام/ 1940 أقر الكونغرس الأمريكي أول قانون للتجنيد الإلزامي في أيام السلم بتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وفي غمرة هذه الظروف الخطيرة حلت فترة الانتخابات للرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية وأسفرت الانتخابات عن فوز روزفلت للمرة الثالثة في تاريخ أمريكا.
بينما كان الأمريكيون يراقبون سير الحرب في أوروبا، بلغ التوتر أشده في الشرق الأقصى حينما استغلت اليابان تلك الظروف من أجل تحسين مركزه الإستراتيجي في الشرق الأقصى، فقد أعلنت في جرأة إنشاء نظام جديد تمارس بمقتضاه السيادة على أرجاء الشرق الأقصى والمحيط الهادي بأجمعه، ولم تكن بريطانيا في تلك الظروف في وضع يمكنها من الوقوف في وجه اليابان فأخذت تتقهقر من ساحة المعركة وسحبت قواتها من منطقة شنغهاي في الصين وأغلقت طريق بورما بصفة مؤقتة، واستطاعت اليابان في سنة/ 1940 أن تنتزع من حكومة فرنسا بقيادة فيشي الضعيفة تصريحاً يسمح لها استخدام المطارات الحربية في الهند الصينية التابعة لفرنسا، وفي شهر سبتمبر انضم اليابانيون إلى محور روما – برلين مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية أن تفرض الحظر على شحن الحديد الخردة إلى اليابان. لقد انطلق اليابانيون بزحفهم نحو الجنوب حيث تواجد الزيت والصفيح والمطاط في دولة الملايو المستعمرة البريطانية وجزر الهند الهولندية والسيطرة على جميع أجزاء الهند الصينية الخاضعة للسلطة الفرنسية، وجواباً على هذا السلوك العدواني من قبل اليابان قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتجميد أموال اليابانيين المودعة لديها، وفي شهر نوفمبر من عام/ 1941 سيطرت حكومة الجنرال توجو على زمام الحكم في اليابان، وفي اليوم السابع من شهر ديسمبر عام 1941 قامت الطائرات الحربية اليابانية بإلقاء وابل من قنابلها على الأسطول الأمريكي والمنشآت الحربية في ميناء بيرل هاربور، وفي يوم 8 ديسمبر/ 1941 أعلن الكونغرس الأمريكي حالة الحرب مع اليابان وبعد ثلاثة أيام أعلنت ألمانيا وإيطاليا الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية وجندت جميع إمكانياتها المادية والمعنوية للمجهود الحربي، وبما أن الولايات المتحدة الأمريكية بعيدة عن ساحة القتال فجاء تركيزها للمجهود الحربي الحيوي للحلفاء الغربيين في أوروبا حيث توجد القوة الرئيسية للعدو وأن يكون الاهتمام بميدان القتال في المحيط الهادي في درجة ثانوية، إلا أن تلك المنطقة لم تكن آمنة من المعارك الحربية فقد شهد المحيط الهادي في سنة/ 1942 أولى المعارك الحربية بين الأسطول الأمريكي وأساطيل دول المحور وكان النصر إلى جانب الأسطول الأمريكي الذي كانت ترافقه حاملة الطائرات وفي نفس العام تكبد الأسطول الياباني خسائر فادحة في معركة بحر مرجان حينما كان متوجهاً نحو استراليا، كما كان للقوة الجوية الأمريكية دور كبير في تدمير الأسطول الياباني بالقرب من جزيرة ميداوي في المحيط الهادي وغيرها من المناطق لما كان يمتاز بها المجهود الحربي الأمريكي في تعزيز قوته الجوية والبحرية وأن ذلك يأتي من بُعد الأراضي الأمريكية عن ساحة القتال وعدم استطاعة القوات البحرية والجوية لدول المحور من الوصول إليها وتدميرها ومن خلال ذلك أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي الممول الرئيسي لجيوش الحلفاء في أوروبا، وقد استطاع الاتحاد السوفيتي الذي فاجأته الحرب عام/ 1941 ولم يكن مهيئاً لها الحصول على كثير من السلاح المتنوع والمواد الغذائية من الولايات المتحدة الأمريكية وكان الدور الكبير للجيش الأحمر البطل ومقاومة الشعب السوفيتي الشجاع في دحر القوات النازية وقيام الجيش الأحمر بالهجوم المضاد للقوات النازية واستطاعت تلك القوات بقيادة القائد السوفيتي (جوكوف) احتلال برلين ووضع علمه الأحمر المرصع بالمطرقة والمنجل على بناية البرلمان الألماني (الرايختشاغ).
كانت المعدات الحربية الأمريكية تتدفق إلى مسرح الحرب في أوروبا مما عزز قدرة الجيوش الحليفة، ففي ربيع وصيف عام/ 1942 استطاعت القوات البريطانية بقيادة مونتغمري أن تحبط الهجوم النازي بقيادة رومل من الاستيلاء على مصر ثم دحرتها كلياً في طرابلس واضعة بذلك حداً من استيلائها على قناة السويس في 7 نوفمبر عام/ 1942 احتلت قوات من الجيش الأمريكي ساحل أفريقيا الشمالي وكبدت القوات الألمانية والإيطالية خسائر كبيرة وأسر أعداد كبيرة من قواتهما وفي منتصف صيف عام/ 1943 تم تطهير ساحل البحر الأبيض المتوسط الجنوبي من القوات الفاشية، وفي شهر أكتوبر جاءت حكومة جديدة في إيطاليا برئاسة المارشال بادوليو وعقدت هدنة مع الحلفاء، إلا أنها في شهر أكتوبر دخلت في الحرب إلى جانب الحلفاء وأعلنت الحرب على ألمانيا وكانت الحرب ما تزال قائمة على الأراضي الإيطالية، فشتت قوات الحلفاء الجوية بغارات مدمرة على طرق السكك الحديدية والمصانع وتجمعات الأسلحة الألمانية المخزنة في إيطاليا وعلى مستودعات الزيوت بمدينة بلوستي برومانيا في قلب القارة الأوربية.
في أواخر عام/ 1943 قرر الحلفاء فتح جبهة قتال جديدة في غرب أوروبا من أجل إرغام الألمان على سحب قواتهم من جبهة القتال الروسية وفي تلك الفترة تم تعيين الجنرال أيزنهاور الأمريكي قائداً عاماً لقوات الحلفاء، كما تم في تلك الفترة إنزال جوي مشترك من القوات الأمريكية والبريطانية على شواطئ نورماندي كما استطاعت القوات السوفيتية أن تدحر القوات الفاشية في مدينة ستالينغراد وتكبد قواتها خسائر كبيرة بين قتيل وأسير واعتبرت تلك المعركة نقطة تحول في حسم الانتصار إلى جانب الحلفاء لأنها كانت المعركة الحاسمة التي قصمت ظهر الجيش الألماني، كما استطاعت القوات الحليفة بعد إنزالها الجوي في نورماندي أن تحتل وتسيطر على منطقة الساحل الفرنسي وإبادة عدة فرق من القوات الألمانية ثم أخذت القوات الحليفة تتحرك نحو ألمانيا بعد أن حررت جميع الأراضي الفرنسية من جيوش قوات المحور، وفي شهري فبراير ومارس عام/ 1945 كانت قوات الحلفاء تتقدم في زحفها على ألمانيا من الغرب، كانت القوات الألمانية تتقهقر أمام الجيش الأحمر الروسي من جهة الشرق، وفي اليوم الثامن من شهر مايس/ 1945 حتى قام الرايخ الثالث الألماني بالاستسلام للحلفاء وسلم قواته البرية والبحرية والجوية لها، في هذا الوقت كانت القوات الأمريكية والاسترالية تحرز التقدم والانتصار على القوات اليابانية في منطقة آسيا وشقت طريقها شمالاً مطهرة جزر السولومون وبريطانيا الجديدة وغينيا الجديدة وبوجونفيل من القوات اليابانية، كما حقق الأسطول الأمريكي نصراً كبيراً في بحر الفليبين كما قامت القوات الأمريكية البرية بالاستيلاء على أيوجيما وأوكيتاوا، إلا أن القوات اليابانية استمرت في المقاومة الشرسة ضد القوات الأمريكية فقامت الولايات المتحدة في شهر آب عام/ 1945 بإلقاء القنبلة الذرية على مدينة هيروشيما ومن ثم على مدينة ناكازاكي اليابانيتين وفي الثاني من شهر سبتمبر استسلمت اليابان رسمياً.
الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية
في 25 من شهر نيسان عام/ 1945 اجتمع ممثلون عن خمسين دولة في مدينة سان فرانسيسكو لكي يضعوا إطار منظمة الأمم المتحدة، وقد حدد الدستور الذي وضعوه للمنظمة العالمية المعالم التي يمكن فيها أن تبحث بالخلافات التي تنشأ بين الدول سلمياً وتبنى قضايا مشتركة إنسانية ضد الجوع والأمية والمرض وتنمية وتطور الدول.
إن موقف الولايات المتحدة الأمريكية ومشاركته دول العالم الأخرى في إنشاء والمشاركة في بناء معالم منظمة الأمم المتحدة يختلف عن الموقف الذي اتخذه مجلس الشيوخ الأمريكي بعد الحرب العالمية الأولى عندما رفض انضمام الولايات المتحدة الأمريكية إلى عصبة الأمم، حيث أثبت هذا الإجراء نهاية روح العزلة الذي كان مسيطراً في سياسة وزارة الخارجية الأمريكية في السابق وأشعر العالم بأن الولايات المتحدة الأمريكية عازمة على أن تلعب دوراً رئيسياً في الشؤون الدولية.
لقد أفرزت الحرب العالمية الثانية عوامل جديدة في السياسة الدولية :
إن التناقض الفكري بين الفكر الليبرالي الذي تعتنقه الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية والفكر الشيوعي الذي يعتنقه الاتحاد السوفيتي قد بدأ صراعه منذ ثورة أكتوبر عام/ 1917 التي خلقت النظام الشيوعي في روسيا إلا أن ذلك الصراع تأجل بسبب ظهور سياسة العزلة وفق مبدأ مونرو التي تقوم على أساس (القارة الأمريكية للأمريكيين) وهذا يعني أن أمريكا لا تتدخل بشؤون الدول الأخرى خارج القارة الأمريكية ولا تسمح لتلك الدول أن تتدخل بشؤونها واستمرت حتى الحرب العالمية الأولى حينما كان الرئيس الأمريكي ولسن داعياً للسلام العالمي وتحقيق المودة والمحبة بين الشعوب والعدالة في العلاقات الدولية ومسانداً لجميع الجهود التي تعمل من اجل تنظيم دولي فعال ومقتدر على منع إشعال الحروب، كما كان لتأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929 التي انطلقت من الولايات المتحدة الأمريكية والتي كان لها تأثير كبير على المجتمع الأمريكي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وبما أن للولايات المتحدة الأمريكية علاقات واسعة مع دول العالم، فإن تلك الأزمة شملت بآثارها المدمرة جميع أنحاء المعمورة، كما ظهرت أنظمة متطرفة خطرة في أفكارها وتطلعاتها التوسعية كالسلطة الفاشية في إيطاليا عام/ 1922 بزعامة موسليني، والسلطة النازية في ألمانيا عام /1933 بزعامة هتلر، إن جميع هذه الأسباب والعوامل أجّل صراع المتناقضات بين الفكر الليبرالي المتمثل بالنظام الرأسمالي والفكر الشيوعي المتمثل بالنظام الاشتراكي، والنتائج التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية أشعلت فتيل الصراع بين النظامين، وكانت النتائج تتجسد بما يلي :
1- الاقتصاد الأمريكي ما بعد الحرب العالمية الثانية : كانت الولايات المتحدة الأمريكية بعيدة عن ساحات المعارك الحربية ولذلك لم تتعرض أراضيها ومنشآتها ومؤسساتها وبنيتها التحتية إلى تدمير من قبل الطائرات والسفن الحربية لأعدائها كما أن مدنها وأراضيها لم تصبح ساحة معارك وكوارث كما أن شعبها لم يتعرض إلى الكوارث والتشريد والجوع والموت وبذلك كان الشعب الأمريكي يعيش بأمان واستقرار واطمئنان بعيداً عن أجواء الحرب ومآسيها، ولا كأن دولتهم كانت تخوض حرباً ضروساً في الجو والبحر والأرض في أجواء وبحار وأراضي أوروبا وآسيا والمحيط الهادي، إلا أن القلق والخوف الذي سيطر على الأمريكيين نتج من أن تؤدي انتهاء الحرب العالمية الثانية وهبوط الإنفاق الحربي إلى عودة الأيام الصعبة التي عاشوها خلال فترة الكساد الاقتصادي الكبير الذي نتج عن انهيار سوق الأسهم المالية وحدوث أزمة عام/ 1929، إلا أن الاقتصاد الأمريكي أخذ ينمو بقوة استثنائية حيث عادت صناعة إنتاج السيارات بنجاح كبير، وحدثت قفزات ووثبات واسعة في صناعة الطائرات والأجهزة الالكترونية وازدهرت عملية بناء المساكن ونشاط قروض الرهن العقاري مما أدى إلى زيادة التوسع الاقتصادي وبشكل خاص أسواق أوروبا الغربية التي تعرضت منشآتها الصناعية وبنيتها التحتية إلى التدمير فأصبحت الصناعة الأمريكية هي الممول الرئيسي لتلك الأسواق، كما أدى فوز أيزنهاور برئاسة دولة الولايات المتحدة الأمريكية للفترة من عام/ 1953 حتى عام/ 1961 وتورطه في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية إلى ظهور عسكري صناعي هائل في الولايات المتحدة الأمريكية لكي تستطيع المحافظة على قدرة قتالية عالية بعد أن أصبحت هي الدولة الأعظم والقوة الكبيرة في المعسكر الرأسمالي واستثمرت الأموال في صناعة الأسلحة المنظورة كالقنبلة الهيدروجينية كما ظهر للوجود مشروع مارشال الذي قدم المساعدات الاقتصادية إلى الدول الأوروبية التي دمرتها الحرب العالمية الثانية مما ساعد أيضاً في تأمين أسواق لتصدير السلع والبضائع الأمريكية.
2- كان العداء والصراع قد نشب بين النظام الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي منذ قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى في عام/ 1917 وتكوين دولة الاتحاد السوفيتي وقد لاحظنا كيف أن سبعة عشر دولة أوروبية تدخلت من أجل القضاء على تلك الثورة العملاقة وكيف كان الإمعة العجوز (تشرشل) الذي كان وزيراً للمستعمرات البريطانية يصرخ بأعلى صوته ويحذر ويقول (اقضوا على الشيوعية ما زالت بعدها في البيضة قبل أن تنمو وتترعرع وتشكل خطراً على مصالح الرأسمالية) إلا أن بعد الحرب العالمية الأولى استجدت ظروف وأحداث فرضت على الدول الرأسمالية غض النظر وتأجيل صراعها وتناقضاتها مع الاتحاد السوفيتي وهذه الأسباب هي :
1. وصول نظام فاشي في إيطاليا بزعامة موسيليني عام/ 1922، ووصول النازيين إلى السلطة بقيادة هتلر عام/ 1933، وقيام اليابان بالتوسع واحتلال مناطق في آسيا.
2. وجود الرئيس ولسن على رأس السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية وكان هذا الرجل داعياً للسلام العالمي وبناء العدالة في العلاقات الدولية ومناصراً لحقوق الشعوب، وداعماً ومسانداً لنظام دولي فعال لمنع اشتعال الحروب.
3. النزاعات الدولية والصراع فيما بينها مما أدى إلى عدم الاستقرار في العالم وأفرزت أبعاداً عالمية اقتصادية وسياسية كالحرب الأهلية في أسبانيا عام/ 1936 والحرب الإيطالية في الحبشة والأوضاع المتوترة في منطقة الشرق الأوسط وبشكل خاص في المنطقة العربية التي يتواجد فيها البترول أو القريبة منها والحروب اليابانية التوسعية الاستعمارية في آسيا.
4. كان روزفلت رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الثانية معادياً للنازية، كما كانت لفرنسا دوافع وأسباب معادية للنازية ومن هنا جاء توقيع حلف فرنسي – سوفيتي عام/ 1935، أما بريطانيا بزعامة تشرشل الذي كان يزعق ويصرخ عند قيام ثورة أكتوبر الروسية عام/ 1917 بالقضاء على الثورة الشيوعية وهي في البيضة قد كان في ذلك الوقت وزيراً للمستعمرات وأصبح في الحرب العالمية الثانية رئيساً لوزراء بريطانيا وكانت سياسته معادية للسوفيت والشيوعية وقد دفعه حقده هذا إلى التأثير على فرنسا فألغت تحالفها مع الاتحاد السوفيتي وعقدت اتفاقاً هي وبريطانيا في أيلول/ 1938 سمي باتفاقية ميونخ أجازت لهتلر باحتلال جيكوسلوفاكيا وتسليمها له على أن يقوم هتلر بالهجوم على الاتحاد السوفيتي إلا أن تطور الحرب واحتلال الجيوش النازية إلى دول أوروبية وتهديدها المصالح البريطانية والأوروبية بشكل عام وهجوم الجيوش النازية على الاتحاد السوفيتي في 22/ حزيران/ 1941 قد غيرت المواقف المعادية للاتحاد السوفيتي.
نتائج الحرب العالمية الثانية وقيام الحرب الباردة
كان التناقض والصراع قد نشب بين النظام الشيوعي والنظام الرأسمالية منذ قيام ثورة أكتوبر عام/ 1917 وقيام نظام شيوعي في الاتحاد السوفيتي إلا أن ذلك التناقض والصراع خفت وطأته وتأجل بسبب ظهور أسباب وعوامل على الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الأولى كوجود نلسن رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية وصعود النظام النازي والنظام الفاشي إلى السلطة في ألمانيا وإيطاليا وقيام اليابان بأعمال توسعية واحتلال مناطق وبلدان في آسيا، وبعد اندحار تلك الأنظمة في الحرب العالمية الثانية وخروج دولة الاتحاد السوفيتي التي كانت العدو القديم من الحرب بانتصار كبير حيث توسعت قاعدته فشملت : بولندا ورومانيا وبلغاريا ويوغسلافيا وهنغاريا والقسم الشرقي من ألمانيا فتحول ذلك التعاون والتحالف الذي كان قائماً في الحرب العالمية الثانية إلى حالة من العداء والمواجهة السياسية والعسكرية بين النظام الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والنظام الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي، لقد بينا أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تتعرض إلى تدمير أو كوارث نتيجة الحرب العالمية الثانية بعكس القوى الرأسمالية التقليدية (بريطانيا وفرنسا) التي أصابتها الكوارث والدمار والوهن والإحباط مما جعلهما غير قادرتين على مواجهة المد السوفيتي المتصاعد في أوروبا والعالم وكانت هاتان الدولتان بحاجة إلى مساعدات الولايات المتحدة الأمريكية التي خرجت من الحرب أكثر قوة وجبروتاً لكي تستطيعا الخروج من ظروفها الصعبة كما أن الولايات المتحدة الأمريكية أدركت الواقع الذي كانت تتمتع به بريطانيا وفرنسا قبل الحرب إلا أن الحرب التي أنهكتهما وأضعفتهما وجعلتهما بعيدتين عن الساحة الدولية مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تتخوف من الفراغ لهاتين الدولتين على المستوى الدولي قد يستغله الاتحاد السوفيتي لصالحه مما دفع بالولايات المتحدة الأمريكية برمي ثقلها وزعامة النظام الرأسمالي وقد كان الرجل المناسب لهذه المرحلة من المواجهة مع الاتحاد السوفيتي هو الرئيس الأمريكي (هاري ترومان) الذي قرر انتهاج سياسة متشددة إزاء الاتحاد السوفيتي أطلق عليها (سياسة القبضة الحديدية) مستغلاً تفوق الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياً واقتصادياً حيث قال في أول خطاب له بعد أن نصب رئيساً للجمهورية الأمريكية (أن روسيا تحاول غزو تركيا والاستيلاء على مضايق البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، وأنه إذا لم تواجه روسيا بقبضة حديدية ولغة قوية فإن حرباً أخرى ستنشب، إننا لن نقبل الوفاق أو المصالحة بعد الآن، ويجب أن نصل بالقوة إلى القرار في شأن ما تدين لنا به روسيا بموجب قانون الإعارة والتأجير).
إن هذا الخطاب المتشنج والشديد اللهجة الذي بدأ فيه الرئيس الأمريكي ترومان فترة حكمه يشير إلى اقتحام الولايات المتحدة المعترك السياسي وزعامة العالم بقوة واقتدار الذي جعلت من نفسها سيدة العالم واتخاذ موقف حاسم وبقوة في تخطيط ومسيرة العلاقات الدولية، كما كان ذلك الخطاب إعلان رسمي لموقف الولايات المتحدة الأمريكية عن بداية مرحلة جديدة من الصراع والحرب الباردة ذات طابع جديد في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي لا يقوم بالضرورة على المواجهة العسكرية المباشرة وإنما يقوم على أسس جديدة حسب طبيعة النظام الاستعماري الجديد للولايات المتحدة الأمريكية الذي يكون ذا طابع اقتصادي وليس احتلالاً عسكرياً بالوسائل الاقتصادية والتسليحية وإقامة الأحلاف العسكرية والدعاية المنظورة والمسموعة والمقروءة والعوامل والتأثيرات النفسية.
إن الانتصار العظيم الذي حققه الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية وتكوين منظومة من الدول جعلت منها كتلة لها ثقلها ومكانتها أصبحت تشكل النظام الاشتراكي في العالم الذي خلق الأمل والرجاء في قلوب الشعوب المقهورة وحفزها على النضال والثورة ضد حكامها الطغاة عملاء الاستعمار فكان الانتصار العظيم للحزب الشيوعي الصيني بزعامة ماوتسي تونغ عام/ 1949 وسيطرته على معظم الأراضي الصينية، وجاء الانتصار الآخر في فيتنام الشمالية عام/ 1954 بقيام الحزب الشيوعي الفيتنامي بزعامة هوشي منه بتكوين سلطة شيوعية في فيتنام الشمالية وطرد قوات الاستعمار الفرنسي من تلك البلاد. ثم جاء الانتصار الآخر في آسيا في كوريا الشمالية حينما فاز الحزب الشيوعي الكوري واستطاع أن يؤسس جمهوريته الشعبية.
كما كان تأثير تلك الانتصارات بارزاً على حركات التحرر العربية حيث استطاعت سوريا أن تتحرر من الاستعمار الفرنسي عام/ 1946، وتتحرر تونس والمغرب من الاستعمار الفرنسي عام/ 1956، واستمرت ثورة الجزائر البطلة ضد الاستعمار الفرنسي منذ عام 1954 حتى تحقيق النصر عام/ 1962، ثم قامت ثورة مصر الجبارة عام/ 1952 وحررت أراضيها من الاستعمار البريطاني، ثم قامت الثورة العظيمة في العراق في 14 تموز/ 1958 للتحرر من التبعية الاستعمارية، وقيام الثورة الكوبية بزعامة فيدل كاسترو في أمريكا اللاتينية عام/ 1959.
إن ظهور هذه المتغيرات على الساحة الدولية أدى إلى ظهور نتائج مهمة على صعيد العلاقات الدولية من خلال اضمحلال دور القوى الدولية السابقة المتمثلة ببريطانيا وفرنسا بشكل نهائي وبروز كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي كدولتين أساسيتين على الساحة الدولية وخوف وقلق الولايات المتحدة الأمريكية من قيام الاتحاد السوفيتي بملء الفراغ الذي تركته كل من بريطانيا وفرنسا، ويبرز على السعي الأمريكي الحثيث لمنع الاتحاد السوفيتي من امتداد نفوذه إلى منابع البترول في منطقة الشرق الأوسط.
الاستعمار الجديد
في فترة من فترات التاريخ وتطوره الذي بدأت فيه الطبقة البورجوازية بالظهور بدأ عصر التجارة الذي يسمى أحياناً (الرأسمالية التجارية) الذي امتد من منتصف القرن الخامس عشر حتى منتصف القرن الثامن عشر بداية الثورة الصناعية، في مرحلة الطبقة البورجوازية كانت التجارة في المرحلة الأولى والصناعة في المرحلة الثانية العنصر الأهم في توطيد السلطة البورجوازية، وكانت هذه الطبقة تنهج مختلف السبل من علمية واقتصادية لاستدرار الكسب والثراء، فبنت الأساطيل التجارية كي تحمل إليها ثروات البلدان المختلفة، وترسل إلى أسواق تلك البلدان منتوجات مصانعها من سلع وحاجيات، وامتدت تجارتهم إلى أقاصي المعمورة يقايضون ويتقايضون مع سكان الأقطار البعيدة أحياناً بشرف وأحياناً بالاغتصاب والقرصنة وقد أدى جشعها وطمعها إلى صراع ومبارزة بين تلك الدول وبشكل خاص فرنسا وبريطانيا كل منهما تسعى للتفوق على الثانية في استعمار واستثمار البلدان البعيدة بواسطة جيوشها وأساطيلها الحربية في استعمار واستعباد الشعوب إلا أن ذلك الأسلوب من الاستعمار قد فات زمانه وانهارت دوله المتعفنة تحت انتفاضات وثورات حركات الشعوب المناضلة التحررية، ظهرت للوجود الولايات المتحدة الأمريكية زعيمة الرأسمالية العالمية بصيغة جديدة للاستعمار ذات طبيعة اقتصادية على شكل مؤسسات مالية أو اقتصادية أو عسكرية أو ثقافية أو اجتماعية، وهذه الظاهرة المتغيرة جذرياً في طبيعة الاستعمار الذي كان يقوم بعملية التوسع الرأسمالي منذ القرن السابع عشر عن طريق التدخل المباشر والمسلح بالجيوش الجرارة، استغنت الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية الآن عن الاستعمار كأسلوب في الانتشار والتوسع وظهرت بدلاً منه المؤسسات المالية العالمية، وأصبحت المهمة الأساسية لهذه المؤسسات هي نقل رأس المال من مراكز النظام الرأسمالي إلى أطرافه أما في شكل قروض أو استثمار مباشر أو مساعدات إنسانية وجعل هذه الأطراف مجالاً خصباً لتحقيق الأرباح والتبعية للمركز، إن هذه الظاهرة جعلت عدداً من الاقتصاديين يصفون هذه التبعية والأرباح الطائلة بأنها شكل من أشكال (الخراج) التي تدفعها الأطراف التابعة للمركز.
المؤسسات العسكرية
في عام/ 1949 قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء حلف عسكري سمي (حلف شمال الأطلسي) متكون من اثني عشر دولة وقد عين الجنرال الأمريكي أيزنهاور قائداً أعلى لهذا الحلف، وفي عام/ 1948 قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء منظمة متكونة من إحدى وعشرين دولة من أمريكا اللاتينية بإنشاء (منظمة الدول الأمريكية) من أجل تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في أمريكا اللاتينية وتوفير المستلزمات العسكرية لها من أجل الدفاع المشترك، وفي التاسع من أيلول عام/ 1951 وقعت الولايات المتحدة الأمريكية تحالفاً عسكرياً مع استراليا ونيوزلندا تعهدت بموجبها الولايات المتحدة بتقديم السلاح والخبراء العسكريين لهما. وفي عام/ 1954 قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء حلف جنوب شرق آسيا العسكري، كما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط عام/ 1955 (حلف بغداد) المتكون من العراق وتركيا وباكستان وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، كما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بعقد اتفاقيات مع ثلاثة وأربعين دولة بإقامة شبكة من القواعد العسكرية بلغت (3300 قاعدة).
(المشاريع المدنية)
أما المشاريع ذات الطابع الإنساني في الامتداد الاستعماري الاقتصادي في السيطرة والتدخل والاستغلال في الدول الأخرى، إعلان وزير الخارجية الأمريكي في الخامس من حزيران عام/ 1947 عن مشروعه الذي أطلق عليه اسمه (مشروع مارشال) بعد الحرب العالمية الثانية، وكان هذا المشروع يقوم على دعم الدول الأوروبية التي كانت تعاني من انهيارات اقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية والذي يهدد استقرارها الداخلي، وقد وضعت شروطاً على الدول التي تقبل هذا المشروع يتمثل بتمكين الولايات المتحدة من مراقبة هذه الدول والتدخل في شؤونها الداخلية عن طريق الخبراء الأمريكان الذين يشرفون على تنفيذ ذلك البرنامج، وفي عام/ 1949 قدم الرئيس الأمريكي ترومان برنامجه المعروف باسم (النقطة الرابعة) الذي يقوم على تقديم المساعدات الأمريكية الفنية والمالية إلى الدول النامية في جميع أنحاء العالم، وبموجب هذا البرنامج يقوم أخصائيون أمريكيون في الزراعة والصناعة والتربية والتعليم والصحة العامة بالعمل والإشراف في تلك الدول الموزعة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وفي عام/ 1955 دمجت حكومة الولايات المتحدة برامجها المختلفة الخاصة بالمساعدات الخارجية بما فيها برنامج مشروع مارشال لأوروبا في إدارة تعاون دولي دائمة، وبعد ذلك بسنتين أنشأت صندوق قروض التنمية والمساعدات إلى المناطق النامية بالرأسمال اللازم لتمويل وتحسين طرق المواصلات ومد خطوط الطاقة الكهربائية وتنمية الزراعة وتحسين شبكات الري والأنهار وقد شمل المشروع منطقة آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وفي عام/ 1957 طرح مشروع أيزنهاور وكان يستهدف قهر إرادة الشعور العربية ودول الشرق الأوسط بأكثر الوسائل مكراً عن طريق ما يسمى بالمساعدات الاقتصادية لكل دولة تقبل بالتنازل عن سيادتها وتخضع لتوجهات وإرادة الاستعمار الأمريكي الجديد، عن طريق إخطبوطها المتمثل بقوتين، عسكرية واقتصادية، فربطت أكثرية دول العالم التي خرجت من الحرب العالمية الثانية أكثر فقراً وجوعاً وبؤساً وقلقاً وخوفاً في عجلتها العسكرية عن طريق الأحلاف العسكرية وبناء القواعد الحربية في كثير من دول العالم، كما ربطت تلك الدول بعجلتها الاقتصادية والسياسية عن طريق مشاريعها الاقتصادية وصندوق النقد الدولي وتقديم المساعدات لها.
النظام الرأسمالي
إن قانون الحياة وديناميكيتها يعتمد على الحركة والتغير في تطور ومسيرة التاريخ إلى أمام، وليس من طبيعته الجمود والثبات لأن ذلك يخالف قانون الحياة وتطورها وتقدمها، ومن خلال تطور المجتمع البشري والتدقيق والبحث في الأسباب والعوامل الدافعة، والنتائج الحاصلة تبين بجلاء أن أية ظاهرة في الوجود تولد فتولد معها بذرة موتها، ومن خلال مراحل التاريخ والأنظمة المتعاقبة التي ولدت واندثرت فيه تبين أن نظام الرق والعبودية والإقطاع ولد من رحم المشاعية البدائية، ومن ثم فني واندثر النظام الإقطاعي بعد أن ولد من رحمه النظام البورجوازي الذي لا زال يتطور في مراحله من الحرف اليدوية ثم سارت في حلقة واحدة مع المتغيرات التي تكون كلاً واحداً منها لا ينفصم عن الآخر، وتتطور هذه الظاهرة تصبح ذات صلة وتبعية متبادلتين مع الخصائص الاقتصادية الرئيسية للرأسمالية الامبريالية. تعتبر الامبريالية بمثابة مرحلة خاصة للرأسمالية، وهذه الخاصية تتمحور في ستة جوانب :
1- الرأسمالية الاحتكارية.
2- تعتبر الامبريالية طفيلية، تأتي بعد مرحلة الرأسمالية المتعفنة.
3- في مرحلة الامبريالية يتركز الإنتاج ورأس المال بحيث تصل إلى درجة عالية، تتكون معها الاحتكارات التي تلعب دوراً حاسماً في الحياة الاقتصادية.
4- من ملامح مرحلة الامبريالية اندماج رأس المال المصرفي الاحتكاري مع رأس المال الصناعي الاحتكاري، يؤدي إلى ظهور (رأس المال التمويلي).
5- كما تمتاز مرحلة الامبريالية بأهمية خاصة في تصدير رأس المال خلافاً لتصدير السلع.
6- كما يجري في مرحلة الامبريالية تقسيم العالم إلى مناطق خاضعة للدول الرأسمالية الكبيرة جداً.
وحينما تحدث المرحلة الاحتكارية الرأسمالية فإن جميع ملامح المرحلة الجديدة تصبح تحت سيطرة الاحتكارات، ويجري تغيير دور البنوك وتصدير رأس المال والتقسيم الاقتصادي للعالم تحت سلطة الاتحادات الجبارة للرأسماليين، وتقسيم العالم من جديد إلى مناطق للصراع من أجل إعادة تقسيمه مرتبطة فيما بينها ارتباطاً وثيقاً، وتتركز جميع هذه الملامح في الطابع الاحتكاري للمرحلة الجديدة للرأسمالية المتعفنة، ومن خلال هذه الصورة يتبين لنا كيف أن سيطرة الاحتكارات تمتلك أهمية حاسمة في جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية الجذرية للامبريالية، ولذلك يطلق عليها (الرأسمالية الاحتكارية) ويتلخص الجوهر الاقتصادي للامبريالية في سيطرة الاحتكارات التي تعقب حرية المنافسة في مرحلة الرأسمالية.
تعتبر مرحلة الامبريالية نتيجة حتمية لتطور مرحلة الرأسمالية السالفة، وقد مهد للانتقال من مرحلة الرأسمالية قبل الاحتكارية إلى مرحلة الامبريالية بواسطة مجمل تطور مرحلة الرأسمالية، كما مهد للانتقال من مرحلة البورجوازية إلى مرحلة الرأسمالية ثم المرحلة الرأسمالية الاحتكارية بواسطة مجمل نشاط وتطور المرحلة البورجوازية.
كان لتطور مرحلة الرأسمالية وقواها الإنتاجية (أدوات الإنتاج والناس الذين يعملون ويملكون بعض تجارب العمل وعاداته، كما أن هذه القوى تعبر عن علاقات المجتمع الفعالة حيال الطبيعة أي أنها تعبر عن علاقات المجتمع بالطبيعة، وتشهد على القدرة التي ظفر بها المجتمع على الطبيعة وتطور القوى المنتجة، وقبل كل شيء تطور أدوات الإنتاج الذي يساعد بالأساس على تحولات أسلوب الإنتاج للخيرات المادية وتطورها) أما الركن الثاني في مرحلة الرأسمالية الذي لا ينفصل عن الأول الذي هو علاقات الإنتاج (العلاقة التي يقيمها الناس فيما بينهم أثناء عملية الإنتاج)، وبما أن الناس لا يستطيعون الإنتاج دون علاقات إنتاج معينة ومستقلة عن إرادتهم، إن الإنسان كائن اجتماعي، وكل جميع النجاحات التي أحرزها في مضمار الحضارة والتقدم في جميع مجالات الحياة، لم يحرزها إلا بفضل تعاون الإنسان مع أخيه الإنسان أي بفضل المجتمع وبالمجتمع، ولا توجد إنسانية خارج المجتمع، وهذا يعكس الدلالة على أن جوهر الإنسان تتجسد في مجموع علاقاته الاجتماعية في زمن وتاريخ معينين، وهو ما نشير إليه بعلاقات الإنتاج التي نستدل منها أيضاً على الشكل الذي تتخذه ملكية وسائل الإنتاج (الملكية الخاصة) ووضع الفئات والطبقات وعلاقاتها الاجتماعية خلال عملية الإنتاج وما ينتج عنها من أشكال توزيع الثروات، وكل أسلوب من أساليب الإنتاج يمثل وحدة هذين المظهرين اللذين هما القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج يرمز لهما بأسلوب الإنتاج الرأسمالي). وقد أدى تطور انتشار أسلوب الإنتاج الرأسمالي إلى حتمية واحتدام الصراعات الخاصة به، مما أدى إلى وقوع الشطر الأكبر من سكان الكرة الأرضية بعد نشوء وتطور الطبقة البورجوازية في القرون الماضية تحت نير الدول الرأسمالية وكلما كان الصراع يزداد بين الدول الرأسمالية يتزايد اتساع مجال استغلال الشعوب المستعمرة والمستعبدة من أجل استغلالها كأسواق لتصريف ما تنتجه مصانعها واستغلال ما تكنزه أراضيها من خيرات ومواد أولية، وكانت حكومات الدول الاستعمارية تجيش الجيوش وتدعم الطبقة الرأسمالية في احتلال الدول الأخرى واستعمارها واستعباد شعوبها، لأن تلك الحكومات هي انعكاس للواقع الطبقي في تلك المرحلة وهي أداة قمع واضطهاد بيد الطبقة السائدة في تلك المرحلة (الطبقة الرأسمالية) وبذلك تصبح الحكومات داعمة للنظام الرأسمالي في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وقد كان الانتقال إلى مرحلة الإمبريالية يعني تعميق حدة الصراع واحتدام جميع المتناقضات للمجتمع الرأسمالي، وقد نمت وتطورت مرحلة الإمبريالية نتيجة تطور ونمو المرحلة الرأسمالية بصفة عامة، ولكن في مرحلتها الاحتكارية قد بدأت بعض الخصائص الرئيسية للمرحلة الرأسمالية تتحول إلى تناقضات وصراع وأزمات في داخلها وكما قلنا أن ذلك يحدث خارج إرادة الرأسمالية وكما قلنا أيضاً أن أي شيء في الوجود حينما يولد تولد معه بذرة موته بسبب الحركة والتغيير وإن الثبات والجمود يؤدي إلى الكساد والأزمات والبطالة، وهي ظاهرة حتمية لتطور ونشاط القوانين الاقتصادية، إن هذه الظاهرة إذا بقيت على وضعها ثابتة وجامدة تؤدي إلى قيام تغيير جماهيري ثوري يقضي على النظام الرأسمالي واستبداله بالنظام الاشتراكي إلا أن النظام الرأسمالي يستعمل الحقن المنشطة والأدوية المعالجة عن طريق استعمال المكائن والآلات التي تغير من نوعية السلع والإنتاج لكي تستطيع المنافسة في السوق، أو تؤدي هذه الظاهرة إلى إشعال الحروب من أجل استعمار الدول الأخرى واستعباد شعوبها واستغلال أسواقها لتصريف ما تنتجه المصانع الرأسمالية من سلع وبضائع مكدسة واستغلال أراضيها بما تكنزه من مواد أولية رخيصة أو استغلال شعوبها في العمل كأيدي عاملة رخيصة أيضاً.
مرحلة العولمة
إن الحركة والتغيير صفة ثابتة في ديناميكية الحياة وتطورها في كل مكوناتها وموجوداتها، فإن أي شيء فيها له (أكسباير) ينشأ ويترعرع ثم يبدأ الضعف والهزال يتسرب إليه ثم يفنى ويزول، ليفسح المجال لغيره ويقضي فترة حياته ثم يفنى ويزول أيضاً منذ أن وجدت الحياة قبل ملايين السنين وستستمر هذه الظاهرة خارج إرادة الإنسان، لأن أي شيء في الوجود حينما يولد تولد معه بذرة موته، فيبدأ التناقض والصراع حينما تنمو وتترعرع البذرة وتصبح ظاهرة جديدة في الوجود مع الأصل الذي ولدت البذرة من رحمه فيكون النصر والدور في الحياة إلى الجديد بعد فناء الأصل القديم، هذا هو قانون الحياة، الليل يعقب النهار والنهار يعقب الليل والكرة الأرضية مستمرة في دورانها، والحياة تسير معها بدون توقف أو جمود لأن ذلك لا ينسجم مع قانون الحياة.
إن البورجوازية ولدت من رحم النظام الإقطاعي والنظام الإقطاعي ولد من رحم المشاعية البدائية، وأود أن أطرح لوحة تبين الخطوط الكبرى لتطور الصناعة منذ أقدم الأزمنة إلى يومنا هذا، في عصر المشاعية البدائية كانت الأدوات التي يستخدمها الإنسان في ذلك العهد (الأدوات الحجرية الغليظة والقوس والسهام التي تستعمل في استغلال الطبيعة والصيد والقنص للحيوانات، وهي الوسائل التي يحتاجها الناس في أعمالهم وحاجاتهم) وفي العصر الإقطاعي تنوعت وتطورت حاجات الناس فبدل الأدوات الحجرية تحولت إلى حرف معدنية مثل (الفأس الحديدية والمنجل والمحراث الزراعي البدائي المصنوع بسكة من حديد وغيرها).
في العصر الإقطاعي كانت مهنة الحرف اليدوية موجودة، وكما قلنا سابقاً أن عنصر التجارة قد وجد في العصر البورجوازي قبل العنصر الصناعي، وقد كانت بداية العصر الصناعي في العصر البورجوازي فيما سمي بالمانيفاكتورة (وهي شكل من أشكال الإنتاج نشأ في عهد انحلال النظام الإقطاعي مع تطور التجارة وازدياد الطلب على المنتجات المصنعة من قبل أصحاب الحرف، فقد كان التجار يشترون من الصناع الحرفيين منتجاتهم، ثم يذهبون بها ويبيعوها في المدن والمقاطعات الأخرى أو يبادلونها بمواد وسلع أخرى، ويقدموها إلى الحرفيين كمواد أولية فيصنعها الحرفي بجهده وأدواته، ثم أخذ التاجر يجمع عدداً من الحرفيين تحت سقف واحد وفي مكان واحد، ويقدم لهم المواد الأولية التي يجلبها من المقاطعات والمدن الأخرى وكذلك يقدم لهم أدوات الإنتاج أيضاً، وقد سمي هذا المكان بالمانيفاكتورة وهكذا انقلب الرأسمال التجاري إلى رأسمال صناعي، وأصبح الصانع الحرفي عاملاً مأجوراً ليس لديه سوى قوة عمله يبيعها للرأسمالي، ويعمل مع زملائه تحت إشرافه في المانيفاكتورة). فيما بعد تم الانتقال من أدوات الإنتاج الحرفية إلى الآلة الممكننة ثم الانتقال إلى نظام الآلات والأتمتة وظهور الصناعات الميكانيكية الحديثة ثم تحولت إلى الآلات التي تعمل بالكومبيوتر والبرمجة واختراع الرجل الآلي الذي يعوض عن عمل الإنسان وأصبح المعمل الذي كان يعمل به عشرات الآلاف من العمال والفنيين والمهندسين في إنتاج السلع والحاجيات وتقسيم العمل في الإنتاج، أصبحت إدارته وفنييه ومهندسيه لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، فيأتي أحد الفنيين أو المهندسين فيضع رأس الخيط في فتحة الماكنة ثم يذهب إلى الكومبيوتر فيبرمجه حسب نوع السلعة والحاجة وبعد دقائق تخرج السلعة أو الحاجة من الفتحة الثانية كاملة، إذا كانت قميصاً أو بدلة أو دشداشة أو غيرها.
هذه هي بصورة إجمالية اللوحة التي تبين تطور قوى المجتمع المنتجة طيلة تاريخ البشرية إلى يومنا هذا، وهذه الظاهرة قد حققها الناس الذين لهم علاقة بالإنتاج، فالناس إذن هم عنصر أساسي في القوى المنتجة إذ هم يتغيرون ويتطورون بتغير أدوات الإنتاج وتطورها وتقدمها من خلال تجربتهم في الإنتاج وعاداتهم في العمل وقدرتهم على استعمال أدوات الإنتاج، وقد تغيرت وتطورت طبقاً لهذه التغييرات وهذا التطور في قوى المجتمع المنتجة خلال هذه الفترة، إلا أن علاقات الإنتاج بقيت على حالها فشكلت خللاً في العلاقات الاقتصادية أي أن ذلك يظهر على الشكل التالي : إن المعمل كان يعمل به آلاف العمال لإنتاج السلع والحاجيات، إن هؤلاء الآلاف من العمال قد سرحوا من أعمالهم وقد عوض عنهم بأعداد قليلة من الفنيين والمهندسين لإنتاج السلعة التي كان يشترك في إنتاجها آلاف العمال بسبب التقدم الكبير والتطور الهائل في الصناعة التكنولوجية والثورة المعلوماتية بينما بقيت وسائل الإنتاج ملكية خاصة أي يمتلكها رأسمالي واحد، إن نتائج هذا التقدم والتطور سيكون مردوده لمصلحة الرأسمالي وليس لمصلحة الشعب.
إن عصر العولمة ظاهرة سياسية واقتصادية واجتماعية تمثل مرحلة متقدمة من مراحل الرأسمالية العالمية الاستعمارية، تتجسد فيها الاصطلاح الذي يطلق على كل العمليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تجري خارج سيطرة الدولة القومية بوصفها وحدة للتحكم بعد أن كانت هذه العمليات تنطلق أساساً من الدولة القومية باعتبارها المرجع والإطار المقرر لأي أداة في التحكم والفعل بالرغم من أن للعولمة نشاطات مختلفة إلا أنها تركز على الجانب الاقتصادي عن طريق فتح الأسواق أمام السلع والمال، وفتح عمليات الاستثمار والتبادل التجاري بحيث يتجاوز السلطة السياسية القومية، وهو قسر فكري اختزالي وضار إلى أبعد الحدود، وهو يمتاز بوسائل نظم الاتصال عبر الأقمار الصناعية وتدفق المعلومات والتسخين الكوني وتدمير البيئة والإنسان وانتشار الفقر والأوبئة والانفجار السكاني، والجريمة المنظمة، والهجرة المنظمة المتبادلة شأن تدفق السلع والرساميل والخدمات بحدود مفتوحة وغير مقيدة، ويمتد إخطبوطها ونشاطها إلى جميع أنحاء العالم عن طريق مجموعة كبيرة من المؤسسات والآليات فوق القومية من الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية إلى صندوق النقد الدولي إلى محكمة العدل الدولية والبنك الدولي مروراً بعشرات المنظمات الاجتماعية والمعاهد والجامعات، كما تطرح العولمة كإطار موضوعي عام لتطور المجتمعات الحديثة بأشكالها الرأسمالية المتنوعة جملة من المتناقضات منها :
- خروج هذه العمليات عن سيطرة الدولة القومية يعطي الحق للشركات العملاقة التابعة للدول الرأسمالية باعتبارها قوى اقتصادية ناشطة تمتاز بسلطة وسطوة فوق سلطة وسطوة الدول القومية.
إن هذه الظاهرة من الحرية تطرح الشكل التالي من زاوية التطور الديمقراطي في العالم المتطور حيث تصبح الديمقراطية تحصيل حاصل (كيف يسع للتكنوقراط وهو تميز منتخب وغير مخول، أن يقرر ويحسم في مثل هذه الأمور، في حين أن السلطة السياسية المنتخبة من قبل الشعب بالاقتراع والمخولة في الحكم لا تستطيع أن تقرر وتحسم ..!!) من خلال هذه الظاهرة نستدل على ما يلي :
1- إن العولمة تمتاز بسلطة تجعلها حكومة عالمية.
2- تعتبر مؤسساتها فوق القومية وذات طابع ديمقراطي حسب بيان استكهولم الصادر عن الدول الرأسمالية الكبرى.
3- جعل العلاقات الدولية تتجه نحو الفوضى الكاملة بسبب سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى التصرف المنفرد بموازاة خلق كارتلات سياسية جديدة (قيام وصعود أوروبا الموحدة).
4- احتدام التوتر الثقافي في العالم نتيجة انحباس الثقافات في ثلاثة أطر (إطار قومي للدولة يقابله إطار ما دون قومي لجزء من البلد، أو ما فوق قومي مما يؤدي إلى احتدام الصراع الشوفيني والاثني بين ظاهرتين متعاكستين، قيام نشاطات الثقافات المحلية في التوسع والانتشار في استعمال وسائل الاتصال الالكترونية مما يؤدي إلى فتح المجال إلى ما وراء الإطار المحلي).
5- إن تطور العولمة يذكي من ناحية انتشار قيم الديمقراطية والعلم والشفافية وحرية المعلومات، وهذه المكونات تدفع بالاتجاه نحو الليبرالية السياسية (الديمقراطية البرلمانية) من الوجهة الثقافية، إلا أن انفتاح الأسواق والتسبب والانفلات في التطور الرأسمالي المفتوح سوف يستثير جماهير الشعب بالقيام بحركات احتجاجية عارمة تدفع بالنخب السياسية (البورجوازية الطفيلية وكيلة المؤسسات والشركات التابعة للدول الرأسمالية) إلى تشديد وتضييق الديمقراطية وإقامة نظام حكم تسلطي ذا طابع استبدادي.
إن الليبرالية الاقتصادية وإن كانت بالمعنى التاريخي العام تعتبر الأساس الموضوعي لليبرالية السياسية، إلا أنها تعمل في ظروف العالم المتناقضة والنافي في وسط ظروف العولمة باتجاه كبت الليبرالية السياسية.
6- إن الحركة المدوية للعولمة بالرغم من أنها تساعد على نشر العلم والتكنولوجيا إلا أنها تخلق حالة من انعدام اليقين والشك والتطرف مما يؤدي إلى خلق نزعات مذهبية وشوفينية في حياة كثير من أبناء الشعوب في البلدان المتوسطة والمتخلفة باستثناء دول أوروبا الغربية، وهذا يعني أن ظاهرة العولمة حالة متناقضة، ففي الوقت التي هي تخلق التقدم العلمي والتكنولوجي نجدها تستثير وتخلق النزعات الفكرية ما قبل قيام العلم وتعود بنا إلى مراحل عميقة في القدم والتاريخ.
كما تتجسد في العولمة تلك التجليات العامة التي تتحسس نزف الجروح الدامية المعششة تحت مظاهرها اللامعة في جلدها أو غطاءاتها، حيث يختزل المفكر ديريدا هذه الجروح في كتابه (بيان الأطياف) :
1- البطالة عن العمل.
2- الإقصاء الجمعي لمواطنين بلا مأوى.
3- الحروب الاقتصادية المخفية.
4- عجز السيطرة على التناقضات في السوق الليبرالية.
5- تفاقم الديون الخارجية.
6- صناعة الأسلحة والاتجار بها.
7- التوسع في نشر الأسلحة الذرية.
8- الحروب العرقية.
9- نمو سلطة أشباح المافيا المتخفية تحت خيمة الرأسمالية.
10- القانون الدولي وفبركته حسب ميول ورغبات صناع القرار.
إن العولمة تعني قيام الدول الصناعية الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وانكلترا وفرنسا وكندا وألمانيا وإيطاليا) بالتحكم الآن باقتصاد العالم عن طريق مؤسسات اقتصادية عملاقة مثل البنك النقدي الدولي ومنظمة التجارة العالمية ونادي باريس والمنتدى الاقتصادي العالمي وغيرها من التشكيلات التي تزيد من ثراء هذه الأمم حينما تتعامل مع الدول الأخرى، وهذا يعني أن هذه الدول بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية هي المهيمنة على اقتصاد العالم وهي التي تتحكم فيه عن طريق إصدار مشاريع وقوانين استثمار وفق شروطها. وفي مرحلة العولمة ستضطر مصالح هذه الدول الاقتصادية الكبرى التنافس فيما بينها من أجل الاستحواذ على أكبر كمية من الأرباح، ومن أجل ذلك تقوم هذه الدول بالتدخل والعدوان على الدول الأخرى في حالة تعرض مصالحها للخطر، والتدخل بالقوة المسلحة ضد أي مصدر تهديد أو معارض لمصالحهم، وهذا يعني أن الدكتاتورية الوطنية التي كانت تقام في البلدان أصبحت وتحولت في مرحلة العولمة دكتاتورية عالمية بموافقة ومساندة منظمات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي تحت أعذار ومسميات تبدو مشروعة مثل إدارة المجتمع الدولي والمحافظة على أمنه واستقراره، كما تلجأ هذه الدول إلى أساليب الاستعلاء والغطرسة والهيمنة من خلال تعاملها مع الدول الضعيفة والفقيرة الأخرى على أنها المجتمعات الغربية ذات الحضارة والتقدم الأرقى منهم في المدنية والسلوك المهذب والذوق والذكاء والأكثر إدراكاً للأحداث واستشراقاً للمستقبل، وأن يصبح أبناء جميع الشعوب الأخرى خاضعين لسلطانهم وجبروتهم مما أذكى فيهم شعور التمرد والاعتزاز بالذات وهذا هو سبب العنف والعصيان والتمرد في العالم الذي ينظر إلى أمريكا بأنها رأس البلاء والجبروت والعجرفة والمستهترة بحقوق الشعوب والخالقة والمساندة للماكنة العدوانية الإسرائيلية مما جعل المشردين والمغتصبة أراضيهم من أبناء الشعب الفلسطيني والشعوب المناضلة الشعور والإدراك بأن لا سبيل إلى إيقاف عنجهية وعجرفة الولايات المتحدة الأمريكية واستهتار إسرائيل بالقوانين الدولية والأعراف الإنسانية إلا بالعنف وحده.
لقد أدت العولمة نتيجة الخضوع لضغوط نظم اجتماعية مختلفة إلى اختزال الكائنات الإنسانية وتحويلها وجعلها أرقاماً أو سلعاً أو حاجيات تعرض في السوق حسب العرض والطلب، وحولت الطبيعة إلى أشياء ومواضيع تفرزها عقول العولمة مما جعل أفراد المجتمع يغرقون برؤيتهم المفرطة في التشاؤم والكآبة واليأس وتقمع حاجاتهم الجسدية، وتخلوا عن رغباتهم الإنسانية نتيجة دمجهم واستسلامهم لمعتقدات مكبوتة مما جعلت نفوسهم تتحول إلى أدوات للعمل والحرب فقط، كما أن الإنسان في مرحلة العولمة سيكون منشغلاً بالأمور والمفاهيم الاقتصادية وتتراجع وتلغى لديه الاهتمام بالأمور السياسية والثقافية والروحية (يصبح الإنسان شغله الشاغل الركض وراء المال من أجل أن يوفر له ولعائلته لقمة العيش أو إيجاد السكن وغيرها) الأمر الذي يؤدي إلى ظهور وإشاعة الحسد والأنانية بين الناس وحتى داخل الأسرة الواحدة، وإلى قيام وحصر الصراع والتنافس بين الناس في دائرة المصالح المادية التي من طبيعتها أن لا تعير اهتماماً للقيم الروحية والأخلاقية في المجتمع.
كما أن إفرازات العولمة إشاعة أنماط حياة وسلوكيات أخلاقية غريبة ومنحرفة عن تقاليد وعادات المجتمع التي تقوم على القيم القابلة للتغير تستهدف من خلالها الثوابت المغروزة في القيم الاجتماعية لدى الشعوب من خلال سيطرتها على وسائل الإعلام التي تعتمد على أسلوب الإبهار والإغراء والتشويق لاسيما الموجه للشباب بهدف فرض ثقافة عالمية تستهدف وتقضي بالنتيجة إلى تراجع وانحسار الثقافة الوطنية والقومية لدى تلك الشعوب.
إن معظم المفاهيم الحديثة التي يكثر الحديث عنها ونطالعها من خلال ما يطرحه المفكرون والمنظرون تشير وبشكل واسع جداً أن العولمة هي مجموعة من الإجراءات تجعل العالم أكثر اندماجاً واعتماداً بعضه على بعض، وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة من التعاون والعلاقات بين الدول كانت موجودة منذ زمن بعيد من خلال روابط عالمية، إلا أن في عهد العولمة تكون عملية الدمج عن طريق المؤسسات العملاقة والشركات الكبيرة المرتبطة بالإنتاج على نطاق عالمي وتظهر زيادة هائلة ومذهلة في التجارة المنظورة وغير المنظورة كما تظهر في عهد العولمة سيطرة نخبة سياسية واقتصادية جديدة غير خاضعة للسيطرة والمحاسبة وتمتلك سلطة واسعة ومطلقة على صنع القرار (وول ستريت، الخزانة الأمريكية، مجموعة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) وإن العولمة تعتبر بالنسبة إلى تلك المؤسسات والشركات العملاقة ليست مجرد عملية دمج اقتصادي وإنما سيطرة مركزية متجانسة وذات سلطة واسعة في اتخاذ القرار.
لقد حدد مفكرون وعلماء اجتماع من معهد (ماكس بلانك الألماني) عما يبرز للعيان في مرحلة العولمة على أنه (تقسيم عالمي جديد للعمل) من خلال قيام نماذج كثيرة من الشركات العملاقة بغلق مصانعها في دولها المتقدمة والمتطورة وتشييدها وتستثمرها في البلدان الفقيرة لقربها من المواد الأولية ورخص الأيدي العاملة، ولكن النتائج التي أفرزتها تلك العملية في تلك الدول كانت كارثية ومدمرة، حيث المزيد من العمال الذين يفقدون وظائفهم ويلقى بهم في ساحة البطالة أو سوق العمل التي تكون فيها الأجور حسب القاعدة السائدة في السوق أي العرض والطلب، وبما أن أعداد أولئك العمال كبيرة، فإن ذلك يجعلهم مضطرين إلى بيع قوة عملهم بأبخس الأثمان حيث يعتبرون عمالاً غير مهرة أو شبه مهرة في أوضاع معاشية وحياتية سيئة إلى حد كبير ويصف أولئك العلماء والمفكرون أحوال العمال بأنها (سريعة ومرهقة نفسياً) بينما أصبحت الحكومات تعاني من أزمات مالية طويلة الأمد حيث خضعت هذه الحكومات إلى الشروط المجحفة التي فرضها صندوق النقد الدولي وبنك النقد العالمي بتقليص قاعدة الضرائب والعمالة من طرف وارتفاع متطلبات البطالة ومساعدات مرحلة التعاقد من طرف آخر، وفي نفس الوقت أصبحت مدن الدول الفقيرة مزدحمة بملايين المهاجرين من الريف الذين لا يملكون أرضاً زراعية يستثمرونها، مما جعلهم مجبرين على التماس العمل في المدن، متجاوزين عما يحصلونه من أجور يستطيعون بها سد رمقهم وإشباع بطون أطفالهم وعوائلهم، وتحت ظروف عمل قاسية ومؤلمة غير إنسانية، وإنما المهم عندهم أن يضمنوا مجرد بقائهم وعوائلهم على قيد الحياة.
لقد وثّق هؤلاء المفكرون والعلماء مع نخبة أخرى من الباحثين عن الطريق والكيفية التي يقوم بها أصحاب العمل من الرأسماليين اختيارهم لهؤلاء العمال في البلدان الفقيرة من ناحية العمر والنوع والمهارة، وغالباً ما يستغلوا النساء من الشابات كونهن يعملن بجد ورغبة لكي يكسبن رضا أصحاب العمل، كما أنهن لا يرغبن ترك العمل أو الانتساب إلى نقابات العمال، مما جعل تلك النخب من العلماء والمفكرين والباحثين أن يصابوا باليأس والإحباط والأمل في تحسين محتمل لشروط وأوضاع عمل وحياة الطبقة العاملة، نتيجة للعمل الصناعي المجحف، وبشكل خاص أولئك العاملين في المصانع التي تقوم بعملية الإنتاج من أجل التصدير والمنافسة. يرى أولئك العاملين والمفكرين والباحثين، أن مشاركة النخبة المحلية من (البورجوازية الطفيلية) الوكلاء المحليين للشركات العملاقة في تلك الجريمة لحياة العمال غير الإنسانية، مسؤولة إلى حد بعيد عن تكريس الاعتماد على الأسواق العالمية والانتشار الواسع للفقر، وعكس تقسيم العمل حسب قاعدة السوق العالمي الجديد، ظاهرة وصدى خطير على العمال الشرقيين في العالم المتقدم والمتطور، هؤلاء العمال الذين كانوا يتمتعون سابقاً بالحماية من حكوماتهم الوطنية، أصبحوا الآن في عصر الحداثة والعولمة قد انتهت أمانيهم بعد أن أصبحوا في دولهم الفقيرة كالسلعة يعرضون جهدهم وقوة عملهم في سوق العمل حسب قاعدة العرض والطلب والنوعية والكفاءة الجسدية والخبرة العملية، ويرى أولئك العلماء والمفكرين والمنظرين أن ظاهرة العولمة لا تقتصر على عملية الدمج الاقتصادي، وإنما ما يحدث الآن يعتبر أيضاً نقلة نوعية في شكل التنظيم الاجتماعي يمثل تحولاً تاريخياً في النظام الرأسمالي العالمي، بحيث يستخدم رأس المال المضارب مؤشرات موحدة عالمياً (الجدارة الائتمانية) لتقدير ومعرفة أي من الشركات أو الحكومات يمكنها الوثوق بها لاقتراض الأموال والشروط الملائمة التي تفرض عليها، مما يضع هذا الاتجاه والتوحد العالمي لسلطة رأس المال الهائلة في أيدي نخبة حاكمة عالمية جديدة، ويصنف العلماء والمفكرون والمنظرون هذه النخبة إلى ثلاث فئات من :
1- المديرين البيروقراطيين.
2- السياسيين الراغبين في خفض الإنفاق الحكومي والعمل بمقتضى القواعد العالمية الجديدة (العولمة) التي تعتمد بلا رحمة على الكفاءة المتقدمة والخبرة العالمية، والقدرة الكبيرة لمالكي الشركات متعددة الجنسيات والبنوك الدولية ومديريها التنفيذيين.
3- أولئك الذين يديرون منظمات متعددة الأطراف والمؤسسات العملاقة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
واليوم لا تستطيع هذه المؤسسات العملاقة والشركات متعددة الجنسيات وضع سياسة تخدم مصالحها من دون أن تأخذ بعين الاعتبار، كيف يمكن فرض شروطها المجحفة على المدنيين لكي تستطيع أن تضمن حقوقها مصالحها، إن تلك الشروط والقرارات التي تفرضها تلك المؤسسات والشركات على الدول المدينة تفرز البؤس والتعاسة وتجعلهم أمام حالتين، إما الرفض لتلك الشروط والقرارات المجحفة من خلال وضعهم في ترتيب ائتمان منخفض والامتناع عن قبول المساعدات والاستثمار لديهم، أو يقبلوا بتلك الشروط والقرارات المجحفة والمذلة والتي تؤدي إلى المضاربة الوحشية على قيمة عملات الدولة المدينة وغيرها.
إن هذه القضايا من التناقضات والتفاوت الطبقي والاستغلال المجحف للشعوب تصبح قضايا أساسية بصورة متزايدة في يومنا هذا، في سيادة مرحلة العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة بقيادة الرأسمالية العالمية بعد أن اختلطت الأوراق بسبب التداخل والاندماج بشدة مما جعل الوضع يصبح أكثر اضطراباً وتعقيداً بسبب الثورة المعلوماتية في الاتصالات والتقدم التكنولوجي الهائل، وانتشار المعلومات وسرعة نطاق تبادلها التي جعلت خطى التغيير الاقتصادي وحركة الأسواق المالية أسرع من أي وقت مضى.
لقد لعبت الديون دوراً مهماً في عملية العولمة، حيث تكبدت الدول الفقيرة ديوناً ثقيلة نتيجة عجز تلك الدول عن تسديدها مما أدى إلى تراكمها نتيجة للفوائد التي أضيفت على تلك الديون، إضافة إلى أن هذه الديون استعملت بموجب شروط صندوق النقد الدولي في مشاريع غير منتجة وخدمية كبناء الطرق وتشييد المطارات وتوسيع وتجديد بناء الدوائر الحكومية وإقامة المتنزهات ونتيجة لعبء الدين الإجمالي للدول الفقيرة أعلنت دولة المكسيك ثم البرازيل إنهما غير قادرتين على تسديد ما بذمتها من ديون لصندوق النقد الدولي، وسرعان ما ازدادت أعداد الدول العاجزة عن دفع ديونها، إن الدول الفقيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية كانت في ظروف مختلفة تتجه بطلب المساعدة الاقتصادية والغنية من الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية في تنمية وتطور اقتصادها عن طريق إقامة المشاريع الإنتاجية كالمصانع والزراعة والثروة الحيوانية وغيرها ومن ثم تقوم تلك الدول الفقيرة بتسديد ديونها من إنتاج تلك المشاريع ولمدة طويلة وفي أغلب الأحيان كانت تلك الدول الاشتراكية تقدم المساعدات بدوافع إنسانية للشعوب، إلا أن بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار النظام الاشتراكي، أصبحت الدول الفقيرة تلجأ إلى صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات الرأسمالية في طلب القروض، وبما أن هذه المؤسسات مرتبطة بالدول الرأسمالية الكبرى التي تعتمد على اتخاذ تلك الدول الفقيرة أسواقاً لتصريف ما تنتجه مصانعها من سلع وبضائع، واستغلال ما تكتنزه أراضيها من مواد أولية، وكذلك تكون قروض تلك المؤسسات المالية مرتبطة بشروط استخدام تلك القروض على المشاريع الخدمية غير المنتجة لكي تبقى تلك الدول الفقيرة مرتبطة وقابعة تحت مظلة وكابوس الدول الرأسمالية كأسواق لتصريف منتجات معاملها ومركز إمداد لها بالمواد الأولية وقد أصبحت تلك الدول الفقيرة مثقلة بالديون نتيجة عجزها عن تسديدها وتراكم الفوائد عليها فأصبحت تخضع لشروط مجحفة وبرامج كاسحة ومدمرة من اقتطاعات أقساط الديون المسددة كإعفاء السلع والبضائع التي تنتجها الشركات الرأسمالية من الضرائب وخصخصة المؤسسات التابعة للدولة كما يكون الاقتطاع من إعانات السكن والغذاء والصحة والنقل وغيرها، وقد أصدرت البنوك المانحة للقروض برنامجاً أطلقت عليه اسم (التعديل الهيكلي للدول الفقيرة ومدته عقدين من الزمن) والذي يقوم على نظام الخصخصة وتخفيض الضرائب وإلغاء الحواجز الكمركية على الصلع والبضائع المستوردة.
احتلال العراق وتطبيق مرحلة العولمة فيه
من خلال الصورة التي تفرزها مرحلة العولمة وانعكاساتها المدمرة على الدول الفقيرة، نستعرض تلك المرحلة في العراق المذبوح وشعبه المستباح التي دخلت مع الجيوش الأمريكية التي احتلت العراق في 9/4/2003 والتي تشير إليه جميع الدلائل والرؤيا، يبين بجلاء ووضوح إلى جعل العراق يصطف في طابور البلدان والتكتلات الرأسمالية الضخمة من خلال الهجوم البربري الكاسح لرأس المال المعولم الذي يسعى إلى توظيف العراق وتكييفه وفق متطلبات مرحلة العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة، قبل الدخول إلى الصورة التي طبقتها سلطة الاحتلال الأمريكي بقيادة مهندس الفوضى البناءة الحاكم العام (بول بريمر) نشير إلى الموضوع (بعض رهانات الإستراتيجية الأمريكية نظرية الفوضى البناءة) بقلم الدكتور صالح ياسر المنشور في مجلة التضامن (المجلة الدورية التي يصدرها المجلس العراقي للسلم والتضامن في العدد الثاني/ شباط 2007) فيقول في ديباجته (في ظل لوحة بالغة التعقيد يختلط فيها الحابل والنابل تبدو الحاجة ملحة إلى تلمس الجديد في الإستراتيجية الأمريكية خصوصاً في مواجهة سياسية خارجية هجومية تضرب (تحت الحزام) بدأً من إعلان مبدأ بوش أو الإستراتيجية الجديدة للأمن القومي في 20/ سبتمبر/ 2002 ثم تطبيقاتها العملية اللاحقة والخلاصة لسنا أمام تصورات عمومية بل أمام ستراتيجية من لحم ودم ذات أهداف واضحة في فصاحتها وآليات تنفيذية وضعت بالفعل وهي تبدو مثل حادلة ضخمة تسوي الأرض لتنفيذ مشروعها الهيمني على الصعيد العالمي).
كان ذلك واضحاً بعد سقوط النظام في 9/4/2003 وصدور قرار مجلس الأمن المرقم/ 1429 القاضي باحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وتعيين (بول بريمر) حاكماً عاماً على العراق، هذا الرجل كان المهندس والمنفذ لفلسفة (الفوضى البناءة) للإستراتيجية الأمريكية التي أقرها مجلس الأمن القومي الأمريكي عام/ 2002.
كانت أول فقرة تم تطبيقها على الواقع في برنامج (الفوضى البناءة) حل وتسريح الجيش العراقي وقوى الأمن الداخلي، فأصبحت الحدود العراقية منفلتة لمن هب ودب دون رقيب من دول الجوار يدخلونها مع أسلحتهم وتجاربهم بحرية مطلقة، ونتيجة تسريح قوى الأمن الداخلي انفلت الأمن والاستقرار وسادت الفوضى العراق وسبيت بغداد العاصمة ثلاثة أيام يسودها الخطف والسلب والنهب، وكانت المافيات المنظمة تهجم على المتاحف التاريخية وتسرق منها التحف الأثرية الثمينة والنادرة لتاريخ العراق القديم أمام قوات (المارينز) الأمريكي وهم يربضون فوق دباباتهم ومدرعاتهم يتفرجون ويضحكون ولا يحركون ساكناً، بينما قرار مجلس الأمن الدولي الذي خول الولايات المتحدة باحتلال العراق يفرض عليها حماية أرواح وأموال وممتلكات شعوب الدول المحتلة، وكانت الفضائيات العالمية تقوم بتصوير عمليات الفوضى والسلب والنهب التي سادت العراق وترسلها إلى جميع وسائل الإعلام المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة في جميع أنحاء العالم وكأنها تقول لهم : انظروا إلى الشعب العراقي الفوضوي والمنفلت والمتمرد، لكي تعطي الصورة السيئة عن الشعب العراقي وتعطي التبريرات للولايات المتحدة الأمريكية باحتلال العراق واستباحة شعبه وضبطه على الأمن والاستقرار واحترام القانون، وقد كشفت وسائل الإعلام التصرفات الهمجية والأساليب اللاإنسانية التي يندى لها جبين الإنسانية التي قام بها جنود الجيش الأمريكي ضد الشعب العراقي في السجون وخارجها.
كانت الفقرة الثانية الكارثية التي أقدم عليها (بريمر) خلق وتكوين القاعدة الطائفية والفئوية والقومية بين أبناء الشعب العراقي الواحد والمتآخي فانبثق (مجلس الحكم) الذي تكون أعضاءه وفق النسبة الطائفية والفئوية والقومية، وأصبحت هذه الظاهرة المدمرة التي أثارت المتناقضات والصراع الطائفي والقومي والفئوي بين أبناء الشعب العراقي التي لم يكن لها وجود أو أثر أو فعل في الماضي.
أما الفقرة الثالثة، فكانت دخول آلاف السيارات إلى العراق دون حسيب أو رقيب من مقابر السيارات المستهلكة في دول الخليج العربي وأوروبا مما أدى إلى فوضى وازدحام في الشوارع داخل المدن العراقية وذلك لعدم استيعاب الشوارع لتلك الأعداد الكبيرة من السيارات، كما أدى ذلك إلى خلق أزمة خانقة في الوقود المحركة لتلك السيارات مثل البنزين والدهون كما أدت هذه الظاهرة الفوضوية إلى تسرب مليارات الدولارات من الاقتصاد العراقي إلى الدول المصدرة لتلك السيارات المستهلكة، كما دفعت هذه الظاهرة إلى تسرب مليارات من الدولارات لشراء أدوات احتياطية لتلك السيارات المستهلكة.
أما الفقرة الرابعة فكانت دخول كميات كبيرة من السلع الكهربائية المختلفة الرديئة النوعية كالمكيفات والثلاجات والمجمدات والطباخات والمبردات والمراوح المختلفة، وقد أدت هذه الظاهرة إلى كساد الصناعة الوطنية وإغلاق معامل وورشات صناعتها بسبب مزاحمة تلك الصناعة الأجنبية لها من حيث انخفاض أسعارها وبيعها بالأقساط الشهرية، كما أفرزت هذه الظاهرة إلى انقطاعات التيار الكهربائي والتأثير على الطاقة الكهربائية بسبب عدم توفر الطاقة الكهربائية في العراق لاستيعاب تلك الكميات من السلع الكهربائية.
أما الفقرة الخامسة، فكانت إغراق السوق العراقية بالألبسة الجاهزة الرجالية والنسائية والولادية، إضافة إلى الألبسة المستعملة والمستهلكة المختلفة الأشكال والأنواع (اللنكات) الداخلية والخارجية وحتى (الجواريب) وبالرغم من التحذيرات الصحية من استعمالها، إلا أن محلاتها وأسواقها أصبحت مزدحمة من العوائل الفقيرة بسبب رخص أسعارها، كما كانت تأثيراتها سلبية على الصناعة الوطنية العراقية.
أما الفقرة السادسة التي أغرقت الأسواق العراقية بمختلف أنواع الأحذية والشحاطات والنعل الجلدية والأسفنجية بمختلف الأنواع والأحجام، وكان لنوعيتها ورخص أسعارها تأثير سلبي على الصناعة الوطنية العراقية. إضافة إلى إغراق السوق العراقية بمختلف السلع والحاجيات المنزلية بمختلف أشكالها وأنواعها وأحجامها البلاستيكية والنحاسية وكانت أيضاً رخيصة الأسعار وكانت أيضاً ذات تأثير سلبي على الصناعة الوطنية العراقية، كما كانت حدود العراق مفتوحة أمام المنتوجات الزراعية من الفواكه المختلفة والمتنوعة وكذلك الخضروات والحبوب والبقوليات، كانت جميع هذه الحاجات والسلع والمنتجات الزراعة تدخل وتغرق الأسواق العراقية بدون حسيب أو رقيب من وزارة التجارة أو الزراعة أو فرض ضرائب أو كمرك عليها حسب القاعدة الليبرالية (دعه يدخل دعه يخرج) وهذا يعني حرية ونشاط انتقال السلع ورأس المال وحركة انتقال الناس والمعلومات والتقنيات الإنتاجية وإلغاء الحدود القومية وهذا يعني أيضاً أن العولمة دخلت العراق من أوسع أبوابه من خلال سلطة الاحتلال الأمريكي وحاكمها العام (بول بريمر).
والآن نستعرض السلبيات والأخطار التي أفرزتها ظاهرة العولمة التي خلقتها ونفذتها سلطة الاحتلال الأمريكي في العراق المذبوح وشعبه المستباح وتأثيراتها الكارثية على الشعب العراقي والصناعة الوطنية ورأس المال الوطني والقطاع الزراعي ومختلف النشاط البشري.
1- أدت هذه الظاهرة إلى ظهور وولادة طبقة جديدة في المجتمع العراقي (الطبقة البورجوازية الطفيلية) الذي يتركز عملها بالسمسرة والوساطة بين الدول الرأسمالية المنتجة لهذه السلع والحاجات والنخبة العراقية من باعة جملة أو وكلاء تصريف تلك السلع والبضائع في السوق العراقية مقابل منحهم نسبة من العمولة (الكوميشن).
2- أدت هذه الظاهرة إلى انهيار وتدمير الصناعة الوطنية العراقية، وجعلت السوق العراقية خالية من أي إنتاج عراقي لهذه السلع والحاجيات وأصبح السوق العراقي مغرقاً بالسلع والحاجيات الأجنبية.
3- غلق المعامل والورشات العراقية التي كانت تعمل تحت حماية الحكومة العراقية في إنتاج تلك السلع والحاجيات وتتمتع بحماية وتشجيع الحكومة العراقية عن طريق فرض الرسوم والضرائب العالية على السلع والبضائع المستوردة أو منع استيرادها حفظاً وتشجيعاً للصناعة الوطنية وعدم منافستها.
4- تسريح الآلاف من العمال والفنيين والمهندسين الذين كانوا يعملون بتلك المعامل والورشات وأصبحوا في عداد العاطلين عن العمل.
5- كان لظاهرة استيراد المنتجات الزراعية المختلفة من الفواكه والخضر والحبوب وإغراق الأسواق العراقية أثرها في انهيار وتدمير ومزاحمة المنتجات الزراعية العراقية وكسادها وعدم إنتاجها، مما أدى إلى تصحر الأراضي الزراعية مما دفع بالمزارعين والفلاحين من أبناء الريف إلى هجرة أراضيهم واللجوء إلى المدن للعمل وكسب ما يوفر لهم لقمة العيش، فأصبحوا عنصر مزاحمة لأبن المدينة في مختلف مجالات العمل، أو لجوء بعض المزارعين الملاكين للأراضي الزراعية إلى استغلال أراضيهم الزراعية في الريف لصناعة الطابوق المستعمل لغرض بناء الدور مما أدى لتلوث أكبر من الدخان لكثرة تلك الورشات (الكور) المنبعث منها.
6- أصبح الشعب العراقي استهلاكياً ترفياً، وأصبح الاقتصاد العراقي اقتصاداً ريعياً يعيش شعبه على ما ينتجه ويبيعه من النفط، بعد ما كان في السابق يكتفي ذاتياً بكثير من هذه السلع والحاجات التي كانت تنتج محلياً.
7- إن ظاهرة الاستيراد للسلع والحاجيات التي يحتاجها الشعب العراقي كغذاء أو أدوات وحاجات منزلية أو للعمل يومية وضرورية، مما جعل الشعب العراقي يعتمد على الدول الأجنبية في توفير تلك المنتجات والسلع والحاجيات وهذا يعني أن العراق شعباً وحكومة أصبح تحت رحمة تلك الدول المنتجة والمصدرة لتلك المواد والسلع والحاجيات للشعب العراقي، وهذا يظهر بشكل واضح ومن خلال ما نلحظه من ضغط وتدخلات تلك الدول وعدم استقرار الوضع الأمني والسياسي والأسعار في السوق العراقية مما أدى إلى أن تصبح الساحة العراقية وسيلة للضغط من تلك الدول وتصفية حساباتها مع الدول الأخرى، من أجل تحقيق وتنفيذ مصالحها الخاصة على حساب مصالح الشعب العراقي.
8- لقد أدى إغراق الأسواق العراقية بالسلع والحاجيات والبضائع الأجنبية ومنافستها لتلك المواد التي كانت تصنع في العراق مما أدى إلى غلق تلك المعامل وتسريح عمالها وفنييها ومهندسيها، إن هذه الظاهرة أدت إلى هروب رأس المال الوطني إلى خارج العراق وأصبح يستثمر في مشاريع الدول الأخرى، وهذا يعني أن العراق أصبح بدون رأس مال وطني يستثمر في العراق ويبني صناعة وطنية، مما يعني أيضاً أن العراق المذبوح وشعبه المستباح سيبقى يعيش على ما تصدره له الدول الأخرى، وسوف يبقى يبيع ما ينتجه من النفط، وبهذه العائدات من المبالغ يعيش حياته في هذه الدنيا، وإذا ما انتهى النفط ونفدت الآبار منه، يصبح أحفادنا يعيشون كما تعيش الآن شعوب الصومال وغيرها من الدول الأفريقية على الصدقات التي تقدمها الدول الرأسمالية الكبرى قربة إلى الله تعالى.
إن العولمة تعني إلغاء الحدود القومية وإطلاق الحرية الكاملة في نشاط وحركة انتقال السلع ورأس المال، وانتقال الناس والمعلومات والتقنيات الإنتاجية ومختلف أشكال السلوك والتطبيقات الاجتماعية وفرض نموذج ثقافي وسلوكي يفرض على جميع الشعوب بدون تدخل الدولة حسب قاعدة (دعه يدخل، دعه يخرج) بما ينسجم مع مصلحة العولمة المتوحشة بعد تسع سنوات من احتلال العراق وتطبيق وإشاعة الإستراتيجية الأمريكية (الفوضى البناءة) وترسيخ وإشاعة قاعدة العولمة المتوحشة في السوق العراقية، نستعرض الآن ما أفرزته تلك الحقبة الكارثية على المجتمع العراقي :
1- إشاعة ظاهرة البطالة بشكل واسع حيث أصبحت الجامعات والكليات والمعاهد تخرج المئات من أصحاب الاختصاص وترميهم في ساحة البطالة أو تدفعهم الحاجة والعوز إلى الهجرة في أرض الله الواسعة، وهذا يعني أن المواطن العراقي يدفع مختلف الضرائب التي أخذت بالارتفاع وغيرها من العوائد المالية للدولة، وتشكل منها رواتب ومخصصات لذوي المهن التعليمية من معلمين ومدرسين ودكاترة في مختلف المراحل الدراسية، وتكاليف ومصاريف تشييد بنايات المدارس والمعاهد والكليات وأجهزة المختبرات وتكاليف الكتب المختلفة ومصاريف الماء والكهرباء وغيرها من النثريات، وعيون الآباء والأمهات ترصد وتراقب وتشجع أبناءها على السعي والدراسة، وتنتظر اليوم الموعد لتخرجهم ليكونوا ديناميكية التقدم والتطور في بناء وطنهم وسعادة شعبهم وإذا تلك الآمال تصبح سراباً، وتلك الجهود وسهر الليالي تصبح هباء، يخيم اليأس والإحباط على تلك النفوس الشابة التي كانت تغمر قلوبها الأحلام البنفسجية الإنسانية في العمل وخدمة الوطن، وأخيراً تدفعهم الظروف والحاجة إلى مغادرة الوطن والعمل في الغربة لدى الدول الأخرى، إن هذه الظاهرة جعلت من العراق الممول للدول الأخرى بالعنصر المنتج والفعال والمثقف والمدرك والواعي، وإما أن يفترش أرض الأرصفة أو الساحات بالسلع والحاجيات المنتجة في الدول الأجنبية وأغرقت بها السوق العراقية.
2- إن صورة الخريجين هذه مع ظروف العوز والجوع والحاجة دفعت بالكثير من أولياء الطلبة، إلى سحب أبنائهم من الكراسي الدراسية ودفعهم للعمل في الأسواق يبيعون حاويات من النايلون (علاكات) أو عتالين يستأجرون عربات لحمل السلع والبضائع (أجرة الواحدة في اليوم ألف دينار وإن هذه الظاهرة دفعت بالبعض من الأثرياء في شراء وتجميع هذه العربات الكثيرة في أحد الأماكن ويستأجر كل واحدة منها بألف دينار، وكانت هذه العملية تدر عليه أكثر من عشرة آلاف دينار في اليوم) والمؤلم في هذه الظاهرة حينما تشاهد طفلاً لا يتجاوز عمره العشر سنوات يتصبب العرق من جسمه وهو يدفع عربة محملة بسلع أو بضائع تزن مئة كيلو بينما وزنه لا يتجاوز ثلاثين كيلو.
3- أما بالنسبة للعراقيين الذين يعيشون دون خط الفقر، فقد أعلنه الجهاز المركزي للإحصاء في وزارة التخطيط العراقية والذي تم تقديره بما يساوي 23٪-;- من سكان العراق البالغ عددهم اثنان وثلاثون مليون إنسان.
4- بروز ظاهرة النزعة الطائفية والقومية والفئوية بشكل عميق وواضح.
5- انتشار ظاهرة الفساد الإداري ونمو سلطة أشباح المافيا المتخفية تحت خيمة العولمة في النشاط التجاري والمالي.
أما تأثيرات ظاهرة العولمة على الجيل الصاعد من الشباب، فقد حدث ذلك منذ تفرد النظام الرأسمالي في القرار للسيطرة على العالم وضمه إلى ماكنة مفاهيم ما يسمى بالنظام العالمي الجديد والتحكم في منطق الرأسمال الحاكم، بعد الثورة المعلوماتية في الاتصالات التي جعلت من العالم ما يشبه قرية صغيرة يعتبر انعكاساً لطبيعة المرحلة الجديدة والذي هو عبارة عن ترجمة مصالح مجموعة من القوى الاقتصادية وخاصة مصالح رأس المال الدولي (المعولم) وتحويله إلى مصطلحات مذهبية ذات طابع شمولي عن طريق اجتياح ودحض العقول والأفكار، وإثبات بطلان ومعاكسة أفكارها وإيديولوجيتها الإسلامية والقومية والاشتراكية، عبر الأدوات والوسائل الكفيلة واعتبار حقيقتها كظاهرة بديهية ثابتة وتافهة، غير قابلة للجدل والنقاش والاهتمام بها، ولكي يتسنى لها ذلك، يكون من أول موجباتها إخضاع العقول والأفكار البشرية إلى ما يسمى بعملية (غسل الدماغ) من كل خياراته التي تحول دون سيطرتها على السوق العالمية والإنفراد بها، ومن أجل ذلك فإن رأس المال المعولم لا يتوانى عن القيام بمسح إلغائي معنوي أو جسدي لفئات واسعة من البشر حسب ظروف وضروريات السوق، باعتبار تلك المجاميع البشرية ما هي إلا أرقام وأعداد يجب أن يخضع وجودها لمعايير السوق من حيث العرض والطلب وبما يحققه من ربح وخسارة في قاموسه غير المعلن، والأخطر من ذلك ما تغرسه في النفوس والعقول والأفكار تلك الصورة الخداعة والمغرية لجاذبية وجهها البراقة، المقنع بإيديولوجيتها التي لها تأثير وفعل التنويم المغناطيسي أو التخدير، وقد تمت صياغة هذه الإيديولوجية على وجه التحديد في عام/ 1944 بعد الحرب العالمية الثانية وقيام نظام جديد في العالم (المعسكر الاشتراكي) في اتفاقية (بريتون وودز) من قبل المؤسسات الاقتصادية الكبرى (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية والتعرفة الكمركية الموحدة وغيرها) تتولى تنفيذ هذه الظاهرة الجديدة هيئات ومؤسسات كبيرة وواسعة تقوم بتجنيد العديد من مراكز الأبحاث والجامعات معتمدة على تمويلات عالمية هائلة، تهدف إلى فبركة مفاهيم صالحة للنشر والتعميم عبر أحدث الوسائل التقنية، خصوصاً وأن العالم أصبح مثل القرية الصغيرة بفضل الثورة المعلوماتية والاتصالات والتقدم العلمي والتكنولوجي، مما جعل العالم المعاصر تحت قبضة الإعلام المرئي والمقروء والمسموع، وأن جميع هذا التقدم والوسائل أصبحت موظفة وتصب في مصلحة الرأسمال المعولم.
وحتى تكتمل دائرة السيطرة والاحتواء تتسلل هذه الإيديولوجيات بأساليب وطرق مموهة تخفي حقيقة أهدافها الرامية إلى تدجين الجيل الصاعد من الشباب عبر العديد من البرامج والأفلام الخلاعية المؤثرة بإغراءاتها وجاذبيتها وهم في منحى التكوين الفكري والعقائدي، كما أن هؤلاء الشباب في هذه المرحلة من عمرهم يكونون في طور التفتيش عن ملاذ تكتمل به شخصيتهم الموجهة وحتى تتطابق وتنسجم مع السياسة الإعلامية المعولمة تدفع أولئك الشباب أيضاً إلى التأثر وتقليد نماذج مختلفة من أبطال الأفلام أو المطربين والفنانين من حيث الملابس والحلاقة والسلوك والتصرفات بحيث تجعلهم ذات طبيعة ومضمون يحثهم على الانخراط في دائرة الاستهلاك السوقي المعولم.
إن إيديولوجية العولمة تسعى بجميع الوسائل في التغلغل إلى الأذهان المتأثرة بزخرفة هذه المفاهيم المبطنة بخبث للسيطرة على عقول الشباب باعتبارهم القوة الفعالة والمنتجة الذين يمثلون القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمستقبل أوطانهم وشعوبهم، مما تجعل هذه النخبة من الشباب مشلولة العقل غير قادرة على التمييز بين الخطأ والصواب، كما تجعلهم غير مدركين واقعهم الإنساني ودورهم في بناء وتقدم وطنهم وتطور وسعادة شعبهم، أمام إيديولوجية العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة التي جعلتنا أمام عاصفة هوجاء اقتلعت قدرتنا التجريدية وحسنا الموضوعي بما يجب أن تقوم به.
هناك بعض المفكرين من المجندين والمصطفين مع طابور الفكر الليبرالي ومرحلة العولمة يزمرون ويطبلون لهذا الفكر وتلك الظاهرة ويعلنون عن الجوانب الإيجابية التي تقررها ظاهرة العولمة (وضع الأمور والشؤون التي تخص البشر على مستوى العالم مثل إخراج مواضيع مهمة كحقوق الإنسان من الشؤون الداخلية للدول وعدها من الالتزامات الدولية وعولمتها كحقوق المرأة والطفل والحق في الحياة الكريمة، والحرية للإنسان في الدين والمعتقد وحرية الضمير والوجدان والاعتراف بالشخصية القانونية للأفراد، وكذلك تعني حرية التجارة ووسائل الاتصال المتطورة ملك جميع الناس وتشمل العالم كله، كما تؤدي العولمة إلى إغراق الأسواق بالسلع والبضائع وإلى عنصر المنافسة بينها مما يؤدي إلى توفرها ورخص أسعارها).
وجواباً على هذه الأبواق المهللة والمكبرة لظاهرة العولمة نقول :- إن الأمور والشؤون التي تخص البشر كحقوق الإنسان والمرأة والطفل والحياة الكريمة وحرية الإنسان في المعتقدات الدينية والشخصية لم تكن من إفرازات العولمة وإنما هي حقوق الإنسان المنصوص عليها في إعلان الأمم المتحدة الصادر بتاريخ 10/12/1948 والمواثيق الدولية الصادرة عام/1966 الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية وإقامة دولة القانون ومؤسساتها المنبثقة عن إرادة الشعوب بالانتخابات الحرة والنزيهة الدورية، ومراقبة ذلك من قبل المجتمع الدولي عبر الأمم المتحدة ومؤسساتها حسب ما جاء في قراراتها الصادرة بتاريخ 23/3/1976، كما نص إعلان الأمم المتحدة في 10/12/1948 والمؤلف من ديباجة وثلاثين مادة، من المادة الثالثة حتى المادة الحادية والعشرين تتعلق بالحقوق المدنية والسياسية للإنسان ومن المادة الثانية والعشرين وحتى المادة السابعة والعشرين تتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإنسان.
في الحقيقة والواقع إن هذه الفقرات التي تتعلق بالإنسان وحريته أفرزتها نتائج الحرب العالمية الثانية بالانتصار على النازية الألمانية والفاشية الإيطالية واليابانية وولادة المعسكر الاشتراكي الجبار ونضال الشعوب من أجل الاستقلال والديمقراطية، أما قيام المفكرين والبرجوازيين والمصطفين في طابور العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة ممن جعل هذه الفقرات من إفرازات العولمة وجوانبها الإيجابية ما هي إلا تشويه للحقائق وتزوير للتاريخ، لأن العولمة ظاهرة مفرطة بالوحشية وهي مدمرة للإنسان والطبيعة فمن ناحية الإنسان (كما ذكرنا في المواضيع السابقة) تعتبر العولمة أعداداً وأرقاماً وسلعة في السوق من حيث العرض والطلب، أما الطبيعة، فإن استغلالها بصورة عشوائية ومدمرة إضافة إلى تلوث البيئة والجو بالدخان السام المنبثق من مصانعها ومعاملها. أما الفقرات الأخرى المتعلقة بحرية التجارة وانتشار الاتصالات وإغراق الأسواق بالسلع والمنافسة بينها حسب قاعدة العرض والطلب الذي يسود في الأسواق والذي يؤدي إلى توفرها وانخفاض أسعارها.
إن هذه الفقرات التي يعتبرها مفكرو النظام الجديد أحد الإفرازات الإيجابية لنظام العولمة ما هي إلا خداع ورياء وكذب، فالنظام الرأسمالي في الدول الديمقراطية الليبرالية المعنية ليس غبياً حتى يكون أحادي التوجه والاستغلال وجني الأرباح، إنه يمتلك أسلوباً ثانياً يتمثل في تجديد نفسه وتفتيت سلطته وتنويع معرفته وتعدد مسالكه التي تؤدي إلى غاية واحدة وهدف واحد، وهو اكتساح السوق واحتكاره حتى يصبح بالإمكان تمرير لعبة التآمر على السوق وتحويرها من خلال تأليب أنماط فساد ضد أخرى وهذه تعتبر لعبة تعددية غير أخلاقية، إن غاية الرأسمالي من وراء إنتاج السلع والحاجيات هو الربح، والرأسمالي جشع إلى الربح وهو مسعور لا يشبع منه وتكديس الرساميل على الدوام، هذا هو الدافع والحافز الذي يشجع الرأسمالي على الإنتاج، وهو كذلك الذي دفع الرأسمالي إلى إنماء وتوسيع الإنتاج عن طريق إدخال وسائل متطورة من المكائن التكنيكية وأساليبه ووسائله، إن أهم شيء يثير رعب وقلق الرأسمالي هو خوفهم من الخراب والمضاربة التي تؤدي إلى فقدانهم للأرباح وخسائرهم، وقد استشهد المفكر الكبير كارل ماركس في كتابه الموسوم (رأس المال) عن طبيعة الرأسمالي وجشعه وحبه للربح بما يلي : (إن الرأسمالي ينفر من فقدان الربح أو من الربح الزهيد، كما تنفر الطبيعة من الفراغ. إن الرأسمالي يبدي من الجرأة والإقدام حينما يتعلق الأمر بربح يوافقه، فهو يرضى بكل شيء في سبيل عشرة بالمائة من الربح المضمون، وفي سبيل 20٪-;- يصبح شديد الحيوية وفي سبيل 50٪-;- يصبح مغامراً جريئاً، وفي سبيل 100٪-;- يدوس بالأقدام على جميع القوانين البشرية، وفي سبيل 300٪-;- يصبح حيواناً مفترساً لا يمانع من القيام بأي جريمة يكون مستعداً بالمغامرة على ارتكابها ولو كلفه ذلك مجابهة المشنقة) وقد تكلمنا في المواضيع السابقة في هذا الكتاب عن الأعمال التي يقدم عليها الرأسمالي حينما يسود السوق الانكماش والكساد، كيف يقوم الرأسمالي بإشعال النار بالسلع والحاجيات أو رميها في البحر كما فعلت دولة البرازيل حينما ساد الكساد والانكماش أسواق (حبوب القهوة) وانخفاض أسعارها.
تكشف هذه الظواهر الإيجابية التي يبشر بها مفكرو الإيديولوجية الليبرالية، أن هنالك عودة قوية لتبرير التوسع العالمي للرأسمالية وإلغاء دور الدولة عن طريق الليبرالية الجديدة، التي هي إحياء لليبرالية القرن التاسع عشر والتي نقدها ماركس وغيره من رواد الفكر الاجتماعي مثل دور كابم وفيلن.
إن الرأسمالية الليبرالية تمتاز بوجود مجتمع مدني واقتصاد سوق مستقلين عن الدولة والسياسة، مع وجود اقتصاد السوق الذاتي التسيير الذي يكون بعيداً عن الإيديولوجية الدينية أو الأسلوب والسلوك والتصرف الذي يعتمد على القيم والتقاليد والعادات الاجتماعية الموضوعية أو المعايير والأفكار الأخرى وإنما يصبح ذلك النظام في حاجة إلى مجرد أخلاق نفعية ذاتية ومعايير فردية والنظام في المجتمع الليبرالي لا يستمد شرعيته من مصدر إلهي أو ديني معين أو من فكر اشتراكي أو قومي، وإنما يستمد نظامه من داخله، وذلك لأن هذا النظام يعتمد على آليات السوق وقوانينه الاقتصادية الذي يقوم حسب قاعدة العرض والطلب، وعلى هذه الآليات يعتقد منظرو ومفكرو هذا النظام بأن العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة ستتحقق تلقائياً، وقد قدم أولئك المنظرين والمفكرين تعريفات وتفسيرات للفرد والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، إلا أن تلك التعريفات والتفسيرات لم تكن سوى انعكاس لاقتصاد السوق العالمي الرأسمالي. فمثلاً يعتبر الفرد هو ذلك الشخص الذي يتمتع بحرية إقامة علاقات مع غيره من أفراد المجتمع ويدخل معهم في تعاقدات واتفاقيات، أما الحرية فإنما تعني حرية الفرد في أن يبيع عمله ونتاج عمله، وحرية البائع والشاري في الدخول في تعاقدات يضعون شروطها بأنفسهم ورغبتهم خارج دور وتدخل الدولة في هذه العمليات، كما تعني الحرية عدم تدخل الدولة في آليات السوق وإنما تترك آليات السوق تعمل وفق قاعدة العرض والطلب، أما المساواة والعدالة فتتحققان عن طريق توازن المصالح والمنافسة الحرة في السوق، وقد ذهب كارل ماركس (في نقد هذه الظاهرة باعتبار أن جميع الحقوق الليبرالية، تختزل في حق الملكية، والحرية تعني التملك، والمساواة هي تساوي في سعيهم نحو التملك، والأمن هو المناخ الذي يضمن للفرد حماته للملكية والحصول على المزيد منها). لقد اتخذت العولمة عقيدة لها بدمج الليبرالية بصفتها عقيدة اقتصادية تم تحويلها إلى عقيدة سياسية وفلسفية مع الديمقراطية التي تعود إلى سباق تاريخي مختلف، ومن خلال دمج الديمقراطية بصفتها عقيدة سياسية بالليبرالية بصفتها عقيدة اقتصادية، أصبح لدى العولمة نوع من الفلسفة الاجتماعية الاقتصادية الشاملة أخذت تعرف باسم (الديمقراطية الليبرالية) لقد أخذت العقيدة الجديدة من الديمقراطية مفهوم الحق في الانتخاب ومفهوم المساواة ومفهوم مرجعية الشعب، وأخذت من الليبرالية الاقتصادية مفهوم الفردانية الاقتصادية بعد نقلها من الحقل الاقتصادي الاستهلاكي إلى المجتمع لتأخذ شكل فردانية اجتماعية، ومفهوم حق الاختيار ذي الطابع الاقتصادي الاستهلاكي لتحوله إلى حقل الاختيار السياسي، ومفهوم التعددية السلعية لتحوله إلى تعددية سياسية.
دور الأحزاب الوطنية في مواجهة هذه الظاهرة
بعد استعراض هذه الصورة الكارثية الجاثمة بكابوسها المدمر على صدر الوطن المذبوح وشعبه المستباح، ما هو موقف ودور الأحزاب السياسية الوطنية التي ازدحمت برامجها ولافتاتها بشعارات الوطن المذبوح والشعب المستباح في مواجهة هذه الحادلة الضخمة التي تسوي الشعب العراقي وليس الأرض وتصهره في بودقة واحدة حسب مفهوم ورغبات العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة التي جعلتنا أمام إستراتيجية ليست من لحم ودم وإنما أفكار سياسية واجتماعية واقتصادية حسب قاعدة (الفوضى البناءة) التي بدأت ونفذها بوش الأب عملياً وواقعياً على العراق في حرب الخليج الثانية عند احتلال صدام حسين لدولة الكويت عام 1990 حينما صرح بوش الأب الذي كان رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية فقال : (سنعيد العراق إلى عصر القرون الوسطى) وفعلاً قامت صواريخه وقاذفاته الإستراتيجية بتدمير كل حضارة العراق ومدنيته في الماء والكهرباء والصحة والتعليم والمؤسسات والبنايات والاتصالات وغيرها. وعذراً لأستاذنا الفاضل الدكتور صالح ياسر الذي اعتبر (الفوضى البناءة) من نتائج بوش الابن والإستراتيجية الجديدة للأمن القومي في 20/سبتمبر/ 2002 لقد جاء بوش الابن ليكمل مشروع أبيه بحجة امتلاك صدام حسين أسلحة الدمار الشامل واحتلال العراق عام/ 2003 ليصبح البداية في المشروع الأمريكي الذي يستهدف السيطرة على القوس النفطي الذي يبدأ من العراق مروراً بالمملكة العربية السعودية والكويت ودول الخليج حتى بحر قزوين التي تتمركز فيها حقول البترول ذات المخزون الكبير والواسع حالياً ومستقبلاً، وفرض وإشاعة ظاهرة العولمة الذي يستطيع الإخطبوط الأمريكي من خلالها بسط سلطانه على جميع أنحاء المعمورة.
إن أي متتبع للسياسة الدولية يلاحظ أن الوطن حينما يتعرض لكارثة داخلية أو خطر خارجي تبادر جميع القوى السياسية من أقصى، اليمين إلى أقصى اليسار بالتحالف والاتحاد فيما بينها وتشكل حكومة طوارئ وإنقاذ الوطن والشعب. إن هذه الصورة دفعتني أن أتساءل .. هل هناك أسوء وأتعس من الحالة والظروف التي تجثم بكابوسها على الوطن المذبوح والشعب المستباح في العراق العظيم !! ؟
من خلال هذا المنظار المأساوي للواقع العراقي تبرز أمامنا ظاهرتان :
الظاهرة الأولى : إن الأحزاب السياسية على الساحة العراقية تنظر إلى العولمة بمفهوم سلبي مثلاً : الأحزاب الإسلامية تنظر إلى العولمة بأنها تسلخ الإنسان المسلم بشكل خاص من قيمه الدينية والأخلاقية، وتجعله بعيداً عن قيمه الأصلية وعن الدين الإسلامي بشكل خاص وذلك بإغراقه وتهجينه بالأفكار والقيم والتقاليد والعادات الغربية، أما الأحزاب الوطنية والقومية، فإنها ترى في العولمة سعيها وعملها على إلغاء الهوية والحدود القومية والوطنية والخصوصية المحلية وفرض نموذج ثقافي غربي على جميع شعوب الأرض (سوف نبين في المواضيع القادمة كيف تلغي ظاهرة العولمة الدولة القومية وتحولها إلى كتل ودويلات قومية أو طائفية أو فئوية) أما الأحزاب اليسارية فإنهم يرون في ظاهرة العولمة خدعة امبريالية ذات طابع اقتصادي من صنع الولايات المتحدة الأمريكية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وفرض سيطرتها على العالم.
من خلال نظرة الأحزاب السياسية العراقية السلبية والمضادة لظاهرة العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة يمكن لتلك الأحزاب التألف والتحالف على رؤيا معينة وأفكار واحدة تنحصر في موقف واحد لتلك الأحزاب في مواجهة تلك الظاهرة المدمرة للإنسان والطبيعة وإنقاذ الوطن المذبوح والشعب المستباح من ذلك الإخطبوط المدمر، ويقوم نشاط وعمل تلك الأحزاب على ممارسة النضال السلمي بالاعتماد على قاعدة واسعة من جماهير الشعب العراقي.
الظاهرة الثانية : تتمحور وتعتمد على ترسيخ الديمقراطية الحقيقية بالاعتماد على قوة ونشاط جماهير الشعب الواسعة أصحاب المصلحة الحقيقية.
إن الديمقراطية الحقيقية من شأنها أن تفسح المجال لمساهمة ومشاركة جماهير الشعب الواسعة في اتخاذ القرارات الصائبة التي تؤمن وتوفر لها الضمانات الأكيدة بالعيش الرغيد والمستقبل الأفضل عن طريق الإصلاح الاقتصادي الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بإرادة الجماهير وتصميمها وإصرارها، باعتبارها أصحاب المصلحة الحقيقية، عن طريق رسم وتطبيق خطة اقتصادية صحيحة ودقيقة تتناسب مع أحوال البلاد الطبيعية والاجتماعية، ترمي إلى استثمار ثرواتها الطبيعية والبشرية استثماراً عقلانياً وتوزيع تلك الثروات المخزونة والظاهرة في الأراضي العراقية بشكل عادل على جميع محافظات العراق حسب النسبة السكانية عن طريق إقامة أجهزة تخطيط وإحصاء من الخبراء والمختصين في جميع محافظات العراق لدراسة ظروف وطبيعة وحاجات كل محافظة، من خلال ما تمتاز به من نمط الإنتاج الزراعي أو الصناعي، وتوفر المواد الأولية والأيدي العاملة والفنيين والمهندسين، وعند ذلك ومن خلال التوزيع الجغرافي لجميع المستلزمات المادية والمعنوية يتم تشييد المصانع والمعالم وورشات العمل في كل محافظة، مما يؤدي إلى بناء صناعة وطنية وإنشاء زراعة متنوعة ومتكاملة تزود الإنسان والمصانع بإنتاجها، عند ذلك يتم بناء حالة متكاملة توفر للشعب الاكتفاء الذاتي صناعياً وغذائياً مما يجعلنا نحافظ على أمن العراق السياسي والاقتصادي، وعدم الاعتماد كما هو حالنا الآن على ما يستورد من الدول الأجنبية ونتجنب استحواذ وسيطرة كابوس العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة، كما يجب اتخاذ القرارات الدقيقة والحكيمة الخاصة باستغلال واستخدام عوائد النفط ببناء وتنمية البنى التحتية والصناعية الوطنية وفتح صندوق ادخار للأجيال القادمة من أبناء الشعب العراقي، ومن خلال ترسيخ الديمقراطية الصحيحة تستطيع الجمعيات والنقابات والمنظمات الجماهيرية المختلفة أن تلعب دوراً رئيسياً وأساسياً في تحديد الرواتب والأجور التي تضمن الحياة الحرة والكريمة لشريحة واسعة من أبناء الشعب العراقي ورفع مستوى معيشتهم.
إن عدم تطبيق هذه القاعدة والسير بهذا النهج والسلوك الذي يعتبر الديمقراطية الصحيحة وترسيخ أسسها ومبادئها هي الضامنة الأكيدة لجعل جماهير الشعب أصحاب المصلحة الحقيقية بثروات وخيرات وطنهم، وهم الذين يتمتعون بالرأي الأول والأخير في تقرير مصير وطنهم حالياً وفي المستقبل، وما عدا ذلك سوف يظهر العكس الذي يبرز من خلاله الاستهلاك الترفي الذي يعتمد على الاستيراد من الدول الأجنبية مما يؤدي ذلك إلى ظهور طبقة بورجوازية طفيلية تصبح وكيلة في السوق العراقية للمنتجات الأجنبية، وكذلك تظهر فئات سياسية تتعامل مع الدول الأجنبية من خلال استغلال نفوذها السياسي والعمل في المشاريع الإنشائية والعمرانية في البلد مما يؤدي إلى تفاقم الأزمات في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وانقسام المجتمع العراقي إلى طبقتين الأولى تعيش برفاه وسعادة مفرطة والأخرى تعيش تحت مستوى الفقر، كما تؤدي هذه الظاهرة إلى انتشار البطالة وأزمة السكن وتفشي ظاهرة اليأس والإحباط والتسيب والانفلات الخلقي وانتشار عادة المخدرات وانتشار المافيات المرتبطة بالرأسمال والشرطات التجارية العالمية.
التاريخ يعيد نفسه
يقول كارل ماركس إن التاريخ يعيد نفسه مرة على شكل كوميدي (مهزلة) ومرة أخرى على شكل تراجيدي (مأساة) وهذه الظاهرة مرتبطة بمصالح الطبقة البورجوازية وتطورها ونبينها بالصورة التالية : كانت التجارة المرحلة الأولى قبل الصناعة في النظام البورجوازي وهذا لا يعني عدم وجود الصناعات الحرفية البسيطة في العصر الإقطاعي مثل (الفأس الحديدية والمحراث البدائي والمنجل الحديدي وغيرها من الأدوات التي يستعملها المزارع في النظام الإقطاعي) هذه الأدوات وغيرها من المنتجات الزراعية كان التاجر يحملها إلى مدن ومقاطعات أخرى يبيعها التاجر في تلك المناطق أو يبادلها بسلع ومواد أخرى، كانت المملكة في العصر الإقطاعي مقسمة إلى مقاطعات أو مدن مستقلة مثل دولة المدن في العصر الإغريقي، كان التاجر حينما يدخل إلى مقاطعة أو دولة – المدن تفرض على البضاعة رسوماً وضرائب وفي بعض الأحيان يذهب التاجر ويعبر عدة مقاطعات أو دول – المدن وهذا يعني أن البضاعة تتحمل رسوماً وضرائب كثيرة نتيجة عبورها عدة مقاطعات ودول مدن مما يؤدي إلى خسارتها، لقد تزامن مع وجود الحركة التجارية في النظام الإقطاعي الذي ساد فيه الرق والعبودية في الفترة من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر ظهور أفكار متنورة وذات طابع تقدمي بالنسبة إلى تلك المرحلة لدى مفكرين من الطبقة البورجوازية تشجب وتستنكر الظلم والاضطهاد والقهر والحرمان ويدعون إلى الحرية وإلغاء الرق والعبودية وأصبحوا قادة وزعماء للأرقاء والعبيد والقيام بحركات ثورية والنضال ضد العبودية والقنانة وتوحيد المقاطعات والدولة – المدينة وامتد ذلك النضال حتى أواسط القرن التاسع عشر وكان هذا العمل يعني آنذاك تقدماً اجتماعياً هائلاً حيث بدأت الطبقة البورجوازية بالتحول الكبير من خلال قيادتها للثورات الشعبية وانسجاماً مع مصالحها الاقتصادية توحيد المقاطعات والدولة – المدينة وبروز الدولة القومية وتكونها ونشأت معها السوق القومية والتكامل الاقتصادي البورجوازي. ويعتبر ذلك بداية متقدمة تاريخية في تطور البورجوازية إلى عصر الرأسمالية الاستعمارية ثم إلى الامبريالية الاحتكارية ثم إلى مرحلة العولمة.
لقد تزامن وصاحب ذلك التوسع في مفهوم التكوين القومي وأصبحت وتكونت الدول الكبيرة واستطاعت الطبقة البورجوازية أن تلج عالماً أوسع هو عالم الأمة ويعتبر ذلك إنجازاً كبيراً وليس مجرد فكرة حيث اكتسب هذا التحول في القرن التاسع عشر زخماً كبيراً في استخدام وتنمية وتأجيج النعرة الشوفينية القومية لدى الشعب بما ينسجم مع مصالحها ومطامعها وأهدافها التوسعية الاستعمارية وبرزت وتأججت واشتدت الحركة الشوفينية الهجومية التي ألبسها الرأسماليون لباساً جذاباً امتلكت نفوس عامة أبناء الشعب واندفاعهم باسم العنصرية الشوفينية إلى خوض الحروب وتحمل ويلاتها وآلامها ومآسيها واحتلال البلدان الأخرى واستعباد شعوبها باسم التوسع الشوفيني والانتصار القومي، وهذا كله كان من صنع الطبقة الرأسمالية الذي أصبح في النهاية يصب في مصالحها لأنها اتخذت من تلك البلدان المستعمرة أسواقاً لتصريف بضاعتها، واستثمار ما تكتنزه أراضيها من معادن وثروات كمواد أولية لمصانعها فتنهبها وتذهب بها إلى بلدانها لتحولها في مصانعها سلعاً وبضائع تعيد تصريفها في أسواق تلك البلدان التي نهبت منها المواد الأولية.
في عصر العولمة المتوحشة اقتضت مصلحة رأس المال المعولم إلى تفتيت وحدة الدولة القومية وتفكيكها إلى كتل ووحدات ذات طبيعة قومية أو طائفية أو فئوية عن طريق إثارة النزاعات والصراعات القومية والفئوية بحيث تفتت تلك الدول الكبيرة وتحولها إلى كيانات وكتل صغيرة وذلك لسببين الأول ضعفها وتحطيم مقاومتها وقدرتها على مواجهة الغزو الجديد للعولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة، والسبب الثاني أن ذلك الكيان أو الكتلة لا تستطيع أن تنتج وتوفر جميع المستلزمات من سلع وبضائع من حيث الاكتفاء الذاتي لشعوبها مما يدفعها ذلك إلى استيراد تلك المستلزمات من الدول الرأسمالية المعولمة، وهذا ما ظهر بشكل واضح بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية، وتفتيت منظومة الدول التي شكلت (اتحاد الجمهوريات السوفيتية) فظهرت للوجود كتل وكيانات مذهبية وقومية، وكانت هذه الكيانات والكتل في اتحاد الجمهوريات السوفيتية متداخلة فيما بينها من ناحية الأرض والبشر مما أدى بعد انفصالها بعضها عن بعض وقيام كياناتها المستقلة إلى الصراع والنزاع والحروب بين تلك الكيانات وأصبح كل واحد من هذه الكيانات يتهم الآخر باغتصاب جزء من أراضيها أو أن المجموعة البشرية يجب أن تنضم وتلحق بكيانها حسب قاعدة الطائفية والقومية مما أدى إلى سفك الدماء وتدمير المدن وأصبحوا كما قال الشاعر :
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا
كما حدث ذلك أيضاً في الدول الاشتراكية الأخرى من انفصال الدول بعضها عن بعض وأصبحت كيانات صغيرة، إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكتف وتقتنع بانهيار المعسكر الاشتراكي وتفتيته (شذر مذر) وإنما دفعت الحلف الأطلسي الحربي إلى الشرق والدخول إلى المجال الذي كان ضمن الاتحاد السوفيتي حيث أعلنت أوكرانيا ما وراء القفقاس وآسيا الوسطى منطقة مصالح وطنية أمريكية، كما شنت الولايات المتحدة الأمريكية هجوماً على يوغسلافيا وإجبار حلفائها الأوربيين قسراً على المشاركة فيها وما أفرزتها تلك الحروب من مآسٍ وكوارث في البوسنة والهرسك والجبل الأسود إضافة إلى ما يحدث في دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، هذه هي المصالح الأنانية للبورجوازية هي التي تحدد سلوكها وأهدافها تارة تجعل أحداث التاريخ كوميدية أي شكل مهزلة مثلما جرى في تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار نظامه الاشتراكي ففي الوقت الذي عجزت الرأسمالية العالمية من خلال عقود طويلة من الزمن من ظاهرة الحصار والتطويق بالقواعد العسكرية والأحلاف الحربية، فعجزوا من الوصول إلى ما هو أقل بكثير مما أنجزه أبطال (البيروسترويكا) من مهمتهم على الوجه الأكمل.
وبعد أن أنجز ذلك العميل المهندس (غورباتشوف) بمساعدة المخابرات الأمريكية ولظهور أسباب موضوعية في تطبيق النظرية الماركسية (إذا عجز التطبيق عن متابعة النظرية فلابد من وجود خلل في التطبيق)، ثم توارى غورباتشوف بعد إنجاز المرحلة الأولى عن المسرح ليأتي بعد ذلك الحاقد الأحمق (بورايسين) فقام بإزالة آخر مظاهر الدولة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وإلى تفتيت وانحلال أواصر الدولة السوفيتية الكبيرة وتصبح أجزاء ممزقة ومتفرقة، أما الظاهرة التراجيدية (المأساوية) في إعادة التاريخ ما حدث في البوسنة والهرسك والجبل الأسود وفي انفصال جنوب السودان وغيرها من الدول في مختلف أرجاء المعمورة من حروب وكوارث إنسانية كثيرة.
الليبرالية
إن كلمة الليبرالية مشتقة من لفظة الحرية في اللاتينية (Liprty) ولفظة الليبرالية (Liperatiosm) وأصبحت هذه الكلمة شائعة الاستعمال في أمريكا الشمالية بين المستوطنين المهاجرين من دول أوروبا وغيرها في أوائل الستينيات من القرن السابع عشر هرباً من الاضطهاد الديني أو من العبودية والقنانة التي كانت شائعة في مرحلة الإقطاع والرق والعبودية وقد شاعت تلك الكلمة (الحرية) بين أولئك المهاجرين كرد فعل وانعكاس لما كانوا يتعرضون له من ظلم واضطهاد وتعسف، ولذلك كان يعني مفهوم الليبرالية التمرد والتمسك بالحرية الفردية أما السلطة وامتلاك السلاح والدفاع عن نفسه وحرية العمل والسكن دون مراعاة الظروف والبيئة، وقد اعتبرت تلك الظاهرة نوعاً من اليمينية المتجذرة من الظلم والاضطهاد الديني أو الإقطاعي كما اعتبرت الليبرالية في مناطق أخرى من أمريكا ظاهرة للرفاهية والسعادة الاجتماعية وحتى اعتبرها البعض نوعاً من أنواع الاشتراكية للحياة الجماعية والمشتركة التي كانت تعيشها تلك المجموعات البشرية، مع مرور الزمن ونتيجة للاستقرار والاطمئنان والتعاون والمساعدة فيما بينهم أصبحت الليبرالية قاعدة في التفاهم والوصول إلى تسوية المشاكل مع الطرف الآخر والتعامل بشفافية وتخفيف حدة التناقض بين المصلحتين، وهذا لا يعني قبول أو الخضوع للرأي الآخر أو التنازل عن مصلحة الذات وإنما إخضاعها إلى تنظيم عقلاني يهدف إلى تسوية المشاكل والخلافات بشفافية وتخفيف حدتها إلى حد قبول الطرفين والتوصل إلى حلول تسويات منصفة، وقد اعتبرت هذه المواقف كمسلمة لطبيعة الانشقاق الإنساني السيكولوجي الذي ينطلق من مفهوم يعتبر النفس الإنسانية ممزقة بمحفزات وطموحات متناقضة، ولذا فإن الإستراتيجية السياسية للفكر الليبرالي هو الاعتراف بهذه الانشقاقية الإنسانية وليس كبتها أو تجاهلها، والمجتمع الجيد هو الذي يتمكن من التوصل وإيجاد الحلول لهذه المتناقضات بصيغ سليمة وسلمية، وهذا لا يعني أن التسويات التي تتوصل إليها المجتمعات الليبرالية تقدم الحلول المريحة والواقعية لكل المشاكل والمتناقضات الاجتماعية أو حلول حاسمة ونهائية، وإنما في بعض الأحيان تصبح الخسارة أو الربح لكل من الطرفين متأصلة في نهج التسوية، وهذه التسوية بطبيعتها تتضمن الربح أو الخسارة لكلا الطرفين، ولذا يتعين قبول الخسارة باعتبارها مقوماً في تحقيق الممارسة بين الأهداف المتناقضة، فالتناقض والخصام هما حالة متأصلة في تكريس فردية الفرد لذا يقوم المجتمع الليبرالي بتهيئة نظام وأعراف للممارسة السياسية التي تتمكن من استيعاب الخصام والاختلاف وبالتالي يخلق نظام المواد الذي يهدف إلى الإقناع والإنصاف وليس الإكراه، كما أن نظاماً مثل هذا يهدف إلى حلول التسوية بين الطرفين من أجل تحقيق توازن منصف ومعقول إلى الصنفين من الحرية الإيجابية والسلبية، ولا يمكن أن يتحقق نهج التسوية إلا في مجتمع متكون من أفراد أحرار ومؤسسات حرة.أي مجتمع متكون من أفراد يتمتعون بالقدرة على المسؤولية الشخصية، ويتمتعون بحرية الاختيار، بحيث يتثقف الفرد حتى تصبح هذه المسؤولية والحرية متأصلة في مقومات هويته، وهذه المهمة تكون من مسؤولية المجتمع عن تدريب وتهذيب وتثقيف الفرد لكي يستطيع التعرف وممارسة هذه الحرية ومسؤوليتها، ومن خلال هذه الرؤيا لليبرالية يعتبر الانجذاب إلى النظريات التي تفرض حلولاً حتمية وحاسمة وسريعة هي نظريات فاسدة وقاصرة لأنها تؤدي إلى تنازل الفرد والمجتمع عن هذه المسؤولية، أي مسؤولية الحوار وتقسم مشاكل وهموم الأفراد الآخرين. إن المقصود بالحرية السلبية هو أن يتمتع الإنسان بحقوق تجعله يفعل ما يشاء ويعمل ما يرغب به، بشرط أن لا يتعارض ذلك الفعل وتلك الرغبة مع الحرية السلبية والإيجابية للفرد الآخر، أما المقصود بالحرية الإيجابية للفرد هو تمتع الفرد بحرية البقاء المربح المتساوي، وهذه الظاهرة يرجع مصدر تنظيرها للحركتين الإنسانية والاشتراكية، كما تؤمن الحرية الإيجابية، بحرية انجذاب الفرد نحو الفرد الآخر الذي من خلاله ينشأ وينمو التماسك الاجتماعي، كما تؤمن الحرية السلبية بإنسانية تفردية الذات، أي حرية الذات في الطموح والفكر والمزاجيات والعقيدة والحوار والمساءلة، ولذا يسعى التنظير الليبرالي المعاصر إلى تحقيق توازن بين هاتين الحريتين (الإيجابية والسلبية) لذا يكون في مفهوم النظام الذي لا يمارس عدالة اقتصادية وإنصافاتها يكون غير عادل أخلاقياً.
يعتبر النظام الديمقراطي هو الأحسن ضماناً في تأمين الحرية السلبية في توازن مع الحرية الإيجابية، وهذا يعني على الفرد الليبرالي أن يسعى لتحقيق الحرية السلبية ضد سلطوية ديمقراطية الأكثرية وليس الدفاع عن الصنفين من الحرية لتحقيق حرية الذات فحسب بل كذلك يقوم بالدفاع عن حق الفرد الآخر في هاتين الحريتين. والليبرالية تؤكد في مختلف نصوصها التنظيرية بأن الممارسة السياسية الحرة والشفافة ضرورة متأصلة في حياة الإنسان ومجتمعه، لأن أهداف ومصالح الأفراد والفئات مختلفة ومتناقضة أحياناً لذا يستوجب إخضاعها إلى حوار حر، إن الممارسة السياسية بحرية ليست فقط مطلباً تحريرياً، وإنما هو ضروري لمجتمع الإنسان من أجل تحقيق إنسانية الإنسان ضمن التماسك الاجتماعي. من خلال هذه الأفكار المطروحة في تعريف الموقف الليبرالي يتبين أن الليبرالية تتناقض تناقضاً جذرياً مع مختلف الاتجاهات الإيديولوجية سواء كانت قومية أو يسارية تقدمية أو لاهوتية، لأن الموقف الليبرالي يسعى من أجل التوازن بين متطلبات الحرية الإيجابية والسلبية، بينما المواقف الأخرى للإيديولوجيات القومية والشيوعية واللاهوتية ترفض الحرية السلبية رفضاً مطلقاً وتبعاً لذلك ترفض التعددية الإيديولوجية لأن القومي حينما يسأل عن التفاضل بين القوميات فإنه يختار قوميته وكذلك اللاهوتي يختار دينه والشيوعي يختار النظرية الماركسية.
الليبرالية وفكر التنوير
كما هو معلوم أن الليبرالية مشتقة من لفظة الحرية التي تعني في اللاتينية (Liberty) ولفظة الليبرالية (Liberatism). فأصبحت الليبرالية فلسفة للحرية وأصبحت ظاهرة تنسب إلى الفكر التنويري وكموقف فكري من الوجود وحرية الفرد والتفرد ومن وظيفة الدولة الديمقراطية، وأصبح يتناقض جذرياً مع الفكر التقليدي والشمولي.
لقد ظهر الفكر التنويري أو ما كان يطلق عليه سياسة العقل في أوربا اعتباراً من عام/ 1751 بشكل لا نظير لها حيث أصبح ما كان يجتر في الظل أو الخفاء، أخذ ينمو في وضح النهار، وما كان محصوراً أو مقتصراً على بعض الشخصيات الأرستقراطية في صالوناتهم أصبح منتشراً وشائعاً بين جماهير الشعب الواسعة في القرن الثامن عشر وأصبحت ظاهرة مكتسحة وأعلاماً منتشرة وشائعة تتفرقع في رياح القرن، محرضة ومناضلة في وضح نهار الأنوار الذي فرض نفسه من أجل تعميد ظاهرة ثقافية جريئة ذات أهمية كبرى بالنسبة للحضارة الإنسانية، إن الليبرالية التي أفرزت ظاهرة الأنوار أصبحت كالأزمة التي انبثقت عنها تتخطى الإطار القومي في فرنسا وانكلترا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا، إنها ظاهرة أوروبية، بالرغم من أن مصطلحات التنوير تغطي اختلافات ملموسة في المضمون حسب البلد المعني، إلا أن المقصود منه في كل مكان هو الظلام الدامس واستعباد الإنسان، الذي كان يجثم بكابوسه المظلم على الفكر وحرية الإنسان ويغطس فيه فريسة للجهل والخرافة وسطوة وجبروت السلطان ومحاكم التفتيش، لقد استطاعت تلك الظاهرة أن تفتح عيون الروح الإنسانية بشكل كبير وواسع. وقد تساءل الفيلسوف كانت عام/ 1784، ما هي الأنوار ؟ فأجاب أنها الفهم والوعي والمعرفة، أي أنها خروج الإنسان من ديباجة الظلام الذي يعتبر نفسه مسؤولاً عنها، إنها الأقبية المظلمة التي يقبع بها والتي تعتبر عدم استطاعته من استخدام فهمه بدون توجيه من الآخرين. إن ذلك يكمن سببه ليس في عيب استخدام الفهم فقط وإنما في نقص القرار. وبالشجاعة والجرأة على استخدام الفهم بدون توجيه من الآخرين، وأن تكون لدى الإنسان الشجاعة على استخدام الفهم الخاص به، أي الجرأة على المعرفة، لقد كانت معركة إلا أن هذه المعركة التنويرية من كان يقودها ؟ وضد من ؟ ولماذا ؟ وبأي وسائل النشر ومع أي من الحلفاء ؟.
كانت أوروبا المستنيرة، أصبحت قوية ومتنورة وتسير في اتجاه اللاعودة لأيام الظلام بفضل المعرفة والوعي الفكري في جهد النشر الضخم (الدعاية الإيديولوجية) أو دعاية المعركة الإيديولوجية، كان يقود ذلك الجهد وتلك المعركة أولئك الذين يسمون بالفلاسفة، إلا أن ما تعنيه هذه الكلمة (الفلاسفة) في ذلك العصر ليس أكثر من التجرد الفلسفي حيث كان ما يقوم به هؤلاء من التأمل والبحث والاستدلال أقل ما كانوا يقومون به ونتيجة لذلك رفض كثير من الحكام المستبدين أن يعطيهم صفة (الفلاسفة) ولم يخصوهم إلا بصفة (الأدباء) وعند الاقتضاء (بالأدباء الفلسفيين) لقد كان الأديب في القرن السابق أي قرن (ديكارت وسيبونوزا) يميز بعناية عن الفيلسوف، لأن العقل الفلسفي يعتبر نوعاً من التخصص التقني، إلا أن أديب قرن الأنوار يستحق على حد قول (فولتير) أفضل من هذا اللقب لأنه يمتلك عقلاً عميقاً وصافياً يطبع مناقشاته ولأنه يمتلك روحاً فلسفياً تكون حقيقة طبعة، إن الفلاسفة يوصفون بأنهم مفكرون أو مفكرون ملتزمون، لأنهم يعتزمون التأثير في هذا العالم، ويريدون أن يكونوا حاضرين فيه للحد الأقصى، وأن يعملوا فيه باسم العقل من أجل تحقيق أكبر فائدة لأمثالهم من البشر، ويمتلكون ديناميكية من الطاقة والاعتقاد الراسخ يحركهم ويدفعهم بقوة حسب عبارة (ليستغ) عام/ 1780 (تربية الجنس البشري).
وقد ظهر في الوطن العربي التيار الليبرالي التنويري في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وكان يدعو إلى حرية المرأة ومساواتها بالحقوق والواجبات مع الرجل والتعددية السياسية والحرية الفكرية وحرية الاعتقاد المذهبي والمطالبة بالإصلاح التعليمي والسياسي وإقامة المجتمع المدني وفصل الدين عن الدولة، وقد قام الفكر الليبرالي على أيدي جيلين من المفكرين التنويريين، فالجيل الأول كان يتكون من جمال الدين الأقفاني ومحمد عبده ورشيد رضا وشبلي شميل وعبد الرحمن الكواكبي وفرح أنطون وغيرهم أما الجيل الثاني الذي ظهر في بداية القرن العشرين كان يمثله قاسم أمين ومحمد حسن الزيات والدكتور طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل، وكانوا يطالبون إضافة إلى مطاليب النخبة الأولى بمحاربة السلطات الدكتاتورية والعسكرية والطائفية والعشائرية وتطبيق الاستحقاقات الديمقراطية والتأكيد على العلمانية وفصل الدين عن الدولة وبعد أحداث 11/ أيلول/ 2001 على وجه التحديد الذي يعتبر ذلك التاريخ فاصلاً للتاريخ العربي الإسلامي، كما يعتبر فاصلاً تاريخياً في السياسة الأمريكية الدولية، ظهر جيل جديد من الليبراليين التنويريين في الوطن العربي والذي يعتبر الجيل الثالث من التنويريين أطلق عليهم بـ (الليبراليون الجدد) وكان هؤلاء يعتبرون امتداداً للنخب الليبرالية التنويرية الذين ظهروا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إلا أن الليبراليين الجدد كانوا ينادون بعصر تنوير جديد يعتبر مقدمة فلسفة المستقبل وذلك من خلال كتاباتهم ومواقفهم وندواتهم ومنها عدم الادعاء بالمعرفة المطلقة باعتبار المعرفة بنت الجدل وهي كغيرها من العلوم لا ثابتة ولا مطلقة وإنما نسبية تعتمد على البحث والاستدلال وعلى تحرير النفس العربية من التقاليد والعادات البالية، وخلق شخصية عربية متحررة من الخوف والعنف والذل وجعل الشخصية العربية عقلانية وواقعية ووطنية لا عرقية وتمتاز بالعلمية والاعتماد في حل مشكلة الوطن العربي بالنقد البناء الهادف والشفافية في الحوار.
الليبرالية الاقتصادية
تعتبر الليبرالية أيضاً عقيدة اقتصادية تنتمي إلى السياق التاريخي الأوروبي الحديث وبصفتها هذه فقد هيمنت طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر على الحياة الاقتصادية وتمتاز هذه العقيدة بالمبادئ التالية :-
1- يعتبر رأس المال هو الأساس في التمايزات الاجتماعية.
2- يعتبر استقصاء الربح هو الدافع لصياغة العلاقات الاجتماعية وليست النبالة أو ملكية الأرض.
3- وجود الطبقات في المجتمع هي ظاهرة طبيعية في المجتمعات، لا يمكن إلغاءها.
4- الفرد كيان مستقل بصفته مستهلكاً.
5- تعظيم قدرات الفرد على الاختيار يحقق أكبر المنافع وأفضلها بصفته مستهلكاً.
6- على الحكومة أن لا تتدخل في الشأن الاقتصادي.
7- شعار الليبرالية الاقتصادية المعروف هو (دعه يعمل، دعه يدخل، دعه يمر دعه يخرج).
وبما أن الليبرالية هي عقيدة اقتصادية فهي تعتبر اقتصاد السوق الحر والمبادرة الفردية والتنافس الحر أحد مكوناتها ومستلزماتها ولذلك أصبحت الليبرالية الاقتصادية تتمتع بعدد من الامتيازات هي :
1- تعتبر الفرد أكثر نشاطاً وأوسع عملاً ولذلك يجب أن يتمتع بالحرية المطلقة بالقياس إلى سلطة الدولة، ومن خلال ذلك تعتبر الأفراد أكثر نجاحاً في المجال الاقتصادي من الدولة.
2- من مميزات الليبرالية الاقتصادية قبولها بالتعددية الطبقية في المجتمع وتشجيعها عليها باعتبارها ظاهرة طبيعية في المجتمع.
3- باعتبار الليبرالية تتماشى مع الديمقراطية وتقر بوجود المعارضة، والتناوب على السلطة بالطرق السلمية من خلال مرجعية الشعب في انتخاب الحاكم.
4- يرتبط مفهوم الفكر الليبرالي مع مفهوم وطبيعة الحكومة المقيدة، تلك الحكومة التي يستطيع رعاياها أن يحددوا سلطتها وصلاحياتها، وأن يؤمنوا لأنفسهم مواثيق وقوانين ومؤسسات وأشكالاً من التمثيل وضمن حقوق الأفراد في المجتمع وتحميهم من الاعتداء والتجاوز باعتبار الفرد هو كيان وسيادة، إلا أنه فرد مستهلك ويخضع لسلطة رأس المال.
في القرن التاسع عشر وما بعده استطاعت الطبقة البورجوازية في الدول الأوروبية أن تحسم السلطة السياسية لصالحها وترتد على الليبرالية الاقتصادية على اعتبار أنها عجزت منذ البداية ولم تستطع حل مسألة المساواة، ومسألة العدالة ولم تستطع ضبط مسألة المنافسة مما جعل الطبقة البورجوازية أن تلجأ إلى الدولة للتدخل في الشأن الاقتصادي مما أدى أن يجري التنظير على الضد من الفكر الليبرالي وإلى لجوء الطبقة البورجوازية إلى إعادة تكييف الديمقراطية حسب مفهوم (الكنزية والكنزية الجديدة) ليصبح الفكر الاقتصادي الراهن بمجمله خارج إطار الليبرالية التاريخية التي كانت ذات مفهوم اقتصادي، لذلك تحولت الليبرالية والديمقراطية الليبرالية (قبل أن تتحول في عصر العولمة فلسفة لها) إلى فلسفة للنخبة (الطبقة البورجوازية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين) بصفتها فلسفة سياسية للطبقة البورجوازية والتي جرت تحت رايتها جميع الصراعات والحروب الامبريالية لفتح العالم أمام رأس المال ولإعادة توزيعه وتقسيمه بين الدول الامبريالية لاستغلاله كأسواق للسلع التي تنتجها مصانعها ونهب ثرواتها المكنوزة في أراضيها لاستغلالها كمواد أولية.
إن الديمقراطية لم تصل إلى المستوى الذي هي عليه الآن التي أصبحت من خلالها شكلاً ينسجم مع مصالح وغايات الطبقة البورجوازية في إدارة علاقات السيطرة والاستحواذ إلا من خلال صيرورة طويلة ومعقدة وأصبحت تحوي على أفكار وعناصر غير ديمقراطية في شكلها التنظيمي وفي الممارسة العملية، إلا أن في ظروف مرحلة العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة اتخذت من دمج الديمقراطية التي تعود إلى سياق تاريخي مختلف بصفتها عقيدة سياسية مع الليبرالية بصفتها عقيدة اقتصادية فأصبح لدى العولمة نوع من الفلسفة الاجتماعية والاقتصادية الشاملة، أخذت تعرف باسم (الديمقراطية – الليبرالية).
إن الأوضاع الجديدة لتطور الرأسمالية العالمية التي أصبحت تعرف (بعصر العولمة) يجعلنا نستعرض الفكر الليبرالي منذ ظهوره في أوروبا في القرن السابع عشر على شكل نظريات سياسية على يد توماس هوبز وجون لوك وأصبحت تمثل الاقتصاد السياسي الكلاسيكي على يد آدم سميث، يعاد ظهورها من جديد الآن في شكل ما يسمى بـ (الليبرالية الجديدة) نتيجة للتوسع العالمي لرأس المال الذي أصبح يتخذ صورة (العولمة) بالاعتماد على مجموعة من النظريات والأفكار أدت إلى إعادة إحياء الليبرالية الكلاسيكية بقوة في الوقت الحاضر للاقتصاد السياسي. من خلال هذه العودة لليبرالية الكلاسيكية للرأسمالية تطرح الآن التراث الليبرالي بجناحيه السياسي والاقتصادي من خلال ما تناوله بعض المفكرين ومن أبرزهم فلاسفة مدرسة فرانكفورت وعلى رأسهم بولوك وهوركهايمر وماركيوز، يعتبر هؤلاء الفلاسفة أن رأسمالية الدولة في القرن العشرين لم تعد بنفس بناء وآليات سابقتها في القرن التاسع عشر ولم يعد اقتصاد السوق بشكله البناء التحتي للعلاقات الاجتماعية والتنظيم السياسي ولم يعد النظام يجد مبررات وجوده وشرعيته في آليات السوق وعدالة التبادل بل وحتى في علاقته السياسية بمواطنيه وتوفيره لاحتياجاتهم الأساسية أي في دولة الرفاهية (مجموعة تشريعات للتأمين ضد المرض واعتلال الصحة ثم التأمين ضد البطالة ونظام الرواتب التقاعدية وضمان الشيخوخة جاءت في الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس روزفلت عام/ 1935 نتيجة الكساد الكبير الذي حدث بعد الأزمة العالمية في عام/ 1929 وقد سميت بـ (دولة الرفاه) إن هذه الظاهرة قد ولدت في ألمانيا في عهد الرئيس بسمارك أي قبل ظهورها في أمريكا في القرن التاسع عشر بسبب اليقظة الفكرية للطبقة العاملة التي كان موطنها (كارل ماركس) وخوفاً من الثورة التي كان يدعو لها ماركس (ثورة العمل ضد رأس المال) سعى بسمارك إلى التخفيف من حدة المظالم الأكثر قسوة للرأسمالية فسنت قوانين وتشريعات لصالح الطبقة العاملة ومن ثم في بريطانيا والنمسا والمجر وغيرها من الدول الأوربية) منذ ذلك الوقت أخذت الطبقة البورجوازية تتنازل عن بعض أرباحها وتقدمه إلى الطبقة العاملة كوسائل ترقيدية وتخديرية خوفاً من قيام تلك الطبقة بالثورة ضد رأس المال مما يؤدي إلى القضاء على تلك الطبقة البورجوازية وملكيتها الخاصة فتنازلت عن بعضها حتى لا تفقد كلها، وبذلك تحولت الهيمنة الاقتصادية غير المباشرة إلى هيمنة سياسية مباشرة، وتحول الاستغلال من استغلال متخف وراء ما يسمى بقوانين السوق إلى استغلال واضح وصريح، وكان أبرز مثال عليه هو الأنظمة الفاشية في إيطاليا واليابان في الثلاثينيات من القرن الماضي، بعد أن كان اقتصاد السوق هو الذي يقوم بدور الإيديولوجيا السائدة، أصبحت منظمات ومؤسسات دولة الرفاهية في الدول الرأسمالية هي التي تقوم بهذا الدور من خلال نظامها التعليمي ووسائل الإعلام المختلفة والثقافة، وقد أطلق المفكر (التوسير) على هذه الظاهرة بـ (أجهزة الدولة الإيديولوجية). مع تطور النظام الرأسمالي واستماتته وجشعه وراء الربح أخذ الدور التقليدي للدولة بالاضمحلال والتراجع والانهيار في التشريعات الإنسانية في دولة الرفاهية كانخفاض الأجور وزيادة ساعات العمل وتسريح العمال من العمل وذلك في الاعتماد على السلطة القمعية للدولة البورجوازية، ومن أجل أنانيتها وطمعها وجشعها وراء الربح عادت الرأسمالية إلى تبرير توسعها العالمي باستخدام الإيديولوجيا الليبرالية وأفكارها عن آليات اقتصاد السوق وقوانينه الحتمية وعادت معها جميع الأفكار الليبرالية التقليدية للحياة مثل حربة التجارة والتمسك بالتالي بقوانين صندوق النقد الدولي بالضغط على الدول المستدينة برفع الحماية الجمركية عن السلع المستوردة من الدول الرأسمالية وانسحاب الدول من دعم وحماية صناعتها الوطنية لتخلي المجال لتنافس المستثمرين وآليات اقتصاد السوق. تكشف هذه الظواهر الجديدة أن هناك عودة قوية لتبرير التوسع العالمي للرأسمالية وإلغاء دور الدولة عن طريق الليبرالية الجديدة التي هي إحياء لليبرالية القرن التاسع عشر والتي نقدها كارل ماركس وغيره من رواد الفكر الاجتماعي مثل دوركايم وفيلن. تتصف الرأسمالية الليبرالية بوجود مجتمع مدني واقتصاد سوق مستقلين عن الدولة والسياسة، ومع وجود اقتصاد سوق ذاتي التسيير مما يجعل النظام ليس في حاجة إلى إيديولوجيا دينية أو أسلوب في إضفاء الشرعية بحيث تعتمد على القيم والمعايير والأفكار الدينية والميتافيزيقية، بل يصبح في حاجة إلى مجرد أخلاق نفعية ذاتية ومعايير فردية. فالنظام في المجتمع الليبرالي لا يستمد شرعيته من مصدر إلهي أو ديني، بل يستمدها من داخله لأنه يعتمد على آليات السوق وقوانينه الاقتصادية التي تضمن التبادل العادل، ومن خلال هذه الآليات والقوانين يعتقد الفكر الليبرالي أن العدالة والحرية والمساواة ستتحقق تلقائياً.
قدمت الليبرالية تعريفات للفرد والحرية والمساواة، إلا أن الحقيقة لم تثبت ذلك، لأن تلك التعريفات لم تكن سوى انعكاساً لاقتصاد السوق الرأسمالي فالفرد يعتبر هو الإنسان الذي يتمتع بحرية إقامة علاقات مع غيره من الأفراد في المجتمع ويدخل معهم في تعاقدات، أما الحرية فهي حرية الإنسان في أن يبيع عمله ونتاج عمله، وحرية البائع والشاري في الدخول في تعاقدات يضعون شروطها بأنفسهم ومن خلالهم خارج تدخل الدولة في هذه العمليات ومن خلال ترك آليات السوق هي التي تقرر لأنها تعمل بحرية خارج تدخل الدولة أيضاً. أما المساواة أو العدالة فتتحققان من خلال توازن المصالح والمنافسة الحرة في السوق، وقد انتقد كارل ماركس هذه الظاهرة على اعتبار أن جميع هذه الحقوق تختزل في حق الملكية الخاصة للرأسمالي، فالحرية هي حرية الرأسمالي في التملك والمساواة هي إطلاق حرية الأفراد بشكل متساوي في سعيهم نحو التملك من خلال المنافسة، والأمن هو المناخ الذي يضمن للفرد حمايته لملكيته الخاصة والحصول على المزيد منها عن طريق الأرباح وتراكم رأس المال.
اختلف كثير من المفكرين في بداية عصر رأسمالية الدولة الذي استمر فترة طويلة في القرن العشرين، فالبعض يعزوها إلى بداية الحرب العالمية الأولى، والبعض الآخر يعزيها من بداية الحرب العالمية الثانية، واستمرت حتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وتفسير ذلك يأتي الانعطاف الكبير الذي اتخذته الرأسمالية العالمية من حيث تكوين الكارتلات الكبرى من خلال دمج الشركات بعضها مع بعض وتكوين طابع الاحتكار الموسع واتحاد رأس المال الصناعي مع الرأسمالي المصرفي الذي أسس البيوتات المالية الكبيرة فجعل من الرأسمالية ذات طابع مختلف ومن خلال هذا التفسير اعتبر البعض من المفكرين إن عصر رأسمالية الدولة والديمقراطية والاشتراكية انتهى منذ عقود السبعينيات من القرن الماضي وظهور الأفكار الليبرالية التقليدية في صورة ما يعرف بـ (الليبرالية الجديدة) التي بدأ ظهورها في العقد السبعين من القرن الماضي في الدول الأوروبية الغربية الرأسمالية وانتقلت إلى العالم الثالث منذ أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، وتعتبر هذه الظاهرة البداية لشكل جديد من الإيديولوجية المدعومة والمبررة للتوسع العالمي للرأسمالية وأصبح هذا الطابع الجديد يطلق عليه (مرحلة العولمة).
يجمع كثير من المفكرين على أن أسباب هذا التحول والدوافع إلى بروز ظاهرة العولمة بسبب وصول مرحلة الرأسمالية إلى مستوى الجمود وعدم الحركة والتقدم والتطور أي بقيت تراوح في مكانها وهذه الظاهرة تؤدي إلى نهايتها وفنائها حسب قانون الحركة والتطور والتغير الذي هو قانون الحياة الذي يعتبر أن أي شيء في الوجود سواء كانت مادة جامدة أو حية تولد ثم تنمو وتترعرع ثم تأخذ بالنزول وتركب راحلتها في رحلتها الأخيرة إلى القبر (لها أكسباير ثابت) إن تلك الظاهرة كالماء الراكد الثابت أي عديم الحركة يتغير لونه وتكثر فيه الطحالب والحشرات وتصبح رائحته كريهة وطعمه ممجوجاً غير صالح للاستعمال بعكس الماء الدائم الحركة يصبح عذب الطعم والمذاق وصالحاً للاستعمال.
والآن نطرح ما أجمع عليه بعض المفكرين من أسباب وعوامل هذا التحول والتغير تتمثل في الأزمات العديدة والدورية في الإنتاج وكساد البضاعة والأزمات الأخرى في النظام الرأسمالي التي تعتبر دورية ومن طبيعة هذا النظام المتفسخ التي أدت إلى فشل مشروع دولة الرفاه الذي كان يهدف إلى ترقيد وتخدير جميع الكادحين والمسحوقين والمظلومين والجياع، فقد كان البرنامج الأصلي لدولة الرفاه يتمثل في إمكانية تحقيق التوظيف الكامل والقضاء على مشكلة البطالة نهائياً وهنا مداخلة أخرى أود أن أطرحها حول البطالة، إن البطالة ظاهرة تفرزها طبيعة النظام الرأسمالي الذي يقوم على الملكية الخاصة التي تفرز فائض القيمة (الربح) التي يعتبره الرأسمالي هو الحياة وهو السعادة وهو الجاه وهو السلطة في الحياة فبدون الربح يعني الموت للرأسمالي، وحينما تنخفض الأرباح نتيجة تكدس البضاعة أو مزاحمتها من قبل سلع أخرى أو عدم تواجد أسواق لتصريفها فإن الرأسمالي يسرح بعض العمال ويخفض أجور البعض الآخر ويزيد ساعات العمل وغيرها من الوسائل التي تجعل العامل مستعبداً لرأس المال، وبما أن الدولة هي صنيعة وخادمة للطبقة السائدة في المجتمع (البورجوازية) أي عميلة لرأس المال فإنها تسعى عن طريق الحروب التي تدمر الإنسان والعمران لإيجاد أسواق جديدة في الدول التي يستعمرها رأس المال عن طريق الدولة وتخلق له قنوات جديدة للاستثمار وفرصاً جديدة للربح.
استطاعت الدولة البورجوازية أن تقدم الكثير من الخدمات لطبقتها ولفترة طويلة، إلا أن المشاكل والأزمات والكساد وعدم إيجاد لرأس المال فرصاً جديدة للاستثمار ومن ناحية أخرى ازدياد حجم وتعقد ماكنة الدولة البيروقراطية حتى أصبحت تمثل عبئاً كبيراً على رأس المال الذي كان من المفترض أن تخدمه تلك الدولة، إن هذه الظاهرة برزت في العقد السابع من القرن الماضي وإنها تعتبر طبيعية في النظام الرأسمالي حينما نقارنها مع العقود ما قبل العقد السابع نجد أن الدولة البورجوازية قدمت خدمات كبيرة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية لرأس المال حينما جندت ماكنتها في حربين عالميتين وسلسلة من الحروب الصغيرة في كوريا وفيتنام والجزائر والعدوان الثلاثي على مصر حيث شكلت هذه الحروب مناخاً مناسباً لازدهار رأس المال من خلال الإنتاج الحربي، وانصراف أعداد كبيرة من المواطنين في تلك الدول الرأسمالية إلى التجنيد الذي كان علاجاً لمشكلة البطالة.
وفي العقد السابع كما بينا بدأت الأزمات تظهر في الدول الرأسمالية فظهر خطاب الليبرالية الجديدة الذي يتمثل في العودة لاقتصاد السوق وتركه يعمل بحرية وبعيداً عن تدخل الدولة هو العلاج لتلك الأزمات والكساد، إضافة إلى التخلص من العبء الثقيل للدولة البورجوازية وأجهزتها البيروقراطية التي تعتبر أيضاً من أسباب قيام الأزمة في النظام الرأسمالي، كما أدى ظهور الليبرالية الجديدة والاعتماد على اقتصاد السوق الحر إلى تخلي رأس المال عن جميع التزاماته السابقة (لدولة الرفاه) مثل الرعاية الاجتماعية والتأمين وإعانة البطالة التي أدت إلى تضخم أجهزة الدولة ودينها الوطني، ومع عودة الليبرالية الجديدة عاد مبدأ حرية المنافسة إلى الظهور، كما عادت الأفكار القديمة عن التوازن التلقائي للمصالح حسب مفهوم قوانين السوق في العرض والطلب، كما عادت الحرية المطلقة في الحركة وتنقل السلع والبضائع والأفراد حسب قاعدة (دعه يعمل، دعه يدخل، دعه يخرج)، وقد أدت هذه الظاهرة لليبرالية الجديدة إلى ولادة عملية الخصخصة، أي في بيع الكثير من المشروعات التابعة للدولة إلى أفراد من المجتمع. ففي بريطانيا بدأت هذه الظاهرة في عهد رئيسة الوزراء (مارجريت تاتشر) التي كانت تلقب بـ (المرأة الحديدية) في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، كما ظهرت هذه الظاهرة في الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس (رونالد ريغان) في أوائل الثمانينيات مما أدى إلى انتشار هذه الظاهرة فشملت جميع الدول الرأسمالية. أما دول العالم الثالث فقد أعدت لها الليبرالية الجديدة برنامجاً مدمراً وكارثياً عن طريق إيجاد حلول للمشاكل الرئيسية التي تواجه الدول الرأسمالية المتمثلة بالزيادة الكبيرة في حجم رؤوس الأموال غير الموظفة، وفرط الإنتاج من السلع والحاجيات في المصانع الرأسمالية وضعف الطلب عليها، كانت الحلول لهذه المشاكل جاءت عن طريق صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمؤسسات المالية التابعة للرأسمالية العالمية على الشكل التالي (انتقال رؤوس الأموال الكبيرة وغير الموظفة في الدول الرأسمالية والفائضة عن حاجتها إلى دول العالم الثالث على شكل استثمارات أو قروض على شرط أن تبيع تلك الدول في العالم الثالث ممتلكاتها من المؤسسات والمصانع وغيرها (أي القيام بعملية الخصخصة) وعلاج مشكلة الديون المترتبة عليها، ولمعالجة فرط الإنتاج والسلع في المصانع الرأسمالية وضعف الطلب عليها مما أدى إلى كسادها وخسارتها وهذه الظاهرة تؤدي إلى غلق المصانع وتسريح عمالها وموظفيها مما يؤدي إلى قيام حركة ثورية تطيح بالنظام الرأسمالي، ومن أجل معالجة هذه الظاهرة الخطيرة وحسب مفهوم الحرية المطلقة في الليبرالية الجديدة من حيث (دعه يعمل، دعه يدخل، دعه يخرج) فرضت المؤسسات المرتبطة بالرأسمال العالمي شروطاً على دول العالم الثالث وهي (رفع دعم الدول للرأسمال الوطني وإلغاء الضرائب والرسوم على السلع والبضائع المستوردة وترك كل شيء إلى اقتصاد السوق هو الذي يحدد العرض والطلب للسلع والحاجيات، وبما أن السلع والحاجيات المنتجة من قبل الصناعة الوطنية لا تستطيع مزاحمة السلع والبضائع المستوردة من حيث السعر والنوعية مما أدى إلى كساد الصناعة الوطنية وانسحابها من السوق وبالتالي غلق المصانع المنتجة لهذه السلع والبضائع الوطنية، أما رأس المال الوطني فأصبح أمام حالتين إما أن يصبح مخزوناً لمعيشة صاحبها وسد رمق عوائلهم وعند نفادها يصبح أصحابها في عداد الشغيلة والعوز والحاجة، والحالة الثانية يرحل رأس المال من وطنه إلى أرض الله الواسعة، كما تؤدي حالة إغلاق المصانع الوطنية إلى رمي عمالة وفنية إلى ساحة البطالة ليضافوا إلى الأعداد الكبيرة من الخريجين وغيرهم).
كما سيتم تطبيق واستخدام الإيديولوجية الليبرالية الجديدة بنفس شروط واستخدام ليبرالية القرن التاسع عشر، حيث قامت تلك الليبرالية بالتخلص من القيود الدينية والإقطاعية والأرستقراطية على رأس المال في ذلك الوقت وكذلك من قيود الدولة التي كانت انعكاساً للطبقة البورجوازية أيضاً، والآن في القرن الواحد والعشرين (التاريخ يعيد نفسه) تطبق وتستخدم نفس المبادئ الليبرالية لتحقيق نفس الأهداف، أي التخلص وإزاحة كل ما يقف أمام حادلة الموت والكارثة والدمار (رأس المال العالمي) كالدولة القومية والخصوصية الثقافية وقيم ومعايير وطنية وإنسانية وذلك لأن الإيديولوجية الليبرالية تمتاز بطابع تصادمي مع النظم والتقاليد التي تريد أن تحل محلها تحت عباءة العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة.
الديمقراطية وتطورها
تعتبر الديمقراطية من أقدم الأفكار السياسية حيث تزامن وجودها مع وجود الإنسان وتكون المجتمعات البشرية، بعد أن كان الجد الأول للإنسان يعيش في الأدغال ويأكل من صيد الحيوانات ويسكن المغاور ويتكلم بنبرات صوتية ثم دفعته الحاجة إلى الاشتراك مع أبناء جنسه كي يشبع رغباته وشهواته ثم دفعه إدراكه الفطري على أنه لن ينال ما يشبع به هذه الشهوات والرغبات إلا إذا سعى للحصول عليها، فتكونت المجتمعات وتكونت معها مجموعات من أصحاب المعرفة في تنظيم وإنجاز عمل وحياة أبناء تلك المجتمعات كما جاء ذلك في كتاب (معنى الديمقراطية) للكاتب روبرت ايه. دال، ثم تطورت الديمقراطية مع تطور الإنسان والمجتمع حسب النظام الاجتماعي السائد في كل مرحلة، وكان أبرزها ما شاع في دولة- المدن في العصر الروماني والإغريقي في القرن الخامس قبل الميلاد إلى أن زالت دولة- المدنية بفعل قيام الدولة القومية وانتقل النظام الديمقراطي بمفهوم جديد إلى مجال الدولة القومية الأكثر سعة وتقدماً وتطوراً وقد أدى هذا التحول إلى بروز مؤسسات سياسية جديدة وأصبحت تمتاز بمنهج وأسلوب عمل ومنظومة أفكار وآليات ومؤسسات متعددة في أشكالها ومتوحدة في جوهرها، كما جاء في كتاب (الديمقراطية ونقادها) للكاتب روبرت ايه. دال أيضاً.
لقد كان مفهوم الديمقراطية محدوداً ومحصوراً في الطبقة الاجتماعية السائدة وأنصارها وسلطتها إلا أن المجتمعات المتقدمة لم تصل إلى ما تنعم به الآن من إطلاق الحريات الشخصية وفك أسرها وانطلاقها من محدودية الديمقراطية وحصرها بفئات معينة أو مصالح ذاتية إلا بعد الثقافة الواسعة والوعي الفكري الخلاق الذي أطلق العنان للأفكار التقدمية المتنورة والمتحررة بعد عصر النهضة الأوربية، حيث كانت البداية من الفيلسوف الانكليزي (توماس هوبز) الذي كان يعتبر الإنسان ذئباً ضد أخيه الإنسان لأنه يندفع ويتصارع في الحياة من أجل تحقيق مصالحه الأنانية الشخصية المتضاربة مع مصالح الآخرين وكان يعزو سبب ذلك إلى الملكية وكان يعتبر الملك وحده الذي يملك السلطة والمالك وحده يستطيع أن يحقق العدل والأمان ويستطيع أيضاً بالظلم والاضطهاد والحرمان وقد استمرت هذه الفكرة حتى قيام الثورة الفرنسية حيث حدث تطور تاريخي كبير على يد الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الذي انتقد الفيلسوف الانكليزي (هوبز) وفند فكرته وجاء برأي جديد معتبراً أن الإنسان طيب بطبيعته لكن المجتمع هو الذي يدفعه إلى الفساد ولذلك يجب إصلاح المجتمع وديمقراطيته، ومن خلال هذا الصراع الفكري من أجل الإنسان وحقوقه وحريته، تعالت دعوات وأفكار متعددة تؤكد على الحريات الشخصية وتغلبها على السلطات الدكتاتورية التي يتبعها الحكام الجبابرة والطغاة، فكانت فكرة المفكر الفرنسي (مونتسكيو) الأهم والأشمل والأعمق وهي فصل السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) بعضها عن بعض وتبلورت أفكار واجتهادات تعطي الأولوية لحماية الفرد وحريته مما يحقق الحماية للإنسان من استغلال السلطة ودكتاتوريتها.
بعد التطور الفكري في إيجاد السبل المناسبة والصحيحة لحماية الإنسان وحريته من الظلم الاجتماعي والاستغلال الطبقي، انقسم المفكرون السياسيون إلى فريقين أساسيين فريق اليمين الذي يعبر عن مصالح الطبقة البورجوازية الرأسمالية والداعي إلى الحرية الاقتصادية وإبراز الهوية الوطنية والدفاع عنها باعتبارها تمثل البلد وتدافع عن مصالحه، ومن جهة أخرى ظهر فريق مضاد للفريق الأول وهو فريق اليسار الداعي إلى العدالة الاجتماعية والوقوف ضد جشع وجنوح الطبقة البورجوازية الرأسمالية والتأكيد وترسيخ نزعة الروح الإنسانية في الإنسان ضد استغلال وحرمان واضطهاد أخيه الإنسان والقضاء على النزعة الشوفينية القومية المتعصبة، ونتيجة لصراع الفريقين برز مفهوم (المجتمع المدني) وأصبح يتكون من منظومة واسعة من الاتحادات العمالية والمنظمات الجماهيرية غير الحكومية والمجموعات الإنسانية القائمة على الأديان والمؤسسات، حتى أصبح هذا التجمع قوياً وجماهيرياً بحيث أصبح ينافس الأحزاب السياسية ويتفوق عليها، وقد توسع هذا المجتمع وأصبحت منظماته تمتد إلى جميع أنحاء العالم وأصبحت تنظيماته تمتاز بصوت وموقع مؤثر وفعال في المنظمات الدولية بعد أن شاع نشاطها في جميع دول العالم ولعب دور الوساطة بين الدولة والمجتمع وتعميق دور الديمقراطية في سلطة الحكم وأصبحت حرية وكرامة الإنسان مصانة ومحترمة ونتيجة توسع مؤسسات الثقافة وتطور الوعي الفكري سادت حرية الرأي والرأي الآخر وقاعدة الحوار الفكري الهادف والبناء وأصبح صندوق الاقتراع هو الفاصل في الخصومات السياسية واختلاف الرأي والصعود السلمي للسلطة، وأصبح كل إنسان في المجتمع يجلس مع إنسان يختلف معه بالرأي ويتحاور ويتناقش معه بشفافية واحترام وتقدير لأنه يحمل الفكر الخلاق وإن اختلف معه في الرأي والاجتهاد لأن الثقافة والوعي الفكري خلقت عنده مبدأ النسبية وليس الجمود والثبات والمطلق اعتماداً على جدلية الفكر من حيث الزمان والمكان والفردانية الشخصية، كما أصبحت الدساتير والقوانين من صنع البشر حسب مصلحة الشعب وسعادته ومستقبله، ولم يعد القانون من عمل أفكار مقدسة ومطاعة لا يحق للإنسان الشك بها والتدخل فيها وإبداء الرأي بفقراتها أو الاعتراض عليها، وأصبح الدستور وقوانينه يتطور ويتقدم مع تطور وتقدم الإنسان من حيث الزمان والمكان ويمتلك حقوقاً وعليه واجبات كما يفرض على الشعب مثل هذه الالتزامات ثم برزت نتيجة الثقافة الواسعة والمعرفة المتنورة والوعي الفكري الخلاق ظاهرة العلمانية التي هي فصل الدين عن الدولة، لأن الدولة التي تتكون من السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية تحكم الشعب وإن الشعب أوسع من الطائفة وأكبر من القومية وهذا الشعب لم يكن موحداً عبر التاريخ وإنما متكون من مذاهب وأطياف واثنيات مختلفة، ولذلك يجب على الدولة أن تكون محايدة مذهبياً وطائفياً واثنياً وقومياً، ويجب عليها الفصل بين جميع المكونات الاجتماعية ومن مهماتها وواجباتها تطبيق قاعدة التعايش السلمي والتوافق والتآخي والمحبة والاحترام بين جميع مكونات المجتمع، وإذا ما أصبحت الدولة طائفية ومذهبية أو اثنية فهذا يعني انحيازها إلى أحد مكونات المجتمع بينما المجتمع يتكون من مذاهب وطوائف مختلفة، مما يؤدي ذلك الانحياز إلى الكراهية والحساسية وصراع وتنازع، ولذلك فإن الحل الصحيح والتاريخي لهذه الظاهرة هو علمانية الدولة بمعنى حيادها بين المذاهب والطوائف وعند ذلك تصبح الدولة محترمة ومحبوبة ومطاعة بين جميع أبناء المجتمع.
ومع تقدم وتطور المجتمع أفرزت هذه الظاهرة مفاهيم جديدة في الرؤيا والاجتهاد حول مفهوم الديمقراطية فظهرت الديمقراطية الاشتراكية والديمقراطية البورجوازية وفلسفة الديمقراطية الليبرالية.
1- الديمقراطية الاشتراكية : تنطلق من أفكار تدعو إلى تطبيق مبادئ إنسانية عادلة في المجتمع وإلى العيش والحياة بموجب هذه المبادئ وتوحيد مسؤولية الفرد بالمجتمع، ومسؤولية المجتمع بالفرد، باعتبار الفرد هو منتج الثروة المادية والمعنوية برمتها، وبذلك فتحت هذه الظاهرة من الجهد والعمل الإنساني معيناً لا ينضب للطاقة والمبادرات الخلاقة وعززت سمعة وكرامة الإنسان، وكذلك تعمل الديمقراطية الاشتراكية على مضاعفة مسؤولية الفرد تجاه المجتمع والدولة والمؤسسات الاجتماعية، من أجل أن يصبح الإنسان منتجاً للثروة المادية والمعنوية ويلعب دوراً فعالاً في حياة البلاد السياسية، ويدرك مسؤوليته الشخصية تجاه القضية المشتركة للمجتمع ويعي واجباته المدنية تجاه وطنه وحريته وسعادة شعبه ورفاهيته.
2- الديمقراطية البورجوازية : تعتبر الديمقراطية البورجوازية انعكاساً وتثبيتاً لعلاقات السيطرة وتقسيم المجتمع إلى طبقات متخاصمة وبذلك تصبح هذه الديمقراطية أداة لتسلط الطبقة البورجوازية وتخدم مصالحها الفردية الأنانية والمستغلة للإنسان الذي يقف وراء ذلك رأس المال والملكية الخاصة لتلك الطبقات ومن خلال ذلك تعتبر تلك الديمقراطية أسلوباً لتضليل وترقيد وتخدير الشعب حتى تحافظ على مصالحها الجشعة والأنانية، ولكن حالما تحاول جماهير الشعب استغلال المؤسسات والحريات الديمقراطية لمصالحها المشروعة تقوم الطبقة البورجوازية بالتنكر وإدارة ظهرها للديمقراطية وتبدأ بشن حملة شعواء بمهاجمة الديمقراطية وتدفعها مصالحها بالتحالف مع العناصر الرجعية وانتهاك القوانين وتزوير الانتخابات وتشجيع نشاط المنظمات الفاشية والعنصرية والرجعية داخل الوطن وتفعل المستحيل من أجل عدم المساس بمصالحها ومكاسبها.
3- الديمقراطية الليبرالية : لقد تم تحويل الليبرالية إلى عقيدة سياسية وفلسفية من خلال دمجها بالديمقراطية الذي يعود عهدها إلى سياق تاريخي، ومن خلال تزاوج الديمقراطية بصفتها عقيدة سياسية بالليبرالية بصفتها اقتصادية أصبح لدى النظام الرأسمالي نوعاً من الفلسفة الاجتماعية والاقتصادية الشاملة أخذت تعرف بالديمقراطية – الليبرالية.
لقد أخذت العقيدة الجديدة من الديمقراطية مفهوم الحق في الانتخاب ومفهوم المساواة ومفهوم مرجعية الشعب، وأخذت من الليبرالية الاقتصادية مفهوم الفردانية الاقتصادية بعد نقلها من الحقل الاقتصادي الاستهلاكي إلى المجتمع لتأخذ شكل فردانية اجتماعية، ومفهوم حق الاختيار ذي الطابع الاقتصادي الاستهلاكي لتحوله إلى حق الاختيار السياسي، ومفهوم التعددية السلعية لتحوله إلى تعددية سياسية. وقد اتخذ نظام العولمة فلسفة الديمقراطية الليبرالية شعاراً له.
4- ديمقراطية اقتصاد السوق : كما أن الديمقراطية تمتاز بمجموعة من الأسس والضوابط تفرض وتجعل قيم المساواة السياسية ملكاً بين جميع أبناء الشعب بينما في اقتصاد السوق تكون المشروعات الاقتصادية مع جميع مكوناتها مملوكة أساساً للقطاع الخاص أي فئة قليلة من أبناء الشعب وهذا يعني أن هنالك تناقض بين الديمقراطية واقتصاد رأسمالية السوق مما يولد بالضرورة عدم المساواة في الموارد الاقتصادية المتاحة لجميع أبناء الشعب، ومن خلال ذلك فإن اقتصاد رأسمالية السوق ينال بشدة من المساواة السياسية التي تفرضها وتقرها الديمقراطية السياسية وهذا يعزز ظاهرة عدم المساواة اقتصادياً تفرض ظاهرة عدم المساواة سياسياً أيضاً، ومن خلال ذلك نستنتج أنه في الدولة التي تتخذ من اقتصادية رأسمالية السوق سلوكاً ومنهجاً لها لا يمكن لها أن تحقق المساواة الكاملة بين أبناء الشعب التي تفرضها وتقرها الديمقراطية ومن هذا يتبين لنا أن التناقض يخترق العدالة والمساواة بين الديمقراطية ورأسمالية السوق وإذا كان ولابد من فرض النظام الاقتصادي لرأسمال السوق المتمثل بالعولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة يجب أن نطبق الديمقراطية الصحيحة والواسعة لجماهير الشعب لأن الديمقراطية الصحيحة من شأنها أن تفسح المجال لجماهير الشعب في اتخاذ القرارات الخاصة بتوزيع عوائد النفط بشكل عادل على جميع محافظات القطر حسب مساحة الأرض وعدد السكان وطبيعتها الإنتاجية للمواد الأولية المتوفرة في أرضها أو زراعتها على أساس التكامل الاقتصادي والاكتفاء الذاتي التي تدخل في التنمية الاقتصادية ولضمان رفع مستوى المعيشة للمواطنين كما يجب تحديد الحد الأدنى للرواتب والأجور واتخاذ القرارات المناسبة في نمط الإنتاج والاستهلاك وتنظيم فرص العمل للمواطنين وضمان الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية وإقامة أجهزة تخطيط وإحصاء ومتابعة في كل محافظة واختيار المصانع والمعامل حسب المواد الأولية والأيدي العاملة المتوفرة في كل محافظة. ومن دون تدخل الديمقراطية الصحيحة وتطبيقها بشكل عملي من قبل جماهير الشعب الواسعة فإن ذلك يجعلنا نعيش في دولة ريعية تعتمد على البترول مما يؤدي إلى ظهور الاستهلاك الترفي للفئات من البورجوازية الطفيلية المرتبطة بالرأسمال الأجنبي الذي يجعل من العراق سوقاً لتصريف ما تنتجه مصانعها من سلع وحاجيات وكذلك الفئات والقوى المسيطرة سياسياً مما يؤدي إلى تفاقم أزمات البطالة والسكن والخدمات والمواد الغذائية وغيرها ويكون تبعة ذلك ما تفرزه هذه الظاهرة من فقر ومرض وأمية.
الديمقراطية وحقوق الإنسان
الديمقراطية مجموعة نظم ومؤسسات ومناهج، تطورت هذه الأسس السياسية للديمقراطية وتأثيراتها على التطور الاجتماعي، وأصبحت مكوناتها الأساسية حرية الرأي والتعبير والتعددية الحزبية وحرية التنظيم السياسي النقابي والاجتماعي والثقافي وحرية الاجتماع وحرية المرأة ومساواتها بالحقوق والواجبات مع الرجل.
إن كل ما تقدم يقع ضمن حقوق الإنسان المنصوص عليها في إعلان الأمم المتحدة الصادر بتاريخ 10/12/1948. والمواثيق الدولية الصادرة عام 1966 الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية وإقامة دولة القانون ومؤسساتها المنبثقة عن إرادة الشعب بالانتخابات الحرة والنزيهة الدورية ومراقبة تنفيذ ذلك من قبل المجتمع الدولي عبر الأمم المتحدة ومؤسساتها حسب ما جاء في قرارها الصادر بتاريخ 23/3/1976، كما نص إعلان الأمم المتحدة في 10/12/1948 والمؤلف من ديباجة وثلاثين مادة، من المادة الثالثة حتى المادة الحادية والعشرين تتعلق بالحقوق المدنية والسياسية، ومن المادة الثانية والعشرين وحتى المادة السابعة والعشرين تتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إن الديمقراطية لا تعني الحقوق الإنسانية والسياسية للحرية فقط وإنما تعني أكثر من ذلك بكثير، لأنها تشمل تنظيم المؤسسات والمقاييس الضرورية لتأكيد الحقوق التي تنطوي على التقييدات كذلك، إن الديمقراطية تعتبر مقولة أكثر شمولية من الحرية بالمعنى السياسي لأنها ميدان سياسي محدد للنشاط يمكن توسيعه أو تصنيفه تناضل مختلف طبقات المجتمع من أجل توسيعه أو تقييد الإجراءات اللاديمقراطية اليومية التي تمارس ضدها.
في عام 1920 قال المفكر أوتوباور (إن الديمقراطية شكل للدولة ويجري تقرير وتوزيع السلطة في الدولة حصراً بالعوامل الاجتماعية للقوى بشكل ديمقراطي وليس بالقوة وقد حدد العوامل الاجتماعية بما يلي 1) عدد الأعضاء 2) مستوى التنظيم 3) الموقع في الإنتاج والتوزيع 4) النشاط 5) التعليم.
تعتبر الديمقراطية أن أهم مقومات انبعاث المجتمع المدني هو الفصل بين الدولة والمجتمع وكذلك دمقرطة أجهزة الدولة وسلطاتها كي تضمن عدم تحول التعددية الضرورية للديمقراطية إلى تفكيك مكونات المجتمع، فالهدف هو تمتين وحدة المجتمع على أسس ديمقراطية وذلك من أجل عدم إفساح المجال فيها للدكتاتورية ومتاهة اللاسلطات أو فوضى واقعية اللادولة. كل ذلك تشترطه ديمقراطية هياكل الدولة ومؤسساتها وبنيان المجتمع المدني في آن واحد وضمن ميثاق عهد وطني يقر بالديمقراطية والدفاع عن مؤسساتها ومكوناتها وكذلك الدفاع عن الحريات الديمقراطية والوقوف ضد غياب المؤسسات الدستورية وطابع تمذهب الدولة وتهميش وتجريد مشاركة المواطن الإيجابية في الحياة الاجتماعية السياسية، وبما أن الديمقراطية تعني كيف نتفاهم مع إنسان نختلف معه لذلك يجب اعتماد مبدأ الحوار والمصالحة والشفافية والتطور السليم الواعي والمدرك لنبذ الخلافات وحلها بالتسوية والتفاهم والشفافية بما ينسجم مع مصلحة الوطن وسعادة الشعب ومستقبله المشرق السعيد.
وإن الديمقراطية تعتبر طريقة أسلوب إجراء الانتخابات عماد طابع السلطات لأن نزاهتها وعدالتها وصحتها هي انعكاس عن رأي وحرية المواطن واختياره للرجل المناسب في المكان المناسب ولذلك تعتبر الديمقراطية الصحيحة والتمسك بضوابطها يؤدي إلى ترسيخ الاستقرار السياسي والاجتماعي ويعزز الثقة والاطمئنان في نفوس أبناء الشعب.
إن التحول الديمقراطي ليس سوق منافسة سياسية وأمراً بعيد المنال عن الحياة للفرد والمجتمع لأن الممارسة الديمقراطية تعتبر عملية نقدية الطابع الجدلي لأنها قائمة ومتواصلة مع الحوار والعمل ومن خلالها يبدأ صنع التاريخ من النشاط الإنساني في الأعمال اليومية المتواضعة.
إن أهم أساس في بنيان المجتمع المدني هو القانون أو السلطات القضائية أو دولة ومؤسسات وسلطة القانون، فالمعايير القانونية تعتبر صمام الأمان للحرية والتعددية السياسية والفكرية والحزبية والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع وآليات النظام السياسي الشرعية وبضمان الدستور.
إن الإقرار بالديمقراطية في المواثيق والبرامج بالتحالفات السياسية لا يكفي وإنما يجب ترجمة مفاهيم الديمقراطية من خلال تجسيد ذلك في الصحافة والتعبير واحترام الرأي الآخر في الممارسات اليومية وعلاقات القوى السياسية بعضها مع بعض وتطور مختلف أشكال العمل المشترك الذي يلتقي فيه منتسبو هذه المنظمات والأحزاب.
ومن الأسس والمفاهيم الأخرى ممارسة وتطبيق الأسلوب الديمقراطي في حل القضايا المعقدة اليومية وربط وتحديث الوعي الاجتماعي بالوعي العقلاني العلمي القادر على مجابهة جميع التحديات ومضاعفة الوسائل العصرية التي تسهم في تحريك القناعات والقيم والمثل والمشاعر لدى أبناء الشعب في اتجاهات التطور الديمقراطي والربط السليم بين الديمقراطية السياسية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، لأن التنمية الاجتماعية والاقتصادية لا معنى لها إذا كانت تصب في النهاية في مجتمع تخيم عليه الأمية والجهل والمرض ويسوده الاستغلال والظلم الاجتماعي.
إن المجتمع المدني ومؤسساته ومنظماته وحدها تضمن رعاية الدولة وحمايتها من الانحراف والجمود. وما عدا ذلك لا نلمس دوراً فعالاً للحقوق المدنية السياسية أو تأثيرات في تأمين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنمية البشرية لأن التقدم الاجتماعي والثقافي والسياسي والتنمية يجب أن تقوم جميعها على أساس من القيم التي ترتبط بالكرامة الإنسانية، وأن يؤدي إلى مزيد من احترام حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وتسهم بشكل فعال في ترسيخ المجتمع المدني وفي إرساء الأسس الاجتماعية والحضارية والاهتمام بالتصنيع حسب توفر المواد الأولية والأيدي العاملة في محافظات العراق مما يؤدي إلى الاكتفاء الذاتي وعدم جعل الشعب العراقي مستهلكاً ترفياً يعتمد على الريع النفطي وما يستورده من الدول الأخرى يتضح من خلال الموضوع بجلاء أن الديمقراطية الصحيحة معادلة إنسانية لها طرفان لا يمكن تحقيقها إلا بهما معاً، حرية اجتماعية سياسية عبر مؤسسات مجتمع مدني حقيقي يمتاز بمستوى لائق من العدالة الاجتماعية لقطاعات وطبقات المجتمع العراقي كافة يفسح المجال من خلاله بظهور ودعم المبادرات الفردية والجماعية المبدعة في المجالات كافة، كما تتجسد الديمقراطية الصحيحة والحقيقية في نهوض المجتمع المدني بأنظمته ومؤسساته التي تحترم حق المواطن ككائن في حرية القول والرأي. وحينما ندعو إلى توافق المجتمع مع المجتمع السياسي عبر الدولة ومؤسساتها توافقاً يصب في مصلحة الشعب وتقدمه وتطوره، وليس يعني دمج المجتمع المدني بالدولة تهميشاً له وإنكاراً لحقوقه وإنما يجب أن يكون الانسجام والتوافق يجسد حالة وحواراً نقدياً هادفاً وبناء بينهما من أجل مصلحة المجتمع الواحد بشقيه المدني والسياسي، وهذه الظاهرة الصحيحة تستدعي مشروعية التعددية والاختلاف في المواقف والآراء عن طريق تكوين الأحزاب السياسية والجمعيات والمنابر الإعلامية والصحفية والمؤسسات التمثيلية التي يشكل البرلمان ذروتها عبر الانتخابات الحرة والنزيهة.
الولايات المتحدة الأمريكية والعالم
إن أية ظاهرة في الوجود لابد أن تكمن وراء ظهورها عوامل وأسباب تمكنها من الظهور وإن هذه العوامل والأسباب تعتبر المنبع والروافد التي تصب في تلك الظاهرة وتساعدها على النشوء والنمو والتطور والديمومة والاستمرارية في الحياة. وحينما نستعرض ظاهرة الولايات المتحدة الأمريكية وسيادتها للعالم، فلابد أن نستعرض الأسباب والعوامل التي جعلت منها سيدة العالم ذات القطب الأوحد :
1- وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بعد الحرب العالمية الثانية، الوحيدة على قمة بنية القوة العالمية، حيث كانت الدولة الوحيدة من كلا جانبي القوى المتحاربة التي لم تتعرض أو تصاب بنيتها التحتية من طرقات وجسور وأبنية ومؤسسات حكومية سواء كانت خدمية أو غيرها لأي أذى أو تدمير أو أضرار. وكان لها شبه احتكار التقنية الحديثة في صناعتها، التي جعلها في وضع يؤهلها في إنتاج السلع والبضائع بأسعار مرتفعة في جميع أنحاء العالم.
2- يمتاز الاستعمار الأمريكي بالطبيعة الاقتصادية، بعكس طبيعة الاستعمار الأوروبي التقليدي الذي يقوم على الحروب واحتلال الدول الأخرى واستعباد شعوبها عن طريق العنف والقوة في فتح أسواقها أمام البضائع والسلع التي تنتجها دول الاحتلال الرأسمالية واستغلال أراضيها ونهب ما تخزنه من المواد الأولية. فكانت الماكنة الاقتصادية للاستعمار الأمريكية تقوم على مد إخطبوطها الاستعماري عن طريق المشاريع الاقتصادية والعسكرية والمساعدات الإنسانية مثل مشروع مارشال والنقطة الرابعة والمساعدات في تنمية البلدان المختلفة في الزراعة والتعليم والجارة وغيرها، أما المشاريع العسكرية كإقامة التحالفات العسكرية مثل حلف شمال الأطلسي وحلف شرق آسيا وحلف بغداد ومشروع أيزنهاور أو إقامة القواعد الحربية المنتشرة في كثير من دول العالم، إن هذه المشاريع المختلفة تقام برعاية وإدارة أمريكية أكثرية رجالها بخبرة ومعرفة من نتاج المخابرات الأمريكية.
3- في عهد الرئيسين كينيدي وجونسن وضعت واستخدمت وكالة حديثة أمريكية متخصصة في برنامج التنمية الدولية التي تقوم سياستها وفق مفاهيم نظرية التحديث (التحالف من أجل التقويم وفرق السلام بين الشعوب والشعب الأمريكي) وأصبح لهذه الوكالة الأمريكية تأثير كبير في دوائر صناعة السياسة في كثير من البلدان الفقيرة، كما أصبح لهذه الوكالة دور كبير في التغيرات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية وحتى البيولوجية والنظام التعليمي ومعظم القيم والتقاليد والاتجاهات الأساسية بما تنسجم ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية في تغيير العالم.
4- بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار النظام الاشتراكي، انفردت الولايات المتحدة الأمريكية بالعالم وأصبحت تمثل فيه القطب الأوحد في السياسة الدولية وأصبح العالم بما يشبه القرية الصغيرة نتيجة الثورة المعلوماتية في الاتصالات والتقدم الهائل بالعلوم والتكنولوجيا، ومن اجل أن تبرز الولايات المتحدة الأمريكية بقوتها وسيادتها على العالم، أصبحت تلك (القرية الصغيرة) محاطة من جميع جوانبها بالبوارج الحربية وحاملات الطائرات وفي السماء تحلق الأقمار الصناعية التجسسية كما أصبحت هيئة الأمم المتحدة ومؤسساتها ومنظماتها دوائر تابعة لوزارة الخارجية الأمريكية وأصبحت قوانينها ومراسيمها ومشاريعها تصدر من وزارة الخارجية الأمريكية والمنظمات الدولية تنفذها بقوانينها ومراسيمها على العالم بما ينسجم مع مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلال ذلك أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية لها اليد الطولى والسلطة الكبرى في السياسة الدولية، ولكي تكتمل هذه الزعامة والسيادة على العالم فإنها تسعى إلى السيطرة عليه من الناحية الاقتصادية حتى تكتمل سلطتها وجبروتها عليه وتقبض على رقبته وتمسكه بقبضة حديدية وذلك عن طريق السيطرة على القوس النفطي الذي يحوي أكثر من ثلثي بترول العالم والذي يبدأ من العراق مروراً بالمملكة العربية السعودية ودول الخليج وبحر قزوين وإيران، وهذا ما سنستعرضه في المواضيع القادمة.
صناعة العدو
تنطلق السياسة الأمريكية الجديدة بعد تفكك وانهيار نقيضها على الساحة الدولية (الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي) من الفلسفة التي تعتبر أن أي شيء في الوجود يجب أن يقوم على الحركة والتغير الذي يؤدي إلى الصراع بين الأشياء وإلى هيمنة أحدها على الآخر والتي من خلالها تستمر مسيرة الحياة، ومن دون ذلك فإن الجمود والثبات يؤدي إلى التفسخ والانهيار والفناء، من هذه الفلسفة أصبح على الولايات المتحدة (إيجاد عدو خارجي) لكي تصبح لدى الولايات المتحدة ستراتيجية لمواجهة (العدو الخارجي) ويصبح كل ما تقوم به من أعمال عسكرية واقتصادية هو حالة الدفاع عن النفس، وقد حلل وزير خارجية أمريكا السابق (هنري كيسنجر) هذه الإستراتيجية، أن وجود وتشخيص العدو يعمل على تقليل مظاهر الغموض والتناقض في الإستراتيجية باعتباره هدفاً ينبغي التعامل معه وإزالة خطره. ومن الناحية السيكولوجية فإن ظاهرة (العدو الخارجي) يقوي تماسك العلاقة بين الشعب والدولة، فهي تجعل الشعب مشدود الأعصاب نحو ذلك العدو ومدفوعاً ومؤيداً لأي عمل أو سلوك تقوم به الدولة ضد ذلك العدو، ومثل هذا الموقف الموحد والمتماسك من الشعب، لابد من إيديولوجية تعبوية تقوم بها مؤسسات متخصصة بحيث تجعل من تلك الإيديولوجية أفكاراً مقبولة من قبل الشعب الأمريكي من خلال توصيف وترسيم ذلك العدو في قالب محدد وواضح بحيث يستطيع من ترسيخ وتعزيز تلك الإيديولوجية التي ترسم ملامح وأهداف ذلك العدو.
وقد برزت تلك الظاهرة (تكوين أو إيجاد عدو) بعد الحرب العالمية الثانية والانتصارات التي حققها الاتحاد السوفيتي وقيام المعسكر الاشتراكي فازداد الخوف والخشبية من امتداد الفكر الشيوعي إلى أوروبا والعالم، كما أن القوى الرأسمالية التقليدية مثل بريطانيا وفرنسا باتت غير قادرة على مواجهة امتداد الفكر الشيوعي مما أدى إلى وجود فراغ سياسي على المستوى العالمي قد يستغله الاتحاد السوفيتي في نشر الفكر الشيوعي في العالم والقضاء على النظام الرأسمالي، ومن هذا المنطلق أحس الأمريكيون أن عليهم تبني دوراً عالمياً لمواجهة الفكر الشيوعي، وكان فارس حلبة الصراع الرئيس الأمريكي (هاري ترومان) بعد الحرب العالمية الثانية حيث بدأ سياسته بنهج متشدد أطلق عليه (سياسة القبضة الحديدية) مستغلاً تفوق أمريكا العسكري والاقتصادي وقال في إحدى خطبه : (إنني لا أشك في أن روسيا تحاول غزو تركيا والاستيلاء على مضايق البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، وأن هذه الدولة إذا لم تواجه بقبضة حديدية ولغة قوية فإن حرباً عالمية أخرى ستنشب إننا لا نقبل الوفاق أو المصالحة بعد الآن ويجب أن نصل بالقوة إلى القرار في شأن ما تدين به روسيا) ولم تقتصر الولايات المتحدة الأمريكية على رفع راية مكافحة الشيوعية في سياستها الخارجية وإقامة الأحلاف العسكرية وبناء القواعد الحربية في كثير من دول العالم من أجل تطويق المعسكر الاشتراكي والقضاء عليه وإنما شملت سياستها الداخلية وأصدرت مرسوم تحريم الفكر الشيوعي ومكافحته في الشعب الأمريكي والذي أطلق عليه بـ (الماكارثية) نسبة إلى السيناتور جون ماكارثي الذي اقترح وسن ذلك المرسوم السيء الصيت ضد الشعب الأمريكي.
عند تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار النظام الاشتراكي انتهى ذلك (العدو) البعبع الشيوعي وبدأ يخلق (عدو جديد) وكان ذلك العدو (الدول المارقة التي تمتلك أسلحة الدمار الشامل والتي تهدد به البشرية بالكوارث والدمار) ثم جاء يوم (11 أيلول/ 2001) من خلال صناعة الأزمة أو تصنيعها التي تمثل وجهين لعملة واحدة للسياسة الأمريكية، فالوجه الأول للعملة (صناعة الأعداء أو تصنيعهم) والوجه الثاني هو تنمية الفراخ ورعايتهم وتدريبهم كنموذج (أسامة بن لادن) الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية أن تخلق من هذا (العدو) قوة رعب وخوف للعالم كله من أقصاه إلى أقصاه مما دفع بالولايات المتحدة أن تحشد الكثير من دول العالم في تحالفات مناهضة للإرهاب، وعلى ذكر هذه الظاهرة، مست روحي الكوارث والدمار الذي جثم به الإرهاب على وطني المذبوح والشعب المستباح، تركت العنان لقريحتي لتقول ما تفيض به روحي من ألم ومعاناة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام/ 2003 والذي جلب معه ذلك الجيش المحتل ليس الليبرالية الاقتصادية في إغراق الأسواق العراقية بالسلع والحاجيات حينما انفلتت الفوضى في الداخل وفتحت الحدود مع دول الجوار في أوسع أبوابها وليس هنالك حسيب أو رقيب على من يدخل أو يخرج حسب قاعدة الليبرالية الجديدة (دعه يدخل دعه يخرج .. دعه يعمل) وإنما أغرقت جميع مدن العراق بالإرهابيين، وهو ما كانت ترغب به وتتمناه الولايات المتحدة الأمريكية لأن جميع الإرهابيين اجتمعوا وتحشدوا على الأرض العراقية وهذا يعني إنهم أصبحوا جميعاً في كماشة القوات الأمريكية وقد سهلت هذه المهمة على القوات الأمريكية بالبحث عنهم في بلدانهم وقتلهم.
إن هذه الظاهرة مع الأسف الشديد جعلت بعض دول الجوار تصفي حساباتها مع الولايات المتحدة الأمريكية على الساحة العراقية مما أفرز التدمير والموت والتعوق للإنسان والممتلكات فأصبح العراق : في كل بيت رنة وعويل ... وفي كل قلب آهة وسؤال، كما أن هذه الظاهرة كانت خدعة مخابراتية أمريكية بحيث جعلت الدول المجاورة التي أرادت تصفية الحساب مع أمريكا على الأراضي العراقية أن تلملم وتجمع القوى الإرهابية من شتى أنحاء المعمورة وتسهل لهم العبور إلى العراق لمحاربة الجيش الأمريكي، إلا أن المؤلم والمؤسف أن الذي كان يموت بالسيارات المفخخة والعبوات الناسفة الإنسان العراقي وليس الجندي الأمريكي، كما أن هذه الكارثة الكبرى لم تجعل العراق يفقد أبناءه بين شهيد ومعوق وإنما فقدت وصرفت مليارات الدولارات من الخزينة العراقية لصرفها على تجنيد الشرطة وقوات مكافحة الإرهاب، بينما ليس للعراق ناقة ولا جمل في هذه المعمعة التي جثمت على صدور شعبنا كما جثم الاحتلال، بينما كان المؤمل أن تصرف تلك الأموال على مشاريع إنتاجية وخدمية، وبالرغم من مرور ثمانية سنوات على الاحتلال الأمريكي هنالك ظاهرتين تثير الضحك والبكاء، الأولى أن قوات الجيش والشرطة لم تكتمل التدريب والتسليح ..!! والظاهرة الأخرى، أصبحنا نذهب إلى مجلس الأمن الدولي ونلتمس منه أن يمدد بقاء قوات الاحتلال الأمريكية في العراق، لعدم استطاعة القوات العراقية من الجيش والشرطة من حماية الأمن في العراق .!! إذن لابد من سؤال فيه نداء حي واستدعاء صارخ عن الدور والعمل التي قامت به القوات الأمريكية المحتلة في الثمان سنوات الماضية .. والجيش والشرطة العراقية لم يكتمل تدريبها وأسلحتها في المحافظة على أمن العراق ..!!؟
من خلال ما تقدم تطرح أمامنا معادلة متكاملة مرتبطة بعضها ببعض بحبل من مسد من إنتاج العقلية الأمريكية بحيث أصبح الاحتلال يتجسد في هيكل واحد مع منظومة الأمن والاستقرار على الساحة العراقية لا يمكن فصلها عن تركيبة الفوضى البناءة وإعادة إعمار العراق مما أدى إلى خلق قاعدة من المتناقضات تستند عليها العقلية الأمريكية (انعدام الأمن يؤدي إلى توفير الأمن، نعمل على حماية نفسك من خلال تدمير البنية التحتية والمنشآت الخدمية وغيرها، ونحميك من الإرهاب من خلال بقاء القوات الأمريكية المحتلة). لقد بينا أن الإستراتيجية الأمريكية تقوم على إيجاد عدو خارجي يجب مواجهته، ومن خلال مؤسساتها ووسائلها الأخرى جعلت هذا العدو لا يشكل خطراً على الولايات المتحدة الأمريكية فقط وإنما على جميع دول العالم ومن هذا المنطلق أصبح أمن الولايات المتحدة الأمريكية مرتبط بأمن جميع الدول وهذا يعني أن على جميع دول العالم العمل والمشاركة ضد ذلك العدو الذي بالغت فيه وضخمته المؤسسات الأمريكية وجعلت خطره وشره لا يقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية وإنما يشمل البشرية جمعاء، وبما أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة التي تعمل على حفظ السلام والاستقرار في العالم والحارسة والضامنة لأنظمة العالم من خطر الفوضى التي تقوم بها الدول المارقة مما يفرض على جميع دول العالم الحرة مشاركة ومساندة الولايات المتحدة الأمريكية في مساعيها في مواجهة ذلك العدو وإنقاذ الإنسانية من طغيانه وشروره المدمرة.
الولايات المتحدة الأمريكية وحق الدفاع عن النفس
اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس مونرو سياسة العزلة وجعلت شعارها (أمريكا للأمريكيين) وعدم السماح للدول الأوروبية بالتدخل في شؤونها وكذلك هي لم تتدخل بشؤون الدول الأوروبية وعدم العدوان والاعتداء على الدول الأخرى واستعمار القوة في الدفاع على النفس وقد أصبح هذا الحق مرجعية في إستراتيجيتها لانطلاق قواها نحو العالم، كم اعتمدته في المحادثات والاتفاقيات التي تعقدها مع الدول الأخرى، مما جعلت الولايات المتحدة أمريكية من مبدأ مونرو جزءاً من نظامها القومي والدفاع عن سلامتها الإقليمية وكيانها بعد أن أصبح مبدأ مونرو يعني بكل بساطة مبدأ الدفاع عن النفس الذي أصبح الأساس من مكونات الإستراتيجية الأمريكية الذي أصبح ينسجم مع مواد وقوانين الأمم المتحدة والتي أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تتصرف من خلاله في إقامة الأحلاف العسكرية والأحلاف المضادة تحت ذريعة حق الدفاع عن النفس مما عرض العالم إلى الخطر وجعله يقف على شافة حرب عالمية وخلق الحرب الباردة مما أدى إلى توجيه ضربة قوية للأمم المتحدة وإلى مساعيها للمحافظة على السلام العالمي.
كانت الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الأولى التي اخترعت الأسلحة الذرية والهيدروجينية بذريعة حق الدفاع عن النفس مما دفع الدول الأخرى إلى امتلاك الأسلحة الذرية وقد أدت هذه الظاهرة إلى انتشار هذا السلاح الرهيب لدى كثير من الدول مما أصبح يهدد العالم بدمار وكارثة كبيرة كما أفرز مفهوم حق الدفاع عن النفس الذي أصبح يمثل السياسة الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية (الضربة الاستباقية وترسيخ الأمن والاستقرار وردع الدول المارقة في تجاوزاتها وتدخلها واعتداءاتها على الدول الأخرى) كما حدث بقيام الولايات المتحدة أمريكية بغزو (بنما) عام/ 1989 بحجة وجود خطر من تلك الدولة على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية مما جعلها تتصرف وفق قوانين الأمم المتحدة في الدفاع عن النفس ومن خلال هذا المفهوم (الفوضوي) منحت نفسها الحق بالقيام في توجيه ضربة استباقية إلى تلك الدول المارقة التي تهدد أمنها ومصالحها، كما منحت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها الحق في الدفاع عن مواطنيها عن تعرضهم للخطر، وهذه العملية مارستها الولايات المتحدة الأمريكية من أجل إنقاذ مواطنيها العاملين في السفارة الأمريكية في إيران عندما احتجزهم الحرس الثوري الإيراني عام/ 1980، وفي نفس الحجج والذرائع تدخلت في غرينادا عام/ 1983 وفي حصارها على كوريا عام/ 1962 وتدخلها ضد نيكاراغوا عام/ 1986 وقيامها بقصف ليبيا عام/ 1989 وفي حزيران عام/ 1993 أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية ثلاثة وعشرين صاروخاً من نوع كروز على بغداد بحجة قيام العراق بمحاولة فاشلة لاغتيال الرئيس الأمريكي (الأب) جورج بوش حينما كان في زيارة لدولة الكويت وهذه العملية تأتي من باب حق الدفاع عن النفس. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار نظامه الاشتراكي والتي أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية من خلاله القطب الأوحد في السياسة الدولية صرح الرئيس بوش (الابن) بعد أحداث 11/ أيلول/ 2001 الذي دمر فيه أسامة بن لادن برج التجارة العالمية في نيويورك قال فيه (إن القانون (51) من ميثاق الأمم المتحدة يمنحها الحق في ملاحقة ومهاجمة شبكات الإرهاب في أي بقعة على كوكب الأرض). كما طرح الباحث في التاريخ الأمريكي جون فايسك رؤيا عن حدود وامتداد الولايات المتحدة الأمريكية فقال : (الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة التي يحدها الشفق القطبي شمالاً، والاعتدالين جنوباً، والعماء البدائي شرقاً، ويوم القيامة غرباً) من هذا يتبين أن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت ذات القطب الأوحد في السياسة الدولية، وسيدة العالم سياسياً ومن خلال ذلك أصبحت الأمم المتحدة وهيئاتها التنفيذية، مجلس الأمن الذي أصبح يعرف مجلس الأمن الأمريكي كما أصبحت هيئات ومؤسسات الأمم المتحدة تابعة لوزارة الخارجية الأمريكية، ومن خلال هذا الوضع أصبحت الأمم المتحدة بهيئاتها ومؤسساتها قاعدة للولايات المتحدة الأمريكية كما ترغب به وتريده وتتمناه حسب مفهومها الخاص في حق الدفاع عن النفس إزاء أي خطر محتمل ومن حقها أن تقوم بتوجيه الضربة الاستباقية الواقية، وقد انطلق من هذه الظاهرة المبدأ الذي انطلقت من خلاله قواها العسكرية لمحاربة الإرهاب الدولي والدول المارقة، وكان احتلال العراق عام/ 2003 التطبيق العملي لهذا المبدأ والذي قام على أساس امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل التي تهدد الإنسانية. وكما هو معلوم أن إسرائيل تعتبر الولاية التاسعة والأربعون لدولة الولايات المتحدة الأمريكية، فأصبح حق الدفاع عن النفس ومبدأ الضربة الاستباقية الوقائية يسري مفعوله (على الولايات الأمريكية في الشرق الأوسط إسرائيل) ومن هذا المبدأ والمفهوم أصبح لإسرائيل الحق بالدفاع عن النفس وتنفيذ الضربة الوقائية ضد مفاعل تموز العراقي للأبحاث النووية عام/ 1981، ومن هذا المفهوم أيضاً قامت (المدللة) إسرائيل في احتلال الأراضي الذي يضمن أمنها ووجودها منذ عام/ 1948 ولحد الآن. في فلسطين.
الولايات المتحدة الأمريكية في المستنقع الآسيوي
كان للانتصار الكبير الذي حققه الاتحاد السوفيتي في الجبهة الشرقية وهزيمة ألمانيا وإيطاليا في الحرب العالمية الثانية، إلى إضعاف مواقع الإمبريالية في آسيا حيث استطاع الجيش السوفيتي من إلحاق الهزيمة بالقوات اليابانية وطردتها من كوريا الشمالية وتم تشكيل جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، وتحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني بزعامة ماوتسي تونغ أطاح الشعب الصيني بحكومة الكومنتانغ الرجعية والعميلة التي كان يقودها تشان كاي تشك واستيلائه على مقاليد الحكم، وكان الشعب الفيتنامي ناضل وكافح سنوات طويلة ضد الغزاة اليابانيين والمستعمرين الفرنسيين، وقد تكلل نضاله بالانتصار في القسم الشمالي ونشأت جمهورية فيتنام الديمقراطية، وظفرت شعوب الهند وبورما واندونيسيا وسيلان وغيرها من الدول الآسيوية باستقلالها الوطني مما أدى إلى اندحار الاستعمار البريطاني والفرنسي في آسيا، إن هذه التطورات دفعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى التورط في آسيا والذي بدأ عملياً مع الحرب الكورية إضافة إلى الانتصار الشيوعي وسيطرته على معظم البر الصيني وطرد قوات تشان كاي تشك المدعوم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ولجوءه إلى جزيرة فرموزا من أجل مقاومة المد الشيوعي ووقف انتشاره إلى دول أخرى، هذا المبدأ الذي تبناه بقوة الرئيس ترومان بعد الحرب العالمية الثانية واستمر على نهجه الرؤساء الآخرون (أيزنهاور وكندي وجونسون) إلا أن انتصارات الشعوب توالت بالرغم من جبروت وقوة الولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام ولاوس وكمبوديا، ونتيجة لهذه الانتصارات العظيمة وتورط الولايات المتحدة الأمريكية التي اعتبرت نفسها الوريث للدول الاستعمارية السابقة فرنسا وبريطانيا والذي من خلاله جاء تدخلها وتورطها في آسيا من أجل ملء الفراغ الذي تركته هاتين الدولتين وخشيتها من قيام الاتحاد السوفيتي وحلفائه في ملء الفراغ مما يشكل خطراً عسكرياً واقتصادياً وسياسياً على مصالح الدول الرأسمالية مما جعلت بالرئيس أيزنهاور أن يستغيث ويطلب العون والمساعدة من دول الاستعمار الأخرى فكتب إلى الحكومة البريطانية عام/ 1954 محذراً إياها من الخطر الشيوعي الذي يهدد الجميع حيث قال : (إذا وقعت الهند الصينية في أيدي الشيوعيين فإن تأثيراتها سوف تكون على مواقعكم ومواقعنا الإستراتيجية العالمية وسيكون كارثة نتيجة لتغيير موازين القوى اللاحق في جميع مناطق آسيا والمحيط الهندي، وإني أعلم أن ذلك غير مقبول لنا ولكم) كما أشار في إحدى خطبه عام/ 1954 فقال : (إن سقوط الهند الصينية حسب مبدأ (أحجار الدومينو) سيهدد الهند واليابان والفلبين وإندونيسيا) مما دفع بالولايات المتحدة الأمريكية إلى إقامة حلف جنوب شرق آسيا الحربي لمواجهة المد الشيوعي من أجل الدفاع عن النفس ومصالح الدول الغربية وقد تكون الحلف من باكستان وتايلند والفلبين وفيتنام الجنوبية وكمبوديا ولاوس واستراليا ونيوزلاند وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية حسب الرؤيا والفلسفة في خلق العدو الذي يعتبر خطره على جميع الدول وليس الولايات المتحدة الأمريكية فقط.
حينما علمت الولايات المتحدة الأمريكية أن النصر في فيتنام أصبح إلى جانب الثوار الشيوعيين حفزت وطلبت من منظمة الأمم المتحدة التدخل والضغط على الشيوعيين للتفاوض والمحاورة مع الدولة المستعمرة (فرنسا) فعقد في عام/ 1954 مؤتمر في جنيف بسويسرا لتسوية الأزمة الفيتنامية بين فرنسا والثوار الفيتناميين، وتوصل الطرفان إلى حلول توفيقية لم تنهي المشكلة من جذورها وإنما قسمت دولة فيتنام إلى جزئين الشمالي يحكمه الشيوعيون بقيادة هوشي منه، والجنوبي مدعوم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن تخلفت فرنسا عنه مما جعل الولايات المتحدة تنفق على ذلك الجزء مليارات الدولارات من المساعدات العسكرية والاقتصادية إلا أن الشعب الفيتنامي المناضل والمصمم على مقاومة الاستعمار والاحتلال ووحدة الوطن الفيتنامي حمل السلاح وخاض حرب عصابات ضروس ضد الماكنة الحربية المتطورة للولايات المتحدة الأمريكية واستطاع أن يمرغ عظمة وكرامة تلك الدولة العظمى بالوحل ولم يكن من أمامها للخروج من ذلك المستنقع الضحل إلا الخروج من فيتنام الجنوبية وترك الأمر لشعبها يقرر مصيرها فاختارت الوحدة والاندماج مع شعب ودولة فيتنام الشمالية فأصبحت أمة ودولة واحدة هي (دولة فيتنام).
الولايات المتحدة الأمريكية وقارة أفريقيا
لقد ولد النظام الاشتراكي من رحم النظام الإقطاعي وأصبح النظام الذي يولد من رحم النظام يحمل بذرة موت ذلك النظام الأول الذي يولد منه فيبدأ الصراع والتناقض فيما بينهما مما يؤدي إلى انتصار الجديد وفناء القديم. حينما ولد النظام الاشتراكي ونما ترعرع وأصبح كتلة وقطباً دخل في صراع مع النظام الرأسمالي، وهذا يعني أصبح في العالم قطبين أحدهما اشتراكي والآخر رأسمالي وأصبحت بينهما المنافسة والصراع من أجل كسب وجذب القوى الدولية الأخرى إلى كفّته أي أن المعسكر الاشتراكي حينما يكسب دولاً أخرى فهذا يعني تعزيزاً لكفّته وضعفاً للكفة الأخرى التي تمثل النظام الرأسمالي، لأن الدولة التي تنسلخ من النظام الرأسمالي يعني ذلك أن الدول الرأسمالية فقدت أحد الأسواق التي كانت تصرف فيها السلع والبضائع التي تنتجها المصانع الرأسمالية، كما تغلق في وجهها الاستثمارات واستغلال ما تخزنه أراضيها من مواد أولية، وهذا يؤدي إلى :
1- تكدس البضاعة والسلع مما يؤدي إلى توقف أو ضعف الإنتاج في المصانع الرأسمالية مما يدفع بالرأس مالي صاحب المعمل إلى غلق المعمل وتسريح العمال ورميهم إلى البطالة أو تقليص عددهم مع زيادة ساعات العمل وتقليل أجور العمال، كما أن حرمان رأس المال من استغلال المواد الأولية الرخيصة التي انعتقت من طوق الاستعمار يؤدي أيضاً إلى ارتفاع أسعار السلع والبضائع مما يؤدي أيضاً إلى الانكماش من قبل المستهلكين في شرائها أو عدم مزاحمتها للسلع الأخرى الأرخص سعراً، منها وهذه الظاهرة أيضاً تؤدي إلى كساد البضاعة وتقليص عدد العمال وتقليل أجورهم أو غلق المعمل.
2- إن تلك الظاهرة تؤدي إلى ثورة العمال والفقراء والمضطهدين والمسحوقين والقضاء على النظام الرأسمالي الذي يخلق البؤس والحرمان للشعب وإبداله بالنظام الاشتراكي.
من خلال هذه النبذة المختصرة يتبين لنا الأسباب والعوامل للصراع بين النظام الاشتراكي المتمثل بالاتحاد السوفيتي والنظام الرأسمالي المتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية التي أصبحت البديل والوريث للقوى الاستعمارية السابقة بريطانيا وفرنسا والبرتغال وأسبانيا وغيرها التي كانت تستعمر الدول الأفريقية، وظهر ذلك بعد الحرب العالمية الثانية حيث اتسمت تلك المرحلة بتصاعد حركات التحرر الوطني للتخلص من السيطرة الاستعمارية كتونس والجزائر والمغرب وليبيا، وكانت هذه النواة من الدول المستقلة، وظهور المعسكر الاشتراكي كقوة عظمى على الساحة الدولية كانت جذوة اللهيب التي أعطت زخماً للدول المستعمرة الأخرى من أجل نيل حقوقها في الحرية والاستقلال بفضل قيادات وطنية أفريقية واعية ومدركة ومخلصة، وكان الداعم والمؤيد لهذه الحركات التحررية الاتحاد السوفيتي الذي أسس في عام/ 1959 (جمعية الصداقة مع الشعوب الأفريقية) وكانت هذه الجمعية تقوم بزيارات ميدانية إلى الدول المناضلة ضد الاستعمار ومن أجل التحرر الوطني، كما كان الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكي الأخرى تستضيف الطلبة للدراسة في جامعاتها وتأوي المشردين والمطاردين من قبل القوى الاستعمارية، كما كانت تستقبل زعماء الحركات الوطنية الأفريقية، كل ذلك أثار حفيظة الولايات المتحدة الأمريكية الذي كان العدو الذي اخترعته آنذاك (الخطر الشيوعي).
كانت دولة غينيا قد نالت استقلالها عام/ 1959 من فرنسا فقررت الأخيرة حرمانها من المساعدات الاقتصادية والعسكرية والفنية عقاباً لها، وليس هنالك من باب تطرقها سوى التوجه نحو الاتحاد السوفيتي، فعقد معها اتفاقاً عام/ 1960 تضمن تعهد الاتحاد السوفيتي بإقامة العديد من المنشآت الصناعية والعملية حسب طبيعة المواد الأولية المتوفرة فيها وتدريب العمال والفنيين على إدارة تلك المصانع والمؤسسات العلمية ومنح تلك الدولة (غينيا) قرضاً بقيمة اثنا عشر مليون دولار يسد للاتحاد السوفيتي بالسلع والبضائع التي سوف تنتجها تلك المصانع والمعامل، كما نص الاتفاق على فتح جامعات الاتحاد السوفيتي أمام الطلبة الغينيين لمختلف العلوم.
لقد أثارت هذه السياسة مخاوف الولايات المتحدة الأمريكية واعتبرت غينيا كنقطة ارتكاز لمد الجسور إلى جميع مناطق أفريقيا وجعلها تحت النفوذ الشيوعي، وقد أشار الرئيس أيزنهاور رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وكان في أواخر أيام حكمه فقال (في عالم اليوم حيث يتحدث أعداء الحرية عن نضال وحركات التحرر الوطني حيث نحن اليوم أصبحت فيها الفوارق القديمة بين الحرب المحلية الأهلية والحرب الدولية قد فقدت معظم معانيها وأن لحظة اتخاذ القرار يجب أن تصبح من الآن لحظة عمل) وفي عام/ 1960 دعا الرئيس أيزنهاور الرئيس الغيني (أحمد سيكو توري) لزيارة واشنطن، وخلال اللقاء معه عرض الرئيس أيزنهاور تقديم المساعدات والقروض الأمريكية إلى غينيا، إلا أن هذا العرض من قبل الرئيس الأمريكي قد جاء متأخراً بعد أن باشر الخبراء من الدول الاشتراكية عملهم في نصب المصانع والمنشآت الصناعية والفنية والثقافية والصحية وغيرها، واستمرت المساعدات المختلفة من الدول الاشتراكية بالرغم من المحاولات الأمريكية لعرقلة هذا القانون كما جددت ووسعت غينيا تعاونها مع الاتحاد السوفيتي بعد أن وجدت الصدق وحسن النية والدوافع الإنسانية في تلك الدولة الاشتراكية، وفي هذا الاتفاق الجديد تعهد الاتحاد السوفيتي بتزويد غينيا بكل ما تحتاجه في تطوير وتقدم وسعادة شعب غينيا من المكائن والآلات والنفط والمواد الأساسية الأخرى مقابل تزويد الاتحاد السوفيتي بالمحاصيل الزراعية التي تشتهر غينيا بإنتاجها والتي تفيض عن حاجة الشعب الغيني.
إن الهلع والخوف والاضطراب أصبح الكابوس الذي يجثم على صدور القادة الأمريكيان بالرغم من أن الزعيم الغيني سكوتوري أحد أقطاب دول الحياد الإيجابي التي تقوم سياسته على عدم الانحياز والتي كان من روادها الزعيم المصري الراحل (جمال عبد الناصر) والرئيس الهندي (نهرو) والرئيس الإندونيسي (أحمد سوكارنو) والرئيس اليوغسلافي (تيتو) إلا أن عقدة الخوف إذا انغرست في العقل الباطني فإنها تترك الإنسان لا يميز بين الحق والباطل، وهذا هو سلوك وتصرف الطغاة المستعمرين الرأسماليين يسيرون وفق قاعدة ميكافيلي (من ليس معنا فهو ضدنا) .
إن ذلك الخوف والهلع الذي تجسد في الإيديولوجية الأمريكية (في الدفاع عن النفس واختلاق العدو الذي كان يتجسد في ذلك الوقت في البعبع الشيوعي دفع بالولايات المتحدة الأمريكية إلى اختلاق أزمة (الكونغو) والتي تسببت في خلق الكوارث لشعبها والتفتيت والتدمير لدولة الكونغو التي أصبحت (شذر مذر) الذي سببته المخابرات الأمريكية.
في حزيران عام/ 1960 أعلن استقلال الكونغو بعد استعمارها من قبل بلجيكا منذ عام/ 1876 وعلى الرغم من أن هذا اليوم يجب أن يكون بداية توحيد البلاد واستقرارها باعتبار أن الكونغو كانت مقسمة إلى جزئين، فالجزء الذي تحكمه بلجيكا تكرمت به هذه الدولة (بلجيكا) ومنحته إلى ملكها فأصبح (ملك صرف مسجل باسم الملك) وكانت عاصمتها (ليوبولدفيل) أما الجزء الآخر من الكونغو (فأصبح مشاع) فسارعت فرنسا بالاستحواذ عليه وأنشأت فيه عاصمة (برازفيل) وبما أن هاتين الدولتين الاستعماريتين انسحبت من الساحة السياسية وفسحت المجال للولايات المتحدة الأمريكية لتحل محلهما، كما أن بعد استقلال هذه الدولة بقي المئات من الضباط والجنود والخبراء البلجيكيين في الكونغو، وبما أن الأفارقة يشعرون بالكراهية ضد هؤلاء الذين استعمروهم لسنوات طويلة وأذاقوهم الذل والإهانة والاستعباد مما دفع القوات العسكرية الكونغولية بالتمرد عليهم وعدم الانصياع لأوامر الضباط البلجيكيين وطالبوا بمغادرتهم الأراضي الكونغولية مما دفع الزعيم الوطني الكونغولي (باتريس لومومبا) إلى التدخل وإيجاد الحلول لها، بدأت الأيدي الخفية للمخابرات الأمريكية بالتنسيق مع الحكومة البلجيكية بإثارة القلاقل وعدم الاستقرار والفوضى في وجه الحكومة الوطنية بقيادة (باتريس لومومبا) حيث أعلنت إحدى المقاطعات التي تتكون منها الكونغو وهي مقاطعة (كاتانغا) ذات الأهمية الاقتصادية الكبيرة استقلالها عن الحكومة الكركزية بقيادة (لومومبا). فأعلنت الحكومة البلجيكية التدخل بحجة إعادة الأمن والاستقرار والوحدة للأراضي الكونغولية، وقد جاء هذا التدخل في مقاطعة (كاتانغا) بالتحديد لأنها تمثل مركزاً مهماً للاستثمارات البلجيكية الاقتصادية لقد اعتبرت حكومة الكونغو التي يرأسها (باتريس لومومبا) إن تلك الحركة من فعل وتدبير بلجيكا بمساعدة المخابرات الأمريكية، مما دفع بلومومبا وحكومته باللجوء إلى الأمم المتحدة ودعوتها للتدخل لفرض الأمن والاستقرار والقانون على الأراضي الكونغولية بدلاً عن القوات البلجيكية، كما اتصل لومومبا بالاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية لتقديم العون والمساعدة له والوقوف بوجه التدخل البلجيكي.
في عام/ 1960 تدخلت الأمم المتحدة وأرسلت قوات دولية إلى الكونغو، إلا أن تلك القوات لم يكن لها دور مؤثر في إعادة الاستقرار للكونغو بسبب تدخل الولايات المتحدة الأمريكية واستغلال هذه المشكلة لمصلحتها ومن أجل إسقاط حكومة لومومبا الذي استنجد بالاتحاد السوفيتي والمتعاطف معه فقد انحازت قوات الأمم المتحدة بتأثير من المخابرات الأمريكية إلى جانب رئيس دولة الكونغو (زافوبو) ضد رئيس الحكومة (لومومبا) الذي انتخبه الشعب الكونغولي مما دفع الرئيس لومومبا باللجوء إلى الدول الأفريقية وطلب المساعدة منها، إلا أن تلك الدول كانت ضعيفة لأنها تابعة لتأثيرات الولايات المتحدة الأمريكية، فأصبحت في دولة الكونغو سلطتين الأولى يمثلها باتريس لومومبا مؤيدة من قبل البرلمان والشعب، والثانية سلطة رئيس الدولة (زافوبو) المدعوم من جيش مكون من المرتزقة البيض وقوات الأمم المتحدة المدعومة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وبتحريض من المخابرات الأمريكية قامت القوات التابعة للأمم المتحدة بالسيطرة على الإذاعة والمطارات ومؤسسات الدولة الذي ساعد على عزل لومومبا وإلقاء القبض عليه في 17/1/1961 من قبل قائد الانفصال (تشومبي) وإعدامه بتحريض من المخابرات الأمريكية، وبدعم من الولايات المتحدة الأمريكية تم توحيد دولة الكونغو وإنهاء عصيان وانفصال (تشومبي) عن الحكومة المركزية وتعيينه رئيساً للوزراء بدل (لومومبا) الذي كان مدعوماً من الاتحاد السوفيتي والشيوعيين الكونغوليين، مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تقدم المساعدات المادية والعسكرية وإرسال مئة خبير أمريكي في مختلف المجالات لمساعدة الحكومة الكونغولية واستطاعت أن تستحوذ على خيرات ذلك البلد الثمينة من الذهب واليورانيوم والمعادن الأخرى، ثم استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تمتد بإخطبوطها المتمثل بالمبشرين والخبراء والمساعدات المختلفة إلى كافة الدول الإفريقية عن طريق إشعال الفتن الداخلية والحروب الأهلية بينها وبين الدول المجاورة في تنزانيا وزيمبابوي ونامبيبا والحبشة والسودان والصومال وغيرها.
أمريكا والشرق الأوسط
ليس هنالك منطقة في العالم تمتاز بالحيوية الإستراتيجية وما تمتلكه من مواد أولية من كنوز تختزلها أراضيها ومواقع مهمة ومؤثرة مثل (إسرائيل) كما موجود في منطقة الشرق الأوسط. فيها المضايق المهمة مثل البوسفور والدردنيل الذي يربط البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط وفيه قناة السويس التي تربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، وفيه مضيق عُمان الذي من خلاله يذهب نفط دول الخليج العربي وإيران والعراق عن طريق البحر العربي إلى دول العالم الصناعية، وفيه خليج عدن الذي يربط البحر الأحمر بالبحر العربية، وفيه مخزون النفط الذي يُقدر احتياطه بـ 58٪-;- من المخزون العالمي حسب تقديرات (بريتش بتروليوم) وفيه حلف بغداد والحزام من القواعد الحربية التي تحيط بالاتحاد السوفيتي السابق وتمنع قدوم (الدب الأبيض) نحو المياه الدافئة، وفيه الدولة المدللة للغرب والمدينة التاسعة والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية (إسرائيل) التي زرعها الرأس مال العالمي (كشظية العظم) في عين الوطن العربي والشرق الأوسط، والتي تعتبرها الولايات المتحدة الأمريكية قاعدتها المتقدمة والمضمونة في المنطقة والتي تسمح لها بالتدخل والتحرك والضغط والعدوان على الأطراف الأخرى وفقاً لمخطط مدروس ومحكم يجعلها ترسانة للأسلحة الفتاكة والمدمرة مثل الأسلحة الذرية والكيميائية والجرثومية وكل ما أنتجته المصانع الحربية من أسلحة متقدمة ومتطورة وفرتها جميعاً للقوات المسلحة الإسرائيلية بشكل مدروس لكي تصبح الدولة المتفوقة على جميع دول المنطقة وليس على الدول العربية فقط.
إن الذي يحدث الآن في الدول العربية من أحداث في عهد دولة الولايات المتحدة الأمريكية العظمى (ذات القطب الأوحد) في السياسة الدولية من إعادة صياغة هيكلة العالم حسب مصالحها ورغباتها، يجب أن لا نستبعد من وجود الأيدي الخفية للمخابرات الأمريكية في تلك الأحداث حيث تناقلت وسائل الإعلام المختلفة عن نصائح قدمتها بعض الدول إلى الولايات المتحدة الأمريكية تطلب منها عدم تطبيق التجربة العراقية على تلك الدول !!.
الولايات المتحدة الأمريكية ودول أمريكا اللاتينية
حينما خرجت الولايات المتحدة الأمريكية عن التزامها بسياسة العزلة التي يعبر عنها مبدأ مونرو (أمريكا للأمريكيين وعدم السماح للدول الأوروبية بالتدخل في الشؤون الأمريكية، كذلك الأمريكان لا يتدخلون بشؤون الدول الأوروبية) إلا أنها اتخذت من مبدأ مونرو حق الدفاع عن النفس أي الدفاع عن كيانها القومي وهو المرجعية التي اتخذته في سياستها في الانطلاق نحو العالم الآخر، ومن أجل الوصول إلى العالم الآخر يجب إيجاد الأسباب والمبررات لذلك هو اختلاق وصناعة الأزمات عن طريق اختلاق وصناعة الأعداء الذين يشكلون الخطر على الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها، فخولت لنفسها القيام بتوجيه الضربة الاستباقية لذلك العدو الذي يشكل الخطر على الولايات المتحدة الأمريكية.
في هذه المرة اختلق العدو والخطر ليس من نصف العالم الآخر وإنما من دولة أمريكا اللاتينية فجاء تدخلها في غرينادا عام/ 1983 وضد نيكاراغوا عام/ 1986 وضد بنما عام/ 1989 والتآمر وإسقاط حكومة الليندي في تشيلي عام/ 1961، وقيام الجيش الأمريكي باحتلال عاصمة هندوراس وإسقاط حكومتها واعتقال رئيسها بحجة تهريبه للمخدرات وقيام الولايات المتحدة الأمريكية بتدريب وتسليح المعارضة الكوبية وتزويدها بالسفن والطائرات وقامت بمساعدة المخابرات الأمريكية بإنزال في الأراضي الكوبية في خليج الخنازير إلا أن الشعب الكوبي أفشل تلك العملية وأسقط طائرتين كانت تقوم بحماية المتسللين من المعارضة الكوبية.
الولايات المتحدة الأمريكية ومرحلة العولمة
ذكرنا في الفصول السابقة الأسباب والعوامل التي جعلت من الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى والقطب الأوحد في السياسة الدولية والآن نعيد كتابتها من أجل التذكرة لأهمية الموضوع وتعزيزه واستغلاله في عولمة العالم ثم أمركته الذي يعتبر الوسيلة التي تستطيع بها الولايات المتحدة السيطرة على العالم اقتصادياً عن طريق ما تمتاز به العولمة وفلسفتها الليبرالية الجديدة من حرية واسعة في انتقال الأفراد ورأس المال والسلع وحرية اقتصاد السوق وغيرها، أما الأسباب والعوامل التي جعلت من الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى والقطب الأوحد في السياسة الدولية هي :
1) بعد الحرب العالمية الثانية وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وحيدة على قوة بنية القوة العالمية، فكانت الدولة الوحيدة من بين جميع الدول المتحاربة التي لم تصب بنيتها التحتية من مؤسسات وأبنية وبنوك وطرق وجسور وغيرها بأي أذى، مما جعلها الدول التي تمتلك شبه الاحتكار للتقنية الحديثة وصناعتها التي تؤهلها وتساعدها على إنتاج السلع والبضائع والحاجيات وإغراق الأسواق العالمية بها.
2) إن تطورات الحرب العالمية الثانية وظهور الولايات المتحدة الأمريكية طرفاً فعالاً فيها قد ساعد على تفوقها الاقتصادي والعسكري بسبب بعدها عن مواقع وساحة المعارك لعدم تعرض مصانعها ومدنها لقصف طائرات العدو ومدفعيته وغيرها مما أتاح لها ذلك التفوق عن طريق إنتاج المعدات العسكرية لرفد جبهات القتال بها وإنتاج السلع والبضائع والحاجيات للأسواق التي تعرضت مصانعها ومنشآتها للتدمير.
3) أفرزت الحرب العالمية الثانية ولادة المعسكر الاشتراكي الجبار، وأفول نجم وقدرة القوى الرأسمالية التقليدية (بريطانيا وفرنسا) التي باتت غير قادرة على مواجهة المد الشيوعي في أوروبا والعالم، لأن هاتين الدولتين خرجتا من الحرب العالمية الثانية منهكتين اقتصادياً وبحاجة إلى المعونة والمساعدة للخروج من ظروفها الصعبة، وبما أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر الفكر الشيوعي خطراً حقيقياً على مصالحها بشكل عام لأن الأهداف التي يسعى إليها القضاء على الفكر الليبرالي باعتباره عنواناً للاستغلال والاستعمار والهيمنة الطبقية الرأسمالية، إن جميع هذه الأسباب وغيرها زرعت الخوف والخشية من قيام الفكر الشيوعي والاتحاد السوفيتي من استغلال هذا الفراغ والسيطرة على أوروبا مما دفع بالولايات المتحدة الأمريكيةبالتدخل وتبني دوراً عالمياً يحد من النفوذ والتدخل الشيوعي.
4) كان الاستعمار الأمريكي ذا أسس اقتصادية وليس استعماراً تقليدياً عن طريق الاحتلال للأوطان واستعباد شعوبها، ولذلك نجده يحتل الأوطان ويستعبد شعوبها عن طريق المشاريع الاقتصادية والعسكرية مثل مشروع مارشال والنقطة الرابعة والتنمية والاستثمار والأحلاف العسكرية والقواعد الحربية وعن طريق الخبراء الاقتصاديين والفنيين والعسكريين الذين هم من تربية وإعداد المخابرات المركزية الأمريكية وتدخلهم في الشؤون الداخلية لتلك البلدان وخلق حكومات فيها تدين وتسير وفق إرادة ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية.
5) تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار نظامه الاشتراكي، إن ذلك دفع بالدول الفقيرة التي كان الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية تقدم لها المساعدات المختلفة بدون قيود وشروط، مما دفع بتلك الدول إلى طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي والمؤسسات الأخرى المرتبطة بالرأس مال العالمي الأمريكي التي تفرض الشروط السياسية والاقتصادية المجحفة على تلك الدول الفقيرة وتجعلها تابعاً ومستعبداً لرأس المال العالمي الأمريكي.
إن هذه الأسباب والعوامل جعلت كثيراً من دول العالم في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تدين بالولاء والطاعة للولايات المتحدة الأمريكية ولم يبق إلا قلة من الدول (المارقة) خارج الخيمة الأمريكية إضافة إلى بعض الدول الرأسمالية (المشاكسة) في بعض الأحيان لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك فإن مرحلة العولمة سوف تجعل أبواب العالم مفتوحة أمام سلع وحاجيات والبضائع الأمريكية إضافة إلى المؤسسات والمافيات والإغراءات الأخرى مما سيجعل عنصر المنافسة في حرية اقتصاد السوق في صالح الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلال ذلك سيكون الحسم في صالح الولايات المتحدة الأمريكية بأن يصبح العالم جميعه أمريكياً وليس معولماً، والفصل القادم (الولايات المتحدة الأمريكية والبترول) سيكون الموضوع الذي سنطرح من خلاله مساعي الولايات المتحدة الأمريكية في السيطرة على منابعه في العالم للغرض نفسه.
إن مسعى الولايات المتحدة الأمريكية في مشروع الليبرالية الجديدة هو مجموعة من المبادئ الخاصة بالسوق وضعتها بواسطة مؤسساتها المالية العالمية التي تهيمن عليها، وتقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتطبيق هذه المبادئ بطرق عديدة على المجتمعات الأخرى بفرض برامج بنيوية صارمة مثلاً تحرير التجارة والنقد، وترك الأسواق هي التي تحدد الأسعار، ويجب على الحكومة أن تبتعد عن الطريق، وهذا يعني أن الشعب يجب أن يبتعد أيضاً. إن الولايات المتحدة الأمريكية تقوم بتصدير قيم حرية السوق عن طريق منظمة التجارة العالمية الخاصة بالاتصالات الهاتفية من خلال تأثيراتها التي تقوم على تزويد (واشنطن) بطرق ووسائل جديدة للسياسة الخارجية في تنفيذ الاتفاقيات التي تسمح من خلالها لمنظمة التجارة العالمية لها بالدخول عبر حدود سبعين دولة وقعت معها تلك الاتفاقيات، خارج حدود المؤسسات الدولية على اعتبار أن هذه الاتفاقيات هي من متطلبات الأقوياء وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي تمثل العالم الواقعي ..!! هذه هي الصورة التي تسمح للإدارة الجديدة (العولمة) للولايات المتحدة الأمريكية بأن تتدخل بعمق في الشؤون الداخلية للآخرين وتجبرهم على تغيير قوانينهم وممارساتهم بنحو حاسم وسيكون المستفيد الواضح والرابح في هذه الحقبة الجديدة (العولمة) هي الشركات الأمريكية المتمركزة بنحو أفضل للهيمنة على ملعب منبسط وواسع. ومن خلال منظمة التجارة العالمية ستتحقق النتائج المتوقعة لانتصار القيم الأمريكية المتمثلة بما يلي :
1) تفرز أداة جديدة تساعد على تدخل أمريكي واسع النطاق في الشؤون الداخلية للآخرين.
2) سيطرة الشركات ذات الطابع الأمريكي في الولايات المتحدة الأمريكية على قطاع واسع وكبير من الاقتصادات الأجنبية.
3) اقتطاع فوائد كبيرة وكثيرة لقطاعات الأعمال والأثرياء.
4) توفير أسلحة جديدة وقوية جداً ضد تهديد الديمقراطية – الليبرالية الفلسفة التي اتخذتها العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة شعاراً لها.
إن العولمة على الطريقة الأمريكية تعني في الواقع التأميم الأمريكي لموارد العالم كله وتقديمها لإشباع الأطماع الأمريكية، إن العولمة الحقيقية تعني انتقال جميع دول العالم بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية إلى مجال أكثر بؤساً وتعقيداً بحيث يتشكل الضد على أساس الإبداع المشترك لكل الحضارات والثقافات العالمية. أما هنا فنحن لسنا أمام إثراء بل اجتراء كل التنوع الذي كان في الماضي يتم تحويله إلى مقاييس أمريكية لا وجه روحياً لها. إن اللعبة الأمريكية الجديدة مع العالم هي لعبة أنانية ومصلحية بحيث تجعل رأسمالية الولايات المتحدة الأمريكية تزداد رفاهية وازدهاراً بقدر ما تحصل على الربح الكبير بقدر ما تصبح أكثرية شعوب العالم أكثر فقراً وأكثر بؤساً وتجريداً من الحقوق الإنسانية.
إن العولمة الأمريكية تجعل من الذات الأمريكية هو الكيان الخاص الذي يسعى لتقديم ذاته بوصفه شاملاً بحيث يجعله يمتاز على جميع دول العالم بحيث يصبح كل ما لا يدخل في ذلك الإطار الأمريكي يجب اجتثاثه، إن القوة والقدرة التي بلغتها الولايات المتحدة الأمريكية عالمياً تريد وضعها في خدمة مصالحها ومركزيتها الأنانية على مستوى العالم بحيث أصبحت الأفق الإستراتيجي الحقيقي التي تضع العالم في مواجهته.
إن العولمة الأمريكية لا تقتصر أعمالها بما تقوم بها من مهمات في المرحلة الراهنة وإنما تختزن من المشاريع والخطط والإمكانيات يجعلها تقود العالم مدفوعة بأنانيتها وغطرستها من المجال المتحضر للحداثة إلى تخلف وتراجع للحداثة بحيث تحييه من جديد حسب رغبتها ومصالحها. إن الرسالة الحضارية خضعت للغربنة الأمريكية فتحولت في الواقع إلى أزمة في التقاليد الحضارية الأمريكية التي غيبتها الكبرياء والغطرسة المتمثلة بقطبيتها وقوتها وانفرادها في العالم مما دفعها غرورها وعنجهيتها إلى احتقار وتجاوز جميع القيم الإنسانية وذلك من خلال المكان أو المنطقة التي تصبح خاضعة للتوسع الأمريكي تبرز ظاهرة السلوك الأمريكي الذي يقوم على إحلال البسيط محل المعقد والمتدني محل السامي وغرور البرابرة الأشرار الجدد محل كل ما هو مشحون بردات فعل النقد الذاتي، إن هذه اللعبة القاتلة التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية من أجل تغيير جميع القيم والمقاييس الإنسانية من أجل تمهيد الطريق لأمركة العالم.
الولايات المتحدة الأمريكية والبترول
البترول الذي أصبح يلقب بالذهب الأسود بعد أن أصبح شريان الحياة في تقدمها وتطورها باعتباره الديناميكية التي تمنح الحركة في الوسائل الإنتاجية منذ أن بدأت الحركة في الآلة إلى يومنا هذا، وسيبقى هو الشريان في التقدم والتطور في جميع مجالات الحياة الإنسانية. البترول هذه المادة التي وهبتها الطبيعة للإنسان وسعادته ورفاهيته واطمئنانه واستقراره خلقت له المتاعب والكوارث والدمار. هذه المادة التي خلقت المتناقضات لدى الإنسان السعادة والبؤس والحرمان. والتخمة والجوع والقوة والضعف، وخلقت الصراع والحروب بين أقطاب الرأسمالية العالمية والمنافسة بينهم من أجل الاستحواذ عليه لكي ينال القوة والسلطة في العالم.
لابد من وقفة نستعرض فيها تكوين ونشوء هذا الجبروت الذي يطلق عليه البترول أو الذهب الأسود، كانت البداية حينما تم العثور في الشواطئ البريطانية على قطع سوداء سميكة أطلق عليها الصلصال تفوح منها رائحة البترول وقابلة للاشتعال وعند تحليل تلك القطع الصلصالية تبين أنها تعود إلى العصر الجوراسي قبل 140 مليون عام وأثبت التحليل الكيميائي أن هذا الصلصال يحتوي على مادة عضوية من الطحالب البحرية وكائنات حيوانية ونباتية تطفو على المياه، فترسبت تلك المواد في باطن الأرض وتكونت منها الطبقة الصلصالية في العصر الجوراسي في قديم الزمان فتعرضت تلك الطبقات للحرارة الكبيرة من جراء الضغط عليها والمياه الحارة التي كانت تعيش فيها الطحالب بكميات كبيرة في وسط صخور زيتية على شكل ترسبات طينية محببة ناعمة الملمس تحتوي على نسبة عالية من المواد العضوية كمصدر يغذي نمو الطحالب البحرية، وقد كشف التقدم العلمي الذي حققته الكيمياء الجيولوجية بأن العينة الأولى من المادة الطحلبية الأولى الكثيفة يؤدي إلى نشوء البترول، والعينة الثانية التي تمتزج فيها مكونات نباتية كثيفة تؤدي إلى نشوء الغاز الطبيعي.

المصالح السياسية للدول الاستعمارية والبترول
في مطلع القرن العشرين كانت بريطانيا الاستعمارية تهيمن على مساحة كبيرة من دول العالم وكان الشرق الأوسط من ضمن تلك المساحة المستعمرة وكان الإنكليز لا يعيرون أهمية كبيرة لهذه المنطقة ما عدا اعتبارها ممراً إستراتيجياً إلى الهند وخوفها من الخطر القادم من الدب الأبيض (روسيا) بغية الوصول إلى المياه الدافئة بعد سيطرتها على مناطق واقعة على بحر قزوين. ومن أجل أن تجعل الدولة العثمانية تقف سداً منيعاً أمام ذلك الزحف الروسي، إلا أن أهمية تلك المنطقة برزت حينما أخذت ألمانيا في بداية القرن العشرين تخسر مستعمراتها شيئاً فشيئاً مما جعل السياسة الألمانية تتوجه بأنظارها نحو الشرق الأوسط فكانت البادرة الأولى التي قامت بها ألمانيا مد سكة حديدية تربط برلين ببغداد عاصمة العراق وكان هذا المشروع لأسباب عسكرية وليست اقتصادية لأنه سيتيح لألمانيا نقل قواتها العسكرية إلى المنطقة بسرعة تفوق السرعة التي كانت تجري بها الأساطيل البحرية والوسائل الأخرى، إن هذا المشروع الألماني قد أسفر عن نتائج مهمة بخصوص اكتشاف البترول في العراق، حينما كان المهندسون الألمان يقومون في مدينة الموصل شمال العراق بعمليات المسح الضرورية لمد سكة الحديد المزمع إنشاؤها، كان هؤلاء المهندسون قد وقعوا على مناطق يطفح منها البترول بكميات كبيرة وأخبروا بذلك الحكومة التركية العثمانية التي كان العراق تحت سيطرتها، فقامت الحكومة التركية بتكليف (كولبنكيان) بإجراء عملية مسح واسعة وعميقة في تلك المنطقة، وكان (كولبنكيان) ابناً لرجل أعمال أرمني له إطلاع جيد بشؤون البترول وسبق له وأن عمل في مجال التنقيب على البترول في منطقة باكو الواقعة على بحر قزوين، لقد أدرك (كولبنكيان) أهمية هذا الاكتشاف فأصبح الفرصة المناسبة لبناء اللبنات الأولى لصناعة البترول في الإمبراطورية العثمانية.
أما في بلاد فارس التي تقع شرق الإمبراطورية العثمانية الذي كانت تحت سلطة الشاه مظفر الدين والذي كان يحكم فارس بالاسم فقط وكانت السلطة الحقيقية لأصحاب الشأن في طهران الذين كانوا يتابعون الأخبار المتعلقة باكتشاف البترول في منطقة قريبة من الأراضي الفارسية مما دفعهم ذلك إلى التنقيب في الأراضي الفارسية وقد قام بهذه المهمة الجنرال (انطوان كتايجي) الذي كان يشغل منصب رئيس مصلحة الجمارك الذي كان على علم بوجود الكثير من المناطق التي يطفح منها البترول في بلاد فارس مما شجعه ذلك ودفعه للسفر إلى لندن واتصاله مع المغامر (وليم فوكس دي اركي) الذي كان قد كسب ثروة عظيمة من خلال استثماراته في مناجم الذهب في استراليا، لقد قدم ذلك المغامر إلى فارس ودفع للشاه مبلغ عشرين ألف جنيه مقابل قيام (وليم فوكس) بالبحث والتنقيب عن البترول في الجنوب الغربي من بلاد فارس، وهكذا شهد عام/ 1902 أول عمليات الحفر والتنقيب وقد استطاع هذا الرجل أن يحفز ويدعو شركة بورما للبترول في مشاركته للمشروع وكان لهذه الشركة خبرة طويلة في مجال صفقات البترول، وفي يوم 26/5/1908 تدفق البترول على شكل نافورة بلغ ارتفاعها أكثر من 160 متراً في المنطقة المسماة مسجد سليمان، وفي هذه اللحظات صرخ (وليم فوكس) قائلاً : (من الآن فصاعداً سيتغير العالم تغيراً جوهرياً) وفعلاً أن ذلك القول لم يجاف الحقيقة إذ من خلال هذا الاكتشاف قد عثر الباب الموصل إلى حقل بترولي يحتوي على ما يقرب من نصف البترول الذي كان قد عثر عليه في العالم أجمع حتى ذلك الحين، وبهذا تصدرت بلاد فارس قائمة الدول المنتجة للبترول.
الاستعمار البريطاني للعراق
في القرن الثامن عشر برزت إلى الوجود الطبقة البورجوازية واستطاعت أن تزيح الطبقة الإقطاعية من مراكز نفوذها وتنتزعه منه كلياً في القرنين التاليين. فكانت التجارة في المرحلة الأولى والصناعة في المرحلة الثانية يعتبر العنصر الأهم في توطيد سلطة الطبقة البورجوازية، وكانت هذه الطبقة الجديدة تنهج مختلف السبل من علمية واقتصادية لاستدرار الكسب والثراء، فبدأ التزاحم بين الدول الأوروبية كل منها تبغي لنفسها أكبر قسط من الأرباح مما جعلها تطمع في خيرات الدول غير الأوروبية في مختلف قارات العالم وقيامها بمغامرات توسعية استعمارية، فبنت الأساطيل التجارية لكي تحمل لها ثروات البلدان المختلفة وترسل إلى تلك البلدان المستعمرة مصنوعات معاملها، وكانت بريطانيا قد برزت في هذا المجال حيث كانت تمتلك أكبر أسطول من السفن في العالم كما كانت تخضع لاستعمارها مناطق واسعة جداً في جميع أنحاء المعمورة حينما انطلقت ثورة الانكليز على البحار فأخضعوها لمراكبهم وامتدت تجارتهم إلى أقاصي المعمورة يقايضون ويتقايضون مع سكان الأقطار البعيدة، أحياناً بشرف وأحياناً بدون شرف عن طريق الاغتصاب والقرصنة.
كان الشرق الأوسط من ضمن المنطقة الواسعة من العالم التي تهيمن عليها بريطانيا في مطلع القرن العشرين، إلا أن هذه المنطقة لم يعيروا لها الإنكليز في البداية أية أهمية لأن طبيعتها كانت صحراوية قاحلة أو براري تكثر فيها الأحجار والحصى، وإن تخللتها هنا وهناك واحات ذات خضرة وزرع تعتمد على مياه عيون الآبار، كما أن هذه المنطقة لم تكن كثيفة السكان، وإن وجد بعض السكان فيها. فكانوا إما بدواً رحلاً، أو أبناء القرى والأرياف الذين يعيشون في الواحات التي تتواجد فيها عيون المياه وبعض المزروعات، كان البريطانيون ينظرون إلى أولئك البشر على أنهم (قوم كالحو الوجوه). كما كان الصيف في هذه المنطقة يتسم بالحرارة الشديدة التي لا تطاق مما جعل تلك المنطقة لا تروق لجند صاحبة الجلالة ملكة بريطانيا العظمى في العيش والحياة فيها.
كان لاكتشاف البترول في تلك المنطقة أهمية كبرى للدول الأوروبية حيث قوبل ذلك الحدث بالتهليل والفرح لدى بريطانيا وبشكل خاص باهتمام اللورد الأول للأسطول البريطاني (ونستون تشرشرل) الذي كان يراقب الوضع الدولي وتطوراته بقلق وريبة، فقد كان يخشى توسعاً روسياً في الشرق الأوسط كما كان يرتاب من خطة الألمان الرامية إلى مد سكة حديد تربط برلين ببغداد. كما كانت الضغوط تزداد عليه من رجال الأسطول البحري البريطاني وبشكل خاص من أميرال البحر العنيد (فشر) الذي كان يطالب بعدم استخدام الفحم الحجري في تشغيل الأسطول البريطاني واستبداله باستخدامه البترول، وبما أن البترول لم تكن منابعه متوفرة في بريطانيا (حيث بترول بحر الشمال كان لا يزال غير مكتشف) مما جعل بريطانيا في مشكلة حساسة بخصوص تزويد أسطولها البحري بالبترول، مما دفع ببريطانيا اللجوء إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتزويدها بالبترول لتشغيل أسطولها البحري، إلا أن ذلك كان لا يروق لأمير الأسطول (تشرشل) بأن يكون تابعاً للبترول الأمريكي وشركة شل ذات العلاقة الوثيقة بالحكومة الهولندية. كما كانت في تلك الحقبة نشوب منافسة شديدة بين شركات البترول العملاقة (رويال دتش/ شل وغولف وتكساسو واستاندرد أوبل نيوجرسي) مما دفع بـ (تشرشل) بالتفكير للسيطرة على منابع البترول المكتشفة حديثاً، في البداية استطاع (تشرشل) أن يقنع حكومته بضرورة المشاركة في مشروع (وليم فوكس) بنسبة 50٪-;- فتأسست شركة البترول الإنجليزية – الفارسية ومع مرور الوقت استطاعت بريطانيا أن تستحوذ على جميع حصص الشركة التي أصبح اسمها (بريتش بتروليوم التي يرمز لها BP) وأصبحت تزود الأسطول الحربي البريطاني بالبترول.
أصبحت منطقة الشرق الأوسط محط أنظار وأطماع الدول الأوروبية وكما هو معروف فإن الأزمات والخلافات والصراعات التي تحدث بين الدول الاستعمارية تدفعها إلى إشعال الحروب من أجل السيطرة والاستحواذ على الدول واستعباد شعوبها، ففي الثامن والعشرين من حزيران عام/ 1914 قام الطالب الجامعي المسلول (كافريلو بريتسب) في اغتيال ولي عهد النمسا وقرينته في مدينة سراييفو في البوسنة والهرسك حينما كانا يقومان بزيارة رسمية لها مما أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى، وفي الحقيقة والواقع أن الدوافع لتلك الحرب كانت روائح البترول التي يسيل لها لعاب الرأسمالية العالمية وراءها من أجل احتلال منابع البترول واستغلاله لمنافعها الخاصة.
إن اكتشاف البترول في العراق وإيران قد جلب الأنظار إلى المنطقة وأصبحت بريطانيا العظمى وفرنسا تراقبان ما يحدث في الشرق الأوسط عن كثب، لاسيما وأن هاتين الدولتين كانتا على ثقة بأن النصر سيكون حليفهما في أوروبا باعتبارهما القوتين العظيمتين على الساحة الدولية، وأن امتداد نفوذهما وسيطرتهما على هذا الجزء من العالم يعتبر في نظرهما حقاً من حقوقهما في استعمار الأوطان واستعباد واضطهاد شعوبها. إلا أن اكتشاف الذهب الأسود في تلك المنطقة أثار حفيظة بريطانيا كما أثار حفيظة فرنسا مما أثار المنافسة والصراع بينهما لأن كل واحدة منهما كانت إنها هي وحدها صاحبة الحق في الهيمنة على المنطقة برمتها، إلا إنهما استطاعتا في نهاية المطاف من خلال الحوار والمفاوضات بالاتفاق على تقسيم المنطقة بينهما بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. لقد مثل بريطانيا في المفاوضات (مارك سايكس) لقد كان هذا الرجل يمتلك معلومات واسعة وخبرة كبيرة في المسائل الشرقية من خلال كتاباته ورحلاته ومعرفته الواسعة عن الإمبراطورية العثمانية، وقد مثل فرنسا في المفاوضات قنصلها في بيروت (شارلز جورج بيكو) فتمخضت المفاوضات عن اتفاق الطرفين على منح فرنسا (سوريا ولبنان والموصل في شمال العراق) أما باقي المنطقة فأصبحت من حصة بريطانيا. وأمست هذه الاتفاقية التي عقدت عام/ 1916 تعرف باتفاقية سايكس – بيكو.
لقد اتسمت السياسة البريطانية بالمراوغة والنفاق والكذب من أجل الوصول إلى أهدافها في الاستحواذ على منابع البترول في المنطقة حيث استطاعت من خلال تحالفها مع فرنسا تحقيق المآرب البريطانية في الخليج العربي وفي بلاد فارس، وأزاحت روسيا من حلبة المنافسة وإجبارها على الانسحاب من المناطق التي احتلتها في بلاد فارس في السنوات الأولى من الحرب العالمية الأولى علماً أن هذه المناطق التي كانت تحتلها روسيا تمثل نصف البلاد الفارسية التي تحتوي على البترول. وفي نفس العام/ 1916 عقد مؤتمر في القاهرة، جرى الاتفاق فيه على تعيين الأمير الهاشمي فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، وكان هذا الاتفاق يشترط على الملك فيصل أن يقوم المندوب السامي البريطاني (برسي كوكس) بإدارة وتقرير سياسية العراق من خلف الكواليس، وكانت معالم السياسة البريطانية تتحدد بالاستجابة لمطالب العشائر العراقية والضغوط التي يمارسها السعوديون في الجنوب نتيجة الحساسية بين السعوديين والملك فيصل بن الحسين بسبب العداء السابق بينهما، كما كانت السياسة البريطانية تهدف إلى عدم إعاقة المصالح النفطية البريطانية والفرنسية، وعدم المساس بالمصالح البترولية التي أصبحت تبديها الولايات المتحدة الأمريكية حديثاً، وهذا يعني أن لندن وباريس وواشنطن قد أصبحت على اتفاق تام بأنه لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يترك للدول الحديثة النشأة في الشرق الأوسط مصير ما لديها من مخزونات وخيرات طبيعية.
بعد دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب عام/ 1917 اتضح بجلاء أن البترول ليس مورداً اقتصادياً تحتاجه الصناعة فحسب، بل هو مادة عظيمة الأهمية من الناحية الإستراتيجية.
اهتمام الرأسمال العالمي بالمنطقة والتوسع في البحث واكتشاف البترول
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى عام/ 1918، ظهر على مسرح الأحداث مرة ثانية الشخصية الحازمة والرجل ذو الإرادة القوية (كولبنكيان) الذي لا زال يسعى جاهداً إلى إحياء حلمه في استغلال نفط العراق بدون قيد أو شرط وكان عليه أن يعمل أولاً على إحياء الامتياز الذي كانت شركة البترول التركية قد حصلت عليه عشية اندلاع الحرب، وفي الواقع أن ذلك لم يكن يسيراً بل شديد التعقيد، ذلك لأن الإدارة البريطانية كانت قد استولت على حصة المصرف الألماني (دويتشه بنك) عقب اندحار ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، إضافة إلى ذلك إن الأمريكيين قد أصبحوا الآن طرفاً في المنافسة الدائرة رحاها على أرض المنطقة، فشركة ستاندارد أويل (موبيل) لم تكن قد سوقت البترول في الشرق الأوسط قبل الحرب بسبب حصولها على امتيازات أخرى من الحكومة العثمانية تخولها باستخدام البترول في الأراضي السورية وفلسطين أيضاً وهكذا راحت الشركة تضغط على وزارة الخارجية الأمريكية مطالبة إياها بتقديم المساعدة الضرورية للحصول على موقع قدم لها في قطاع النفط العراقي، وفي شهر أيلول من عام/1919 كان قد جرى إرسال اثنين من الجيولوجيين الأمريكيين لدراسة الطبقة الجيولوجية للمنطقة المحيطة بمدينة كركوك الواقعة إلى الشمال من بغداد، إلا أن هذا الأمر حينما بلغ سمع البريطانيين وجهوا تعليماتهم إلى المندوب السامي البريطاني في بغداد يطلبون منه طرد الخبيرين الجيولوجيين من العراق بحجة أن التعليمات الصادرة إبان الحرب كانت ولا تزال تضع قيوداً على تنقل الأجانب في الأراضي العراقية.
وفي السابع والعشرين من شهر أبريل عام/ 1920 وقعت فرنسا وبريطانيا اتفاقاً آخر في مدينة سان ريمو ينص على أن يوضع كل المستطيل العربي الواقع بين البحر الأبيض المتوسط وحدود إيران تحت حكم الانتداب، بحيث تقسم سوريا إلى ثلاثة أجزاء منفصلة هي فلسطين ولبنان والجزء المتبقي من سوريا وأن يبقى العراق من دون قسمة، ووزعت الانتدابات بحيث تلائم مصالح ومطامع الدولتين، فوضعت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، ويكون العراق وفلسطين تحت الانتداب البريطاني كما أضيفت فقرة تنص على أن الانتداب على فلسطين سيلتزم بتطبيق وعد بلفور المشؤوم في الواقع أن هذا الاتفاق لم يكن سوى اتفاق على توزيع الثروة البترولية المحتمل العثور عليها في المنطقة وتقسيمها بين الدولتين الموقعتين على هذه الاتفاقية، وكانت هذه الاتفاقية قد استثنت بلاد فارس وذلك لأن الامتياز الذي كانت شركة برتش بتروليوم BP قد حصلت عليه منها ظل ساري المفعول، وكان رئيس شركة ستاندارد أويل قد حصل على صورة من هذه الاتفاقية التي اتسمت بالسرية حتى ذلك الحين وسرعان ما وصل خبر هذه الاتفاقية المبرمة سراً بين بريطانيا العظمى وفرنسا إلى سمع وزارة الخارجية الأمريكية مما أدى بالولايات المتحدة الأمريكية أن تتحرك وتبدي احتجاجها على هذه الاتفاقية على نحو رسمي، وكان لدى الولايات المتحدة الأمريكية خبير يمتاز بالخبرة والمعرفة في مسائل تسويق البترول هو (جون. د. روكفلر) رجل الأعمال الموهوب الذي كان قد برزت سمعته باكتشافاته النفطية وبتسويقه للبترول في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر مشيداً القاعدة الأساسية لإمبراطوريته العظيمة، ومع أن القطاع النفطي بدأ في الوهلة الأولى لا يجني الربح الوفير فقط في عمله وإنما كان يعتبر قطاعاً اقتصادياً لا يخلو من المخاطرة والخسارة، إلا أن هذا المشروع تطور بسرعة فائقة وتحول إلى سوق عظيمة ذات أبعاد عالمية تشارك فيها أطراف كثيرة تسودها مصالح متعددة ومتضاربة، وكان روكفلر الرجل البارز والناشط في أعمال القطاع البترولي الذي أدرك في الحال على أهمية البترول بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، كما عرف في وقت مبكر أن الاحتياطي الوطني من البترول لن يسد حاجة البلد إلى أبد الآبدين، وعلى خلفية السياسة النفطية الأمريكية الداخلية التي حدد روكفلر معالمها الرئيسية، أصبحت الإستراتيجية البترولية الأمريكية لحقبة طويلة من الزمن. وانطلاقاً من القفزة الكبرى للاقتصاد الأمريكي من خلال التطور السريع في صناعة السيارات والبواخر والطائرات، وعلى الرغم من التحديات الجيو – إستراتيجية الجديدة التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى لم ترضخ الولايات المتحدة الأمريكية للحلول الأوروبية الصرفة على اعتبار أن كل شيء كان معرضاً للخطر، المصالح الاقتصادية لشركات النفط الأمريكية، والمصالح الأمريكية الوطنية، والمصالح العالمية التي حازتها لنفسها الولايات المتحدة الأمريكية بصفتها إحدى الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.
في السياسة لا توجد علاقات وإنما توجد مصالح ولذلك فإن الدول الرأسمالية تسعى وراء الكسب والثراء لذلك كانت الشكوك والريب وعدم الثقة تسود بينها وتخيم عليها، كانت بريطانيا العظمى تظن أن الأموال الأمريكية هي التي تخلق وتحرض على الاضطرابات السياسية التي بدأت تلوح في الأفق في كل من تركيا والعراق، وكان هذا الظن قد تعزز حينما ألقي القبض على أحد مثيري الاضطرابات يحمل رسالة ومبالغ كبيرة لإثارة الاضطرابات والمتاعب بوجه بريطانيا العظمى كما كانت شركات البترول العملاقة تعمل جاهدة من أجل تقويض أسس الهيمنة البريطانية في الشرق الأوسط والعالم، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تعلن عن استعدادها لتكون البديل لها، على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تبدي استعدادها لمساعدة بريطانيا وتعزيز ودعم الموقف البريطاني، إلا أن ذلك الموقف يتم وفق شروط أمريكية وهي أن تتاح الفرصة أمام الشركات الأمريكية في قطف الثمار، وكان رئيس قسم الشرق الأوسط الأمريكي (ألن دالس) الذي أصبح فيما بعد رئيس المخابرات الأمريكية في مقدمة الساهرين على تحقيق هذا الحل الدبلوماسي، فأذعنت بريطانيا لهذا الحل وأرسلت رئيس شركة برتش بتروليوم (السيرجون كادمن) إلى أمريكا بغية حل المشاكل المعلقة بين الطرفين، وقد استمرت المفاوضات في نهاية المطاف عن مراعاة المصالح البترولية الأمريكية وإعادة بناء هيكل شركات البترول في المنطقة، فشركت البترول التركية (TPC) تحولت إلى شركة النفط العراقية (IPC) وأصبحت أسهم هذه الشركة تتوزع بين الشركة الحكومية البريطانية وشركة رويال داتش/ شل وشركة اكسون الأمريكية وشركة البترول الفرنسية.
إن الشركات النفطية العالمية المساهمة في شركة النفط العراقية أصبحت مقيدة اليدين من حيث تحقيق مصالحها الوطنية لأن الاتفاقية المعقودة بين هذه الشركات تضمنت شرطاً يمنع من خلاله انفراد طرف واحد بالعمل على استغلال الثروة النفطية في المنطقة وبما أن الامتيازات الأصلية كانت خاصة بشركة البترول التركية التي انبثقت منها شركة النفط العراقية هي التي حصلت على الامتياز الأصلي إبان الحكم العثماني فإن هذا الشرط أصبح يشمل جميع نشاط الشركات الدولية ما عدا شركة النفط التركية بالرغم من تحولها إلى شركة النفط العراقية، التي كان لها حق التنقيب عن النفط على مجمل الأراضي التي كانت تتبع للدولة العثمانية مما أدى إلى نشوب خلاف حول الحدود العثمانية، إلا أن كولبنكيان برز في هذا الموضوع وأظهر حنكة دبلوماسية. ففي سياق النقاشات الحادة وفي خضم شجار الأطراف المختلفة على تحديد حدود الدولة العثمانية، سحب كولبنكيان الذي كان موجوداً بين الأطراف المختلفة قلماً أحمر وراح يعلن أنه بصفته أرمنياً وأعلم الحاضرين بحدود الدولة العثمانية وأخذ يرسم بالخط الأحمر على الخارطة الدولة العثمانية التي تحدها من الشمال تركيا الحديثة وقبرص وسائر الجزيرة العربية من الجنوب، واستثنى الخط المملكة المصرية وبلاد فارس وإمارة الكويت، وجاء استثناء الكويت بالرغم من أنها كانت في السابق تابعة للدولة العثمانية، إلا أنها أصبحت منذ عام/ 1899 مركزاً تجارياً مهماً يقع تحت هيمنة بريطانيا العظمى ويتمتع بحكم ذاتي، كان الخط الأحمر الذي رسمه كولبنكيان قد عرف حدود الكويت على نحو دقيق جداً، بخلاف الخط الذي رسمه للحدود الفاصلة بين العراق والمملكة العربية السعودية حيث كان الخط الفاصل بين البلدين يقع في صحراء مقفرة لا تحظى بأي اهتمام، إلا أن الدول الغربية الاستعمارية تقاسمت المنطقة برمتها من خلال خطوط حمراء رسمتها لنفسها بعيداً عن طموحات ورغبات سكان المنطقة لقد راح كولبنكيان ساعياً بكل طاقته بالتنقيب عن البترول في هضبة مترامية الأطراف على الأراضي العراقية، وفي الساعة الثالثة من فجر الخامس عشر من شهر أكتوبر عام/ 1927 في كركوك تصاعد من بئر نفطية عمود من النار عظيم ينبئ بالعثور على البترول الذي كان الحقل البترولي الثاني في الشرق الأوسط والذي يبلغ مخزونه من البترول حوالي ستة عشر مليار برميل بترولي، وكان هذا الحقل البترولي يعتبر واحداً من أغزر عشرة حقول بترولية عثر عليها في العالم قاطبة حتى الآن.
كان تأسيس شركة النفط العراقية (IPC) أحد الركنين الأساسيين اللذين ستقوم عليهما تلك السياسة البترولية في الشرق الأوسط التي سيقررها من الآن فصاعداً اللاعبون الدوليون وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، إما الركن الثاني في اللعبة الدولية تكمن في اكتشاف ذلك الخزين النفطي الضخم في كركوك فهذا يعني أن المنطقة برمتها حبلى بالنفط الغزير يبشر بالربح الوفير والثراء الكبير. في عام 1925 دخل حلبة البترول خبير نفطي كبير النيوزلندي الرائد (فرانك هولمز) الذي كان قد أجرى مفاوضات مكثفة للحصول على امتياز للتنقيب عن البترول في أجواء مشحونة بالصراع والمنافسة الشديدة بين الأمريكيين من ناحية والبريطانيين من ناحية أخرى، وفي ظل ظروف عمتها ضغوط شديدة مارستها على ذلك الخبير بريطانيا العظمى على وجه الخصوص، تركزت اهتماماته في المقام الأول على البلدان الواقعة خارج الخط الأحمر، وعلى شركتي البترول العملاقتين (غولف أويل بتسبرغ وشغرون) اللتين لم تكن لهما حصة في شركة النفط العراقية مطلقاً، والتي استطاع هذا الخبير من توحيد هاتين الشركتين عبر مفاوضات مرهقة عبر عدة طرق ملتوية غير مباشرة، وقد استطاع هولمز تحقيق نجاحه الأول في البحرين، إذ حصل على امتياز للتنقيب عن البترول لقاء قيامه بحفر بئر للماء في دار شيخ مشايخ البلاد، وفي الثالث من شهر مايس من عام/ 1932 أسفرت عمليات التنقيب عن العثور على كميات كبيرة من البترول في البحرين وبما أن البريطانيين كانوا قد أدركوا أن الصناعة البترولية لا يمكن تطورها إلا إذا توفرت رؤوس أموال إضافية جديدة، مما جعلهم يواجهون الخطط والمشاريع الأمريكية في الكويت بالريب والظنون، بعدما أصبحت الكويت بعد اكتشاف النفط في البحرين الإقليم الثاني الساخن في منطقة الخليج العربي، ولأن أيادي الشركة البريطانية الحكومية (برتش بتروليوم BP) قد أصبحت مكبلة اليدين بالنظر إلى الحصة التي تمتلكها في شركة النفط العراقية، لذا لم يكن هناك مجال للتدخل على نحو وطني متفرد، من هنا فقد سلك هولمز طريقاً استثنائياً باعتبار أن هذه الشركة منافس مباشر لشركة غولف أويل الأمريكية، واستطاعت شركة (برتش بتروليوم BP) أن تقدم عرضها الخاص بها فقط إلى أمير الكويت، وبعد مساومات كثيرة ومفاوضات مضنية جرت خلف الكواليس، والتدخلات الواسعة من جانب الحكومتين الأمريكية والبريطانية غيرت الشركتان العملاقتان تكتيكهما وقررتا التعاون والتضافر، وتمخض هذا التحالف عن تأسيس شركة النفط الكويتية، وقد وقع أمير الكويت على الامتياز في الثالث والعشرين من شهر ديسمبر عام/ 1934. وللوهلة الأولى كان التنقيب مخيباً للآمال لأن عمليات الحفر جرت في هضبة اختيرت اعتباطاً ومصادفة إلى حد ما لأن التنقيب عن النفط شمل طبقة واسعة المساحة تتكون من طبقات تعود إلى العصر الطباشيري وعلى عمق يصل إلى (165م) إلا أن هذه العمليات في التنقيب لم تسفر عن مؤشرات تؤكد عن وجود نفط في المنطقة لأنها تشكل بادية) كما لم يجرِ التعرف على التكوين الجيولوجي للمنطقة من خلال دراسة القشرة الأرضية الخارجية المنبسطة، مما دفع بشركة النفط الكويتية القيام بدراسات (جيو– فيزيائية) انطلاقاً من القياسات التي جرت في المتكونات الأرضية. في عام/ 1938 جرت عملية الحفر في منطقة (البرقان) فأسفرت عن نجاح باهر وخير وفير حيث تدفق البترول من البئر بخمسة وثلاثين ألف برميل، كما أن هذا الحقل يحتوي على 60 مليار برميل من النفط يعود أصلها إلى العصر الطباشيري الوسيط وهذا الحقل يعتبر الأكبر والثاني في العالم قاطبة.
كان عبد العزيز ابن سعود ملك المملكة العربية السعودية، الشخصية الأخرى المهمة ذات التأثير الكبير على القطاع النفطي والتطورات التاريخية التي مر بها هذا القطاع في منطقة الشرق الأوسط، كان الملك ابن سعود شيخ مشايخ العرب في الجزيرة العربية، قد قام بحملات واسعة وكبيرة، أخضع في سياقها القبائل العربية في المنطقة لحكمه وسلطته وبسط من خلالها سلطانه على باقي مناطق الجزيرة العربية، وبذلك يعتبر مؤسساً للمملكة العربية السعودية، وكان هذا الرجل معروفاً بالحنكة والدهاء والدبلوماسية كما كان هذا الرجل يمتاز بمواهب فذة كان يوظفها لحل المنازعات التي تحدث بين القبائل العربية كما كان يمتاز بالشفافية والمرونة في تعامله مع الأسر التجارية المتنفذة في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة مما جعلت من هذه الشخصية أنموذجاً يمتاز بالسمعة الطبية والأفعال المحمودة في مناطق واسعة خارج حدود بلاده.
حينما وحد ابن سعود مقاطعات المملكة العربية السعودية وأخضعها لسلطانه اعترف بسلطان بريطانيا العظمى على جميع المشايخ الواقعة على الخليج العربي مما دفع ببريطانيا العظمى في عام/ 1927 الاعتراف بالمملكة العربية السعودية رسمياً. كان المورد المالي للملكة العربية السعودية يعتمد على ما ينفقه حجاج بيت الله الحرام في موسم الحج، وفي عام/ 1929 أثر قيام الأزمة العالمية الكبرى تعرضت المملكة العربية السعودية إلى ضائقة مالية شديدة بسبب الركود الكبير الذي خيم على الاقتصاد العالمي بسبب تلك الأزمة وعدم توفر المال لدى الناس لأداء فريضة الحج، وفي هذا الوقت بالذات في مدينة جدة يوجد مواطن بريطاني (هاني جون فلبي) كان سابقاً موظفاً حكومياً في الإدارة البريطانية في الهند، قد نقل للعمل في مدينة جدة السعودية، ثم أصبح ذلك الرجل يمارس الأعمال الحرة في المملكة العربية السعودية إلى جانب العمل في مصالح شركات أخرى مثل شركة فورد الأمريكية للسيارات. كما كان ذلك الرجل شغوفاً باللغات الأجنبية ومعجباً بجمال طبيعة الجزيرة العربية ومسحوراً بشجاعة وكبرياء سكانها البدو الرحل، وبصفته مستشرقاً بريطانياً مولعاً بالمعرفة والاطلاع بقضايا الأمة العربية، فمن الطبيعي أن هذا الرجل ذو النشأة والجذور الاستعمارية لم يكن يضمر الخير والعطف للعرب وإنما التأييد والعمل من أجل المصالح البريطانية في المنطقة، كان هذا الرجل غريب الأطوار، فهو يمجد الحرية الفردية ويتمرد على السلطات الحكومية معتبراً تلك السلطات وسيلة قهر واستعباد كما أن المبادئ والتقاليد المحافظة التي كانت تخيم على الطبقة الأرستقراطية الإنجليزية لم تكن لديه سوى رمز للرياء والنفاق الذي يرفضه رفضاً شديداً ويحتقره احتقاراً كبيراً، إن هذه الصفات التي كان يتحلى بها (فلبي) جعلته يحظى بود واحترام ومنزلة لدى الملك عبد العزيز ابن سعود وأصبح مستشاره الخاص. وحينما تدهورت الحالة الاقتصادية في البلاد وتراجعت مداخيل المواطنين تراجعاً ينذر بالخطر على معيشتهم وحياتهم، اقترح فلبي على الملك السعودي أن يقيم اتصالاً بشارلز كرين الذي يعتبر أحد أكبر الصناعيين الأمريكيين الذي يمولون مشاريع تنموية في مصر واليمن وكان هذا الشخصية الأمريكية من المعجبين والمهتمين بالبلاد العربية، وقد استجاب الملك السعودي لمشورة فلبي وقام بزيارة كرين وتنعم بكرم ضيافته وطلب من مهندس المناجم والخبير في شؤون الآثار (كارل توتيشيل) بالتنقيب والبحث في المملكة عن ثروات مائية وبترولية، وبالرغم من أن الملك لم يكن مهتماً كثيراً بالبترول إذ كانت اهتماماته الرئيسية تدور في المقام الأول حول العثور على الثروات المائية وفي شهر أبريل من عام/ 1931 عاد توتشيل من رحلته الاستكشافية بنتيجة مفادها أنه ليس هناك احتمال كبير في العثور على ثروات مائية ذات شأن، إلا أنه ثمة مؤشرات توحي بوجود ثروة تغطية في شرق البلاد، وفي عام/ 1932 عثرت شركة البترول الأمريكية العملاقة (شيفرون) على موارد بترولية في البحرين، أي في الإمارة المحاذية للمنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية، مما دفع بالملك السعودي بإعادة ترتيب اهتماماته وطلب من المهندس توتشيل بجذب رؤوس أموال أمريكية للتنقيب عن البترول في المملكة، وكانت شركة (شيفرون) قد أبدت اهتماماتها بهذه التوجيهات الجديدة وأرسلت مندوباً عنها مكلفاً بالتمهيد لعقد اتفاق تحصل بموجبه شركة (شيفرون) على امتياز التنقيب. وقد صادف أن ظهر على الساحة في ذلك الوقت شخص اسمه (ستيفن لونكريك) يعمل موظفاً كبيراً في شركة (برتش بتروليوم BP) ويعمل أيضاً مع شركة النفط العراقية، كما أن فلبي كان قد أقام علاقات وطيدة مع الشركتين العملاقتين (الشركة الأمريكية والشركة البريطانية) إلا أنه سرعان ما أدرك أن شركة برتش بتروليوم أصبحت تتحكم في موارد نفطية عظيمة من خلال الامتيازات التي حصلت عليها في الشرق الأوسط، ولابد من الإشارة هنا، بأن الشركة البريطانية لم تكن تنوي في الواقع عقد اتفاق لاستخراج البترول وإنما كانت تريد الحيلولة دون قيام المنافسين لها باستخراج البترول مما دفع بـ (فلبي) إلى إنهاء مواصلة المباحثات مع الشركة البريطانية وهكذا أمست شركة (شيفرون) الأمريكية الشركة الوحيدة الموجودة في الساحة السعودية مما جعلها أن تحصل على امتياز يخولها التنقيب عن النفط لقاء دفعها مقدمة مالية بلغت (35 ألف جنيه إسترليني ذهبي) وعبئ الذهب في سبعة صناديق ونقل من أمريكا إلى المملكة العربية السعودية على سفينة الشحن التي كانت متوجهة إلى المملكة العربية السعودية، وبهذه الأموال استطاعت المملكة العربية السعودية أن تتخطى الضائقة المالية التي مرت بها البلاد آنذاك، ومن ناحية أخرى حصلت شركة (شيفرون) من خلال هذه الأموال على امتياز استخراج البترول في بلد يعد أحد أغنى بلدان العالم بالنفط (يحتوي حسب ما تبين لاحقاً وبناء على حسابات اليوم الراهن، على ما يقرب من عشر البترول التقليدي المكتشف في العالم أجمع).
كانت فرنسا وبريطانيا العظمى بعد الحرب العالمية الأولى قد عقدنا العزم على ملء الفراغ الذي نشأ من جراء انهيار الدولة العثمانية، إلا أن الثقة والمصداقية لم تكن تسود العلاقات بين هذين البلدين، حيث اتسمت علاقتهما بالريب والشكوك، إضافة إلى ذلك إن الحرب العالمية الأولى الضروس كانت قد أنهكت كلتا الدولتين. كان هناك طرف آخر يمتلك جميع الإمكانيات المادية والمعنوية يترصد الفرص ويستغل الظروف من أجل الاستحواذ والحصول على المغانم في تلك المنطقة. وكانت تلك الدولة هي الولايات المتحدة الأمريكية التي شاركت في الحرب العالمية الأولى عام/ 1917 قبل انتهاء الحرب بشهور قليلة، إلا أنها أعلنت وطالبت بحقها في الحصول على المغانم مثل الدول الأخرى المشاركة في الحرب، حيث أدركت الولايات المتحدة الأمريكية أن منطقة الشرق الأوسط تعتبر المنطقة الدسمة والوفيرة في المغانم، وقد احتكرت هذه المغانم بين بريطانيا العظمى وفرنسا، إلا أن في النهاية لم تحصل فرنسا من غنائم النفط سوى الربع من نفط العراق وعلى سوريا ولبنان الخالية من النفط، أما البريطانيون فقد نالوا من الغنائم النفطية في منطقة فارس والكويت، أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد حصلت على حصة الأسد أي على نفط المملكة العربية السعودية. لم يكن هذا التوزيع للمغانم حصيلة رؤى إستراتيجية مدروسة وجرى التفاهم عليها ومقررة مسبقاً وإنما كانت حصيلة عمليات خداع وتدليس تحققت بفعل مقامرات ومغامرات لعبت فيها الشركات الأمريكية دوراً لا يستهان به، بالرغم من أن البريطانيين قد تميزوا في لعبة المقامرات والمغامرات وكان ذلك واضحاً من خلال اتفاقهم وتعاملهم مع الأمراء الهاشميين وعهودهم الكاذبة التي قطعوها على أنفسهم، وهذه ليست سوى مثال واحد على النهج الذي كانوا يسيرون عليه في إدارتهم للسياسة الدولية، حينما ننظر إلى ذلك الواقع الموضوعي لتلك المنطقة المتنازع عليها يجب أن نلاحظ العامل السكاني الذي كان ضئيلاً نسبياً وخاصة في الصحراء كانوا من البدو الرحل، من هنا فقد كانت بريطانيا العظمى تتفاوض مع شيوخ ورؤساء القبائل الذي لا يزيد عدد أفرادها على بضعة آلاف من المقيمين في تلك المنطقة، وهؤلاء القوم يجثم على صدورها البؤس والفقر والجهل والحرمان، وتسكن مناطق منعزلة بعضها عن بعض بدون علاقات وروابط متينة تجمع بينهم، من خلال هذه الظروف والواقع أصبحت البنية القبلية متحجرة تسودها العصبية القبلية وأصبحت تعيق إمكانية جمع صفوف القبائل وتوحيدها من أجل الدفاع عن مصالحها المشتركة، كما اختلفت الرؤيا والتصورات عن كيفية صيرورة الدولة وانبثاقها في كل من إيران والعراق والمملكة العربية السعودية، وفي الحقيقة والواقع فإن اكتشاف الموارد النفطية الكبيرة في الشرق الأوسط في مطلع القرن العشرين كان يمثل أحد أوجه المدالية ولكي نستطيع أن نتعرف على الموضوع يجب أن نحيطه من جميع جوانبه ونأخذ الوجه الآخر للميدالية بنظر الاعتبار أيضاً، كما يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار أن العالم قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من بلوغ قمة الإنتاج، أي من وصول الإنتاج حده الأقصى، مما سيجعل الدول الكبرى المستهلكة للبترول تدرك هذه الحقيقة، مما سيترك آثاره السلبية على دول الشرقين الأدنى والأوسط ومن خلال هذه الإفرازات، فإن كل الدلائل تشير إلى تلبد أجواء المنطقة بالتوترات وحالة عدم الاستقرار وافتعال الأزمات والأحداث ونشر ظلالها في سماء البلدان المنتجة للبترول في هذه المنطقة من العالم، من خلال السياسة التي أنتجتها الدول الرأسمالية الغربية الكبرى في القرن الماضي (القرن العشرين) التي أدت إلى خلق شروط وأوضاع حددت المسيرة المأساوية التي مرت بها شعوب المنطقة عبر التاريخ، والآن بعد أفول نجم الدول الاستعمارية التقليدية (بريطانيا وفرنسا) ظهرت إلى الوجود الولايات المتحدة الأمريكية لتملأ الفراغ وتحل محل الاستعمار الامبريالي الذي انتهت مرحلته وتستحوذ بإخطبوطها الاقتصادي المعولم على منابع النفط في المنطقة التي هي في أمس الحاجة إليها انطلاقاً من مساعيها في السيطرة على هذا الشريان الاقتصادي الذي من خلاله تستطيع أن تمسك بقبضتها الحديدية على رقاب الدول الصناعية الكبرى.
القوس النفطي في العالم
إن أكثر ما يميز هذه المنطقة (إيران ومنطقة بحر قزوين والعراق والسعودية والكويت وبلدان الخليج العربي) عن غيرها من مناطق العالم، هو امتلاكها لثروات نفطية هائلة جعلت منه هدفاً مباشراً للتجاذبات الدولية، وتفيد الإحصاءات المتاحة عام/ 2000 أن هذه المنطقة تمتلك ما يراوح 65٪-;- من احتياطي النفط العالمي حسب تقديرات شركة برتش بتراليوم البريطانية، وهذا يعني أن هذه المنطقة تمثل أحد أبرز الدول المنتجة للنفط في العالم، كما تمثل أحد أبرز أوجه الخلل الذي تتصف به سوق النفط العالمية في تركز الاحتياط النفطي وبالتالي الإنتاج والتصدير في بلدان معينة وتركز الاستيراد والاستهلاك في بلدان أخرى، وهذا ما يطرح المسائل الجوهرية التي تتصل بموضوع سلامة الإمدادات وديمومتها وآليات تسعيرها وخصوصاً في المد بين الآني والبعيد من خلال تعاظم الحاجة إلى النفط وزيادة الاستيراد والاستهلاك، ومما جعل الخوف والقلق يسيطر على البلدان الصناعية الغربية الصدمتين في عام/ 1973 وعام/ 1979.
1- إيران :-
تمتاز هذه الدولة بأطول تاريخ بترولي، حيث يوجد البترول في سفوح جبال زاجروس الواقعة في الجنوب الغربي من البلاد، أما الجنوب الشرقي من هذا الحزام الجبلي فإن الغلبة فيه للغاز الطبيعي، ويتوزع المورد البترولي على منطقة تبلغ مساحتها 200 ألف كيلومتر، أي أنه يتركز في بقعة صغيرة مقارنة بالمساحة الكلية للبلاد والبالغة 1.6 مليون كيلومتر مربع، ومن جهة النظر الجيولوجي يقع الحزام البترولي الإيراني في الحافة الشمالية الشرقية من حوض ترسبت فيه، في العصر الوسيط والعصر الثالث الصخور الأم التي تولدت عنها موارد هيدروكربونية لاحقاً، وتشتمل الصخور الأقدم عهداً، الواقعة إلى الأسفل من المكامن البترولية على غاز طبيعي مكثف في المقام الأول، وتفسر هذه الحقيقة سبب غزارة المنطقة بالغاز الطبيعي، ويعود ثراء إيران بالبترول إلى الصخور الأم ذات الجودة المتميزة العائدة إلى العصر الطباشيري الوسيط، وبفضل الأملاح التي ترسبت فوقها أصبحت هذه الصخور مغطاة بغطاء مقفل محكم، وتقع غالبية حقول البترول على متون مرتفعات تتسم بالعلو وبشدة الانحدار، وللسبب هذا أصبحت الطبقات المحتوية على البترول ضئيلة السمك وتخضع لمفعول ضغط عال، وبفعل هذه الظروف وبالنظر لكثرة الغاز الطبيعي في المنطقة، أدت عدد من الحفريات إلى معدلات استخراج عظيمة، حتى وإن لم يكن الحقل كبيراً. ويتوزع حوالي 70٪-;- من البترول الإيراني على 28 حقلاً، ويعتبر حقل كاخسران الذي اكتشف عام/ 1928 أكبر حقول إيران قاطبة، وكان هذا الحقل يحتوي على ما يقارب 15 مليار برميل، وفي الثلاثينيات اكتشفت حقول أخرى كبيرة، لكن عمليات التنقيب لم تسجل في السنين التالية على نجاحات تذكر من حيث الاكتشافات، وفي الفترة الزمنية الواقعة بين نهاية الخمسينيات وبداية السبعينيات اندلعت موجة تنقيب ثانية فأسفرت عن اكتشاف ما يقارب ثلاثة أرباع مجمل البترول المكتشف في إيران، وفي عام/ 1999 اكتشف حقل يحتوي على 6 مليون برميل بترول، وكان هذا الحقل أكبر حقل يعثر عليه في الأراضي اليابسة منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً، وربما لا تزال توجد بضعة حقول قبالة الشاطئ، فهذه المنطقة لم يتم مسحها بعد وذلك لأن الخلافات على الحدود وما أدى ذلك إلى مشاكل سياسية كانت قد أعاقت حتى هذا الحين عمليات التنقيب عن البترول، ففي هذه المنطقة المتنازع عليها يمكن العثور على 10 مليارات برميل نفط، لقد بلغ الإنتاج النفطي ذروته في إيران عام 1974 حيث بلغ آنذاك ما يقارب 6 ملايين برميل في اليوم الواحد، ثم تراجعت كمية الإنتاج اليومي منذ ذلك التاريخ فأصبحت تبلغ الآن حوالي 3.5 مليون برميل في اليوم وكان تراجع الإنتاج في إيران بسبب تحديد حصتها في الإنتاج حسب قرار منظمة أوبك ومن ناحية أخرى بسبب الحرب التي دارت رحاها بين إيران والعراق، لأن غالبية المعارك كانت تنشب بالمناطق القريبة من حقول البترول، وإلى الوقت الحاضر تم استخراج كميات تقدر بـ 50 مليار برميل، وهنالك شكوك بأن تتمكن إيران مرة ثانية من زيادة كميات الإنتاج على نحو جوهري. تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن ما يتوفر من احتياطي نفطي في إيران يبلغ حوالي 90 مليار برميل وانطلاقاً من هذه الإحصائيات فإن إيران ما تزال تحتفظ بما يقارب من ثلاثة أرباع مجمل الرصيد البترولي الذي تم العثور عليه، إلا أن لدى الخبراء النفطيين شكوك بهذه الإحصائيات على اعتبار أن غالبية الحقول النفطية قد اكتشفت منذ أمد طويل، إلا أن شركة برتش بتروليوم التي كانت رائدة في هذا المجال تشير إلى أن الاحتياطي يبلغ حوالي 60 ملياراً، وكان الجيولوجي الإيراني (تكن) قد أكد في عام/ 1993 صدقية هذه التقديرات التي أعلنتها شركة برتش بتروليوم، فتكون إيران بذلك قد استخرجت حوالي نصف الرصيد البترولي الذي توافرت عليه فيما مضى من الزمن. وكانت عمليات التأميم قد أدت إلى فقدان الشركات العملاقة الأجنبية العاملة في الشرق الأوسط معظم حقوق الامتياز، وكانت هذه التحولات قد بدأت في إيران أولاً إبان حكم الدكتور مصدق عام/ 1951، كما قامت البلدان ذات الأهمية في إنتاج البترول قد أممت بدورها شركات النفط الأجنبية في السبعينيات وبالذات في العراق في عهد الرئيس أحمد حسن البكر، وكان الهدف لحكومات البلدان المنتجة للنفط من وراء عملية التأميم يكمن في الحصول على حصة أكبر من عوائد البترول، وكان لعمليات التأميم تأثير واسع المدى على شركات البترول الغربية العملاقة، وبهذا على نمط استخراج البترول في العالم أجمع، وعلى الطريقة التي تحدد بها أسعار البترول، فلم يعد بوسع صناعة البترول في الدول الغربية السير قدماً في استنزاف الاحتياطي البترولي وفق حاجتها. من هنا فقد رأت هذه الشركات مجبرة على الاغتراف من حقول يتسم استخراج البترول فيها بصعوبة كبيرة وبنفقات وتكاليف أعلى نسبياً مثل استخراج البترول في بحر الشمال وفي ألاسكا، ولو أن مصادر البترول اليسيرة الاستخراج والزهيدة الكلفة نسبياً في الأراضي اليابسة في منطقة الشرق الأوسط لم تنضب بعد.
2- العراق :-
في العراق بدأت عمليات التنقيب في وقت مبكر جداً، ففي عام/ 1927 تم اكتشاف حقل كركوك الذي يحتوي على 16 مليار برميل، وفي عام/ 1957 اكتشف أكبر حقل في العراق (حقل الرميلة) الذي يحتوي هذا الحقل على 26 مليار برميل، وهذا الحقل يحتوي على ضعف الكمية التي يحتويها أكبر حقل في أمريكا الشمالية في منطقة ألاسكا الذي يحتوي على كمية بترولية تقدر بحوالي 20 مليار برميل، وحسب التقديرات الرسمية يتوفر في العراق احتياطي بترولي يزيد على 110 مليار برميل، إلا أن ما استخرج من بترول يقدر بحوالي 26 مليار برميل، وإن الأمر الذي يجب أن يؤخذ في الحسبان أن العراق يمتلك احتياطياً عظيماً ويعتبر إحدى الدول القليلة القادرة في المستقبل على زيادة الإنتاج بكميات كبيرة، إلا أن زيادة الإنتاج في هذا البلد تتطلب استثمار رؤوس أموال كبيرة لكي يستطيع من تحديث منشآت الاستخراج وتوسيع الطاقة الإنتاجية التي عانت كثيراً من الإهمال وويلات الحروب العديدة التي اشتعلت في مناطق قريبة منها.
عند قيام ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة وتأسيس الجمهورية العراقية، قامت كل من الولايات المتحدة الأمريكية بإنزال قواتها في الأسطول السادس المتمركز في البحر الأبيض المتوسط في الأراضي اللبنانية التي نشبت فيها ثورة شعبية عارمة ضد حكم (كميل شمعون) المرتبط والعميل للولايات المتحدة الأمريكية، كما قامت بريطانيا بإنزال قواتها الحربية في الأردن الذي كان يرتبط مع العراق في الاتحاد الهاشمي. كانت هذه التحركات الاستعمارية خشية على مصالحها النفطية في العراق والمنطقة التي كانت تهدف من وراءها التدخل في العراق والقضاء على ثورة تموز العظيمة وإعادة السلطة الرجعية العميلة المتمثلة بالعهد الملكي ونوري السعيد، إلا أن الإنذار السوفيتي الذي أطلقه نيكيتا خروتشجيف رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي ضد التدخل في العراق وقيام حلف وارشو بمناورات بالقرب من الحدود التركية المتحالفة مع عراق نوري السعيد في حلف بغداد، والتفاف الشعب العراقي العظيم واحتضانه لتلك الثورة الوطنية الديمقراطية، لقد كانت هذه الأسباب والعوامل وراء نجاح وثبات وصمود تلك الثورة العملاقة التي زعزعت ركائز الاستعمار العالمي في منطقة الشرق الأوسط، وشكلت منعطفاً في التاريخ الحديث .. ولكن ...!!؟.
لقد كان متوقعاً لدى الخبراء النفطيين وشركات النفط الأجنبية المستغلة للنفط العراقي أن تبادر حكومة الثورة بإثارة موضوع حقوق العراق المغتصبة من قبل الشركات الأجنبية المتوحدة فيما أطلق عليها (شركة النفط العراقية IPC). وفعلاً دعت حكومة الثورة الشركة للدخول في مفاوضات حول القضايا العالقة، وكذلك تناولت المفاوضات موضوع الأراضي الداخلة ضمن امتيازاتهم المجحفة والتي لم تستغل حتى ذلك الوقت، وقد كان في وفد المفاوضات الوزير الشجاع والجريء إبراهيم كبه وبرئاسة رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، لقد كانت الثورة في عنفوانها تستند على قاعدة جماهيرية واسعة وكان الوفد العراقي يستمد قوته ومعنويته من ذلك العنفوان الثوري ويشكل انعكاساً له حيث أكدت الشركات الاستعمارية الأجنبية (أن احتفاظها بأراضي واسعة جداً ذات مكامن نفطية كبيرة وقدرة كامنة للإنتاج النفطي متروكة بدون استثمار، إنما يشكل إساءة لتطبيق الحقوق التي منحت لهم ولابد من تصحيح ذلك الخلل) كما كانت هنالك مفردات عديدة تتعلق بحقوق العراق في الإنتاج ونشاط الشركات النفطية في العراق نوقشت أثناء المفاوضات، إلا أن شركات النفط الاستعمارية التي كانت تعتبر نفسها الجبروت المهيمن في العراق ودولة مستقلة داخل دولة العراق لا زالت تعيش في تلك الأحلام والسراب، مما أدى إلى تعثر المفاوضات وإطالتها (حيث كانت تتوقع تلك الشركات الاستعمارية قيام حركة ردة مضادة تؤدي إلى إسقاط حكومة الثورة من قبل عملائها كما حدثت في إيران عام/ 1951 حينما قام العميل الجنرال زاهدي بحركة انقلابية ضد حكومة الدكتور مصدق بسبب تأميمها النفط في إيران) وعدم حصول أي تقدم يذكر مما أدى إلى إحباط أي أمل يرتجى منها فتوقفت المفاوضات في تشرين أول/ 1961، عند ذلك قامت حكومة الثورة بتشريع قانون النفط رقم (80) الذي سحبت من خلاله كافة الأراضي التي كانت ضمن امتيازات الشركات الاستعمارية التي تؤلف 99.5٪-;- من مساحة أراضي الامتيازات التي كانت ممنوحة لتلك الشركات، كما فرضت الحكومة تكاليف تحميل معينة للنفط، وكذلك ضرائب للميناء على كافة الشحنات النفطية التي تخرج من ميناء البصرة وقد أنيطت هذه المسؤوليات بعدئذ بشركة النفط الوطنية العراقية التي تأسست في شباط/ 1964، من الأساليب التي عمدت إليها شركات النفط الاستعمارية بعد إقرار قانون (80) التي حددت بموجبه مناطق الاستثمار تخفيض إنتاج النفط الذي أدى بدوره أيضاً إلى رفع كلفة إنتاج النفط للبرميل الواحد وهذا الإجراء سبب انخفاضاً كبيراً لعائدات الحكومة العراقية من الدخل مسبباً أضراراً للاقتصاد العراقي، وكان هذا الأسلوب المتعارض مع المصالح العراقية أحد وسائل الضغط والإصرار من أجل إلغاء قانون رقم (80) جعلها تستمر في تخفيض الإنتاج والاستثمار في صناعة استخراج النفط سنين عديدة، حتى بعد سقوط حكومة عبد الكريم قاسم في 8/ شباط/ 1963، كما عمدت تلك الشركات تخفيض معدل المصاريف الإجمالية السنوية على الاستثمار في جميع حقول النفط التي تستغلها خلال الفترة بين 1964 وحتى 1969 قليل جداً وبحدود نصف مليون دينار عراقي في حين كان معدل ما تنتجه سنوياً للأرباح من النفط الخام العراقي المستخرج أكثر من 140 مليون دينار عراقي علماً أن جميع هذه الأرباح الكبيرة تخرج إلى خارج العراق بالكامل بدون حسيب أو رقيب.
إن طبيعة نمط الإنتاج الاقتصادي هو الذي يحدد البنية الطبقية في المجتمع ومن خلال النظام الاقتصادي السائد في الإنتاج والتبادل والتنظيم الاجتماعي المنبثق عنه تنشأ وتتكون الطبيعة السياسية والفكرية لكل بلد من البلدان، إن هذه القاعدة هي السائدة في دول شركات النفط الاستعمارية، أي أن أصحاب هذه الشركات هم الذين يديرون دفة الحكم في الدول الرأسمالية بما ينسجم مع مصالحهم الأنانية الذاتية ولذلك فإن الشركات النفطية الاستعمارية العاملة في العراق وغيره من بلدان العالم، لم تكن تتعامل مع العراق وغيره بصورة منفردة وإنما كانت تقف وراءها جميع الطاقات والإمكانيات السياسية والاقتصادية والعسكرية للدولة التي تنتسب إليها تلك الشركات، إن هذه الظاهرة بديهية إلا أن الذي حدث في العراق تجسدت فيه طول الفترة الزمنية للاستغلال الأجنبي للبترول وإن الصراع بين المصالح العراقية والشركات الأجنبية كان الأقوى والأعنف بعد ثورة 14 تموز وإن هذه الظاهرة (أعزوها) إلى الطبقة البورجوازية الحاكمة التي تمتاز بالتردد والتذبذب والخوف من الاستعمار وعدم استفزازه والتعرض لمصالحه المتمثلة بشركات النفط، ولذلك وجدنا أن شركات النفط في العراق قامت بعملية ترويض ذكية للحكومة البورجوازية في عملية من المد والجزر باسم الحوار والمفاوضات حتى كشفت عن غايتها المتمثل بإلغاء قانون رقم (80). ولو أن شركات النفط وسادتها في الدول الاستعمارية لا يرضيها ويحقق أهدافها ومصالحها هذا الجزء (قانون رقم 80) وإنما هدفها يتمثل بالكل أي إسقاط النظام وسلطته والمجيء بنظام وسلطته تضمن له جميع حقوقه ولذلك وقع الزعيم عبد الكريم قاسم لائحة قانون هذه الشركة التي كانت على منضدته لكي يصبح قانوناً نافذاً في صبيحة يوم انقلاب 8/ شباط/ 1963 أي قبل أسره على أيدي الانقلابيين، ويأتي تفسير ذلك :
1) لولا الحركة الانقلابية لم يوقع على هذا القانون.
2) بتوقيعه على القانون يكون له أثر رجعي ويصبح قانوناً نافذاً مما يجعل الحكومة الانقلابية وجهاً أمام وجه مع شركات النفط.
إن الصراع بين الدول الاستعمارية من أجل السيطرة والاستحواذ على منابع النفط له علاقة كبيرة ومباشرة بالصراع والنزاع من أجل السيطرة على مناطق النفوذ والهيمنة على نطاق العالم، وكان هذا واضحاً ما أفرزته الحرب العالمية الأولى بإزاحة المصالح النفطية العثمانية والألمانية واستبدالها بالمصالح البريطانية والأمريكية والفرنسية والتي من خلالها تمت إعادة توزيع المساهمات في رأس مال الشركات العاملة في مجال استغلال البترول بما حصل في الاتفاقية التي عرفت باتفاقية وزارة الخارجية واتفاقية الخط الأحمر بين الشركات النفطية الأمريكية والشركات النفطية البريطانية، وهناك مثل آخر السبب وراءه دوافع السيطرة والهيمنة على منابع النفط بما حصل خلال الحرب العالمية الثانية حينما خطط زعيم ألمانيا النازية (الفوهرر هتلر) للاستيلاء على منابع النفط في جميع أنحاء العالم وبشكل خاص منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، فأرسل قواته إلى شمال أفريقيا واحتلال منطقة العلمين في مصر كنقطة انطلاق نحو فلسطين ثم تواصل مسيرتها إلى مناطق الشرق الأدنى ولكي تلتقي مع قواته التي احتلت الحقول النفطية في رومانيا ثم توجهت باتجاه القوقاز بهدف احتلال أذربيجان وإيران ومن ثم دول الخليج العربي والعراق والسعودية. كما أن القوات النازية عند هجومها على الاتحاد السوفيتي احتلت منطقة الأورال الغنية بالنفط والتي من نفطها جهزت جميع ماكنته الحربية.
إن النفط في الماضي والحاضر والمستقبل هو الصراع والنزاع بين الدول الصناعية الاستعمارية وفي المستقبل أصبحت أهمية أكثر بسبب مخاطر وتكاليف الطاقة الذرية .
3- المملكة العربية السعودية :-
في الثلاثينيات من القرن الماضي كانت أراضي الكويت والمملكة العربية السعودية تثير مشاكل أكثر تعقيداً من الناحية الجيولوجية، لأن الطبقات العليا من الأرض ما كانت تفصح عن طبيعة باطن الأرض، فغالبية البلاد كانت مغطاة بكثبان رملية كثيفة، إلا أن الظاهر الخارجي في كثير من الأحيان لا يعكس الحقيقة الواقعية للباطن أو المضمون إذا لم يستطع الإنسان الدخول إلى ذلك الباطن أو المضمون ومعرفة محتوياته، ومن خلال ذلك تبين أن ظاهر الأراضي للكويت والمملكة العربية السعودية كانت مغطاة بطبقة سميكة من الرمال، أما باطنها فكانت تحتوي على كميات هائلة من البترول، فكانت شركة ستاندرد أويل الأمريكية قد دخلت في مغامرة حينما حازت بالتنقيب عن البترول في المملكة العربية السعودية عام/ 1932 فوجدت كميات هائلة من البترول جعلت من المملكة العربية السعودية أكبر وأهم دولة بترولية على مستوى العالم أجمع.
كانت عمليات التنقيب التي تمت في المرحلة الأولى قد أدت إلى اكتشاف عدد من حقول كبيرة تحتوي على مليارات من براميل البترول، إلا أن الاكتشاف العظيم تحقق عام 1948 حيث أمكن العثور في هذا العام على مكمن عظيم يبلغ طوله 220كم، أي يشتمل على مساحة تزيد على خمسة آلاف كيلومتر مربع الذي هو حقل (الغوار) الذي أمسى برصيده البالغ حوالي مئة مليار برميل أعظم حقل بترولي في العالم قاطبة، وقد قدرت الجهات الرسمية ما يحتوي هذا الحقل من البترول بـ 120 مليار برميل، وتبلغ الكمية المستخرجة سنوياً من هذا الحقل حوالي 6,1 مليار برميل. وإضافة إلى هذا الحقل تم اكتشاف 80 حقلاً في المملكة العربية السعودية، وقد استخرج من هذه الحقول النفطية ما يقارب 90 مليار برميل لحد الآن، وسيكون مجمل الرصيد النهائي للبترول الذي تم العثور عليه، وسيبلغ الاحتياطي النفطي للمملكة العربية السعودية حوالي 240 مليار برميل، هذا وقد استخرج في السنوات الأخيرة حوالي 4,3 مليار برميل سنوياً وأن نصف هذه الكمية قد استخرجت من حقل (الغوار). وإن ما تنتجه المملكة العربية السعودية يبلغ حوالي 7,8 مليون برميل يومياً وإن هذه الكمية تستخرج من كافة الحقول النفطية وبشكل خاص من أعظم حقلين هما (الغوار والسفانية).
4- الكويت :-
في عام/ 1938 اكتشف ثاني أكبر حقل في العالم هو حقل (برقان) اذي يحتوي على 65 مليار برميل نفط، والحقل الثاني (الغوار) وإن هذين الحقلين اللذين تم اكتشافهما يعتبران من أكبر الحقول التي تم اكتشافها لحد الآن، وقد احتويا على ما يقارب من 10٪-;- من مجمل الرصيد البترولي الذي تم العثور عليه، علماً بأن عدد حقول البترول التي تم اكتشافها في العالم أجمع يبلغ عددها أكثر من 43 ألف حقل.
5- الإمارات العربية المتحدة :-
في دولة الإمارات العربية المتحدة تكاد تكون إمارة أبو ظبي الإمارة الوحيدة في هذه الدولة ذات مورد بترولي مهم، لقد كان التنقيب عن البترول في دولة الإمارات العربية المتحدة قد بدأ في وقت متأخر نسبياً، ففي عام 1954 اكتشف أول حقل بترولي كبير (حقل الباب) الذي يحتوي على ما يقارب من ثمانية مليارات برميل، وفي عام/ 1964 تم العثور على أكبر حقل (الزاكوم) الذي يحتوي على 22 مليار برميل، وقد بلغت مجمل حجم الكمية التي تم العثور عليها تقدر بحوالي 75 مليار برميل، وأصبحت تحتوي الحقول العشرة الكبيرة على ما يزيد على 80٪-;- من الاحتياطي النفطي، هذا وقد تم لحد الآن إنتاج 18 مليار برميل، ومن أجل زيادة الإنتاج فقد استثمر في السنوات العشرة الأخيرة، 15 مليار دولار في حقل (الزاكوم) وهناك خطط تهدف بدءاً من عام/ 2004 إلى ضخ الغاز الطبيعي من آبار حقل الزاكوم، هذا وقد استطاعت إمارة أبو ظبي من زيادة إنتاجها من 2.4 مليون برميل في اليوم إلى 3.5 مليون برميل في اليوم.
6- منطقة بحر قزوين :-
هذه المنطقة تمثل نهاية القوس التي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية الاستحواذ عليه والذي يحتوي على نسبة 65٪-;- من بترول العالم، وإن هذه الإستراتيجية الأمريكية ظهرت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تمثل القطب الأوحد في السياسة الدولية وهي الآن تسعى لاكتمال جبروتها وسلطتها على العالم اقتصادياً وليس أمامها سوى هذا القوس البترولي الضخم التي تسعى للاستحواذ عليه والتحكم به حتى تستطيع أن تمسك بقبضة حديدية على الدول الصناعية الكبرى التي تعتمد ماكنتها الصناعية على استيراد النفط من تلك المنطقة الحيوية مثل الصين وفرنسا واليابان، وأن هذه المنطقة كانت من ضمن جمهوريات الاتحاد السوفيتي الاشتراكية إلا أنها أعلنت استقلالها بعد تفكك اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية.
تشير الوثائق المسجلة بشأن التنقيب عن البترول، إن أول عملية حفر بئر نفطية في العالم جرت على شواطئ بحر قزوين في عام/ 1848، أي قبل حوالي عشر سنوات من مشروع العقيد (داراك) من قيامه بحفر للتنقيب عن البترول، وتعتبر تلك البادرة ساعة الولادة للصناعة البترولية، كما كان العالم الجيولوجي الروسي (ميخائيل لومونسوف) في عام 1757 قد أشار إلى مصدر البترول قد نشأ من مواد عضوية، ولذلك فإن هذا الإقليم يمتاز بالعمق التاريخي للبترول، كما تعتبر مدينة (باكو) عاصمة أذربيجان الواقعة على بحر قزوين حالياً المهد الحقيقية للصناعة البترولية، حيث جرت في هذه المدينة الخطوات الأولى لخلق الصناعة البترولية.
هناك خمسة دول تتقاسم الثروة النفطية الكامنة في بحر قزوين (روسيا وأذربيجان وكازاخستان وتركمانستان وإيران). إن الحقول الواقعة في المنطقة الجنوبية من البحر متواضعة إلا أن من المحتمل أن تكون هذه المنطقة غنية بالغاز الطبيعي، أما في المنطقة الشمالية من بحر قزوين قبالة شاطئ كازاخستان يوجد حقل (تنغيز) الذي يحتمل أن يحتوي على كمية ضخمة من البترول تقدر بين 6 إلى 10 مليارات برميل، كما أن كمية الاحتياطي من البترول في هذه المنطقة تقدر بحوالي 35 مليار برميل. ومن خلال التقديرات الكبيرة جداً عن كمية البترول المخزونة في تلك المنطقة فإن شركات البترول الدولية العملاقة وبشكل خاص الأمريكية تبدي اهتماماً كبيراً من أجل الاستحواذ على تلك المنطقة الغنية بالبترول.
الطاقات الأخرى
كانت الدول الرأسمالية الصناعية تعتمد على قاعدة تقول : (استهلاك متزايد للطاقة يعني ناتجاً قومياً أكبر ورفاهية اقتصادية أعظم). إلا أن الأزمة النفطية الأولى التي أدت إلى تقويض النمو الاقتصادي وتراجع الطلب على الطاقة، مما دفع بالدول المنضوية في منظمة التنمية والتعاون الدولي إلى إنشاء مؤسسة مشتركة خاصة بها (الوكالة الدولية للطاقة (IEC) وأخذت هذه المنظمة تجري التجارب على أنواع مختلفة من الطاقة كبديل عن البترول واستعمالها في الإنتاج، فاستعملت الطاقة الكهربائية وقد ارتفع الطلب عليها ارتفاعاً لا مثيل له في السابق، مما دفع رجال الاقتصاد والقادة السياسيون والعاملون في المجالات العلمية على الثقة والاعتماد على الطاقة الكهربائية ومواصلة السير على هذا الطريق الناجح على اعتبار أن الضمانة الأكيدة لمستقبل أفضل يتجسد باستهلاك أكثر للطاقة، كما جرى التركيز على الطاقة المكتسبة من الفحم الحجري والطاقة الذرية على نحو الخصوص. فاتجهت أنظار الدول الرأسمالية الصناعية الكبرى نحو الطاقة الذرية حيث أن تلك الصناعة قد اكتسبت قوة متزايدة فرأت تلك الدول الصناعية أن الفرصة الذهبية قد حانت لتوسيع صناعتها وإنتاجها ولجني مكاسب وأرباح كبيرة فالصناعة النووية كانت قد تخطت طور الطفولة وغدت ذات شوكة بفضل الرعاية التي خصتها الدول التي أدخلتها في مجال التصنيع العسكري، ثم على المستوى الصناعي والإنتاجي والخدمي لدى الدول المتقدمة والمتطورة، ومما زاد من أهمية استعمال الطاقة النووية ما أشيع في الأفق عن بوادر نهاية عصر البترول، مما أدت هذه الإشاعات المخابراتية الأمريكية إلى ضرورة التوسع في استعمال الطاقة النووية.
لقد أثبتت البحوث العلمية للجيولوجيين والتطورات اللاحقة في استعمالات الطاقة النووية والكهربائية والفحم الحجري والتنبؤات والتفسيرات الخاصة بها بأنها كانت على خطأ كبير، وبشكل خاص ما نشرته الهيئة الدولية للطاقة النووية المسماة اختصاراً (IAEA) على وجه الخصوص بشأن النمو المستقبلي الذي يعتمد على استهلاك الطاقة النووية كان خطأً فادحاً.
الطاقة النووية وسلبياتها
كان الإنسان ينظر إلى استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية على أنه قمة التطور في الانحياز العلمي الإنساني، وكان أول من بدأ في هذا المجال (فرانس يوسف شتراوس) الذي كان أول وزير للشؤون النووية في ألمانيا، وكان المحفز والمشجع والدافع للحكومة الألمانية بالبحث في المجال الذري، ففي عام/ 1957 شيد أول مفاعل نووي في مدينة (كارجينك) وبعد ذلك بزمن قصير شيد مفاعل آخر في مدينة (كارلسرو) وأصبح البحث في مجال الذرة في مقدمة الإنجازات لتوليد الطاقة وغيرها في المدن الألمانية باعتباره من تقنيات المستقبل، مما جعله يشكل الأمل والطموح من شبيبة ذلك الزمن من المتفوقين دراسياً في المقام الأول التخصص في الفيزياء النووية، في بداية الأمر لم تدخل الطاقة النووية في حقل الكهرباء إلا بعد أن حقق حوافز مادية كبيرة أنفقتها الحكومة الألمانية في هذا السياق بلغت ما يقرب من 15 مليار يورو، كما أن الحكومة الألمانية تحملت مخاطر السلامة المرتبطة باستخدام الطاقة النووية لأن مصانع الكهرباء العاملة بالطاقة الذرية لا يمكن التأمين عليها لدى شركات التأمين التابعة للقطاع الخاص، لأن تلك الشركات حددت أقصى قيمة للتأمين على كل مولد ذري بمبلغ قدره (500 مليون يورو) وهذا المبلغ يعتبر كبيراً جداً، أما إذا لحقت بالمصنع التابع للدول الذي يعمل بالطاقة الذرية مخاطر وأضرار فقد تعهدت الدولة الألمانية بتعويض تلك الأضرار من (دافعي الضرائب الشعب)، إلا أن المشكلة التي واجهتها الدولة الألمانية ولم تجد لها الحل الناجح لحد الآن هي مشكلة النفايات النووية وكيفية التخلص منها، كما أن الحوادث الكارثية التي اندلعت في مدينة (هاريسبورغ) ومدينة (جيرنوبل) وفي اليابان توضح بجلاء أن المفاعلات النووية تنطوي على مخاطر حقيقية فعلاً، كما أن تكاليفها المرتفعة جداً، كما أن النفايات التي تفرزها المفاعلات النووية من الصعوبة استئصالها والعثور على وسائط نقل لها أو إيجاد أماكن مناسبة وآمنة لنقل وتخزين هذه النفايات النووية. إضافة إلى أن استخدام الفحم الحجري في توليد الطاقة يكلف مبالغ كبيرة في عملية استخراجه وبناء على ما تقدم أصبح النفط هو الطاقة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها من حيث الأمان وانخفاض سعره في الطاقة مقارنة مع الفحم الحجري والطاقة النووية.

احتلال أفغانستان
ذكرنا في المواضيع السابقة أن الولايات المتحدة الأمريكية اتخذت من مبدأ مونرو حق الدفاع عن النفس واستطاعت بأعلامها وسيكولوجيتها من اختلاق أعدائها ومن خلال تأثيراتها السياسية والاقتصادية صورت ذلك العدو لا يشكل خطراً على الولايات المتحدة الأمريكية فقط وإنما على جميع الدول الحرة في العالم، فاستطاعت أن تجعل كثيراً من الدول تنحاز إلى جانبها في القضاء على ذلك العدو فأسست الأحلاف العسكرية وشيدت القواعد الحربية في البلدان التي انحازت إلى جانبها، ومن خلال ذلك استطاعت أن تخلق الأسباب والمبررات في توجيه الضربة الاستباقية للدول المارقة التي تشكل خطراً على مصالحها وعلى العالم الحر فشنت الحرب على أفغانستان بعد الحادي عشر من أيلول عام/ 2001 بحجة القضاء على الإرهاب المتمثل بأسامة بن لادن مع العلم أن أفغانستان تحكم من قبل (طالبان) وليس من قبل أسامة بن لادن، إلا أن شن الحرب عليها واحتلالها لأن أسامة بن لادن كان يعيش في دولة أفغانستان (طالبان) وبقي يعيش فيها حتى بعد سقوط حكومة طالبان واحتلالها من قبل الأمريكان، كما حدث في العراق عام/ 2003 احتلاله بحجة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، بعد هذه النبذة من الأسباب والعوامل التي تتذرع بها الولايات المتحدة الأمريكية في الوصول إلى أهدافها الإستراتيجية في أمركة العالم سياسياً واقتصادياً عن طريق السيطرة على القوس النفطي الذي يبدأ من العراق مروراً بالملكة العربية السعودية والكويت ودول الخليج العربي وإيران وبحر قزوين.
تعتبر أفغانستان ذات موقع استراتيجي فتحدها من الشمال الدول النفطية التي تقع على بحر قزوين والتي استقلت عن الاتحاد السوفيتي بعد تفككه عام/ 1991 وهي (أوزبكستان وتركمانستان وطاجاكستان ومن الجنوب باكستان ومن الشرق الصين ومن الغرب إيران). إن المحفز الكبير الذي حرك الولايات المتحدة الأمريكية هو الانقلاب الذي قام به الجنرال داوود الذي يعتبر من المقربين جداً من الاتحاد السوفيتي في 27/ تموز/ 1973 والذي أدى إلى إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية وفق الأسلوب السوفيتي في الإدارة، مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر هذا الانقلاب تمهيداً للاتحاد السوفيتي في الوصول إلى بحر العرب ومن ثم السيطرة على الخليج العربي مما يهدد المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، والذي أثار المخاوف الأمريكية اجتياح القوات السوفيتية الأراضي الأفغانية في 28/ كانون الأول عام/ 1979 وتنصيب باراك كارمل رئيساً للدولة الأفغانية بحماية القوات السوفيتية مما جعل الرئيس الأمريكي (جيمي كارتر) يعتبر سيطرة الاتحاد السوفيتي على أفغانستان أكبر خطر يهدد السلام العالمي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لأن أفغانستان تعتبر ذات أهمية كبرى في الإستراتيجية الأمريكية، لكونه المنطلق في السيطرة على دول آسيا الوسطى، كما أن موقعها من حيث الإستراتيجية العسكرية الأمريكية تعتبر أفغانستان الموقع الذي يهدد الاتحاد السوفيتي في العمق، كما يهدد الصين، ويضع اليد على باكستان ليجري التحكم في قلب آسيا، من أجل تحقيق الاستقرار الأمني الضروري لمصالح الشركات الاحتكارية الأمريكية، كما تعتبر أفغانستان موقعاً مهماً من الناحية الاقتصادية حيث تعتبر أقصر الطرق بعد إيران فيما يتعلق بمد أنبوب الغاز التي تسعى شركة (أونوكال) النفطية الأمريكية العملاقة من منطقة بحر قزوين عبر تركمانستان وأفغانستان وباكستان إلى المحيط الهندي منذ عام/ 1995 عبر دعم من حركة طالبان مقابل مساعدة تلك الحركة بالسيطرة على كل الأراضي الأفغانية، إلا أن المصالح الأمريكية أفرزت ظروفاً جديدة جعلتها أن تغير ستراتيجيتها تجاه حركة طالبان بعد الحادي عشر من أيلول عام/ 2001 وقيام أسامة بن لادن بتدمير مركز التجارة العالمية، ومن خلال تلك الإستراتيجية الجديدة قام (بوش الابن) بدعم من تحالف شركات النفط الاحتكارية الأمريكية والرأسمالية العسكرية الصناعية والذين استقدم بوش الابن ممثلين عنهم في إدارته لتنفيذ تلك الستراتيجية المتمثلة في تأمين السيطرة على منابع النفط الأساسية في العالم، وكانت البداية السيطرة على أفغانستان لكي تضمن الاستقرار المطلوب الذي يمكن أمريكا من السيطرة على الثروة النفطية في آسيا الوسطى، وكان الهدف التالي هو العراق لأنها دولة مارقة وتمتلك أسلحة الدمار الشامل.
احتلال العراق
لقد مضى على الاحتلال الأمريكي للعراق ثمان سنوات، ولحد الآن لم تثبت صحة الادعاء الأمريكي بامتلاك أسلحة الدمار الشامل الذي كان سبباً رئيسياً وراء قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتجييش وحشد ماكنتها العسكرية من قوات برية وحربية وجوية كلفتها مئات الملايين من الدولارات وحياة مئات الجنود الأمريكان ليس من أجل سواد عيون الشعب العراقي ولا من المخاطر التي تسببها تلك الأسلحة المدمرة على الإنسانية وإنما من أجل تنفيذ سياستها الستراتيجية في المنطقة.
إن أي حدث في التاريخ يبقى محفوراً في ذاكرة الناس وفي بطون الكتب، وهنا لابد من نبذة مختصرة بما حفظته الذاكرة وما دون في بطون الكتب عن الدعم الأمريكي لصدام حسين مادياً ومعنوياً في عقد الثمانينيات من القرن العشرين حينما كان أحد الصقور (رامسفيلد) وزيراً للدفاع في حكومة بوش الابن التي احتلت العراق عام/ 2003، هذا الصقر (رامسفيلد) كان المبعوث لإدارة الرئيس الأمريكي الأسبق (ريغان) إلى صدام حسين من أجل تمتين العلاقة معه آنذاك، كما أن الحكومة الأمريكية قدمت للعراق في عام/ 1988 منحة بقيمة 500 مليون دولار كمساعدة، ونشير في هذا السياق إلى الملاحظة المهمة التي كتبها الصحفي المصري (محمد حسنين هيكل) في أحد مقالاته آنذاك حيث يقول فيها (والغريب أن كثيرين لم يلتفتوا بالقدر الكافي إلى الداعي الذي دفع الإدارة الأمريكية في عهد (بوش الابن) في 8/ نوفمبر/ 2002 إلى خطف تقرير العراق المقدم لمفتشي الأمم المتحدة عما بقي لديه من أسلحة الدمار الشامل، وكان السبب هو أن الإدارة الأمريكية أرادت أن تحذف من التقرير كل إشارة إلى أن أكثر من 25 شركة أمريكية عملاقة تولت توريد معظم هذه الأنواع من أسلحة الدمار الشامل إلى العراق أثناء حربها مع إيران) أنظر (محمد حسنين هيكل : هذا الإعصار الأمريكي المنشور في مجلة وجهات نظر المصرية في العدد الواحد والخمسون شهر أبريل/ 2003).
إن هذا الإدعاء من قبل الولايات المتحدة الأمريكية الذي أدى إلى احتلال العراق خارج الأطر الشرعية الدولية، مما يرجح أن العدوان الأمريكي على العراق كان مقرراً سلفاً ولذلك كانت الولايات المتحدة الأمريكية لم تردعها المواقف الدولية ولا الاحتجاجات الشعبية، ولا عدم توصل لجان التفتيش التابعة للأمم المتحدة إلى نتائج حاسمة ولحد الآن بشأن وجود هذه الأسلحة في العراق بالرغم من انكباب تلك اللجان لعدة أشهر متواصلة من خلال سنوات متقطعة على متابعة ملف أسلحة الدمار الشامل بصورة ميدانية، مما يعني ذلك عن وجود أسباب ودوافع رئيسية أخرى كانت وراء الاحتلال العسكري الأمريكي للعراق، فإن تلك الأسباب والدوافع الرئيسية تنحصر بالتحديد بموضوع النفط العراق الذي يشكل نحو 11٪-;- من إجمالي الاحتياط العالمي المثبت بموجب مؤسسات واسعة في صناعة النفط العالمية، كما أن العراق يعتبر بداية القوس الذي يمتد عبر المملكة السعودية والكويت ودول الخليج وإيران وبحر قزوين التي تمتلك حوالي أكثر من 65٪-;- من احتياطي النفط العالمي. إن الاحتياطي النفطي العراقي يمثل 11٪-;- من إجمالي الاحتياط العالمي، وإن العراق بما يمتلكه من احتياط كبير في النفط يمثل أكثر من أربعة أضعاف الاحتياط الأمريكي بينما لا يشكل استهلاك العراق من النفط سوى 5,2٪-;- من استهلاك الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن النفط العراقي يمتاز بمواصفاته الفنية من حيث الكثافة وما يحتويه من مواد كبريتية التي تجعله من أفضل أنواع النفط في العالم، كما أن متوسط كلفة إنتاجه تعتبر الأدنى في العالم، كما يمتاز النفط العراقي بقدرة تنافسية عالية جداً إزاء النفوط الأخرى، الداخلة في أسواق التصدير، يضاف إلى ذلك أن نسبة إنتاج النفط العراقي إلى الاحتياط المتوفر فيه هي من أدنى النسب في العالم، مما يعكس القدرات الكامنة الهائلة لهذا النفط كمصدر للإنتاج والتصدير إلى أسواق الاستهلاك التي يزدحم فيها الطلب على النفط.
إن الاحتلال المباشر لمنابع النفط العراق ينطوي على أبعاد أخرى ذات طابع إستراتيجي بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، حيث يشكل هذا النفط إحدى الرافعات الأساسية داخل نظام (أوبيك) مما يمكن الإدارة الأمريكية أن تستخدمه للتأثير في سياسات هذه المنظمة وترويضها وتطويعها سواء من حيث حجم الإنتاج والتصدير المرغوب فيه، أو من جهة الأسعار، أو من جهة أولويات التسويق، كما تستطيع الإدارة الأمريكية أن تتخذ من الاحتياط الكبير للنفط العراقي كمورد احتياطي تجاه الظروف والمخاطر المستقبلية المحتملة للنفط السعودي في المراحل المستقبلية بسبب تعاظم الكره والعداء للولايات المتحدة الأمريكية لدى أكثرية الشعب السعودي بسبب انحيازها المطلق إلى جانب الدولة الصهيونية (إسرائيل) ضد الشعب العربي الفلسطيني، وعدائها وقتلها لأسامة بن لادن الذي يعتبر سعودي الولادة والانتساب، كما تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تستخدم النفط العراقي كأداة مساومة أو ترغيب وترهيب مع الدول المجاورة للعراق والتي تستخدم وتعتمد على النفط العراقي، أو تعاني بدرجة متفاوتة من مديونية عامة مرتفعة ومن عجوزات في ميزانيتها وتشتري النفط بالآجل كما هو الحال مع تركيا وسوريا ولبنان والأردن ومصر، كما قد تكون للولايات المتحدة الأمريكية أهدافاً أخرى تحددها الظروف والمستجدات على الساحة الدولية بما ينسجم مع المصالح الإستراتيجية لهذه الدولة، أبعد مدى من غزوها للعراق وسيطرتها على منابع نفطه، ربما تكون من أهداف الولايات المتحدة الأمريكية السيطرة على منابع النفط في هذه المنطقة وظائف ورهونات من نوع آخر تؤدي إلى التحكم بهذه الورقة الإستراتيجية من خلال منظمة أوبك مجتمعة، لاستثمارها في عملية المزاحمة والمنافسة الشرسة بين الكتل والتشكيلات السياسية والاقتصادية الدولية المختلفة (أوروبا واليابان وفرنسا والصين والهند) وهي مزاحمة ومنافسة مرشحة أن تزداد شراسة وحدة في زمن تزداد فيه وتتعاظم وتتسع مرحلة العولمة لتشمل أقطار المعمورة بأجمعها مما يتسع المجال والتحكم لجبروت الولايات المتحدة الأمريكية وتعزيز دورها ألاستقطابي بين سائر الدول وتمسك بقبضتها الحديدية على رقاب الدول الصناعية (الصين واليابان وفرنسا والهند وغيرها) لكي تستكمل استحواذها على العالم سياسياً واقتصادياً وتصبح الدولة ذات القطب الأوحد في العالم أجمع والمتحكمة في مصير الدول كبيرها وصغيرها حسب الرؤية الأمريكية أي (أمركة العالم).
إلى جانب كل ذلك من الأهداف الآنية والمستقبلية، فإن السيطرة المباشرة على النفط العراقي سوف تفضي إلى تحكم الولايات المتحدة الأمريكية بالإيرادات البترولية للعراق، وهي التي تقرر الوجهة والطريقة في استعمالها سواء كانت سياسية أم اقتصادية بما تنسجم مع المصالح الإستراتيجية الأمريكية، من دون الالتفات عملياً إلى ما آلت أوضاع العراق (الوطن المذبوح وشعبه المستباح) هذا الشعب العراقي العظيم الذي أصبح يعيش حوالي 23٪-;- من أبنائه تحت مستوى الفقر أي لا يستطيع أن يوفر له ولعائلته المتطلبات المادية والمعنوية وحتى لا يستطيع أن يوفر له ولعائلته ثلاث وجبات من الطعام وإنما بالكاد يوفر وجبتين فقط وهاتان الوجبتان مجرد ملء البطون وهذا يعني أنها خالية من المواد الغذائية التي تنمي جسم الإنسان وتبعث فيه القوة والنشاط والحيوية، وتجعل من ذلك الإنسان العظيم بعد أن روضوه وخوفوه بشبح الإرهاب والبحث عن لقمة العيش يغمض عيونه حتى لا يرى جرح وطنه ويغلق فمه لكي لا ينطق باسم وطنه، ويصم آذانه حتى لا يسمع صراخ وطنه، وتشير جميع الدلائل بأن العراق مرشح عبر التمويل الذاتي إلى التحول إلى وحدة من أكبر الورش الإعمارية المستباحة والمحتكرة من جانب الشركات الأمريكية الكبيرة، وقد أوكل الحاكم العسكري الأمريكي (بول بريمر) لوكالة التنمية الأمريكية حصراً إدارة عملية الإعمار في العراق وتم توقيع عقود مع شركات أمريكية بمبالغ تقدر بـ (4,2 مليار دولار) لإعادة تشييد وتأهيل بعض من شبكات ومؤسسات البنى التحتية الأساسية.

الخاتمة
كانت الولايات المتحدة الأمريكية القوة الاقتصادية الرئيسية في العالم قبل الحرب العالمية الثانية لفترة طويلة، وأثناء الحرب ازدهرت بينما ضعف حلفاؤها الرأسماليين التقليديين (بريطانيا وفرنسا) وانتهى أعداؤها إلى الفناء (ألمانيا واليابان وإيطاليا) ومنذ ذلك الحين برزت في العالم وسعت لملء الفراغ الذي تشغله كل من بريطانيا وفرنسا في الساحة الدولية، دخلت أمريكا الساحة الدولية بأسلوب جديد وصورة مختلفة عن سابقتها بريطانيا وفرنسا اللتان كانتا تمثلان الاستعمار الكلاسيكي منذ القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين عن طريق الاحتلال العسكري للدول الأخرى والاستحواذ على مخزونها من المواد الأولية وفتح أسواقها للمنتجات المختلفة التي تنتجها مصانع الدول الاستعمارية.
كان الاستعمار الأمريكي الجديد يختلف عن الاستعمار القديم، حيث أن أمريكا اتبعت أسلوب الاستعمار الاقتصادي عن طريق مشاريع المساعدات الاقتصادية مثل مشروع مارشال لمساعدة الدول المتضررة في الحرب العالمية الثانية، ومشروع النقطة الرابعة الذي يعتمد على مساعدة البلدان المختلفة في التنمية الزراعية والخدمية والثقافية، ومشروع تقديم المساعدات لتنمية الدول الفقيرة وغيرها، أما الأسلوب الآخر فهو إقامة الأحلاف العسكرية وبناء القواعد العسكرية في الدول الأخرى لحساب الولايات المتحدة الأمريكية لقاء مساعدات مالية أو أجور سنوية، وأن جميع هذه المشاريع يشرف عليها ويديرها خبراء من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية التي تعمل على تنسيق مع رجال السياسة المتنفذين لتلك البلدان في توظيف الأموال الأمريكية للشركات المختلفة لاستثمارها في كافة المجالات الاقتصادية، ومن خلال ذلك خطط مهندسو السياسة الرئيسيون لاستخدام هذه القوة الاقتصادية لبناء نظام عالمي يخدم المصالح الأمريكية.
إلا أن ظروفاً استجدت على الساحة الدولية ساعدت الرؤية الأمريكية لصياغة العالم، فكان الظرف ذلك الحدث في 11/ أيلول/ 1991 الذي يعتبر منعطفاً في سياق تاريخي في السياسة الأمريكية، فكانت اللحظة المناسبة لصيرورة التفاعلات وردود الأفعال نتيجة الهجمات على وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) ومركز التجارة العالمي والتي كانت السبب الممكن فهمه للخطوات التالية للحدث الذي أفرزته بـ (الحرب على الإرهاب). إن تلك الخطوات والأهداف لم يفرزها الحدث في 11 أيلول/ 1991 بشكل مفاجئ أو خطوات وردود فعل تبلورت وصيغت على عجل وإنما هي أهداف وإستراتيجية تمثل مصالح ورؤى تعبر عنها، وكان الحدث سبباً ومدخلاً لتنفيذها الذي صيغ في الدوائر الأمريكية وعبر الشركات الأمريكية العملاقة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار نظامه الاشتراكي، كما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعاني من أزمة اقتصادية خانقة وعميقة حاولت إيجاد مخرج وحلول لها عبر تعزيز هيمنتها على العالم، وقد أعلن عن هذه الرؤية الرئيس الأمريكي (بوش الأب) عند بدء الهجوم الأمريكي على العراق عام/ 1991 حيث أعلن عن تدشين النظام العالمي الجديد استناداً إلى أحادية القطب التي تحققت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار نظامه الاشتراكي، واستناداً إلى التفوق الأمريكي المطلق خصوصاً في المجال العسكري، وقد عرف هذا النظام العالمي الجديد بـ (العولمة المتوحشة) إن الحدث في 11/ أيلول/ 1991 أصبح منفذاً لدخول العولمة المتوحشة وماهيتها بإشراف وتنفيذ رأس المال الأمريكي بحيث تصبح العولمة المتوحشة وكأنها أمركة العالم باعتبار أن النظام العالمي الجديد هو العالم كما تريده مصالح رأس المال الأمريكي المتجسد في الشركات العملاقة الاحتكارية الأمريكية.

شيءٌ عن المؤلف وإصداراته
فلاح أمين الرهيمي
تولد / 1937 بابل / العراق
النهاية الدراسية / في الصف الثاني / كلية التجارة وتركها
لأسباب قاهرة.
حياته / مارس العمل السياسي منذ عام / 1950
مهنته / عمل موظفاً في مصرف الرافدين والمصرف العقاري، والآن متقاعد.
صدر له :
1) دفاعاً عن النظرية الماركسية.
2) دور الإنسان في التاريخ.
3) على قارعة التاريخ.
4) حديث الروح (سيرة ذاتية).
5) ملامح مضيئة من الاشتراكية الخلاقة.
6) ظاهرة ستالين بين النظرية والتطبيق.
7) عبقرية ماركس.
8) دور لينين في تطور النظرية الماركسية.
9) خواطر ماركسية.
10) أمركة العالم وليس عولمته.
11) النظرية الماركسية والعولمة (تحت الطبع).

المصادر
اسم الكتاب اسم المؤلف
1) مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة الفيلسوف الألماني بيتر
لونريديك
2) بيان الأطياف ديريدا
3) إلى أين يسير الاستعمار الأمريكي؟ هنري كلود
4) اللبرالية الجديدة والنظام الاشتراكي نعوم تشومسكي
5) نهاية عصر البترول المجلس الوطني للثقافة
والفنون والآداب/ الكويت
6) تاريخ العلاقات الدولية من كندي الدكتور محمد موسى آل
حتى غورباتشوف طويرش
7) نقد الفكر البورجوازي المعاصر ترجمة يوسف عبد المسيح
ثروة
8) الليبرالية الجديدة د. أشرف منصور
9) للعولمة وجه آخر عبد الأمير شمخي الشلاه
10) تاريخ الفكر الاقتصادي الماضي المجلس الوطني للثقافة
صورة الحاضر والفنون والآداب/ الكويت
11) الحداثة وفكر الاختلاف عبد القادر بودومة
12) إمبراطورية العقل الأمريكي سعد سلوم
13) الرأسمالية أم الديمقراطية خيار مارك فلور بابيه
القرن الواحد والعشرين
14) الجغرافية الأمريكية مكتب الإعلام الخارجي /
الاقتصاد الأمريكي وزارة الخارجية الأمريكية
موجز التاريخ الأمريكي
15) الآن والغد في الاقتصاد والسياسة د. مهدي الحافظ
اسم الكتاب اسم المؤلف
16) من الحداثة إلى العولمة المجلس الوطني للثقافة
والفنون والآداب/ الكويت
17) درس القرن العشرين كارل بويير
18) الجغرافيا الثقافية المجلس الوطني للثقافة
والفنون والآداب/ الكويت
19) عصر رأس المال أريك هوبز باوم
20) الجغرافية الاقتصادية مجموعة أساتذة/ جامعة
دمشق
21) الديمقراطية ونقادها روبرت دال
22) التوازن الإستراتيجي المفقود في ألكسندر بانارين
القرن الحادي والعشرين
23) الأصول الاجتماعية للدكتاتورية بارينجنون مور
والديمقراطية
24) تاريخ الفكر الماركسي جان جاك شوفالييه
25) الرأسمالية الأمريكية لوبس هايكر
26) الرأسمالية والنظرية الاجتماعية أنطوني غيدنر
الحديثة
27) مجلات وصحف عربية وعراقية مختلفة.



#فلاح_أمين_الرهيمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نشوء الطبقة العاملة العراقية
- مسيرة الحزب الشيوعي العراقي النضالية
- الحزب الشيوعي العراقي والوحدة العربية
- العراق قبل وبعد الحرب العالمية الأولى
- الحزب الشيوعي العراقي
- من وحي التجربة
- الطبيعة الديمغرافية للشعب الأمريكي
- ما المقصود بمحاربة الفكرة بالفكرة ؟
- أمريكا والعالم بعد تفكك المعسكر الاشتراكي
- الصراع بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية
- الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية
- الدولة القومية والفكر الديني بعد تفكك المعسكر الاشتراكي
- الفكر الماركسي والقومية و الفكر الماركسي والدين
- العلمانية والأممية
- صدام الحضارات والإستراتيجية الأمريكية/2
- صدام الحضارات والإستراتيجية الأمريكية
- النظرية الماركسية والعولمة
- الرفاق الأعزاء
- الى من يهمه الأمر .. مع التحية
- رسالة حب إلى صديقي الدكتور عدنان الظاهر


المزيد.....




- الجيش الإسرائيلي يشن غارات على أهداف لحزب الله في 6 مناطق جن ...
- قطر تدعو لتحرك دولي لمنع وقوع إبادة جماعية في رفح
- وجبة من لحم الخنزير وفطيرة توت ورقصة تقليدية.. ماكرون يصطحب ...
- مسابقة الأغنية الأوروبية -يوروفيجن- 2024 - سياسية رغما عنها! ...
- ملك تايلاند يهنئ بوتين بولايته الجديدة
- الجيش البولندي: أطلقنا طائراتنا بسبب -نشاط روسي-
- -اشتر نجما في السماء!-.. فلكيون يحذرون من -تجارة الوهم-
- الإمارات.. وفاة طفل بعد نسيانه داخل سيارة لنقل التلاميذ
- -القسام- تعلن عن خوض معارك ضارية شرق رفح
- الجزائر.. البطل الذي رفض أن يرمي بعلم الاستقلال ومات دونه!


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فلاح أمين الرهيمي - أمركة العالم وليس عولمته