بير رستم
كاتب
(Pir Rustem)
الحوار المتمدن-العدد: 4843 - 2015 / 6 / 20 - 19:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بالتأكيد كنا تقبلنا ذاك التغيير في الأحكام والمقولات "الآيات الربانية" وفكرة النسخ في القرآن، لو لم تكن هناك قضية القداسة والمطلق وأن الرب "معصوم عن الخطأ" حيث كنا قبلنا بمسألة التغيير في الأحكام القرآنية ضمن عملية التطور الإجتماعي وما ينسجم من أحكام ومقولات لكل مرحلة تاريخية مجتمعية وبأن القرآن نتاج فكر ومرحلة تاريخية ثقافية محددة وقد كتبت "آياتها" لتكون منسجمة مع واقع المرحلة التي جاءت فيها وأن النسخ كان جزء من واقع التغيير والتعبير الثقافي المجتمعي، لكن أن يكون القداسة وقضية إن الرب "لا ينطق عن الهوى" وثم يأتينا بالنسخ فسوف تطرح القضية عدد من التساؤلات؛ هل كان الحكم صحيحاً في مرحلة سابقة والآن ليس بالصحيح وهكذا فالرب شأنه شأننا يواكب كل مرحلة تاريخية بأحكام محدد وليس مطلقة؛ أم أخطأ الرب وتراجع عن الخطيئة وهي منافية للذات الإلهية أم أن القضية تتعلق بالممكنات وبحجم ما تملكه من قوة وإرادة لتنفيذ "مشروعك الديني" وبالتالي تطرح من برامج وأجندات ومقولات فلسفية وأحكاماً قانونية وذاك ما نود التأكيد عليه من خلال هذا التمهيد للبحث.
وهكذا فإنه يقول في مكان آخر داعياً بالكلمة الطيبة إلى العقيدة الجديدة حيث يقول؛ "سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ. مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ. وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ. وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (سورة الأعراف - الآيات 177_180)(13). نجد أن الخطاب يدعو إلى العقيدة من خلال الحوار والجدال الفكري وليس عن طريق الجبر والإكراه ولو أن هناك تهديد بعقوبة آخروية يحاسب المرء على قضية "تكذيب" العقيدة الجديدة، إلا أنه ليس تهديداً دنيوياً بشرياً، بل تهديد رباني آخروي؛ (من الآخرة) ويؤكد على ذلك أكثر في حيث يقول: "فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ. وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ. خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ"(14).
وهنا تأتي كلمة "الجاهلين" في الآية السابقة بمعنى المشركين حيث نجد أن أقسى ما يطلب منه في هذه المرحلة من الدعوة هو أن يعرض عنهم في حال تعرضوا له بالإساءة وكذبوه في دعوته وبالتأكيد هي _أي خطاب محمد المهادن_ يأتي منسجماً مع واقع القوة التي لم يكن قد ملكها بعد ولذلك كان اللين والمناورة والمهادنة مع المخالفين أو فيمن سمي بعد بالكافرين والمشركين حتى يكون له القدرة على التواصل ونشر الدعوة في المجتمع المكي. وها هو يقول في الآيات التالية؛ "قُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا. وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا. وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا"(15). إلى أن يصل الآية التي تقول: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا"(16) حيث نجد وعلى الرغم من كل ذاك الوعيد والتهديد بالآخرة إلا أنه لا يطلب أن يواجه "المشركين الجاهلين" إلا بالسلام، وليس جعلهم مسلمين وخاضعين له وهنا تأكيد على ما ذهبنا إليه من مسألة "سياسة اللين والمهادنة" والتي أتبعها محمد في بداية دعوته للدين والعقيدة الجديدة مع المجتمع المكي.
وإن أنتقلنا إلى سورة الشعراء ومع الآيات التالية؛ "لْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ. لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ"(17) لوجدنا بأنه لا يطلب من أتباعه فقط المهادنة واللين مع "الجاهلين المشركين"، بل إنه يبرر خطابه ذاك لوجود حكمة وإرادة إلهية ربانية وراءها؛ حيث لو أراد الله أن يجبرهم على الإيمان لأنزل "عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين" وبالتالي لا "إكراه في الدين"، بل "لهم دينهم" ولمحمد وأتباعه "دينهم". وهكذا فهو _أي محمد_ يفهم أتباعه بأن المشركين ليسوا بأصحاب إرادتهم وإنه وإن أراد الله أن يجعلهم من أتباعه لجعل ذلك بكلمة "كن فيكن" ويكونوا من أتباع الدين الجديد، طبعاً كان هذا التبرير الفلسفي ضرورياً لأولئك الأتباع لكي لا تهتز عقيدتهم وإيمانهم بقائدهم وبحركته الجديدة. ورغم ذلك فإننا نلاحظ بأن هناك بعض التغيير في الموقف والخطاب المحمدي تجاه الآخر؛ "الجاهلين المشركين" حيث كنا رأينا في السورة الأولى (سورة الكافرون) قد ترك لهم حرية العقيدة والإيمان ومن دون إدانتهم بشيء، بينما نلاحظ هنا بعض التشدد _ولو إنه خجول_ في مسألة العقوبة والمحاسبة وكذلك في قضية الدفاع عن العقيدة الجديدة حيث يقول في الآيتين التاليتين؛ "وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ. فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون"(18).
وهكذا نستخلص إلى تلك الحقيقة والتي يمكننا تلخيصها بالتالي؛ إن "الدعوة الجديدة" والتي عرفت بالإسلام _فيما بعد_ كانت في بدايتها دعوة سلام ومحبة ورحمة وقد مارس وأتبع المهتدون الأوائل مع معلمهم "محمد" أسلوباً ونهجاً أخلاقياً تدعو لذلك وقد تجسد في خطابهم الديني _النص القرآني والآيات المكية_ وذلك كما رأينا في عدد من الآيات السابقة .. ولكن وبعد أن تم للإسلام ما تم من قوة سياسية وعسكرية وإقتصادية وذلك بعد إحتضان المدينة لها وكذلك ونتيجة لتسيد بعض رجالات قريش الأقوياء وذو التوجه العسكريتاري مثل (عمر بن الخطاب) وأيضاً ولما لاقاه "المسلمين" الأوائل _أو بالأحرى المحمديون_ على أيدي جبابرة قريش ومكة من ظلم وجور وإهانات دفعت بالعقيدة الجديدة لأن تنحو نحو التشديد والغلو والإكراه على القبول والدخول في الدين الجديد وذلك دون أن ننسى أن القوة كانت جزء من ثقافة القبيلة والمرحلة التاريخية .. وهكذا تحولت العقيدة الجديدة من المحمدية إلى الإسلام مع إمتلاك عناصر القوة والإمارة والسلطة.
الهوامش:
13- سورة الأعراف، (الآيات 177_180).
14- سورة الأعراف، (الآيات 190، 193، 198، 199).
15- سورة الفرقان، (الآيات 36، 37، 38).
16- سورة الفرقان، (الآية 63).
17- سورة الشعراء، (الآيات 2، 3، 4).
18- سورة الشعرا، (الآيتين 5 و 6).
#بير_رستم (هاشتاغ)
Pir_Rustem#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟